يتكلمون بالألســـــــــــنة
Writers in Exile-in Canada
حين يتعرض الكتّاب المنفيون إلى الاغتصاب اللغوي المنفى/ المهجر ليسا حنينا فقط، بل شبكة مترامية من الإشكالات والارتكاسات الروحية والنفسية تورنتو: جاكلين سلام يخوض الكتّاب المنفيّون أياً كان البلد الأم، التحدّيات والتجارب الأشد خصوصية، قسوة، اغتراباً، تنوعاً، وخصوبة. إنها تجربة يومية بكل حذافيرها وتكتسب خصوصيتها وغناها تبعاً للظرف الشخصي والنفسي لهذا الكائن المنفي/ المهاجر، الذي يبدأ طفولة متأخرة جديدة مواجهاً معطيات وأبجدية الواقع الجديد، إلى جوار ماضيه بما يحمل من تشعبات. نتعرف في هذه الأنطولوجيا الصادرة في كندا عام 2005 بالانجليزية، على بعض جوانب تجربة المنفى أو المهجر، كما تبوح بها أقلام كتاب وصحافيين قدموا من العالم إلى كندا لاجئين منفيين، هاربين من عسف حكومات بلادهم، باحثين عن ذواتهم المنكسرة، عن بيت جديد، وعن أصدقاء ومستقبل شديد الغموض ومشرع على احتمالات النكبة والفرح. قد تشكل مسألة الصراع مع اللغة الجديدة التحدي الأكبر الذي يعيشه الكاتب المبحر إلى بلاد لا يجيد أبجديتها، لذلك قد تكون المسألة الأصعب في إعداد وتحرير كتاب عن المنفيين وبأقلامهم، هي مسألة الترجمة الأمينة، وهذا ما تشير إليه «ماغي هيلوينغ» محررة هذه الأنطولوجيا، الشاعرة والكاتبة العاملة في رابطة قلم كندا ـ هيئة كتّاب المنفى. «يتكلمون بالألسنة» مجموعة تضم مجموعة من اثني عشر قلماً من أصقاع العالم، شرقه وغربه، وتقع في 125 صفحة من القطع المتوسط. إنهم يتكلمون بأكثر من لسان، لا ليبشروا العالم وأنفسهم بالخلاص، بل ليقولوا عثراتهم، مخاوفهم وتجاربهم، ليبحثوا عمن يسمعهم، عمن يقرأ لهم، عمن يفتح لهم الأبواب إلى البيت الكندي الكبير، ليختلط حبر كلماتهم ومعاناتهم ورؤاهم بالخريطة الثقافية المعاصرة، وليشاركوا في صياغة الموزاييك الكندي الشاسع، الشديد الخصب والتعقيد، الذي ترصعه وتهندسه أقلام هؤلاء حين يتلعثمون في خطابهم، حين ينكسرون، وحين يتحققون، وحين يبتهجون، وأيضاً حين لا تكف أرواحهم عن المقارنة بين عالمين، فيكتبون ومن زوايا نظر مغايرة للسائد، ثم ينطلقون إلى صحف العالم للتعريف به، بفائض جماله ونقصانه. في المقدمة التي تصدرت الكتاب، يقول الكاتب الكندي المرموق جون رالستون سول، الذي شغل مركز رئيس اتحاد كتّاب كندا في دورات سابقة والعضو الفخري في الرابطة، انه يرى أن يكون الخيار مفتوحاً أمام الكاتب ليذهب إلى اللغة التي يجيد التعبير من خلالها، مشيراً إلى نقطتين حساستين: «يجب أن نكون حذرين من الرأي القائل بان اللغة الانجليزية لغة عالمية، هذا كلام يحمل كولونيالية في جوهره ويفتح الأبواب شاسعة أمام الإمبراطورية البريطانية، وكذلك الفرنسية. والنقطة الثانية هي أن إرغام الآخر على الكتابة بالانجليزية، يجرده من إمكانية التعبير عن نفسه بالصورة المثلى.. إنها تحد من انطلاق أفكارهم» ص 11. كما يتطرق إلى مسائل عدة تخص الكتابة والترجمة ومعضلة تأمين المعيشة من خلال الكتابة. ويطلب سول من الجهات الثقافية العليا في كندا، أن توفر برامج خاصة ونوافذ لاستيعاب هذه التجارب التي تصبح بدورها نافذة لكندا نحو العالم الآخر، بل وتكشف أبعاداً ومعاني جديدة للأشياء العادية المحيطة. وهو ينتقد أيضاً آلية عمل الهيئات المعنية في ثقافة كندا لتقصيرهم، فيقول «عادة، الكنديون يتركون نشر الكتابات العالمية للأميركيين والبريطانيين، وهذا ما يدعنا في خانة الدفاع عن النفس، حتى وإن كنا ناجحين. الآن حان الوقت لأن نتحرك بقوة، لنقود لا لنتبع..». المنفى/ المهجر، ليسا حنيناً إلى البيت الأم وفقط، إنه شبكة مترامية من الإشكالات والارتكاسات الروحية والنفسية يخضع لها الفرد، لذلك تكون تجربة الكتابة مسألة معقدة وتأخذ حيزها في الزمان والمكان كي تصل. وهذا ما يصلنا من المقاربات المتشعبة التي قدمها المشاركون في هذا العمل. وتمتد أبعاد المنفى لتشمل الجميع كما تشير ماغي هيلوينغ، محررة الانطولوجيا: «اللغة هي ما نحتاجه جميعنا للوصول إلى الآخر، إننا جميعنا منفيون بدرجات عن بعضنا بعضا. كلنا نبحث عن اللغة المثلى التي تمكننا من التعبير عن أنفسنا للوصول إلى الآخر» ص 10. اغتصبتنا اللغة الإنجليزية يضع هذا الكتاب بين يدي القارئ تجربة مؤلفين من مختلف الأعمار والرصيد الإبداعي ومن مختلف لغات العالم. فنقرأ رحلة الكاتب الإيراني الكندي «رضى باهراني»، الذي أصدر قرابة 45 كتاباً في مختلف صنوف الأدب، إلى جانب تجارب شبابية جديدة، لأصحابها إصدار أو اثنان في القصة، الحوارات الإذاعية، المقالة، الرواية، والمسرحية. نتعرف على الأسماء التالية والبلد الأم: زدنكا أسين، ناشرة ومذيعة من يوغوسلافيا السابقة. أندريه هيلا، صحافي وكاتب من ألبانيا. مارتا كومثا، صحافية من اثيوبيا. ستيلا لي، صحافية من الصين. فيريشتا مولافي، مترجم وكاتب من ايران. فاروق ميرتاج، شاعر وقاص وروائي من ألبانيا. سنيثيلاثن راتناثباباسي، صحافي من سري لانكا. بنجامين سانتاماريا اوشو، صحافي وممثل من المكسيك. جورج بوانيكا سيريمبا، كاتب مسرحي من أوغندا. غوران سيميك، شاعر وكاتب من صربيا ـ يوغوسلافيا سابقاً. ومهري يلفاني، قاص وروائي من ايران. المقالات المنشورة تمت ترجمتها بمعونة أصدقاء أو بمعونة أعضاء متبرعين للعمل الطوعي في رابطة «قلم كندا»، حيث تم تنسيق شبكة اتصال بين الكاتب والمترجم، لإيصال أقصى ما يمكن من روح اللغة الأصلية. عينة غنية بإرهاصات ومواضيع متشعبة، تأخذنا مرة إلى السجون التي عاشها بعضهم، إلى شجرات الليمون المحيطة في حديقة ذلك البيت البعيد الذي يشبه بيتنا أو بيتكم، إلى الصراخ بصوت حزين ونافر «لقد اغتصبتني اللغة الانجليزية»، كما تقول إحدى الكاتبات الإيرانيات في رحلة معاناتها مع اللغة الثانية. ونقرأ بعض التجارب التي تتحدث عن معنى الترجمة وما يفقده ويكسبه النص حين ينقل إلى لغة أخرى، وذلك من خلال تجربة الكتّاب الذين يعملون في حقل الترجمة تحديداً، بالإضافة إلى تجارب لا تخلو من الشعور بالوحدة والعزلة والضياع والدونية تجاه هذا العالم الجديد الذي يبدو لبعضهم مقفلاً، خشناً، وغير عادل، وليس حراً كما يفترض وكما كانوا يحلمون. إنها رحلة في تجارب يتقدم بها أصحابها إلى القارئ الكندي محملة بالألم، الضياع والأمل في الوصول، إلى الآخر، إلى معنى حقيقي لذواتهم من خلال علاقتها مع اللغة والمكان الجديد. فها هو بنجامين المكسيكي يفرد أوراق معاناته فيقول «لاحقا، في بلدي الأول، وبعد مقتل ديغنا أوشا، تلقيت أيضا عريضة تهديد بالموت..»، ثم ينتقل إلى مقطع بعنوان اللسان الضحية يقول: «مثل القلب الضحية، المنساق وراء حب غير مناسب ـ لساننا يضحي بنفسه، وذلك بتضحيته بالكلمات، الشعر، الكلام المحكي، والأزهار، إنها حكاية أخرى أقدمها لكم..». ثم يسرد تقاطع عالم الذاكرة مع الحاضر، فيتدفق وعراً التاريخ الأرعن.. ويتوقف الكاتب بين فينة وأخرى ليؤكد بأنه حين يعود إلى المكسيك سوف يحكي هذه الحكايات لأطفال الشوارع، وسيحكيها لأولاده أيضاً. تتوزع خانات الرؤية والاهتمامات الشخصية، فنجد الشاعر القادم من سراييفو، يقذف بألم ونزق مذياعه في البحر حين كان في رحلة استجمام مع زوجته وأولاده، ذلك أنه بقي متسمراً يسمع أخبار بلاده المنكوبة، عاجزاً عن الاستمتاع باللحظة. ويصف «مهري يلفاني» تجربته في ترجمة نصوصه إلى الانجليزية فيقول: «عندما قمت بترجمة مجموعتي القصصية إلى الانجليزية وأعطيتها لإحدى الصديقات لتقوم بتنقيحها، عادت إليّ بعد أيام وكانت نصف الصفحة «شخبطة» بالأحمر، لقد شعرت بالدونية، وبفقر مادتي، شعرت بالعار من لغتي. وحين أخذت ترجماتي إلى مدرسة اللغة الانجليزية، نظرت إليّ كما ينظر طبيب إلى مريضه، وقالت: «آسفة، هذه ليست انجليزية، إنها بعيدة جداً عن اللغة الانجليزية..»، فأصابني الخرس والشعور بالعار، لكنها بلطفها وحساسيتها أدركت موطن ضعفي وأردفت: «إذا أردت أن تكتب بالانجليزية وتقرأ من قبل الناطقين بالانجليزية، يجب أن تقرأ وتحكي وتفكر بالانجليزية فقط، وتنسى لغتك الأم».. كان ذلك عسيرا، لأنني قدمت إلى كندا بعد أن قطعت من العمر نصفه، ولم أكن أعرف من الانجليزية سوى بضع كلمات تعلمتها في الإعدادية..». حين تكون «حرية التعبير» شعار وغاية منظمة «القلم» الكندية لا شك سنقرأ ما يدلنا على أبواب وفصول هذه الحرية في أوجها وفي انحسارها. وسنقرأ إحداهن تقول «كندا تشبه اثيوبيا، واثيوبيا هي كندا في بعض الحالات»، حيث ينعدم الشعور بالأمان والعدالة، بل يتحول المكان إلى سجن كبير. وكما نرى كتاباتهم غير مقتصرة على «الحنين واستعادة الماضي»، وليست محدودة بمعرفة قاموس اللغة الجديدة، كما أنها ليست كلها نابعة في مجملها من نفي سياسي قسري، بل إن بعض الحالات «نفي» اختياري وهروب للبحث عن ذات ووطن آخر. هل تتقاطع محاور هذه المقالات مع كتابات المهاجر/ المنفي العربي؟!.. لا بأس من اقتباس كلمات من رسائل جبران خليل جبران إلى «جوزفين بريستون بيبودي»، من كتاب بعنوان «رسائل جبران التائهة»، إذ يقول «كم كنت سعيداً بمعرفتك.. ويمكنك أن تلاحظي كم أشعر بالانزعاج عندما أكتب بالانجليزية، لأنه لا يمكنني أن أترجم أفكاري بها كما أريد. لكن ربما لن تهتمي لهذا الأمر، وأظن أنني أعرف ما يكفي لأقول لك إنني سأحتفظ بصداقتك في أعماقي حتى وعلى بعد مئات الأميال.. كم أتمنى أن أعرف الانجليزية بشكل أفضل أو لو كنت أنت تعرفين العربية، كم سيكون سرورنا كبيراً حينها..» (ص 25 ـ مارس (آذار) 1899). * جاكلين سلام: شاعرة وكاتبة سورية ـ كندية الشرق الأوسط، الملحق الثقافي، 27 حزيران 2006 |
مجلة فكرية ثقافية عامة بإشراف حكمت الحاج وتحرير نادية حنظل و لقاء الحر و كاتارينا اسكسون و محمد علي أحمد
٣٠/٦/٢٠٠٦
Speaking in Tongues
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق