خميسيّات \ آدم فتحي ( الشروق 26 -10-2006)
« مِيسَاجِسْتَانْ »
مع كلّ عيد أو مناسبة شبيهة بالعيد، تتحوّل تونس إلى «مِيساجِسْتَانْ» أي إلى بلادٍ يسكنها شعب جديد اسمُهُ « بَنُو مِيسَاجْ»..وهو شعب يشبهنا لولا أنّنا نجد أنفسنا فجأة وقد أصابتنا حُمّى «ميساجيّة»، فإذا نحن نحمل بطاقات الجوّال عوضًا عن بطاقات التعريف أو جوازات السفر، ولا شغل لنا إلاّ أن نضغط على أزرار عجيبة وأن نمارس «التمْسِيج» وكأنّنا نمارس طقسًا من الطقوس.
والحقّ أنّ العالم كلّه أصبح «أرضًا للميساج»..فقد تحوّل الهاتف الجوّال إلى سلاح دمار شامل، وأثبتت الإحصائيّات أنّ البريطانيّين مثلاً وجّهوا سنة 2004 113 مليار إرساليّة هاتفيّة (S.M.S أو Short message services )..ولا أملك الأرقام الخاصّة بنا لسنة 2006 ولكن لاشكّ أنّها تؤكّد تفاقُم الظاهرة.
مع كلّ عيد أو مناسبة شبيهة بالعيد، تصبح لغتنا فجأة لغة أخرى لم تخطر على بال الجاحظ، ولو عرفها سيبويه لمات وفي نفسه منها أشياء..لغة تتناهشها من كلّ جانب أفعال عجيبة من نوع فكّسَ يُفكّس (أي أرسل فاكسًا) وأَيْمَلَ يُؤَيْمِلُ (أي أرسل إيميلاً) وأخيرًا مَسّجَ يُمسِّجُ (أي أرسل ميساجًا).
ويعني الفعل الأخير أن نأتِيَ ما يشبه الهذيان..كأن نكتب: «إيدُوكُمْ صَائِيد وكُولو آمْ وَأنْتُومْ بِيكَيْر» فلا يقبض علينا أحد، وكأنّنا في حفل جنون جماعيّ، يفهم مجانينُه (من باب الزمالة) أنّ «قَصْدَنا شريف» وأنّنا لم نرد سوى عبارة: «عيدكم سعيد وكلّ عام وأنتم بخير » إلاّ أنّنا كتبناها بحروف لاتينيّة.
مع كلّ عيد أو مناسبة شبيهة بالعيد تتناسل «الميساجات» على كلّ لون..بدايةً من الأبيض كضحكة الطفل والأسود كقلب صاحبه، وصولاً إلى «الميساج» الصفراويّ على غرار الضحكة الصفراويّة..وهكذا، ينضاف إلى أعبائنا عبء جديد يتمثّل في شراء البطاقات من أجل إرسال «الميساجات»، على إيقاع رائعة محمد عبد الوهاب الجديدة: «يا ميساج قل لي رايح على فين؟؟»
لا صوت يعلو فوق صوت «الميساج» هذه الأيّام..فهو الآن لغة، بل «مِيتَا لغة»، بل طريقة حياة، بل فنّ قائمٌ بذاته، لعلّه في الوسط بين الرسم والرقش والخطّ والنميمة والإنشاء والفيديو والستريبتيز والمراودة في الفضاء العامّ، ولكنّه أكثر من ذلك بكثير.
ولو اقتصر الأمر على هذا لهان..لكنّي لاحظت أنّ «أرض الميساج» لا ديمقراطيّة فيها ولا هم يُدَقْرِطُون..فالأولويّة فيها للموالاة قبل الكفاءة..والأغلبيّة «تُمَسِّجُ» من أجل الأقليّة..وتوزيع الثروة «الميساجيّة» غير عادل..وحريّة «التمسيج» محدودة بقبضة البطاقات..والإعلام «الميساجيّ» حكْرٌ على المطبّلين..مع استثناءات قليلة هي في الأغلب محاصرة أو يتمّ التعامل معها بطريقة «الميساج لحظة لحظة» على غرار طريقة الريّ قطرة قطرة.
أمّا من كان مثلي ومثلك يؤمن بقيم الحريّة والعدل والصدق والحبّ والجمال والكفاءة، فهو غريب في «مِيسَاجِسْتَانْ» كصالحٍ في ثمود.
أغلبُ مواطني هذه الدولة الإفتراضيّة «يتمسّجُون على الأثير» مثلما يتمسّحُ غيرهم على الأعتاب..وكأنّهم يملكون دفاتر يضبطون فيها الشروط التي تؤهّل أحدنا لتلقّي «الميساج»: أن يكون صاحب جاه وليس منتوف الريش، رئيسًا في العمل وليس مرؤوسًا، سبقهم بإرسال «ميساج» في مناسبة سابقة أم لم يسبقهم، يُرجى منه شيء أو لا مطمع فيه، إلخ.
أمّا عن أعيان «مِيسَاجِسْتَانْ» وأكابرها فحدّث ولا حرج..ترسل للواحد منهم مُعايَدَةً فيتلقّاها بالصمت ويعتبر أنّه قدّم لك تنازلاً كبيرًا إذا قرأها..وعليك أنت أن تكتفي بتلك العبارة الشائعة: «ميساجك يا هذا في النافخات زمرًا»، أو «أسمعت لو مسّجتَ حيًّا ولكن لا حياة لمن تمسّج. »
هؤلاء في عالم «الميساجات» الافتراضيّ شبيهون بنظرائهم في الواقع..يرون أنّهم يسدون لك خدمة لمجرّد وجودهم في زمانك..الصداقة لديهم مِصْعَدٌ ذو اتّجاه واحد..دائمًا في اتّجاههم..وهم يعتبرون «الميساجات» التي تصلهم في كلّ مناسبة مُلْحقًا من مُلْحَقاتِ المنصب كالسيّارة والسائق.
هؤلاء الأكابر الافتراضيّون شبيهون بنظرائهم في الواقع..يتوهّمون أنّهم خالدون «فيها»، لكنّهم ما أن يفقدوا كراسيهم حتّى تحيط بهم صحراء «ميساجيّة» لا «مُلَحِّسَ» فيها ولا «ممسّج»، فإذا هم يكتشفون فجأة فضيلة التواضع، وإذا هم يمطرونك بالإرساليّات، ذارفين «دموع التماسيج»، افتراضيًّا، على غرار دموع التماسيح في الواقع..وقد تراهم تائهين في الطرقات، محتضنين جوّالاتهم الصامتة بأيديهم المرتجفة، متوسّلين «ميساجًا لله يا محسنين. »
تلك هي «مِيساجِسْتَانْ» التي استطاعت الشركات الكبرى أن تخلقها في سنوات قليلة، وأن تجعل منّا مواطنيها المدمنين، وأن ترسّخ في أذهاننا أنّنا امتلكنا بها وسيلة من وسائل اختراق المكان والزمان، وأداةً من أدوات التواصل، وطريقة من طرق تقليص الفوارق الطبقيّة، وعنوانًا جديدًا للحريّة الفرديّة..حتّى ذهب بنا الوهم إلى أنّنا قطعنا حبل السرّة وتحرّرنا أكثر، بينما نحن في الحقيقة قد انتقلنا من عبوديّة مرئيّة إلى عبوديّة لا تُرَى قيودُها بالعين المجرّدة.
لا أقول هذا الكلام هجاء للهاتف الجوّال أو انتقاصًا من قيمة فنّ «الميساج» لا سمح الله، فأنا من «الممسّجين» الأوائل، ولا تمرّ مناسبة من المناسبات إلاّ اقترفتُ ما شاء الله من «الميساجات»..ولعلّي من أوّل من اعترف بمزاياها على الرغم من كلّ شيء.
إلاّ أنّي أعترف أيضًا بأنّي لا أحبّها حبًّا أعمى..فهي تفصل بقدر ما تصل..وهي في النهاية جزء من هذا العالم الافتراضي الذي يوهمنا بأنّنا نتواصل ولكنّنا في الحقيقة نزداد تباعدًا..وإذا تقاربنا فإنّنا نتقارب افتراضيًّا ونتواصل افتراضيًّا..هذا إذا لم نكن مواطنين وأحياء على سبيل الافتراض.
ثمّ أنّي بتّ أخشى أن خرج إلى الشارع هذه الأيّام فيصدمني «ميساج» متهوّر أو يدمغني «ميساج» طائش أو يهبط على أمّ رأسي «ميساج» لا يقرأ ولا يكتب فإذا أنا أهتف ممازحًا أبا علاء المعرّي:
«صاحِ هذي أعيادُنا تمْلأُ الرَحْـبَ، فهاتِ الجوّالَ يا صاحِ، هاتِ
خَفِّفِ الوَطْءَ، ما أظُـنُّ أديـمَ الأرْضِ إلاَّ مَثْـوًى لِمِيساجاتِي.. »
تلك هي دولةُ «مِيساجِسْتَانْ».
وفي انتظار التحاقها بمنظّمة الأمم المتّحدة أو التحاق المنظّمة بها (وهو الأرجح) أقول لكلّ الذين لم يصلهم «ميساجي»:
أتمنّى لكم عيدًا سعيدًا..وكلّ «ميساج» وأنتم بخير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق