عملية الإصلاح البورقيبية للعام 1956
تثبت عديد التجارب أن الإصلاح السياسي لا يعني الكثير ولن يحالفه النجاح في غياب الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي. في محاضرة أخيرة لبرهان غليون، الأستاذ بجامعة السوربون بباريس، قال "إن معضلة الإصلاح قديمة بدأت مع الثورة العربية، لكن لم يكن هناك إصلاح بعدها". من الواضح هنا أن الأستاذ غليون قد تجاهل عملية إصلاح كبرى ونموذجية لباقي الدول العربية والإسلامية، ألا وهي عملية الإصلاح البورقيبية للعام 1956 في تونس، والتي تواصلت في 1962 مع اعتماد برنامج حازم لتحديد النسل وإدماجه في مخططات التنمية الاقتصادية مع توفير الإطار المؤسسي له بإنشاء الديوان الوطني للتنظيم العائلي. ونتج عن عملية الإصلاح هذه التخفيض في عدد السكان إلى قرابة 10 ملايين حاليا، مقابل 15 لولا تحديد النسل. وسمح هذا بنمو لدخل الفرد يفوق ضعف النمو الذي تحقق في مجمل الدول العربية الأخرى، مما أدى في النهاية إلى معدل دخل الفرد في تونس، مقوم بالقدرة الشرائية للدولار الأمريكي (أي مضاعفة الدخل للدول التي تكون أسعارها نصف الأسعار في أمريكا، على سبيل المثال)، في حدود 7.2 آلاف دولار، مقابل 3.6 آلاف دولار في سوريا و4 ألاف دولار في المغرب و4.3 آلاف دولار في الأردن و 3.9 آلاف دولار في مصر (المصدر: تقرير التنمية البشرية للعام 2005 – برنامج الأمم المتحدة الإنمائي). بدأت عملية الإصلاح البورقيبية في شهر أغسطس 1956 بصدور مجلة الأحوال الشخصية التي منعت منعا باتا تعدد الزوجات وحددت العمر الادني لزواج الفتيات بـ 18 سنة، كما وفرت الحماية اللازمة للمرأة في حالة الطلاق، الذي تم تقييده بقرار يصدر عن المحكمة. تم اعتماد هذه الإجراءات الثورية والضرورية اقل من 5 أشهر بعد حصول الدولة على الاستقلال التام من فرنسا في 20 مارس 1956 مما يعني ان العمل على إعداد القانون كان من أولى أولويات الحبيب بورقيبة، الذي وجه ومنذ حصول الدولة على الاستقلال بتكوين لجنة مختصة لإعداد القانون. لكن أعضاءها فشلوا في الإقرار بإلغاء تعدد الزوجات، حيث حصل اتفاق على تحديد ذلك بزوجتين عوضا عن أربعة. عندها اخذ الحبيب بورقيبة مسودة القانون واحدث التغييرات التي أراد ( أهمها إلغاء تعدد الزوجات )، ثم تمت المصادقة على ذلك في البرلمان، وقدم بورقيبة القانون بنفسه في خطاب مشهود للشعب، يوم 13 أغسطس 1956، شرح فيه أبعاد الإجراءات المتخذة لمستقبل تونس. ومن يومها أصبح هذا التاريخ عيدا وطنيا للمرأة تحتفل به البلاد بأكملها، رجالا ونساءا. ما كان بالإمكان اتخاذ هذه الإجراءات الثورية والحضارية التي أنقذت نصف المجتمع من حالة الشلل والدونية والاستعباد لولا شجاعة الرجل الأخلاقية والسياسية المنقطعة النظير، التي خبرها في ما بعد عرب المشرق عندما صدمهم خطاب بورقيبة الشهير بمخيم أريحا للاجئين الفلسطينيين عام 1964، الذي طالب فيه بقبول الشرعية الدولية المتمثلة في قرار التقسيم. أمثال عبدالناصر وبن بلة وبومدين وحتى الحسن الثاني لم يقدروا على اتخاذ هكذا قرارات. عبدالناصر، على سبيل المثال، هنأ بورقيبة على انجازه هذا في لقاء بينهما بمناسبة جلاء القوات الفرنسية عن قاعدة بنزرت، لكنه لم يجرؤ على اتخاذ نفس القرارات التي كانت مصر في أمس الحاجة لها، متذرعا أمام بورقيبة بعدم تقبل الرأي العام لها. يعني هذا أهمية التغلب على قوى التخلف والظلام في سبيل انعتاق المرأة العربية، مما يتطلب تقوية ساعد القوى التنويرية في المجتمع ( نقابات، أحزاب إصلاحية، جمعيات نسوية... )، عوضا عن طعنها من الخلف كما يحدث حاليا في أكثر من قطر عربي. ولعل الطريقة الأنجع لتطور هذه القوى تتمثل في إصلاح التعليم الذي يغرس في النشأ مبادئ المساواة واحترام الذات البشرية، وإشاعة ثقافة المواطنة والتقدم بدعم إعلام ذي اتجاه تحرري يتصدى لإعلام قوى الظلام الذي قوي عودة بالدعم البترو – دولاري اللامحدود. لكن الإصلاح ممكن حتى في هذه الظروف غير الملائمة. في المغرب قامت القوى الأصولية بإنزال مئات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع منذ 1999 للتصدي لإصدار مدونة قوانين الأحوال الشخصية مأخوذة في معظمها من مدونة الأحوال الشخصية التونسية أيام حكومة المعارض الاشتراكي عبدالرحمن اليوسفي. لكن الملك اغتنم فرصة ضعف هذه القوى بعد الحادث الإرهابي لتفجيرات الدار البيضاء بتاريخ 16 مايو 2003، وتمكن من تمرير المدونة. و في الكويت، عارضت القوى السلفية في البرلمان القرار الأميري للعام 1999 بإعطاء المرأة حق الانتخاب ولم تقبل هذه القوى بالأمر الواقع إلا يوم 16 مايو 2005 عندما ذهبت الحكومية الكويتية إلى البرلمان بالقانون في يد والتهديد بحل البرلمان في اليد الأخرى.
بالإضافة إلى عامل القناعة الشخصية والشجاعة الأخلاقية والسياسية، أهم ميزة أفادت بورقيبة مقابل نظرائه من الحكام العرب الآخرين، ضعف القوى التقليدية الممثلة أساسا بجامع الزيتونة، التي وقع تهميشها تدريجيا منذ تأسيسه الحزب الدستوري الجديد عام 1934. وهذا خلافا للدور الكبير الذي يلعبه الأزهر في مصر، على سبيل المثال، الذي وقف وعلى مر العصور عائقا أمام تحرير المرأة، كما ثبت مجددا الأسبوع الماضي عندما عارض الشيخ الطنطاوي المشروع الجديد لقانون المرأة، مما أدى لاستدعائه للحضور لمجلس الوزراء.
هذه الأمثلة تعني أن الإصلاح ليس مستحيلا، عندما تتوفر العزيمة السياسية لذلك. اليوم والحكومات العربية تقتنع بضرورة إصدار قوانين جديدة لصيانة حقوق المرأة، عليها الرجوع لعملية الإصلاح البورقيبية للعام 1956 بل اعتماد مجلة الأحوال الشخصية التونسية كأنجع واقصر الطرق لتحقيق الإصلاح المنشود.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق