ترسّبات بين النسيان والذاكرة | ||
| ||
نصر جميل شعث من غزة: من شروط القائد، في عالم القيادة، تمتعه بالشخصية الكاريزمية. وفي عالم القصيدة، قاطرةُ الشروط، طالت أو قصرت، لابد من أن تقودها - أو تقود إليها - اللذة: أول أحكام الذوّاقة على جمال عمل ما. "حياة كسرد متقطع"، واحدة من القيادات الشعرية التي فاجأتنا بإمكانياتها وشخصيتها الفنية الجذابة؛ إذ استدرجتِ اللغةَ، ذاتها، لأوّل أحكام الذوّاقة، ومنها عبرت إلى الكاريزمية. بذلك يكون الشاعر أمجد ناصر رائداً، من رواد التجريب والتنويع والمفارقة في عالم القصيدة العربية، التي لا يني يتحدث شعراؤنا ونقادنا حول معاييرها واشتراطاتها الفنية والجمالية؛ كونها لا تدير عنقَها للعَروض. وما دمنا وصلنا، الآن، لعالم إدارة الأعناق، بعد أن كنا بدأنا المقال بإدارة الأعمال؛ فإنه يتعين علينا أن نذكر أنه في "حياة كسرد متقطع" تنفرد قصائد كاملة لطغيان الأنثى، تحت هذا الطغيان نجد الشاعر حثيث المسعى لفك الارتباط بالترسبّات الأيديولوجية. فإذا ما قابلتنا، في القصائد، أسماء تاريخية كـ "انطونيو" الشهواني القادم من الغرب "، وكيلوباترا "ملكة مصر؛ لا يمكن أن نقبل الأسماء إلا عند إجرائنا قلب المعلومات التاريخية قلباً بهدف الانقلاب على التاريخ وإعادة كتابته بطريقة خاصة؛ ليصبح "انطونيو" هو الشاعر القادم إلى الغرب من الشرق، و " كليوباترا " هي الايديولوجيا القادمة من غير الشرق إلى الشرق.. نظراً لاهتمام الشاعر باستعارة القناع، ووقوعه أسيراً في حب كيلوباترا، أو قتيلاً بسمّها الذي تجرّعه. " محاكاة مارك أنطونيو " هي القصيدة التي تشي بذلك، عبر قراءة ما بعد، وما وراء، عناوينها الفرعية الدرامية الأربعة : (المقهى، الشارع، الحفلة، وجه شبه).. مع التشديد على قراءة (الحفلة) وفك شفرات المُضيف الذي كانَ مَشغولاً (في بيته الإيديولوجي) بإعداد الطعام. بينما كانت صديقته (العروبة المراهقة العاشقة) مشغولة به. في حين كان بعض الضيوف (الرأسماليين) مشغولاً بالإيقاع بصديقة المضيف التي ظنت أنّ صديقها مشغول بالممثلة المعتزلة. " إنّ حياة كسرد متقطع " سرد لمغامرات وانفعالات وجهها عاطفي، وعمقها أو وجهها الآخر يضيء على الترسبات والانكسارات. فثمة قصة أو " سورة حب يائسة " جمعت أنطونيو بكليوباترا، أي الشاعر بالأيديولوجيا و: "بالتأكيد أن السمّ الحلو الذي تركته شفتاها (شعاراتها) على شفة أنطونيو (الشاعر) قد تغلغل فيه تماماً ". لذا، ستصبح تحولاتُ القتيل نَزَوِيةً، تجاه الأنثى، كما هو الحال في قصائد : "محاكات فاوست"، "محاكاة أنطونيو"، "ماذا في القبلة"، و"تحليل القبلة". وتأدبيةً تجاه الآخر (الجار)، كما في قصيدتي: "منازل القمر" و "جيرة". ولعبيةً تجاه الكينونة، كما في قصيدة: "استعداد للطيران". لنجد أنفسنا أمام شاعر يُوقّع كتابته بين نسيان الترسبات الأيديولوجية والتذكير بالترسبات الاستعمارية؛ بأسلوب يَحمل من السخرية ما يتناصّ مع الإرث الشعبي، والعداء والكراهية في البلدان العربية، للاستعمار الذي ستمثّله جارةُ الشاعر الأسيوي العربي، تلك العجوز الانجليزية مسز مورس التي يلعب معها الجار لعبةَ التأدّب. والتي تلجأ، بدورها، للحكم بالتعميم، الذي يشبه النسيان، عندما، تقصر تسمية الشرق على شبه القارة الهندية. حيث العلاقة الاستعمارية الأكبر والأهم بين الشرق والإمبراطورية المترامية الأطراف كانت . ولكن مسز مورس لا تقصد عدم اعتبار الأردن العربي، ولا أن نسيانها ضرب من ضرورب النفي في العدم؛ بقدر ما هو رَكن للصِغار. إنه حكم مفصلي وعملي من عجوز انجليزية ذات تقاليد وترسبات استعمارية في الذاكرة والثقافة. ولن تجديَ معها نفعاً تصحيحات الجار العربي الذي ألح عليها بأنه من الأردن. فكأنه شبه نسيان، في كِبَرِ العلاقة. ولكن، قبل قراءة النسيان المتبادل بين الجيران، هناك أمر هام وخطير، وهو أن مسز مورس اسم كان استعاره الجار، من عنده، وسمّى به الجارة، مصرّحاً على لسان يِحيى : " لم يكن اسمها مسز مورس. هذا ما سميتها به لأعرف على أي جنب سأنام بين جاري مستر شارما وبينها في هلال لم تلمع وسطه نجمة واحدة. فلم أعرف اسمها قط رغم تبادلنا التحيات أو الكلام العابر عند مدخل بيتينا اللذين تفصل بينهما حديقتها المحسودة منا نحن الذين كلما رأينا عرقاً أخضرَ فكّرنا بماشية تأكل الأكياس وقشور البطيخ ". إنّ معالجة غياب الاسم الحقيقي للعجوز الإنجليزية بالاستعارة هو بمثابة خطأ في تصرّف العربي؛ فهو يشير إلى حقيقة جهل الجار بالآخر، فضلاً عن أفكار البداوة. فذلك، إنما، يجعله بمنأىً عن الإمساك بأي معرفة أو حقيقة عن هذا الآخر. إنّ هذا النوع من التصرّفات أو المغامرات، غير المحسوبة، يخلق غيابَ الثقة والفجوة والفروق الحضارية بين الجارين بسبب الاستعارة. أما بالنسبة للنسيان المتبادل، فكما رأينا، في السطور السابقة، تنسى الجارة الانجليزية؛ أن جارها من الأردن، لأن ثمة ترسّباً أو استعماراً شائخاً، لكنه حاضر ويقظ، في الذاكرة والثقافة، لديها. حيث كانت الإمبراطورية التي لم تغب عنها الشمس، في حين أن ذاكرة الجار القادم من البادية، لم تحظ بمعرفة اسم الانجليزية الحقيقي. وأما الجدة العربية، فتنسى، هي الأخرى، أن تفرق بين ملامح يحيى المقيم في لندن، والذي اعتاد زيارة الأردن، في مواسم الصيف، وأخيه أحمد المقيم في أمريكا. والحال نفسه، عندما يُصحّح لها الأمر يحيى، بعد أن تسأله الجدة، عن هويته وكينونته : " من أكون : فقلت لها : يحيى. قالت : ولكن يحيى في أمريكا. قلت : ذلك هو أخي أحمد، وأنا يحيى الذي يقيم في بريطانيا. قالت : الله يهدها.. كلها بلاد نجسة ". حال الحكم، إذاً، رَجْماً حاضراً نراه بصيغة دعاءٍ جاهز على لسان الجدة، ولكنّه عفويّ وحاسم. وهكذا يلعب الشاعر لعبة الكينونة، أو لعبة الحضور والغياب؛ مبرزاً ثنائية الإقامة عند الآخر المرجوم بدعاء العداء والكراهية، من قبل الجدة التي لم تفرّق، بذريعة الشيخوخة، بين يحيى وأحمد. وأما حكم يحيى على لعبة الكينونة التي يلعبها مع جدته العربية، في قصيدة " استعداد للطيران "، فهو أنها : " لعبة سخيفة طالت أكثر مما ينبغي " إذ هي تنطوي على الأخطاء والنسيان والتصحيح غير النافذ أو المغيّر، والتعميم والرجم المتبادل والجهل والاستعارة، في ظل هذا الخلط والتشابه الذي لا يلغي هوية أو كينونة أو تسمية بمقدار ما تترسّب الثنائيات المتناحرة في الكينونة التي تَختزل الأحكام والأخطاء فيها. لقد استدعت التحولات النزوية تنازلاتٍ وتوسلات من الشاعر الفحل واللاعب في الحياة. بل وأجبرته على تقديم التنازل الخلاق؛ فاحتاج الأمر إيماءةً وانتباهة منه أو " حيلة رجالية "، تجري مجرى الحكم، في عمله التجريبي، بضرورة تحرّر القصيدة من ذكورة الشكل، والمضمون كذلك. مع ذكورة الأول نجح، ومع خشونة الأخير لم يفلح؛ لأن ليس ثمة كتابة بيضاء، بل كتابة الترسبات، فيما هو يحاول نسيانها بالنزعة النزوية واللعبية. على أية حال، تحضرني، الآن، رسالة من نادية لطفي إلى الروائي المصري إحسان عبد القدوس، وفيها تكتب : " أنت لا تعرفني، إذا كنت قد استطعت أن أدير عنقك في المرتين اللتين وقعت عيناك فيها عليّ.. في كلتا الحالتين لم أهتم بالتفاتتك كثيراً، فقد تعوّدت أن أدير أعناق الرجال. باختصار.. أنا جميلة.. واحدة من أجمل فتيات القاهرة، وقد قلت لك أني تعودت أن أديرَ أعناق الرجال، بما فيها عنقك ". فإذا كانت الرسالة الواثقة لسان حال " حياة كسرد متقطع "؛ فهذا يعني أن المسألة تأخذ بالتطور والتنّقل الناجح عبر أحكام اللذة، الكاريزما إلى أنثى تتحدى ! وهنا، حقاً، وصلنا إلى برهان الذات الفنية التي تتمتع بها حياة القصائد؛ بتفاصيلها المضنية، وسردها المتقطع الحافل بالانكسارات التي يلبسها الشاعر أو يحجبها بقناع المغامرات والنزوات العاطفية السريعة. قد يكون اهتمامنا بـ " حياة كسرد متقطع " بمثابة انحياز مرفوض من قبل الذكورة ذات النعرة الشكلية والدوجماطيقية. ولعل هذا ما يذكرنا بما قاله أحد النقاد الغربيين من أن هناك نقدين : نقد مذكر، وآخر أنثوي. النقد المذكر هو النقد الدوجماطيقي الذي بقرض معاييره على الأدب. النقد الأنثوي هو النقد التأثري الذي يستجيب لإغراء الفن في نوع من النشوة. ومن منا لا يسعى للنشوة ؟ الأنثى، في الحياة، تضعنا أمام جمال وسؤال الثقة، فإما المدح على أساس إغراء جمالية الوجود لنا، وإما الهجوم على الثقة، هجوماً لن يجدى نفعاً أمام حداثة القصائد وريادتها في عالم التجريب العربي، ورفعها السياج كلية عن نفسها، في لفتة باذخة من أمجد ناصر، وموفقة، على أية حال؛ كونها تثير التساؤلات عن الأمداد الممكنة للتحليق خارج الجاهز والاجتراري في حياة الفن المكتوب. |
مجلة فكرية ثقافية عامة بإشراف حكمت الحاج وتحرير نادية حنظل و لقاء الحر و كاتارينا اسكسون و محمد علي أحمد
٢٧/٢/٢٠٠٧
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق