
ضحية أخرى على أيدي حرّاس المقابر
المفكر المصري سيد القمني يكسر قلمه ويتبرأ من تاريخه الفكري في الوقت الذي مدّ فيه النظام المصري بساطه الأحمر ليوسف القرضاوي !
أعلن المفكر المصري سيد القمني في " بيان هاتفي " لمراسل صحيفة " إيلاف " في القاهرة نبيل شرف الدين أنه " قرر التوقف عن الكتابة والحديث لوسائل الإعلام والنشر في الصحف ، و المشاركة في الندوات (...) وبراءته من كل ما سبق له نشره من كتب ومقالات وبحوث " . وبرر قراره بأنه " تلقى تهديدات جدية بقتله إذا لم يقدم على هذه الخطوة " . ولأنه " ليس راغباً في الموت على هذه الطريقة" ، فقد " قرر الامتثال للتهديدات التي تلقاها عبر عدة رسائل في بريده الإليكتروني " ، و " آلى على نفسه أن يتوقف عن الكتابة والإدلاء بأية تصريحات صحافية، و يرجو الذين هددوه أن يقبلوا موقفه، ويعدلوا عن تهديدهم إياه " .
من المؤسف أن بعض المفكرين والمثقفين الديمقراطيين العرب ، وبدلا من أن يبذلوا بعض الجهد لمحاولة تفهم الموقف العصيب الذي وضع فيه سيد القمني ، سارع إلى إدانة موقفه واتهامه بالهروب من ساحة المعركة مع القوى الأصولية ـ التكفيرية ، فيما لم يتوان البعض الآخر عن اتهامه بالجبن جهارا ! ولا يغير من وقع هذه الاتهامات أن بعض الكتاب والمثقفين الديمقراطيين الآخرين قد دعا إلى وحاول مقاربة القضية من زاوية أخرى . وهذا ما يجب أن يكون .
من المؤكد أن القرار التراجيدي الذي اتخذه سيد القمني يشكل فاجعة حقيقية من حيث أنه انتصار باهر حققه الإرهابيون في ميدان المواجهة مع القوى الديمقراطية والتنويرية في العالم العربي . إلا أن " فرار " أحد الجنود البارزين من الساحة ورفعه الرايات البيضاء يستدعي منا البحث في الأسباب الموضوعية التي دعت هذا الجندي إلى " الفرار " ، وليس إلى البحث في سيكولوجيته الفردية ! فحين يوضع الجندي في ساحة مواجهة مع دبابة ، مجردا من أبسط وسائل وأدوات الحماية الشخصية ، لا يمكن أن ننتظر منه أن ينقضّ عليها بالعصا أو بالسكين ، وإلا فإن معركته ستصبح معركة دونكيشوتية بالمعايير والمقاييس كلها ، وأقرب إلى الانتحار منها إلى شيء آخر .
وفي هكذا حالات لا تكون وسائل وأدوات الحماية الشخصية إلا الدولة ذاتها ، بالدرجة الأولى ، والمجتمع وقواه المفترض أنها " ديمقراطية " ، بالدرجة الثانية . ولو نظرنا إلى هذين العنصرين في وكيف يشتغلان في مصر ( ساحة المواجهة الأولى في هذه القضية ) لرأينا العجاب العجاب . فقبل مدة وجيزة قامت الرئاسة المصرية باستقبال الشيخ يوسف القرضاوي استقبالا رسميا في مطار القاهرة خلال زيارته التي جاءت بعد غياب سنوات طويلة . ووصل الأمر إلى حد تخصيصه بسيارة من القصر لنقله من المطار ، و الاعتذار منه على مواقف السلطة والحكومة منه خلال السنوات الماضية ، وهو الذي أعلن جهارا أن الإسلام هو إسلام السيف حين اتهم الديمقراطيين العرب بأنهم " يسعون إلى تفكيك الإسلام لأنهم يريدونه إسلاما بلا جهاد ويريدون المصحف بلا سيف " ! هذا إذا وضعنا جانبا تلك التقارير التي تتحدث عن صفقات ما بين النظام المصري والقوى الإرهابية ـ التكفيرية سواء داخل مصر أو حتى في العراق وباكستان !
هذا على مستوى العنصر الحمائي الأول ( الدولة ) . أما فيما يتصل بالعنصر الحمائي الثاني ( المجتمع المصري ، وبشكل خاص قواه الديمقراطية ) ، الذي يفترض فيه أنه أكثر حساسية تجاه رموزه الفكرية والثقافية التنويرية ، خصوصا في هذه المرحلة المطبوعة بقضية التغيير في مصر ، فإننا إزاء فضيحة أخلاقية حقيقية ومفارقة مذهلة في كوميديتها السوداء . فحركة " كفاية " مثلا ، وهي الجسم الأساسي الذي بات ينضوي تحته جميع أو معظم قوى التغيير " الديمقراطي " في مصر ، لم تتردد في إطلاق صفة " المقاومة " على المجرمين والقتلة الذين اختطفوا السفير المصري في بغداد إيهاب الشريف وقتلوه ،
ولم تر أي حرج في إطلاق هذه الصفة حتى على الذين يفخخون الشوارع في بغداد ويقتلون الأطفال ! وليس الوضع أفضل حالا في بقية أنحاء العالم العربي ، ساحة المواجهة الأوسع . فثمة معطيات مؤكدة تشير إلى أن الأمر وصل ببعض القوى " الديمقراطية " في سورية ، بل وعدد من منظمات المجتمع المدني فيها ، إلى حد التواطؤ مع أجهزة مخابرات النظام لتجنيد إرهابيين وإرسالهم إلى العراق ، و إقامة سرادق العزاء لمن يعود منهم مقتولا من هناك بعد أن يكون قد ساهم ـ على الأرجح ـ في مذبحة أو أكثر من المذابح التي تفري الأبرياء بشفراتها على أرض العراق ، باعتبارهم " بطلا قوميا يتصدى للإمبريالية والصهيونية " ! وليست الصورة مختلفة كثيرا عن هذه في بقية أنحاء العالم العربي .
خلاصة الموقف : إن القرار الذي اتخذه المفكر الكبير والمجتهد دوما سيد القمني ، وبمقدار ما هو مفجع لنا جميعا ويدعو للأسى والحزن لكون انسحابه من المعركة خسارة كبيرة ، ينبغي أن يكون محفزا لجميع القوى الديمقراطية والأنوارية في العالم العربي من أجل البحث عن مقاربات عملية لهذه القضية ( التي تلخص قضية الصراع برمته بين الظلاميين وقوى الحرية ) ، واجتراح خطط وبرامج وأدوات لإدارة المعركة مع القوى الظلامية بدلا من إدانة الجنود " الفارين " من ساحتها ورجمهم بالجبن أو بالخيانة !
وحتى ذلك الحين لا نملك إلا أن ندين الموقف المخزي والجبان للنظام المصري وفشله الذريع ، مرارا وتكرارا ، في أن يكون ممثلا حقيقيا لمنطق الدولة والوطن القادرين على حماية مواطنهما ؛ وأن نعلن تضامننا الكامل مع سيد القمني وتفهمنا للقرار المفجع الذي اتخذه . وسنبقى نكن له كل الاحترام ، ونعتبر إنجازاته الفكرية الأنوارية في محاربة القوى الظلامية والفاشيات العربية رصيدا لا ينضب للأجيال الراهنة والقادمة التي ستستمر في خوض معركتها المقدسة من أجل بناء الدولة الوطنية الديمقراطية العلمانية !
وتدعو المنظمة العربية للدفاع عن حرية الصحافة والتعبير إلى المساهمة في توقيع البيان الموجود على الرابط التالي ، رغم إدراكها أنه لا يغني ولا يثمن من جوع ، كبقية بياناتنا الأخرى . ولكن يبقى رائدنا في هكذا حالات : لا خيلَ عندك تهديها ولا مالُ ..... فليُسْعفِ النطقُ إن لم يسعفِ الحالُ !

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق