علي أعتاب مؤتمر قصيدة النثر العربية في بيروت: هذه هي قصيدة النثر العربية المطلوبة!
اختيار وتقديم: عبدالقادر الجنابي
في العدد المزدوج السادس والسابع من فراديس نشرتُ ملفا يعتبر الأول من نوعه في العربية حول قصيدة النثر بمعناها الأوروبي... وتضمن عشرات من النماذج المترجمة مع تحليلات نقدية وهوامش وشروح... ونماذج
عربية تم اختيارها من نتاج قصيدة النثر العربية، لكنها تقترب من النموذج الأوروبي. قبل خمسة أعوام، حاولت أن أختار، من نتاج قصيدة النثر العربية المعروفة بأسلوبها المشطر، قصائد تلبي معايير قصيدة النثر الأوروبي
المعروفة علي شكل كتل أشبه بقصص قصيرة جدا، وصدرت (عام 2001) في كتاب بالفرنسية والعربية تحت عنوان كآبة الصحراء محاكاة لكتاب بودلير الشهير كآبة باريس .
بعد أيام قليلة، (19 ايار/مايو الي 21 منه) ينعقد في بيروت مؤتمر عن قصيدة النثر. وبهذه المناسبة، أقدم هنا عددا من قصائد نثر عربية تلبي، شكلا ككتلة، ولغةً: القوانين الثلاثة لقصيدة النثر الأوروبية: ايجاز،
كثافة، لاغرضية. لا ادعاء، هنا، قط بأن المختارات هذه أفضل من قصائد النثر العربية المشطّرة.. ولا هي دعوة الي ان يغير شعراء قصيدة النثر العربية الشائعة شكل كتابتهم الشعرية.. كلا. ليكتب كل وفق نبض
أحاسيسه وصوته الخاص، وليسمّ مخلوقاته كما يشاء، فقط عليه أن يعرف ان مصداقية الشكل والمضمون هي عين ثقة الشاعر بما يقول. أليس اعتباطا أن يسمّي شاعر يكتب عادة أشعارا موزونة، كل قصيدة لا يتمكن من ضبطها
عروضيا، قصيدة نثر وليس شعرا.. حرا! وكأن الشعر في نظره ليس سوي تفعيلات قُررت سلفا.
في الحقيقة، ان ما أرمي اليه من وراء هذا الجزء البسيط من مختارات أشمل آمل أن تصدر كتابا عن قريب، هو ايضاح ما يلي: ان ما يسمي قصيدة النثر العربية جاءت كتطور طبيعي للشعر الحر: أي امتداد لمحاولات شعراء
التفعيلة في تليين الوزن حتي يعبر عن ايقاعية ميلودية تخص الشاعر.
أي التعبير الطبيعي لأوزانه الغريزية: ترتيب الكلمات وتنسيقها ضمن ايقاع ميلودي يشعر به الشاعر. لكن الشعر الحر الذي جاء كتحرر من قيود خليلية واطلاق التفاعيل الوزنية ضمن أعداد غير محدودة، بقي ملتزماً
بالعَروض العربي فارضاً تحريره للتفعيلة قيودا وزنية لا تختلف كليا عن القيود الكلاسيكية... والجدير بالذكر أن نازك الملائكة التقليدية نفسها كانت تخشي هذا التطور المحتم، وذلك في مقال ينم عن رجعية نشرته في مجلة
الأديب اللبنانية عام 1954، بينما الشعر الحر الأوروبي تماشي وقوانين تطوراته التي أدت به الي أن يتخلص من كل قيد وزني.. بل، كما تؤكد كل الدراسات الأكاديمية، أنه لم يعد له أية قواعد، فالشاعر هو الذي ينوع
قواعده من قصيدة الي أخري.
فيحق له أن يستخدم العدد الذي يراه مناسبا من التفعيلات في البيت الأول ثم يغيره في البيت الثاني، مثلما يحق له مزج بحور، أو يكتب قصيدته لا جريا علي مقياس أو ايقاع عروضي، وانما وفق الوقع الذي يعتمده في التقطيع وعدم
تقفية نهاية البيت / السطر. كما أن المحتوي في الشعر الحر لا يخضع لشكل ثابت ومحدد مسبقا، وانما هو الذي يخلق الشكل المناسب له، فالشاعر هو الذي يعطي ما لا شكل له شكلا. في الشعر المنظوم وفق اعتبارات
كلاسيكية وموروثة هناك الايقاع rhythm وهو متأت من تناسق وحدة التفعيلات. في الشعر الحر هناك الوقـْع Cadence (من اللاتينية cadentia، وتعني يَقعَ) وهو متأت من انحدار البيت / السطر
ضمن تموجات نغمية ناتجة عن تعاقب المقاطع المنبورة الخفية، كالفواصل، الوقفة الفجائية للبيت والاعتناء الأسلوبي في التقطيع. وهذا ما يميز بالضبط السطر (البيت) في الشعر الحر عن الجمل النثرية. هذا التعريف
المتفق عليه عالميا للشعر الحر، يخضع له، عن وعي أو بلا وعي، معظم شعراء قصيدة النثر العربية ذات الشكل المشطّر.
اذا من الخطأ الكبير أن يسمي شاعر قصيدته قصيدة نثر ، وقد اعتني بتقطيعها موسيقيا متوسلا كل المحاسن الشعرية باستثناء التفاعيل، ما يجعلنا نقول إنه لم يُبق من النثر شيئا فيها. واذا أجرينا دراسة ايقاعية لمعظم قصائد النثر
العربية المشطرة لوجدنا (كما يقول اليوت) شبح تفعيلة ما يكمن فيها، أو رغبة دفينة لمراعاة ايقاعات موزونة. بينما مصطلح قصيدة نثر يطلق في أوروبا كما في أمريكا علي نمط من شعر أداته النثر بكل ما يحتويه من أدوات
ربط وجر والخ، خال من كل ما يتطـــلبه الشعر من تقطيع، وقفـة، ايقاع، تضمين والخ... ويرتسم علي شكل كتـلة كما لو أنه مقال صغير أو اقصوصة.
لكن ليس كل نص شعري علي شكل كتلة، هو قصيدة نثر. فقصيدة النثر تختلف جوهريا عن النثر الشعري الذي يتوسل كل المحسنات البديعية الشعرية من أجل الاسترسال. ويجب ألا نخلط بين قصيدة النثر والشظية الفلسفية
كما عند نيتشه، ففي هذه الشظايا/ الكتل النثرية القصيرة، ثمة قصد فلسفي وغرضية واضحة. قصيدة النثر هي النثر قصيدةً: كتلة يتأتي قصَرُها من نظامها الداخلي، كثافتها النوعية ومن حدتها المتزنة ، ليست لها اية
غرضية، بل خالية من أي تلميح الي مرجع شخصي: كتلة قائمة بذاتها...
سأحاول ان استعين بعبارات بشر فارس عندما وضح مفهومه لنوع من القصة القصيرة دون أن يدري أنه كان يلخص مفهوم قصيدة النثر: تعتمد قصيدة النثر علي الاقتصاد في العرض حتي تفلت من جفوة السرد وبالتالي من
الخطابة والاعتراف الأناني المحدد بالموعظة ذلك أن مادتها حادث تفه أي يقع جزافا (ويريد هنا معني gratuit المجانية أي اللاغرضية)، عبارة سانحة، شعور قد ومض، مع اجتناب التبيين المنطقي. عليها أن تثير
القارئ وأن تشغل باله. فمدار قصيدة النثر اذا، سرد قصصي ليس له علاقة بقوانين السردية المتعارف عليها في القصة: انه سرد متحرك حيث الافصاح عن الفكرة متوتر، شدة كثافته تدفع القارئ الي أن يستقرئ العواطف
البعيدة أو يجسّ الرِعدات الدقيقة بنفسه مستضيئا بالجملة اللاحقة ليُبصر السابقة . اليكم ما كتبه ابن حزم في طوق الحمامة: كنت بين يدي أبي الفتح والدي رحمه الله، وقد أمرني بكتاب أكتبه اذ لمحت عيني جاريةً كنت أكلف
بها، فلم أملك نفسي ورميت الكتاب عن يدي وبادرت نحوها وبُهتَ أبي، وظن أنه عرض لي عارض، ثم راجعني عقلي، فمسحت وجهي، ثم عدت، واعتذرت بأنه غلبني رعاف . يا له من سرد يعتمد علي انخطاف حلمي تتدافع
فيه الجمل تدافعا تدريجيا ضمن وحدة عضوية، بحيث ان كل جملة تؤدي بشكل مكثف وظيفةً تذهب بها الجملة المقبلة الي وظيفة ثانية حتي يكتمل عنصر اللاغرضية كوقفة نهائية مطلوبة!
واذا حصل قطع بين فقرة وأخري، كما في قصيدة يوسف الخال الذي كان واعيا للنوع، وقصيدة الشاعر العراقي الراحل رعد عبد القادر، فاننا لا نزال نشعر بحضور الجملة النثرية وحدّتها وليس بطغيان البيت الشعري وايقاعه.
لكن رغم كل هذه الفوضي في المصطلح العربي، وبحثا عن الجديد، استطاع عدد من شعراء قصيدة النثر العربية، أن يكتب عن وعي أو بلا وعي، قصائد نثر وكأنه يريد أن تكون له حصة شعرية علي غرار النموذج الحقيقي:
قصيدة النثر الأوروبية.. هنا شواهد لثلاثة عشر شاعراً عربياً تؤكد ما أقول:
أنسي الحاج
بحيرة
من كان يُصدّق أنّ الفلكيّ هو الصحراء أكثر من البدويّ؟ رأي صديقي الأنابيب والعقاقير وأوعية تصعد الي... برفقة القابضين علي المفاتيح خفيفة خفة الفوز. ووقف أمام خيط هامَ به وأقسَمَ أنّه غيرُ عاديّ. ليس لعبة
ليس سحابة. خيط مالح يرتفع من بلعومِ مَعْبَد.
كان العَرَقُ يتصبَّب وكان صديقي. والأوزّ يتنقَّل علي الماء المغلي والضباعُ تأكل المساحيق تتمشّي مُطيحة الآنية الثمينة. أمّا خيط الدخان الأبيض فلا شيء يحدث لجلسته مُنحدراً من وسيط تائه ومتصاعداً من وسيط أبديّ
الانحدار بركاناً في عصا من الحرير.
قال صديقي لم يَرَ قزماً. ولِمَ عدت؟ سألتُه. كي أرفع لعنتي عن البدويّ قبل أنْ أفْتَح .
ما عَرَفْتُ أيَّ بدويّ. لكنْ صرتُ أري كفَّ صديقي خيوطاً تصعد وتنزل بين وسيطين توأمين وفي منتصف جبينه لطخةُ انتقامِهِ تَتَّسع وتأكله.
(من الرأس المقطوع 1963).
يوسف الخال
العشاء الأخير
لنا الخمر والخبز، وليس معنا المعلم. جراحنا نهرُ من الفضة.
في جدران العلّية شقوق عميقة. علي النوافذ ريح. في الباب طارقٌ من الليل.
ونحن نأكل ونشرب. جراحنا نهرٌ من الفضة. العلّية تكاد تنهار. الريح تمزّق النوافذ. الطارق يقتحم الباب.
نقول: لنأكل الآن ونشرب. الهتنا مات، فليكنْ لنا اله آخر. تعبنا من الكلمة. وتاقت نفوسنا الي غباوة العرْق.
ونقول: لتسقط العلّية وتهلك. والريح سترحمنا، والطارق سيجالسنا. جائعٌ هو الي الخبز، وظامئ الي عتيق الخمر.
ونقول: لعلّ الطارق الهنا الجديدن وهذه الريح أزهارٌ شهية تفتّحت في المجاهل.
ونظل نأكل ونشرب، وليس معنا المعلم. جراحنا نهر من الفضة. وعند صياح الديك، قليلون يشهدون لملكوت الأرض.
(من قصائد في الأربعين 1960)
شوقي ابي شقرا
الأشغال الشاقة
فركت الرصاصة عينيها وطارت من المغارة، من النوم وجرحت الهواء والهاتف والبرق. ولاقت رفيقات راكضات فحيتهن ورمت عليهن الملبس. وارتفعت ووقعت وقعت سوداء غائبة عن الوعي. لمّها العسكري وحبسها
في جيبه. وحكم القاضي عليها بالأشغال الشاقة بين أظافر الأولاد.
(من سنجاب يقع من البرج 1971).
عباس بيضون
صيّادو الغبش
طعّموا صنانيرهم والفجر يهمد علي التلال. ألقوها وجلسوا يكرعون من الغبش، فيما الصيادون وكلابهم يخرجون منبوشين من التلّة. سحبوها وجدوها كما انتظروا فارغة. ابتلعت الصنانير المياه. ولم يبق سوي أطراف
الخيوط. كانت القبة تندفع الي وسط المياه والقوس واضحا علي التلة، والذين انتظروا أن يظهر البحر حيث فقدوا صنانيرهم استمروا، دون أن يلتفتوا، يطعّمون خيوطهم بالأمل.
(من لمريضٍ هو الأمل 1997).
سركون بولص
اعدام صقر
رجلٌ سكران التقيتُ به في محطة بنزين
قريبا من رينو بصحراء نيفادا ، عيناه زمرّدتان من حديقة الشيطان، تحت قبعة الكاوبوي، يده مدفونة في قفّاز ضخم لتدريب الصقور، قال لي أنه قضي أعواما طويلة في تدريب صقْره علي الصيد.
لكنه فقد حاسة القتل ، كما أخبرني، كأنه يتكلّم عن ملاكم، ولم يعد أكثر من دجاجة. تطلّعْ، يا بني ، ثم أراني صقره الذي اكتهل في الأسْر، واطلقه من الحلْقة ليطير، وبيده الأخري العارية، تناول بندقية وصوّب بعين واحدة.
ما كاد الصقر يحلّق حتي سقط الصقر في التراب، وحرّك جناحه الأيمن للمرة الأخيرة ناكشا به الي الأعلي غيمةً صغيرة من الغبار، كومةً من الريش، التقطها الرجل بحنان وأفرد جناحيها بأصابعه ثم ألقي بها في صحن سيّارته
البيك - أب، وانطلق هادرا صوب الصحراء.
(من اذا كنت نائما في مركب نوح 1998).
بول شاوول
الطفل والذبابة
حطّت الذبابة قرب الطفل. مدّ أصابعه الصغيرة نحوها. طارت، وحطّت علي أنفه. تنحنح ليلتقطها ففرفرت أمامه، حوّمت فوقه وحواليه في استعراض بهلواني جميل، ثم جنّحت نحو السقف، فالنافذة، وهبطت بخفة رائعة
ولامست أذنه، فكنفه، فذقنه واستقرّت قربه علي طرف السرير. أطلّت الأم، فانسلّت الذبابة الي كم الطفل. وعندما خرجت زلقت وزحفت الي أن توقفت علي بطنه، فراح الطفل يناغيها يناغيها ويبتسم لها بفرحٍ لا حدود له.
وهكذا انعقدت بين الاثنين صداقة نادرة. تدخل الذبابة كل صباح، تهمس في أنفه فيستيقظ، تلاعبه ويلاعبها، وعند الظهر تودّعه بطيران طويل وترحل.
ذات يوم، دخلت الأم وفاجأت الذبابة مطمئنة علي طرف السرير، فعاجلتها بضربة مكنسة صاعقة سحقتها أمامه.
حتي الآن لا تعرف الأم لماذا يبكي طفلها كلما رأي ذبابة.
(من عندما كانت الأرض صلبة 2005).
فاضل العزاوي
الزائر
في منتصف الليل وندف الثلج تهمي كقطن منفوش، جالسا في غرفتي أمام المدفأة، منصتا الي أغنية ألمانية شعبية في المذياع عن بلبل مات في قفص وأميرة ضائعة في غابة سمعتُ قرعا علي النافذة، خفيفا مثل قطرات مطر. أحد
ما كان يهمس بصوت سمعته بالكاد، معلقا في الفضاء الأبيض أمام الطابق الخامس من العمارة المعتمة. صوت كنت قد عرفته قديما ثم نسيته في دورة الأيام. مُلصقا وجهه بالزجاج ناداني باسمي، مرددا: دعني أدخل
أخيرا. اني أكاد أموت بردا . فاتحا النافذة رأيت عينين صغيرتين تحدقان فيّ، مبتسمتين ومبتهجتين. واذ رآني أقف مذهولا دخل وعانقني وقال لي بمودة، واضعا يده علي كتفي: مرحبا، أنا أخوك، جئتك من كوكب بعيد
. ثم رفرف بجناحيه الملونين مثل فراشة واستلقي علي سريري، معتذرا: أريد أن أنام قليلا، فقد أمضيتُ الأبدية كلها في الطريق اليك .
(من العدد السادس والسابع من فراديس 1993).
عقل العويط
نار
سألتُ كوكتو أيَّ غرضٍ يأخذه من بيته اذا احترق فلم أصدّق أنه سيحمل النار.
خرج متهافتاً من وراء الجمر ثم احترق بأطراف فجره في شارعٍ يطلّ علي عمري.
عرفتُ في ما بعد أن الرجل لم يكن يُدعي جان كوكتو ولا كان خوف البساتين يفوح من عينيه. كان ظلاً لامرأةٍ يحبّها ونهراً لن يغيّر حدسَ مجراه.
عندما اقترب أكثر بدا لي أفقاً يشدّ أزر الغيوم ويقوّي عزيمتها كي تهرع نحو هاوية.
سمعتُهُ يدعوني باسمي وباسم عائلتي كي أقاسمَه تمارينَ النار فعجبتُ لأمره وتعمشقتُ بأغصان تترنح من شدة الحريق.
كان عليّ أن أستجيبه قليلاً لأنه تذكّرني.
(ايلاف أكتوبر 2002).
عبدالمنعم رمضان
حجاب
بعد أن دلقَ اللهُ الحليبَ الطازجَ في الصّباح المبكّر وبدأ الناسُ يرشفونه ببطء، بهوادة، بسرعة واستعجال، واغتسل الأطفالُ فيه، وتركوا أوساخَهم، وتركوا النمشَ، والبقعَ الصديئةَ، لم يعد الكونُ أبيضَ مثلما كان في الصباح المبكّر،
أمرَ اللهُ الشمسَ أن ترسوا علي الجدران، وأن تخيط جواربها المفتوقة فوق الشوارع الواسعة، أن تهتزَّ كلما مرَّ عليها شحاذٌ، أو قرصها بهوٌ باردٌ، أن تجفّفَ بقايا الحليبِ الذي كان في الصباح المبكّر.
(من غريب علي العائلة 2000).
أمجد ناصر
القزم والرياضي
أولا أري القزمَ علي دراجة هوائية للأطفال يبذلُ جهدا ملحوظا لصعود درب فرعي يؤدي الي الكنيسة الأرثوذكسية ذات القبّة الزرقاء التي لولا صليبُها الذهبيُّ لظننتُها قبّةَ جامع سمرقندي علي أطراف لندن، رأسه كبيرٌ ولحيتُه
شقراءُ ومن حركة شفتيه وتعبيرِ وجهِه السّريع يبدو أنه يُدندنُ أغنيةً سعيدةً (لا أدري ان كانت روسية أم انكليزيةً).
ثم أري الرياضيَّ الخمسينيَّ يركض بخطوات متساوية مرتديا شورتا قصيرا محفورا من الجانبين وفانيلةً بلا أكمام وفي عنقِه تتأرجحُ سلسةٌ ذهبيةٌ غليظةٌ، بوجهِه المنتوفِ وشفتيه الرخوتين يعطي انطباعا (قد يكون خاطئا) بشذوذه
الجنسي.
نحو عشر دقائق بالسيّارة علي الطريق السريعة تفصلُ بين رؤيتي القزمَ فالرياضيَّ ما يسمح لي بالاعتقاد أنهما لم يلتقيا قطُّ ولكنها تؤكدُ لي كلًّ مرة، بشيء من النكد، تأخري ساعةً عن العمل.
(من حياةُ كسرد متقطّع 2004).
حسين مردان
مَنْ يفرك الصدأ
كان الصُبحُ يعدو الي المَغيب، ولم أكن فرحاً أو مهموماً. هناك قصيدة ومقال وقصة. وابتسمتُ، أسراب الموظفين والطلبة يركضون نحو بطن الحوت الأحمر. لقد ذهب العيد. وسرتُ علي حافة الشارع. سكّينٌ وحبلٌ
رمادي. وفي الأفق الأبيض غيمةٌ سمراء علي شكل وعَل. لقد بدأت الغابةُ تتثاءب في أعماقي. وحوش ومحاربون وببغاء علي غصنٍ طويلٍ، والليلُ ينتظِرُ وراءَ قلبي، الليل ينتظرني. ليلي الخاص. ومرّت امرأةٌ من
العهد القديم. والهلالُ الأسودُ فوق الحاجب...!
دكان تفاح وليمون، هذه المخلوقة الطيبة. انّها تهرولُ الي السوق. في زمن ما بعتُ سروالي لكي أسكر بثمنه. كان معي غائب طعمة فرمان وعبد المجيد الونداوي. هكذا شربنا البنطلون في كازينو بلقيس. ايه.
والتف الحبلُ الرمادي علي قدمي. من أي مكان جئت؟ ان جبيني يلمسُ أرجُلَ الوعل. الوعل الموجود في الغيمة السوداء. انّي لعلي مجْد كبير! وأقبل عاملٌ صغيرٌ. انّه يلهث. لقد تأخر قليلاً. هو يحمل وجهَ
شقيقي. حبي لك يا عباس. ومضيت أزحف بين أحلامي. بدلتي الرصاصية في استنبول وصورة وجهي داخل اطارٍ في موسكو وأنا هنا في حي البلديات ومعي نصف أوقية من الرز وعلبة سكاير. ها.. والصُبحُ
يركض نحو المغيب. والقصيدة لم تكتمل بعد. لو أعرف من هذا الذي يمشي علي السكّين؟ الموجة تسيرُ والبحرُ في مكانه.. لو غسلت القميص لذهبتُ لرؤية أصدقائي في مؤسسة الصحافة ! ولكنها ملعونة تلك الطفلة
المسؤولة عن نظافة ملابسي. وما فائدة العتاب.. ووصلتُ الي الرابية. كان عمود التلفون يغنّي.. أغنية بلا كلمات تسافر الي انسان مجهول. وفي الجانب الأيسر مسحاةٌ تنقل الترابَ الي مؤخرة سيارة. قال
الفلاح أن أرض حديقتي منخفضة. ووقفتُ أنظرُ الي الشتاء في السماء. لقد تحوّل الوعل الي سفينة وبقايا قرية خالية. وتقلص ظلّي من الأعلي. أنا ذرّة رمل في قاع هاوية.. وبعد لحظة سيختفي المسرحُ والممثل.
فالليل ينتظرني. والزمن يحملق بي ويطرحُ أسمالَه علي عينَي.. يا لي من أعمي يتحدثُ عن الألوان. بالأمس رأيتُ مؤلفات بلزاك في العربة! عربة الكتب البائرة! مهزلة عمرها عشرة آلاف سنة. وأنقلبَ الطريقُ
الي كأسٍ من السّم. ليتني أستطيع أن أذبح التاريخ وكل اللغات. في القمر محطة وعند خط الاستواء هنديٌ يلاعب أفعي. وفي مجلس النوّاب التشيلي يجلس الشاعر بابلو نيرودا.. عندما ألتقيتُ به في الكرملين كان ساهمَ
العينين. كلّنا في قافلة واحدة المرأة القديمة والعامل الصغير والقمر والمسحاة وأنا وبابلو والأفعي الهندية. واقتربتُ من البيت. من قبري المؤقت. التين والصبار وعلي السطح زقزقة عصفور. من يسحب الماء من
البئر؟ ألف حنفية مقفلةٌ في صدري. فيا الهي متي تعود الكفُّ التي تفرك الصدأ... ودخلت... الطيفُ يملأ الكرسي والشذا علي الستائر. والخلاص فأرةٌ لا تعرفُ دربَ المصيدة. حفنة من السمّاق هي تسليتي.
وتكومت بجانب النافذة صرّةً من الهواء ترقص في الصالون.
(مجلة الفباء العراقية 14 كانون الثاني/يناير 1970)
عبد القادر الجنابي
اشراق
لا أحد يعرف ما هي المرآة سوي شخصان الذي طالما يُصامتها عند الغسق، شاخصَ البصر. فـ شخصان هذا مثبورٌ بصورته ككل الشعراء الهائمين في وادٍ من الظنّ بصورة جميلة. علي أنه عارفٌ، منذ نعومة أنظاره، أن
وجههُ لن يُري الا معكوسا علي جسم صقيل، لذا قرر اليوم أن ينفرد والمرآة. راح يُحاكيها عينًا ومعيونُا، ينفث فيها حتي الدخول الي جوفها: نورٌ أنّي يَري، تتخايلُ فيه آلافُ الصور المخزونة، يستحي بعصُها من الآخر، تروح
وتجيء موجًا بلا شاطئ. طفق يجمعها في قنانٍ وكأنّها هوامٌ مصيرها التلاشي في جسم النور. غير أنّ صورة انزلقت من بين أصابعه الي هَويّة المرآة، لم يستطع الامساك بها. اذ انغلق عليه الانعكاس. أخذ ينطّ برأسه
الي الشرخ مُرددا: انها صورتي. انها صورتي. اختلط عليه الرديد. شَعر أنّ بريقا يجرفه الي الجهة الأخري، ينأي به الي صورةٍٍ توهّمها... اذا هي خيالٌ يرتسمُ فيه شخصان تتقاذفهما الشظايا في قصدير البياض
كأنّهما كوكبُ في مجداف.
(من حياة مابعد الياء 1995).
رعد عبدالقادر
شائعات سوق يحيي عام 334هـ
في سوق يحيي كثرت الشائعات، يقال ان الاله سينزل في ثلث الليل الأخير بأسلحته.
باعة الشموع استعدوا للحدث، باعة المرايا نصبوا مراياهم في الطرقات
العطارون فتحوا زجاجاتهم الفارغة ليقتنصوا عطره الشارد
قد يكون من الصعب التوقع، ستكون الخيبة اصعب
قد لا يظهر في مراياهم
قد لا تقتنصه زجاجاتهم
ولكن من أين كل هذا الجمال المشع؟ وما هذه الرائحة الذكية الغريبة؟
الكل صامتون راسخون، لا يبرحون أماكنهم، تماثيل، عيونهم ثابتة في محاجرها، تطلع الشمس عليها وتغرب دون أن تطرف ويسقط المطر كالدموع علي حجر لحاهم وأقدامهم،
منتبهون لأقل حركة، مهما كانت، لغصن أو لطائرٍ قد يحل بينهم ولكن ومهما أرهفوا أسماعهم ومهما حدقوا، لن يحسوا به، الا وقد أصبح تمثالاً مثلهم، مثلهم تماماً، يتوقع أن يحتل البويهيون السوقَ، ويتناقل مثلهم الشائعات.
(2001).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق