مجلة فكرية ثقافية عامة بإشراف حكمت الحاج وتحرير نادية حنظل و لقاء الحر و كاتارينا اسكسون و محمد علي أحمد
١١/٩/٢٠٠٥
فيصل القاسم يكتب عن الاعلام العربي الجديد
الغوبلزية الجديدة
د. فيصل القاسم
من قال إن غوبلز وزير إعلام هتلر الشهير قد مات؟ لقد رحل الرجل جسدياً، لكنه ما زال حياً يـُرزق بيننا بعد أن طور وسائل الكذب والتضليل وتزييف الحقائق وجعلها أكثر انتشاراً وتأثيراً وفتكاً بعقول الشعوب. كم أنت مظلوم يا غوبلز! إنهم يلعنونك ويبصقون عليك ويسخرون من إسلوبك الإعلامي القائم على الكذب المبرمج ثم يقلدونك خير تقليد، لا بل يصقلون منهجك الإعلامي الرهيب الذي كان يقول: «اكذبوا ثم اكذبوا حتى تصدقوا أنفسكم أو حتى يعلق شيء في أذهان الجماهير».
لم تكن نظرية غوبلز أكثر تأثيراً وممارسة مما هي عليه اليوم في الإعلام العالمي. صحيح أن هتلر كان يرصد مبالغ طائلة للإنفاق على الإعلام إذ قال ذات مرة: «لو كان لدي مائة دولار لصرفت جلها على الدعاية وأبقيت القليل منها للأمور الأخرى». لكن إنفاق هتلر يُعتبر مصروف جيب بالمقارنة مع ما تنفقه الدول الغربية على وسائل الإعلام بحيث أصبحت ميزانية صحيفة أمريكية واحدة تعادل ما تنفقه دولة عالمثالثية على كل وسائل إعلامها. زد على ذلك أن التنوع الهائل الذي شهده الإعلام العالمي جعل نظرية غوبلز أكثر قوة وانتشاراً ومفعولاً. فالأخبار السريعة والصور العابرة للحدود وتكنولوجيا التلاعب بالحيثيات الإعلامية سهلت مهمة الغوبلزيين الجدد، أما الضخ والتدفق والتكثيف والتكرار الإعلامي المستمر للمعلومة المراد تمريرها وتكريسها فقد غدا أيسر بكثير مما كان الوضع أيام الحكم النازي. وما أسهل أن تخلق «حقائق» من لا شيء هذه الأيام وتنشرها بسرعة البرق. لا عجب إذن أن تمكنت وسائل الإعلام الأمريكية مثلاً من عزل الشعب الأمريكي عما يحدث في العالم وجعلته يتقوقع على نفسه وينظر إلى ما يجري خارج حدود بلاده بمنظار الإعلام الذي راح يعمل بمقولة فرعون: «لا أريكم إلا ما أرى». وبالتالي قد يظهر بين الأمريكيين في العقود أو القرون المقبلة نفر من الباحثين «revisionists» الذين ربما يراجعون التاريخ الأمريكي الحديث لتصحيح الخرافات والأساطير التي روجها الإعلام وعاش عليها الأمريكيون لردح من الزمان، وذلك على غرار الدور الذي قام به بعض المؤرخين إزاء مراجعة الهولوكوست أو المحرقة اليهودية في أمريكا ذاتها.
بعبارة أخرى لم تعد الشعوب قادرة على تشكيل وعيها الخاص للحكم على الأمور بعد أن غدت مجرد ألعوبة في أيدي وسائل الإعلام المحلية الرهيبة التي تصوغ الرأي العام كما يحلو لعلية القوم من أصحاب الشركات والمصالح والنفوذ والممسكين بزمام الحكم في البلاد. وبالتالي من الخطأ القول إن الشعب الأمريكي هو الذي اختار الرئيس أو أعضاء الكونغرس بمحض إرادته. كان يجب القول إن الشعب اختار بناء على التوجيهات والألاعيب الإعلامية التي تصور له الأمور حسبما يخدم مصالح المؤسسة الحاكمة والمتنفذة.
ولو ظل تأثير وسائل الإعلام الغربية محصوراً في المجتمعات الغربية لهان الأمر، لكنه راح في عصر العولمة يطال بقية المجتمعات ليشكل قناعاتها ويقلب تصوراتها ومفاهيمها ويفرض عليها «حقائقه» الخاصة، حتى أصبحت تلك المجتمعات لا حول ولا قوة لها عندما يتعلق الأمر بهذه القضية الخطيرة أو تلك. هل يستطيع أحد أن يدحض أو يشكك في الرواية الغربية المتعلقة بما يُسمى الإرهاب مثلاً؟ لقد أصبح محتوماً علينا أن نساير الوصفة الإعلامية الغربية تجاه الكثير من القضايا. وحتى لو حاولنا الخروج على السرب فإن قدرتنا على تحدي النظرة الإعلامية الغربية للأمور محدودة جداً أولاً لضعف وسائل إعلامنا وتخلفها وثانياً بسبب الكثرة العددية لوسائل الإعلام الغربية وأساليبها الغوبلزية المؤثرة، ناهيك عن أنه لدينا أكبر نسبة أمية في العالم. فإذا كانت وسائل الإعلام الغربية تفعل فعلها في الدول المتقدمة الخالية من الأمية فما بالك بمجتمعاتنا التي يصل فيها عدد الأميين إلى حوالي سبعين بالمائة أحياناً. فبالرغم من أن مرتادي الانترنت في أمريكا مثلا ً يزيد على خمسة وسبعين بالمائة من الشعب الأمريكي فإن وسائل الإعلام ما زالت قادرة على توجيه المواطن الأمريكي في الاتجاه الذي تريد، فكيف إذا كانت نسبة القادرين على دخول الانترنت من العرب لا تزيد على ستة ملايين من أصل ثلاثمائة مليون. وهذا يعني أن إمكانية التوجيه والتلاعب والتأثير على الإنسان العربي مرعبة.
والأنكى من ذلك أن القادرين من الإعلاميين العرب على تحدي المزاعم والحقائق التي يحاول ترويجها الإعلام الغربي حول هذه القضية أو تلك يواجهون تحدياً مزدوجاً، فبالإضافة إلى ضعف وسائلهم وقلة حيلتهم فإنهم يتعرضون لضغط وابتزاز كبيرين عندما يحاولون السير عكس التيار الإعلامي الغربي الجارف. فإذا حاول أحدهم مثلاً أن يشكك في صحة التوصيف الغربي لما يسمى الإرهاب فإنه يواجه وقتها خطر الاتهام بالإرهاب، بحيث أصبح كل من لا يصدق الأزعومة الغربية إرهابياً وجبت ملاحقته وعزله وشيطنته. إنه الإرهاب الإعلامي في أبشع صوره. وكم من الأكاذيب الإعلامية أصبحت من المسلمات المفروضة للأسباب ذاتها.
لنأخذ مثلاً الرواية الغربية الخاصة بملابسات وظروف اعتقال الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين. فكلنا يتذكر كيف أظهروا الرئيس على شاشات التليفزيون بشعره الكث ولحيته الطويلة وهو يفتح فمه للطبيب وكيف زعموا أنهم وجدوه مختبئاً في حفرة. وقد صوروا لنا العملية بعفوية مع العلم أن الأمر بمجمله كان معداً ومبرمجاً سلفاً كي يترك أكبر أثر على المتلقي، إذ صرح جندي أمريكي من أصل لبناني كان منتسباً الى الفرقة الرابعة (مشاة) التي تولت القبض على صدام حسين بأن الرواية الامريكية الرسمية عن عملية اعتقال الرئيس العراقي السابق مفبركة، وأن الفيلم الامريكي الذي اذيع عن وقائع الاعتقال داخل حفرة في ضواحي بلدة (الدور) إلى غرب بغداد جرى تصنيعه في وحدة للتصوير والانتاج السينمائي الحربي تابعة للفرقة الرابعة قبل اذاعته في اليوم الثاني على العالم. ويضيف الجندي "أننا قبضنا عليه في منزل ريفي وليس في حفرة بعد مقاومة ضارية، وبعد فرض السيطرة العسكرية على المنطقة التي اعتقل فيها صدام بقوات كبيرة قضت مجموعة تصوير عسكرية طوال يوم الجمعة ونهار السبت كل الوقت في اعداد مستلزمات الفيلم والرواية المطلوبة ولم تكن الحفرة إلا بئراً مهجورة جرى تطويرها وترميمها واعدادها لتكون صالحة للرواية المزعومة .
ولا يختلف الأمر بالنسبة لعملية إسقاط تمثال الرئيس العراقي في ساحة الفردوس باعتراف الأمريكيين أنفسهم حيث كُشف النقاب مؤخراً أنها كانت مسرحية محبوكة جيداً نفذها القسم المسؤول عن التوجيه والتأثير المعنوي في الجيش الأمريكي، فالممثلون الذين أسقطوا التمثال جاءوا من خارج العراق مع إحدى جماعات المعارضة. وقد قام كل بدوره على أكمل وجه وكانت وسائل الإعلام مستعدة لنقل الحدث على الهواء مباشرة. وليس المقصود من هذا الكلام بأي حال من الأحوال الانتصار لنظام بشع مقبور جدير بالاقتلاع كالنظام العراقي السابق أو الترحم عليه بل هي مجرد محاولة بسيطة لإماطة اللثام عن الأساليب الإعلامية الغربية التي ما لبثت تعظنا عن فضائل الديمقراطية والشفافية والموضوعية والحيادية بينما تمارس الغوبلزية البغيضة في أجلى صورها.
صحيح أن الرد المعاكس على الرواية الإعلامية الأمريكية حول بعض القضايا قد لاقى بعض الصدى، لكنه لم ولن يكون بنفس التأثير، فقد غدت الحادثتان المذكورتان آنفاً مثلاً أشبه بمسلمات إعلامية ومن الصعب الخروج عليهما أو دحضهما. وهل نسينا أكبر كذبة إعلامية في القرن العشرين حول أحداث مدينة تيمشوارا الرومانية التي صارت رمزاً لكذب وسائل الإعلام حيث صور الإعلام الغربي ما جرى في تلك المدينة على أنه مذبحة هائلة اقترفها النظام الروماني وسوّق رقماً لأعداد القتلى بلغ ستين ألفاً في البداية من أجل الإطاحة بنظام شاوشيسكو في ذلك الوقت وتبين فيما بعد أن الأمر لا أساس له من الصحة. لا بل ظهرلاحقاً أن الصور التي عرضتها وسائل الإعلام الغربية للمذبحة تعود إلى الحرب العالمية الثانية؟ وهذا مجرد غيض من فيض من لعبة التلاعب بالصور التليفزيونية في ظروف الأزمات. وذلك يؤكد أن المقولة القديمة: "الكذبة تنتشر في نصف الكرة الأرضية قبل أن تطمسها الحقيقة" قد أصبحت صحتها مضاعفة في ظل التكنولوجيا الإعلامية الحالية الرهيبة.
وإذا أردنا أن نقارن وضع الإعلام الآخر البديل «ولا أقصد بذلك الإعلام العربي الرسمي، فهو في أسفل درجات الغوبلزية» فنستطيع أن نقول إنه أشبه بشخص يحمل ميكروفوناً هزيلاً ويحاول الطواف حول العالم لنشر فكرته بينما الإعلام الغربي أشبه بقوافل تحمل ألوف المايكروفونات الحديثة ومنتشرة في شتى بقاع الأرض وتتحصن في أفضل المواقع، ولا شك أن حملة المايكروفونات الكثيرة المتطورة سيكونون أصحاب تأثير أكبر بكثير. لكنهم ليسوا بالضرورة صادقين، فحامل المايكرفون الوحيد المسكين قد يكون أكثر صدقاً. فالعبرة ليست أبداً في كثرة الأصوات والضجيج الإعلامي المتقن. ولنا في ورطة الدكتور ستوكمان بطل مسرحية «عدو الشعب» للمسرحي النرويجي الكبير هنريك إبسن عبرة لمن يعتبر.
تروي المسرحية قصة طبيب يعيش في إحدى القرى التي يقصدها السياح للاستحمام في حماماتها العامة. وسرعان ما يكتشف الطبيب أن الماء الذي يستحمون به ملوث ويصيبهم بأمراض خطيرة، فيثير القضية في القرية رأفة بالناس دون أن يدري أنه سيدخل في صراع مرير مع أصحاب المصالح من تجار وصحفيين ومنتفعين والمتحكمين بالأمور الذين يجنون أرباحاً طائلة من تجارة المياه الملوثة، فيشنون حملة مضادة ضد الدكتور ستوكمان متهمين إياه بأنه «عدو الشعب». وبفضل مكرهم ودهائهم وسطوتهم في القرية يستطيعون تأليب السكان ضد الطبيب المسكين ويدفعونه للرحيل بالرغم من أنه صديق الشعب وهم أعداؤه. وهكذا أمر الإعلام الغربي بالمقارنة مع الإعلام البديل، فهو، بالرغم من أساليبه الغوبلزية الجهنمية المفضوحة، إلا أنه يفرض روايته على العالم حتى وإن كانت مفبركة في أقبية وزارات الدفاع والأجهزة ومعامل التزييف ومراكز التضليل الاستراتيجية التي اضطرت وزارة الدفاع الأمريكية إلى تغيير اسمها بعد أن انفضح امرها.
لكن هذا لا يعني أن يستسلم الآخرون لهذا الخلل الفادح في الميزان الإعلامي العالمي، فقد اشتكى وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد أكثر من مرة من أن بعض مواقع الانترنت البسيطة والقنوات الفضائية تعكر صفو الأمريكيين وتنشر الكراهية ضدهم في العالم العربي وتشوه سمعتهم. وهي طبعاً بريئة من هذه التهمة. ولو كان الوزير الأمريكي صادقاً لقال إنها ترفض أن تردد ببغائياً الروايات الإعلامية الأمريكية التي تغرقنا بها وسائل الإعلام الغربية صبح مساء، وإنها تحاول أن تضع النقاط على الحروف قدر الإمكان. وبالتالي لا داعي لليأس والقنوط والاستكانة للضخ الإعلامي الغربي فإن البعوضة يمكن أن تدمي مقلة الأسد. كما أنه ليس من الضروري أبداً أن ينساق المستمع أو القارىء أو المشاهد العربي وراء وسائل الإعلام الغربية العملاقة لمجرد أنها ذات انتشار عالمي وصوت أعلى وتقنيات هائلة ونفوذ أكبر، فالأكثرية القوية قد تتفوق لكن ليس بصدقها بل بباطلها. من كان على حق ومن كان على باطل في موعظة إبسن المسرحية، المافيا الحاكمة في القرية أم الدكتور ستوكمان العبد الفقير لله؟
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق