DNA
مسرح القصيدة ام مسرحتها؟
د.حسن السوداني
ان المسرح كالشعر هو اكثر الفنون قابلية على استخلاص ما هو جوهري.
الكاتب المسرحي انتوني سفيرلينج
أحياناً تتجلى السعادة في لحظة سفرنا داخل النص أو عندما يسافر النص الأدبي داخل حياتنا ليستوطن فيها ويتمكن منا فيجعلنا نعيد كتابة الآخر بعد لحظات التعايش بيننا وبين ما وراء الكلمات رولان بارت
عندما تتكرر المحاولات الجادة للاستفادة من القصيدة في عمل مسرحي, وعندما تتراوح النتائج بين الناجح والمدهش, يبرز لنا اكثر من تساؤل عن ماهية هذه القصيدة او الكلمات ومدى اختلافها عن غيرها من جزيل الشعر وكثرته, وربما هذه التساؤلات استدعتها التجارب المسرحية الست التي استندت كليا او جزئيا على قصائد الشاعر عدنان الصائغ والتي يمكن اجمالها بـ( هذيان الذاكرة المرـ بجزئيه ـ والذي قدما في العراق في عام1989 و1993 للمخرج غانم حميد , وقصائد قصيرة للصائغ تمسرحها الممثلة السويدية ليزا فري, Liza Fry وتقدمها على مسرح X في مالمو عام 2001, مسرحية التنور, عام 2004 ومسرحية الخلوة عام 2005 ومسرحية DNA عام 2006 وجميعها ـ اي التجارب الثلاث الاخيرة ـ قدمت في السويد للفنان حسن هادي, ورغم التناول المتعدد والرؤى المختلفة التي اشتغل عليه مقدموا هذه العروض الا ان الثابت فيها كان استخلاص ماهو جوهري من الحياة وهو ما عبرت عنه القصيدة او القصائد, او كما عبر عنه الكاتب المسرحي انتوني سفيرلينج, واذا كانت معظم التجارب قد استندت بدرجة كبير على قصيدة نشيد اوروك للصائغ وبدرجات متفاوتة على بقية القصائد فان هذه القصيدة تعيدنا الان الى الكم الهائل من الكتابات التي تناولتها من مختلف الجوانب, الا المسرحي منها والذي ظل نائيا عن التحليل وربما هذه التجارب هي محاولة كتابة ماهو مسرحي عن القصيدة, فالشاعر شيركو بيكه س يكتب عنها قائلا (القصيدة هي حفر دائم ـ قصيدة أركيولوجية ـ تحفر وتحفر. وكذلك هي قصيدة "هيمنة الخوف" التي تعيش في الماء والخبز ـ اللقمة اليومية ـ حيث نعلكها على مدار 24 ساعة يومياً. واللغة هنا تشبه القلعة الأخيرة لمقاومة الشاعر ولكي يحمي الوطن, خندق شعري طويل بقامة العراق حيث يدافع فيه الشاعر عن كل الموجودات التي حوله) ربما هذه النقاط وغيرها كثير ما دفع ويدفع الكثير من المخرجين ويستهويهم للغور في سبر القصيدة, وهو ما حدث في التجربة الجديدة للفنان حسن هادي عندما استفاد من فكرة الاستساخ لخلية جندي عراقي قتل في الحرب الأخيرة حيث يقوم البروفسور الغربي بكشف عمله المثير باستنساخ بشري من خلية هذا الجندي القتيل ، ليحقق بذلك حلمه في الخلود من خلال تسجيل بحثه هذا كانتصار للتطور الطبي في تاريخ العلم (أنت اهم انسان في هذه الارض بعد يومين, انت التي ستملأ صورك الصحف , وتجف الاقلام بالحديث عنك وتدمع العيون من كثرة النظر اليك دون اية رمشه , انت حديث وتحليل ومجادلت الناس اجمع). هكذا يخاطب البروفسيور بطلة عملة او انسانه الـ" مقترح". وربط المخرج - المعد ذلك الانتصار بين ذاكرة ميتة (منذ العام 2003) وذاكرة ولدت للتو (أي العام 2025).. فتكون الذاكرة هي البطل وهي الفيصل في أن يكون للبروفسور خلوده وحلمه أو لا يكون..
النص:
يتكون نص DNA من مجموعة مقاطع من "نشيد أوروك". للشاعر العراقي عدنان الصائغ ، ونصوص قليلة مختارة للشاعر السويدي ارنه زارنك Arne Zaring
حاول المعد" حسن هادي" ان يجمعها في وعاء فكرته حول موضوعة الاستنساخ مستثمرا الاجواء المتعددة التي تحتويها قصيدة الصائغ الطويلة" نشيد اوروك" بعوالمها الهذيانية التي سنجد لها صدى واضحا لدى بطلة العمل وهي تمر بحالات تنشيط الذاكرة التي طالما حاول البروفسور ان يطمرها لخلق ذاكرة بديلة , الا ان عودة الذاكرة والتي هي ذاكرة الجندي القتيل تجعل من عمل البروفسور برمته عبثا.......... تتحدث الذاكرة:
"الوطن . واو . طاء . نون . والاطفال , قال المقاول ـ نبني الوطن , فكومت عمري طابوقة فوق طابوقة , كان المقاول ينشئ من لحم احلامنا شققا وفنادق , لكنا حين كنا نجئ الى بغداد تطردنا شرفات الفنادق والحارس الاجنبي , فنأوي الى خان احزاننا وننام . قال السياسي ـ نبني الوطن , فرحنا نشد البلاد على جوع أمعائنا ونهوس بالطرقات ـ يطاردنا الشرطة والملكيون والفقر . قال المرابي ـ قال الصحافي قالو وقالو"
وفي الوقت الذي تستمر فيه القصيدة او الذاكرة بالهذيان يحاول البروفسور ان يقنع نفسه او اكتشافه بمبررات منجزه ..
"هنالك عجز في التواصل والتفاهم . وجودنا المشترك بثقافتين مختلفتين اتسم بالاستفزاز , و التنافر و الغربة و العناد بالاتفاق انت انساني انا , المثالي في هذا البلد على اقل تقدير. تمتلكين بشرة و حرارة الشرق وعادات وتقاليد الغرب, انت حضارتين في انسان واحد , تلك هي العظمه" ..
هذا المنطق طالما نجد له صدى في المجتمعات الاوربية او هو الوجه الخفي لحقيقة مفهوم الاندماج في تلك المجتمعات والتي طالما عانى فيها المهاجر من عدم فهم واضح له ولمعتقداته او عاداته مما جعله في كثير من الاحيان منكفأً على نفسه او معزولا بشكل اضطراري بسبب ذلك العجز في التواصل والتفاهم الذي ذكرهما البروفسور او فرضياته التي بنى عليها مرتكزات بحثه في الاصل.
وهنا يمكن ان نؤشر حالات من التأرجح في واقع اللغة المستخدمة كون المعد قد حافظ على نصية القصيدة وشعريتها دون ان يضفي عليها ما يؤهلها للاندماج مع لغة النص الاخرى مما خلق نوعا من التفاوت بين لغة القصيدة وبقية الحوار المستخدم في متن النص, كما ذهب المعد احيانا الى نوع من المباشرة لجر القصيدة الى واقعية الحوارات اليومية ولايصال فكرته السرية داخل العرض.
العرض:
حاول المخرج منذ اللحظات الاولى للعرض ان يشتغل على تثبيت منظومة بصرية تعتمد اللون كثيمة ارتكازية والنسق الحركي البسيط كوحدات متحركة مقصيا كل انواع البهرجة او التضخيم السينوغرافي. فالاحداث كاملة تدور في صالة طبية فرضت اللون الابيض كلون سائد مريح" ملابس المريضة, الطبيب, الممرضة" وهو لون يدخلك الى اجواء نفسية ملائمة فضلا عن استخدام السرير الطبي وثلاث ملاءات مرتبطة بسقف المسرح متدلية ومرتبطة بالسرير الطبي المتحرك . اما الوحدات المتحركة المتربطة بنسقية الحركة فقد اعتمدت التشكيلات الثلاثية التي تأخذ اشكال الهرم القائم او المثلث الارضي او الخط المستقيم او التشكيل المبعثر وفي اغلب الاوقات يكون راس الهرم او المثلث هو المريض او الاكتشاف او الذاكرة الجديدة في حين تكون القاعدة فيه الممرضة والطبيب. ولعل هذا النمط من التعامل الاخراجي يتطلب اداءأ جسديا متميزا للممثل ويسعى في الوقت ذاته للوصول الى الشكل الدال(Significant form) وهو نمط من الاستخدامات الشكلانية التي دعى ونظر اليها رائد هذا الاتجاه الإنجليزي كلايف بل , والذي عد في حينه ثورة على الفن التقليدي التعليمي. يقول كلايف بل في ذلك: " إن الأشكال إذ تنتظم وتجتمع وفقا لقوانين معينة مجهولة وغامضة, تحرك مشاعرنا فعلا بطريقة معينة, وأن مهمة الفنان هي أن يجمعها وينظمها بحيث تحرك مشاعرنا. هذه التجمعات والتنظيمات هي ما أطلقت عليه على سبيل التيسير ... اسم "الشكل الدالsignificant "Form . وقد ساعد الاداء المتميز للممثلين الثلاثة: رونا بيركمان Rune Bergman، وعايدة Aida، واوسا اهلاندر.Åsa Ahlander. على تجسيد فرضية المخرج للوصول الى الشكل الدال والمتناغم مع نص الحوارات للشخصيات الثلاث, ويلاحظ المتتبع للاعمال الثلاث التي قدمها المخرج حسن هادي والمأخوذة عن قصائد الشاعر عدنان الصائغ وطريقة تعامله معها انه يعمد الى نوع من التشكيلات الجسدية المعبرة عن شكل معروف لدى المتلقي " خارطة العراق" ـ مثلاـ او الصليب او غيرها من التشكيلات الموحية, ورغم ان تلك التشكيلات تدفع الشكل في العرض المسرحي الى نوع من المباشرة الا انها قد ابتعدت عنها كثيرا في هذا العرض مما يؤكد استفادة المخرج من مشاهداته وتطور اساليبه وادواته, بل ويمكن تلمس الكثير من النضج في تجربة حسن هادي الاخراجية عن بقية اعماله السابقة, كما يحسب له ايضا محاولته لتقديم العمل بلغتين في ان واحد وتقسيم الحوار بين الممثلين لادائه باللغتين العربية والسويدية مع وجود شاشة تتوسط المسرح تترجم بطريقة فنية حوار الممثل للعربية او السويدية ويعطي المجال للتغلب على صعوبة تقديم العمل باللغة العربية لجمهور سويدي فضلا عن استخدام الشاشة لتقديم الصور والبيانات الرقمية لذاكرة المريضة او الاختراع جاءت في اغلب الوقت متقنة ومعبرة وهي من تصميم التقني العراقي سلام سميسم. كما كان للترجمة الجيدة للنصوص الشعرية والحوار المسرحي والتي قام بها: ملاك مظلوم، وآرنه زارنك، ونادين، وعايدة دورا ايجابيا في ايصال العمل الى المتلقين من السويديين او العرب بطريقة سهلة وفعالة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق