قبل ثلاثة اعوام، بالتمام والكمال، كنت ضيفاً علي عدة برامج تلفزيونية بريطانية، للحديث عن لحظة سقوط التمثال في ساحة الفردوس ومعانيها، والمستقبل المشرق الذي ينتظر العراقيين.
في البرنامج الاول سألني المضيف عن شعوري الحقيقي وانا اري الاحتفالات العفوية في شوارع بغداد، وردي علي اعلان الرئيس بوش حول انتهاء الحرب، فقلت بالحرف الواحد أخشي ان يندم الامريكان والعراقيون انفسهم علي زمن يحتفلون بنهايته، فالحرب الحقيقية ستبدأ غداً، وسيتحول العراق الي دولة فاشلة . وقد ذكرني المذيع التلفزيوني نفسه بهذه المقابلة، وقال لي، اننا اعتقدنا انك مجنون لا تعرف ما تقول في حينها وسخرنا منك، والآن اعترف باننا كنا مخطئين، ونقدم لك اعتذارنا .
في البرنامج الثاني، كنت ضيفاً علي برنامج شهير يقدمه اندرو نيل، وهو صحافي بريطاني معروف ترأس تحرير صحيفة صنداي تايمز البريطانية التي توزع مليونا ونصف المليون نسخة كل يوم أحد. المستر نيل قال لي: ماذا تتوقع للعراق بعد هذا الانتصار الكبير؟ قلت: المزيد من القتل والدمار وعدم الاستقرار، فقال لي غاضباً: انت شخص متشائم، وغير واقعي، واراهنك بان العراق بعد 18 شهراً سيكون بلداً ديمقراطياً، مستقراً مزدهراً، ونموذجاً يحتذي في المنطقة بأسرها، فقلت له: انا اتحداك بان امنياتك هذه لن تتحقق بعد 18 عاماً، لانك لا تعرف العراق، ولا تعرف امريكا فلم تتدخل امريكا في بلد الا وحولته خراباً، وحكامها الحاليون يريدون اذلال العرب والمسلمين لمصلحة اسرائيل. وكل ما اتمناه ان تستضيفني في برنامجك بعد 18 شهراً لنري من يكسب الرهان، فإذا كسبت انت وتبين انك علي حق في نبوءتك فاعتذر علناً، لك وللمشاهدين، واذا لم تصدق هذه النبوءة فعليك ان تتحلي بالشجاعة وتعتذر من جانبك.
المستر نيل لم يعتذر قطعاً، والاكثر من ذلك لم يستضفني في برنامجه منذ ذلك التاريخ، وانا الذي كنت ضيفاً شبه دائم، لان العراق الذي بشر به هو والكثيرون من امثاله كان وهماً، وجزءا من حملة اكاذيب صدقها بعض العراقيين للأسف.
ولم يكن المستر نيل وحده الذي لم يتحل بالشجاعة ويعتذر عن مشاركته في حملات التضليل، وانما ايضاً مجموعة من الساسة العراقيين الذين يقيمون كراسي حكمهم ومناصبهم علي جثث مئات الآلاف من العراقيين، من امثال السادة عبد العزيز الحكيم، وابراهيم الجعفري، وعدنان الباجه جي، وبحر العلوم، وجلال الطالباني، ومسعود البارزاني والعشرات غيرهم من قادة احزاب وكتاب وشعراء ومفكرين وفنانين.
قبل سقوط التمثال كان العراق يرزح تحت حصار ظالم، ويتعاون بالكامل مع فرق التفتيش الدولية، ويوزع حصص الغذاء علي كل اسرة في مطلع كل شهر بدقة متناهية، عراق آمن مستقر موحد، مواطنه ينعم بالماء والكهرباء ويذهب الي عمله كل صباح، ويعود الي بيته مطمئناً، حيث يتساوي الجميع تقريباً في المعاناة تحت الحصار.
عراق اليوم، وبعد سقوط التمثال بلا امن ولا طمأنينة، بلا حاضر، ولا مستقبل، لا ماء ولا كهرباء، ولا وظائف، سيارات مفخخة، وجثث بالعشرات يومياً مجهولة الهوية، معصوبة الاعين، مقيدة اليدين وآثار تعذيب وحشي علي اجساد اصحابها، ورصاصة في مؤخرة الرأس.
قبل ثلاث سنوات كان العراقيون في المنافي ينتظرون سقوط التمثال لكي يعودوا الي بلدهم، بعد ثلاث سنوات لم يعد اي من هؤلاء، باستثناء المرتبطين بالمشروع الاحتلالي الامريكي، وانضم الي هؤلاء ضعفهم، فجميع ابناء الطبقة الوسطي هربوا الي الدول المجاورة، او اي دولة اوروبية تقبلهم، ولم يبق في البلاد الا الفقراء والمعدمين وعصابات الاجرام، وعناصر الميليشيا الطائفية.
ومن المفارقة ان معظم اسر حكام العراق الجدد واطفالهم ما زالوا خارج العراق، يتنعمون بالاموال الوفيرة التي انهالت عليهم، يتسوقون من محلات لندن وباريس واستوكهولم ونيويورك، فالانتماء للعراق بات مجرد اتصال هاتفي، ومتابعة الأخبار عبر القنوات الفضائية.
مرت الذكري الثالثة لـ تحرير العراق علي صوت التفجيرات الدموية، والفراغ السياسي، وتشاحن الفرقاء السياسيين علي المناصب الوزارية، والخلاف علي شخصية رئيس الوزراء، وكأن تشكيل الحكومة سيضع حداً للعنف والارهاب، وسيعيد الامن والطمأنينة للعراقيين.
فرسان العراق الجديد لم يحتفلوا بذكري التحرير ولم نر مهرجانات فرح في الشوارع، وساحة الفردوس بالذات تسجيلاً لهذه اللحظة التاريخية العظيمة. كما اننا لم نشاهد المبشرين بالعهد الامريكي السعيد يعتلون المنابر الاعلامية، المكتوبة والمرئية، لكي يسردوا علينا وعلي المشاهدين والقراء العراقيين الانجازات العظيمة التي تحققت في السنوات الثلاث الماضية.
نتحدي ان يدلنا احد هؤلاء، او غيرهم، علي زعيم عراقي واحد، زعيم يقول انه يمثل جميع ابناء العراق، زعيم واحد غير طائفي، نعم هناك زعماء شيعة، زعماء سنة، زعماء تركمان، زعماء اكراد، زعماء عشائر، زعماء طوائف، ولكن ليس هناك زعيم عراقي واحد مثلما كان عليه الحال في الماضي.
ساحة الفردوس التي شهدت الاحتفالات الضخمة يوم سقوط التمثال باتت مكمن خطر امني ضخم، والفنادق الفخمة التي تحيط بها اصبحت هدفاً لهجمات الانتحاريين، والصحافيون الاجانب يعتكفون في غرفهم داخلها لا يستطيعون مغادرة بوابة الفندق المحصنة.
المقاومة العراقية نجحت في تخريب مشروع الاحتلال الامريكي بان جعلته مكلفاً للغاية مادياً وبشرياً، واكملت الميليشيات الطائفية الحاكمة مهمتها باذكاء فتيل الحرب الاهلية من خلال جرائم القتل التي تمارسها علي الهوية.
صحافي اجنبي حاول بالامس ان يلتقط صوراً لميدان الفردوس مكان سقوط التمثال في اكبر حركة مسرحية عرفها التاريخ، فانقض عليه ثلاثة مسلحين وشهروا مسدساتهم في وجهه، وطلبوا منه ان لا يلتقط اي صورة.
قبل ثلاث سنوات نقلت محطات التلفزة صوراً لرجل يضرب صورة الرئيس صدام حسين بحذائه بطريقة هستيرية، ويتهمه بتخريب العراق، تري اين هذا الرجل، وهل هو علي استعداد لضرب صور بوش وبلير والجعفري والباجه جي والجلبي بالحذاء نفسه، او غيره، وهل هو ما زال علي قيد الحياة، ولم يكن من بين مئتي الف قتيل سقطوا في حرب تحرير العراق والحرب الطائفية التي تبعتها؟
ثلاثمئة مليار دولار وثلاثة آلاف قتيل امريكي، ومئة بريطاني، ومئتي الف عراقي، ونصف مليون من الجرحي، وامارات طوائف، وبطالة، وثلاجات مستشفيات تزدحم بالجثث، واطفال لا يعلمون ما يحمل لهم الغد.. هذا هو باختصار العراق الجديد عراق الجلبي والحكيم والباجه جي والطالباني ومن لف لفهم.
عن صحيفة القدس العربي/لندن/9 أفريل 2006
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق