بغداد في طريقها الى الاحتلال الداخلي!
نضير الخزرجي*
دلت تجارب الحياة منذ الخليقة وحتى يومنا هذا، ان من يفتقد الاساس لقضية عادلة يدافع عنها، ويقف موقف الظالم يتوسل بالاعلام الكاذب ليمرر ما يريد تمريره على من يقع عليه الظلم، شخصا كان او مجموعة او مجتمع او امة او حضارة، ولهذا فان تعرض الانبياء والرسل للتكذيب وللكثير من التهم الباطلة، يقع في هذا السياق، وكانت ماكنة الاعلام هي الفاعلة في كل مراحل حياة البشرية، من هنا فان التاريخ الذي يقرأه المسلمون هو تاريخ الملوك والخلفاء والقياصرة، تاريخ عامر بالأكاذيب والأساطير، ولم تسلم سنّة الرسول الاكرم محمد (ص) من ماكنة الوضع والتحريف والكذب والتجديف.
ولا يخفى ان ماكنة الاعلام فاعلة أكثر في الاعلام الناطق باللغة العربية، ولعل ماكنة الاعلام في عهد نظام صدام كانت الاسرع ودائمة التزييت، وفاقت اخواتها من ماكنات الانظمة الشمولية، ولا اعتقد ان العراقيين ينسون الصفة العسكرية التي اعطاها النظام لوزارة الاعلام اثناء الحرب العراقية- الايرانية، عندما أسماها الفيلق الثامن، يوم كان العراق يملك سبعة فيالق عسكرية، وقدم لقائده لطيف نصيف جاسم، نوط الشجاعة من الدرجة الاولى لبراعة وسائل الاعلام العراقية في قلب الحقائق وخلق الانتصارات الوهمية، تاركة الشعب العراقي ينام على وسادة من النصر المؤزر وابناءه يذهبون بالالاف طعمة لنيران الحرب العنصرية الطائفية.
وكغيري من الاعلاميين والسياسيين والمراقبين للتحولات في الوضع العراقي، ظننت للوهلة الاولى ان التاسع من نيسان/ابريل العام 2003 يوم سقوط صنم صدام حسين في ساحة الفردوس امام اعين وزير الاعلام العراقي السابق محمد سعيد الصحاف، وتحت مرأى عدسات المصورين، ان العراق سيشهد معادلة اعلامية جديدة، وظننت ان ازالة وزارة الاعلام من قائمة الوزارة العراقية في عهد الحاكم العسكري جاي غارنر ومن بعده الحاكم المدني بول بريمر والحكومات المتعاقبة على العراق، سيعيد ماكنة الاعلام الى وضعها الطبيعي وتنتج اعلاما وثقافة صادقة تعيد للامة العراقية توازنها الذي افتقدته لعقود طوال.
ولكن لما كان الصدق من صفات الطيبين الذين يندر وجودهم في عالم السياسة، ولما كان في كل اعلامي عرق شيطان ينبض، يسهّد فترة ويرقد اخرى، فكيف بك بالسياسي، فان بقايا النظام السابق ومن حلّ محله من نفس قماشه، اسلاميا كان او علمانيا، يمارس اليوم الدور الاعلامي نفسه الذي كان يمارسه وزراء اعلام النظام امثال طارق عزيز ولطيف نصيف جاسم ومحمد سعيد الصحاف، وهم نماذج صغيرة لكبيرهم الذي علمهم الكذب، فصار الكذب عند الخلف هو الاصل في كل ما يصدر عن من وصفهم امام جماعة مسجد براثا ببغداد الشيخ جلال الدين الصغير بحاضنات الارهاب، وهو وصف اقل ما يقال عنه انه اصاب كبد الحقيقة (وان كنت ارى ان تحامله المخبوء طي لسان خطاباته ومقابلاته الصحافية على رئيس الوزراء العراقي الدكتور ابراهيم الجعفري، المنتخب جماهيريا والمرشح ائتلافيا، يجرّْء الحاضنات على تفتيت عرى الائتلاف العراقي الموحد، ويزيد من غلوائها!).
ومن المفارقات ان الكذب يجري حتى في الاموات، فشيعة اهل البيت (ع) وهم يشكلون اكثر من ثلثي سكان العراق يقتلون ويذبحون منذ ثلاثة اعوام، وازدادت اكوام الجثث في بغداد واطرافها في الفترة الاخيرة بشكل ملفت للنظر، ولكن الحاضنات لما كانت قد دأبت على سياسة الكذب المؤدلج، فانها صادرت حتى القتلى من الشيعة، ونسبوا القتلى الى السنة، وكأن من يقتل في العراق هم من السنة فقط لا غير، مع ان العكس هو الصحيح، ولا ادرى كيف امكن التعرف على جثث مقطوعة الرؤوس لتخرج احدى الحاضنات في اليوم نفسه التي سلمت فيها الجثث المشوّهة الى الطب العدلى بالقول بانها تعود الى مواطنين سنة، أو قولهم ان كل من يقتل في بغداد هم من السنة؟!
ان ما يجري اليوم في العراق مؤامرة كبرى ملفعة بغشاء سميك من الكذب، فتهجير آلاف العوائل الشيعية من الاقضية والمدن المحيطة ببغداد، لا اشك قيد انملة انها خطة منظمة تجري تحت سمع ومرأى قوات المتعددة الجنسيات، ليس اقل في الوقت الحاضر حتى يثبت العكس، مستغلة ضعف الحكومة العراقية التي تتنازعها ارادات عدة محلية وعربية ودولية، وهي لا تستهدف تسنين الاقضية العراقية فحسب كما يبدو للوهلة الاولى، بل انها تستهدف بغداد العاصمة نفسها، لان الحاضنات على دراية تامة ان الدستور الذي صوتت عليه بلا، اعطى الحق للمحافظات بما فيها بغداد بتشكيل فيدراليات، وهذه الحاضنات رغم البيانات الرافضة للفيدرالية، ترى ان الفيدرالية امر لابد منه، ولذلك فهي قد تسلمت ضوءا اخضر لطرد الشيعة من الاقضية والنواحي المحيطة ببغداد لتشكيل كماشة وسور سني حول بغداد التي يشكل الشيعة فيها اكثر من ثمانين بالمئة من أهلها، ليس لمنع قيام اقليم بغداد كما توحي بياناتهم المغمسة بدهن الكذب، وانما خطوة متقدمة لاحكام السيطرة السنية على بغداد، ومن ثم طرد الشيعة منها، وهذا ما نقرأه من تصريحات بعض الحاضنات للصحافة العربية عندما اتهم هذا البعض الائتلاف العراقي الموحد بتشييع بغداد، مع انه يعلم علم اليقين ان سنة بغداد يشكلون اقلية صغيرة جدا، دلت عليها الارقام الحكومية والدولية، وازاح الاستفتاء العام على الدستور والانتخابات الاخيرة اللثام عن وجه الحقيقة، فمع ان سنة بغداد شاركوا في الانتخابات بقضهم وقضيضهم وامتنع نحو ثلاثين بالمئة من شيعة بغداد عن المشاركة في الانتخابات، مع هذا فان اكثر من ثلثي نواب بغداد كانوا من الشيعة، وهو ما ازعج الحاضنات التى تبارت الى وصم الانتخابات بالتزوير، وهي تعني بغداد بالذات لان مدنها كانت تحت سيطرتها وعملت ما ارادت دون رقيب من نظرائهم في العملية الانتخابية الذين خافوا على أنفسهم الموت على ايدي فرق الموت المتوزعة هنا وهناك.
واعتقد ان الزعيم الديني الشيخ محمد اليعقوبي وضع يده على الجرج عندما اعلن في بيانه الصادر في 26/3/2006: "انهم يريدون كسب الوقت لتنفيذ مشاريعهم في تغيير ديموغرافية الشعب العراقي وإضعاف المكون الرئيسي القوي في العراق وهم أتباع أهل البيت وخلق توازنات غير طبيعية ولا منطقية ولا منصفة بإيجاد قيود تعرقل العملية الطبيعية او قوى او مناطق نفوذ معادية ضاغطة او إشاعة حالة الرعب والفوضى والخوف واليأس والإحباط".
فالحاضنات تعمل على تهجير العوائل الشيعية، وتمارس سياسة التغيير الديموغرافي، تماما كما سمح الغرب لصرب البوسنة بتغيير الخارطة السكانية للبوسنة والهرسك، وجعل المسلمين وهم يشكلون غالبية سكان هذه الدولة اقلية في بلدهم وجعل ثالث ثلاث في ادارة البلد، رغما عن أنف المسلمين، مخالفا بذلك الغرب، كل قواعد اللعبة الديمقراطية التي يأبي تعريضها للخدش في بلدانه، فالسكوت المطبق من قبل السفارة الاميركية على ما يجري من طرد للسكان من مدنهم يدعم الظن بان هناك خطة دولية بمباركة من بعض الدول العربية على تغيير الخارطة السكانية املا في ضم بغداد الى الفيدرالية السنية، تحت معاول الطرد والكذب معا، ولغايات أكبر، والا ما معنى ان يزعم احد اقطاب الحاضنات بان بغداد تشهد يوميا قتل خمسين سنيا، في حين ان العكس هو الحاصل وان بيانات إرهابية مختلفة صدرت بهذا الخصوص تماهت الى قتل خمسين شيعيا كل يوم في بغداد وحدها، وزعت على البيوتات والاحياء الشيعية، ولهذا شهد العراق في الفترة الاخيرة زرع المفخخات في الاسواق العامة والمدارس وتعريض الاحياء الشيعية في بغداد للصواريخ وقنابل الهاون والكاتيوشا، في حرب مكشوفة من طرف واحد، تدفع بسكان بغداد الى جنوب ووسط العراق، واحلالهم بسكان من شمال وغرب بغداد، تماما كما فعل النظام المخلوع عندما اقدم ومنذ العام 1970، على ابعاد مئات الالاف من شيعة اهل البيت من العراقيين الى ايران، بحجة عدم امتلاكهم لشهادة الجنسية العثمانية، والاستيلاء على املاكهم المنقولة وغير المنقولة وتمليكها لغيرهم، وسوق الشورجة في قلب بغداد شاهد على هذه الجريمة.
كنت كغيري من العراقيين منتظرا ان تقوم الحكومة العراقية باسكان هؤلاء المبعدين من ديارهم في اماكن قريبة من محل سكناهم، وقطع الطريق على المؤامرة، ولما كانوا قد ابعدوا من الاقضية المحيطة ببغداد، فكان ينبغي اسكانهم في بغداد، كما حصل مع مهجري الفلوجة اثناء الهجوم الاميركي على المدينة، في عهد رئيس الوزراء السابق الدكتور اياد علاوي، فان مهجري الفلوجة اسكنوا في بغداد، وكنت اتمنى ان تعي الحكومة لهذا المخطط الخطير في احاطة بغداد بسور مدعوم من حاضنات الارهاب، بان تفشل المخطط وذلك بعدم ترك العوائل تتوه في مدن الوسط والجنوب باحثة عن مأوى، وتتوه معها وزارة الهجرة والمهجرين، وتغوص الوزيرة سهيلة جعفر في بحر من الهموم لا تدري أتنظر الى الذين هجرهم نظام صدام حسين في خارج العراق ام تنظر الى الذين هجرتهم الحاضنات في داخله، وان تأخذ الحكومة كأضعف الإيمان بالمراسلين والصحافيين العراقيين والعرب والاجانب الى هؤلاء المهجرين للاطلاع على أوضاعهم المأساوية وكشف حقيقة التهجير الطائفي، بدلا من ترك قناة الفرات وحدها ترفع راية المطلومية ثم لتأتي قناة العراقية خجلى، تنقل الحدث بعد ان سقط الفأس على الرأس!
ويتساءل البعض فلو كان هذ التهجير حصل لاكراد كركوك على سبيل المثال، من قبل هذه الحاضنات أو غيرها فهل كان رئيس الجمهورية الدكتور جلال الطالباني سيغض الطرف كما الحال الان، وكأن أمر هؤلاء العراقيين لا يعنيه وليس رئيسا لهم!، وهل سيسكت الوزراء الاكراد في حكومة الدكتور الجعفري على مثل هذا الوضع؟
اعادة: كان من ضمن بنود مجلس الامن الوطني العراقي الثلاثة والثلاثين، بند تطبيع الحياة في كركوك والحاق الاقضية والنواحي التي اقتطعها النظام السابق من كركوك، وكان الامل يحدو الجميع ان لا يقتصر هذا البند على كركوك، فهناك مدن اخرى عانت ما عانت منها كركرك، مثل مدينة كربلاء المقدسة التي اقتطع منها النظام المخلوع ثمانين بالمئة من اراضيها الادارية وضمها الى الرمادي، أو مدينة النجف الاشرف التي اقتطع منها النظام عشرين بالمئة من أرضها الادارية والحقها بالرمادي، او الاقضية التي اقتطعها من بغداد مثل سامراء، وغيرها كثير.
لا تخلعوووه: هل يظن بعض اعضاء الائتلاف العراقي الموحد، ان ابعاد الدكتور ابراهيم الجعفري عن رئاسة الحكومة، سيرضي عنهم الحاضنات وحلفاء الامس، ويفتح الطريق امام مرشح المجلس الاعلى، فاذا كانت الحاضنات لا ترضى بالجعفري وهو منافس للمجلس الاعلى، لوجود وزير من المجلس الاعلى في حكومته، فكيف سترضى بوزارة مجلسية؟.. لا تخلعوووووه حتى لا تصيبكم لعنة التاريخ الصفّيني!
مفارقة: منذ فترة والسفير الاميركي يشن حربا على ميليشيات مزعومة، وزعم على طريقة الحاضنات ان من قتل على يد الميليشيات اكثر ممن قتل على يد الارهابيين، ولكن الاعتداء على حسينية المصطفى في حي اور يوم الاحد 26/3/2006، كشف ان القوات الاميركي هي التي تقود ميليشيات خارجة على القانون، وان فرق الموت التي تحدثت عنها الحاضنات كثيرا، هي ليست من صنع حكومي!
لعبة: لو لم اسمع حديث وزير الداخلية العراقي بيان جبر الزبيدي قبل اسابيع حول معرفته بمكان اختفاء الصحافية الاميركية (جيل كارول)، وقدوم المسؤولين الاميركيين وعلى اعلى المستويات والاجتماع به والاستماع اليه بمكان اختطافها، حيث ترك لهم أمر التصرف لانقاذها، منعا من اتهام الداخلية بالطائفية، لقلت ان رواية اختفائها وظهورها في الثلاثين من اذار/مارس 2006، كانت من نسيج قدر الهي، ولكن الوزير كان من قبل قد وضع النقاط على الحروف، ولهذا كانت صورة الظهور باهتة للغاية، وأخيب من خيبة ابليس بجنة عدن.
ويعتقد البعض ان الادارة الاميركية التي عرفت بمكانها ارادت وبالتوافق مع الحاضنة اخراج الفيلم البائس بهذا الشكل حتى لا تعطي لوزارة الداخلية العراقية مصداقية، وحتى لا يفقد الائتلاف العراقي الموحد واحدة من الحاضنات القلقة والمقلقة، على طريق فهم اميركي محموم وخطير لخلق توازنات سياسية في العراق، بعيدة عن واقع الاستحقاق الانتخابي، والواقع الديموغرافي، وتفريغ الدستور من روحه، بعد ان فدّاه العراقيون بارواحهم.
ولكن الذين خطفوا الصحفية افتقدوا للرجولة ولزمتهم (عقدة الغرب) فهم قتلوا مترجمها وهو عراقي وأبقوا على حياتها، مع ان روحيهما مصانة في شرع الله وعرف البشر، ولهذا فمن حق عائلة القتيل مطالبة الخاطفين بدمه او ديته، وعنوان القتلة مقيد في قاعدة البيانات الخاصة بوزارة الداخلية، فاسألوا الوزير عن القتلة.
لعنة: كنت مشغولا عبر قناة العراقية، بمتابعة اعمال القمة العربية المنعقدة في الخرطوم في الثامن والعشرين من اذار/مارس 2006، ولما بدأ ضيف القمة السيد طيب اردوكان رئيس الوزراء التركي بكلمته، قطعت القناة برنامجها المباشر وابدلته ببرنامج وثائقي، قلت في نفسي لعل البث المباشر انقطع من المصدر في الخرطوم، لكن ظني خاب، لان القنوات الاخرى كانت لا زالت تبث كلمة اردوكان. عندها تذكرت اللعنة التي اصابت رئيس الوزراء العراقي المنتخب الدكتور ابراهيم الجعفري، عندما قام بزيارة لتركيا، في الخامس من آذار/مارس 2006، قلت ربما خشي السيد حبيب الصدر مدير عام شبكة الاعلام العراقية، ان تصيبه اللعنة نفسها، فعمد الى قطع البث، او ربما هو من باب رد الجميل!
*إعلامي وباحث عراقي
الرأي الآخر للدراسات- لندن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق