هذيان مروّج الاعلانات
*فرانسوا برون
Fran篩s Brune
كان يا ما كان مجنون في الجبال يتوب عن أخطائه.
يُقال بأنّه كان مروّجاً سابقاً للإعلانات، يتّهم نفسه بتقصيره في الاستهلاك.
يا للمشهد الغريب!
كان يمشي مرتدياً مجرّد جلد حيوان (فقمة؟) وحاملاً بيده قنبلة. كان ينتحب مطوّلاً فينعكس صدى نحيبه في الجبل ويدوّي في السهول. ثمّ يسارع بحماس إلى الكتابة على الصخور والأشجار، عبر تغطيتها بالشعارات الملوّنة أو عبارات التوبة.
وفقاً لقول أهالي القرية الذين يتركونه يهيم في الجبال، لقد صعقته أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001. فقد شعر، في مواجهة المأساة النيويوركية وتبعاتها المأساوية، بذنب عميق. لدرجة أنّ صوتاً آتياً من السماء يتخطّى كافة الانتماءات، أملى عليه تغيير نمط حياته.
كان يكرّر "لم أستهلكْ كفاية. لقد عرّضت الحضارة الغربية للخطر. كنتُ عميلاً للإرهابيّين."
ويُضيف باكياً:
"لقد خنتُ مخيّم الحرّية. لم أكن أشعر فعلياً بأنني أميركي!"
حينها قرّر مغادرة فندق نوللي...للإقامة في مغارة راح يرسم في داخلها فِيَلة كبيرة منقرضة تسحق أسعاراً.
كان يأكل البلّوط والكستناء، يدخّن الحشيش المثير للهلوسات، ويقرّ بذنبه إلى ما لا نهاية في وجه الجموع الخيالية التي كانت وليدة وجعه، معدّداً بصورة عشوائية جميع الأخطاء التي ارتكبها سواء بالتفكير أو بالفعل أو بالخيال أو بالحركات أو بالدفق أو بالمنع أو بالإغفال. يا لهذا اللوح الأسود الذي يرسم مساوىء الروح الخاطئة!
كانت خطاباته تبدأ دائماً بالعبارة التالية: "سامحوني يا إخوتي: لقد أخطأتُ بحقّ الاستهلاك!"
كان تارةً يجرّم حياته اليومية التي تتناقض - أصحيح!- مع عمله الإعلاني:
"لم أكن أستقلّ المصعد بحجّة أنني أسكن في الطابق الأول. غالباً ما كنت أُصلح أغراضي بنفسي. وقد حصل أن أعدتُ ترقيع أزرار بنطلوني بدل أن أشتري واحداً جديداً. كنتُ أشرب المياه من الحنفيّة وأغسل الصحون بيدي. كنتُ أتنقّل في باريس على الدرّاجة، حتى أنني كنت أحياناً أذهب سيراً على الأقدام. مشيتُ لمدة سنتيْن مُنتعلاً الحذاء نفسه. أما الظرف المشدّد للعقوبة فهو عدم استعمالي لمُزيل الرائحة... "
وطوراً يعترف بالهرطقات الروحية والاقتصادية التي جعلها تنمو في عقله، مُتخطّياً الأدبيات القويّة لرجال المهنة:
"شككتُ بحثالة سوق الأسهم الفرنسية. لم أنصح العاطلين عن العمل بوضع مساعداتهم ضمن صناديق الائتمان. سعيتُ إلى العدالة الاجتماعية دون النظر في القيود المالية. كان من الصعب عليّ أن أصدّق بأنّ بيعنا للأسلحة كان لمصلحة السلام. لم أكترث لشراء الأشياء التي لم أكن أعتبرها مفيدة، مُتذرِّعاً بوضع حدّ للتضخّم. حتى أنني كنتُ أحياناً أنتقد البرامج المتلفزة. عندما كان يقول لي أحد بأنّ مصالح أرباب العمل والعمال هي نفسها في العمق، كنت أرفض الإقرار بما هو بديهيّ. حتى أنني توصّلتُ إلى خيانة ثقافة الاعلانات، عبر تعلّقي المستمرّ بأعمال الماضي..."
ثمّ يُنهي اعترافه برتبة الاسترحام:
"يا إخوتي، سامحوني لأنني أخطأت!" بعد تحرّره بفعل الكلمة، كان ينتقل إلى العمل. أي مُزوّداً بمضخّة يستوحي خربشاته من البيئة بأكملها، من المنحدرات المشجرة إلى أقصى الوديان. كان يتمتع بقدرة الأشباح على التواجد في كلّ مكان، فيروح يحفر على الصخور أو الجذوع عباراته التردادية في النقد الذاتي، بشكل شعارات.
لكان من السهل أن نرى في هذا النمط الغريب من الحياة تعبيراً عن تناقض جديد. فكيف من الممكن عيش حياة التنسّك هذه تعبّداً للاستهلاك؟ أليس في ذلك الأمر تناقض رهيب؟
دون شكّ. لكن في تلك الفترة، توصّلت التناقضات الداخلية للرأسمالية إلى التأثير حتى على الإعلانيّين. وما كان مثيراً للإعجاب هو القناعة العميقة للفلسفة الجديدة في تكريس نفسها للقضية. أضفْ أنه، من داخل مغارته البلاتونيّة، كان يرتقي شيئاً فشيئاً إلى نوع من الحكمة العالية. وكانت الجمل التي يحفرها فوق مدخل الغابات تتنقّى لترتقي إلى حكم تناسب عصرنا هذا، وكانت جديرة لتلقّيها من قبل الأجيال الجديدة المُولعة، أكثر من أيّ وقت مضى، بالمثل العليا ومضادّات الانهيار العصبي:
"أن نحبّ بعضنا البعض لا يعني أن ننظر إلى بعضنا، بل أن ننظر سوياً إلى واجهات المحلاّت التي تُغرينا.
"إنّ البورنوغرافية الأنيقة تحرّر المرأة.
"لا تنسى واجبك في التصدير.
"يجب التوفيق، في سرّ السراويل، بين معنى التجارة وتجارة المعاني.
"أن نكون أو لا نكون مُستهلِكين، هذا هو السؤال. لكن لا يجب طرح السؤال على أنفسنا إلاّ بعد عملية الشراء.
"بإمكان روح التسوّق تحرير العالم، والعالم لا يعرف ذلك.
"تواصَلْ تساعدْك السماء.
"إن كنتَ تريد أن تخدم، تعلّمْ كيفيّة بيع نفسك.
"فلْنصلِّ لكي يشعر الأولاد الذين يصنعون أحذية الرياضة بأنهم أخوة أولئك الذين ينتعلونها!
"طوبى للمُستهلكين بحقّ لأنهم سيجدون الله في صحنهم!"
عندما علمت بعض وسائل الإعلام بهذه الظاهرة البشرية، تساءلت - حياءً- حول معناها. ووصل بعض الصحافيين المبتدئين وجالوا الجبل الورع تقفّياً لأثر النبي لتسجيل اعترافاته. حقّقوا حول روحه وجنسه. وصوّروا حتماً خربشاته التي ترمز إلى عصرنا.
بفضل تحقيقاتهم، علمنا بأنّ بعض الفلاحين البدائيين والمدارس اللينينية اعترضت، في بادىء الأمر، على وجود هذا الحيوان الدّعائي في مراكز الطبيعة العليا؛ إلاّ أنّ التجّار ووكالات السياحة عارضت هذه الحملة في المراكز العليا، رافضةً المشاركة في الكره المحلّي للأجانب باسم التسويق الحرّ للبضائع والأشخاص.
حسم والي المقاطعة قائلاً: "ليس وارداً أبداً طرد رجل إعلانات من مكان تجري فيه من جهة أخرى محاولات لإعادة تأقلم الدِّبَبَة". وقد استنتجت أجهزته، بعد تحقيق دقيق، بأنّ خطابات المجنون التي تجوّقها بحقّ إذاعات الراديو الحرة، ثم تتناولها صحيفة المنطقة وتنشرها إذاعة التلفزيون الريفية، اتّضحت مُفيدةً للوظيفة، "عبر حثّ الرغبة من جديد - وبالتالي الاستهلاك."
عندها انفجر الحدث على شاشة الـTF1 التي نشرت أصداءه في إحدى أمسيات الأحد، كونها على استماع دائم للبلد الحقيقي. أثار الخبر مباشرة انتباه أوساط الاتصالات. أليس المتنسّك في الجبل رجل إعلانات سابقاً؟ لقد دخلت حالته التاريخ.
على الفور، بدأت الرؤوس المُفكّرة في مجتمع السوق تقتنع، بعد العديد من النقاشات والمؤتمرات الفائضة، أنّ في الأمر "نوعاً جديداً من التواصل الأخلاقي".
وأعلن أحد الأساقفة المُنفتح على العالم المعاصر "إننا نشهد على ارتقاء الاقتصادي بفعل الديني". وبحسب تقدير ناقد سيميولوجي بعض الشيء: "إنّ ترسخ عقيدة الاستهلاك، في المشهد العام، يؤدّي إلى تطبيع، وبالتالي إلى تشريع الفلسفة الليبيرلبية مع جعلها ديموقراطية"؛
وحسم أحد المتّصلين الاجتماعيين البارزين: "لا شكّ أنه، وفق المنطق المهنيّ، يُعتبَر ذلك انتصار لتقنيّة القاضي التائب: من خلال استماعنا للإنسان الذي يتّهم نفسه، نعترف بأخطائنا. حينها يتحوّل التائب إلى قاضٍ؛ يدعو المشاهد إلى تغيير تصرّفه غير الأخلاقيّ كونه شديد الصرامة، وبالتالي العودة بسعادة إلى هياكل السوق. بصورة متناقضة، يعيد خطاب الناسك تحويلنا إلى سيباريسيين!"؛
"لستُ موافقاً!"، كان من المفترض أن يردّ جاك فولدينغ، طبيب نفسيّ مشهور، في جريدة "لا ديكرواسانس": "يثير مشهد الناسك تماهي المشاهدين، وهو ردّة فعل مرتبطة بعملية التطهير اللاّواعية. فالاثنان يلتقيان لإبقاء المُشاهد في وضع المتلقّي مقابل الشاشة، غارقاً في أريكته. فلُنتنبهْ جيداً: إنّ رجل الاعلانات، الذي يسكن المغاور، يعمل في الحقيقة على قمع رغبة الجموع من خلال تجنّبها..."
وهلمّ جراً، لبضعة أشهر.
من البديهيّ أنّ هذه المداخلات النظرية، مهما كانت غنيّة، لم تكن تسمح بقياس الفاعلية الحقيقية لهذا "التواصل الجديد"، الذي كان البعض يعتبره "آخر موضة" والبعض الآخر "ميولاً متطرّفة". كان من الضروريّ اختبار هذه الممارسة المجدّدة، بقدر ما هي أخلاقية عمداً، على صعيد واسع. أضفْ أننا كنا نشهد، في وسائل الإعلام، على تعبئة مُخيفة للمساحات الإعلانية التقليدية.
عندها اتخذت الظاهرة، بالرغم من كونها فرنسيّة في الأساس، طابعاً عالمياً. فقد شهدنا، دون أيّ تحوّل، على هجمة مفاجئة للشركات المتعدّدة الجنسيّة، في غالبية الأماكن العدائية والصحراوية على وجه القارة الأرضية، حيث أصبح من المفترض "خربشة" كلّ شيء، على غرار ما أقدم عليه مجنون الجبل. تدافعت الشركات، بتشجيع من المضاربة في البورصة، على عمليات شراء كثيفة لغابات ملائمة وجبال وعرة وصحاري مقفرة ورمال محرقة أو خلوات جليدية، من الأركتيك وحتى الأنتركتيك. بدأت الطبيعة الوحشية ترتقي إلى رتبة ثقافة الإعلانات.
في الوقت نفسه، بدأت داخل المؤسّسات "ورشات عمل" فعلية لتحريك الموظّفين وتعليمهم، وفيّةً لدعوتها الأبدية، عملت على تشكيل كتائب من النسّاك المؤيّدين للإعلانات. وكان هؤلاء المتخصّصين الجدد، الذين يُعرَض عليهم عقود لمدة سنتيْن، مدعوّين للعيش بصورة بدائية والصياح في الصحاري القاسية التي يطلون كافة مساحاتها بالشعارات والرسومات.
وكان من غير المُستحبّ أن يحلقوا ذقونهم لدواعي الصورة.
كانت القنابل والكستناء توزَّع مجّاناً.
لدى عودتهم، تكون كافة قناة التلفزة موجودة لاستقبالهم. ويتمّ بثّ التحقيقات حول ظروف عيشهم البطولية. ويتمّ عرض صور الشعارات التي فجّروها وسط مشاهد من غير الممكن التقاطها. كانوا ينشرون دفاترهم الحميمة التي تتحوّل إلى أكثر الكتب رواجاً. وكانوا مروراً يشهدون على الأجواء ويعترفون ببعض عمليات التلويث الليلية، وكان من شأن ذلك أن يزيد احتفال وسائل الإعلام بهم. أصبح بامكانهم أخيراً حلق ذقونهم. ولم يعد حتى ممنوعاً عليهم، وسط هذا التحرّك الاحتفالي، التفكير بالانتخابات الرئاسية المقبلة. وكانت تُعرَض عليهم "خيارات ادّخار" مدهشة، من المفترض أن تؤمّن لهم كما يُقال، حياة رفاهيّة حتى آخر أيّامهم.
كان كلّ شيء يجري على أفضل ما يُرام في أفضل عالم للعولمة، عندما حصل، بعد بضعة أعوام، ما لم يكن أبداً في الحسبان. لقد أُصيب جميع النساك بفيروس غير معروف ومُعدٍ جداً، فظهرت عليهم عوارض اضطراب من نوع جديد وغامض وغير متوقّع، مع أنه كان يُعرف سابقاً: الإيمان!
الإيمان القديم والاحتفالي. الإيمان الحقيقي الموجود في قلب الحياة الحقيقية. لقاء الله في الصحراء. وقد تمّ اختبار هذا الإيمان في كلّ مكان في الوقت نفسه، بالآنية المذهلة للتواصل عبر العالم.
وفي خضمّ الإيمان الذي أُعيد اكتشافه، يا للأسف! الدعوة إلى البساطة. بدأ كافّة نسّاكنا، المؤيّدين للإعلانات، بالإعلان، وسط الصحراء والحماس، عن عدولهم عن الاعلانات والإنماء وعن مضخّاتهم. غيّروا خطابهم فور تغييرهم مُستخدِمَهم!
كان الذهول التامّ.
البورصة انحنت وهرولت وغطست.
تمّ استدعاء أفضل المفكّرين والمثقّفين المعروفين وغيرهم من المتناوبين على قضيّة الوعي. تمّ تشكيلهم داخل وفود، مهمّتها تجنّب الحلول الجذريّة التي تفرض نفسها، وذلك بطريقة علميّة. وقد أتت من أميركا مرة أخرى أيضاً الفرضية الأكثر دقّة:
"الوسيط هو الرسالة"، صرخ عالم الوساطة المشهور ماك شامان، يوم كان يمارس رياضة الكانوي فوق شلالات نياغارا.
بحسب قوله، لقد طغى إطار الخطاب على فحوى الرسالة. فوفق منطق التواصل، ليس بإمكان أيّ شخص التبشير في الصحراء دون أن تخترقه "النفس". فقد ذكّر الحكيم العجوز أن "الصحراء هي في جوهرها وسيلة الإعلام الخاصّة بالله". كان من المُحتّم أن يشهد أنبياؤنا، يوماً من الأيام، على تلوّث كلمتهم بالنفق الذي حفروه، وبالتالي، أن يُصبحوا شهود الكلمة السماوية في تلك الأماكن.
وما يتبع ذلك من عواقب.
يجب القيام بكلّ شيء من جديد.
كان الله يضرب عالم ما بعد الحداثة بوباء جديد: فكّ سحر الاعلانات. وجد مجتمع الاستهلاك نفسه أمام طريق مسدود. أمامه خياران: إمّا الانكفاء وإمّا الصلاة. كان الأمر لا يُطاق.
يبدو أنه، بالرغم من تناقضات مهمّة حول حقيقة ما حدث، اتّفق المؤرّخون الآن على كيفية إيجاد نهاية له.
أكان يجب الانكفاء أم الصلاة؟ لقد صلّوا - الوثائق تؤكّد على ذلك.
أدرك المجتمع الدوليّ أنّ رجلاً واحداً في العالم قادر على إيجاد حلّ لتلك الأزمة العالمية: البابا. يكفي الاعتراف بسلطته في النظام الروحي، للتأكّد من أنه لن يتوانَ عن إعادة النظام الاستهلاكي الذي بدا أنّ إله الصحراء أذبله.
لذا أتى رجالات دولة مرموقون، يرافقهم أساتذة كبار في الاقتصاد العالمي، يرتدون بزّات التائبين في زيارة الأب الأقدس، في مقرّه الشتويّ الجديد في كانوسا. أثنوا عليه بالتبجيل وقدّموا له الشموع وعوّموا مصرف الروح القدس في طريقهم. وقد شدّد الحبر الأعظم الذي يهمّه تفادي انقسام جديد للغرب، على الدور الأساسيّ للإنماء في اقتصاد الخلاص. قال في لكنته اللاتينية الساكسونية التي لا تُقلَّد، "لا يجب أن ننسى أنّ المسيح نفسه لجأ إلى الترويج الإعلاني!"
انتهى القدّاس!
لم يعد هنالك من حواجز، فقد بدأت الجموع في كافة الدول ترتاد مجدّداً هياكل السوق، ناسيةً وسط الاستهلاك ما كاد يحرمها منه.
وقد جرى ذلك في أزمنة بعيدة جداً - في بداية الألفية الثالثة كما يُقال.
--------------------------------------------------------------------------------
* مؤلف Bonheur conforme (Gallimard, 1985) et de De l’id鯬ogie, aujourd’hui (Parangon, 2004).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق