العقل والنقل .. جدلية الصراع المعرفي المزمن بين منهجين
نضير الخزرجي*
لم يخلق الله خلقا أحسن ولا أطوع ولا أرفع ولا أشرف ولا أعز من العقل، فبه يسعد المرء أو يشقى، وبه يتعالى المرء أو يتسافل، ولا يكون المرء عاقلا إلا اذا شغّل ماكينة عقله وحرَّك عجلاتها بما ينفعه والدوائر المحيطة به، من أسرة وعشيرة ومجتمع وأمة وبشرية، فكلما تفتق عقله عن خير توسعت دوائر إشعاعه الى مديات أكبر وأكبر، ولا يكون الأمر سهلا، ولكن الصعاب تتذلل كلما صعد المرء مراقي العلم، فلا علم بلا عقل ولا عقل بلا علم، فـ (العقل خلق من نور) كما يقول نبي الرحمة والسلام محمد بن عبد الله (ص)، و(العلم نور) كما يقول صلوات الله عليه، وأمكن بذلك تشبيه نسبة العقل الى العلم، كالشمس الى القمر، فالشمس سراج متوهج والقمر النور المنعكس من ضياء هذا السراج، وكما لا تستقيم الحياة إلا بضياء الشمس ونور القمر، فان حياة البشرية لا تستقيم إلا بضياء العقل ونور العلم، وكما يقول أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري (ت 31 هـ): "يا جاهل تعلّم فان قلبا ليس فيه شيء من العلم كالبيت الخراب الذي لا عامر له".
وعند قراءة نصوص التراث بأطيافه المختلفة من نصوص دينية وتاريخية وأدبية وغيرها، يتبدى مفهوما (العقل والنقل)، بوصفهما المفتاح الهادي الى فتح مغاليق النصوص، وتبرز الأهمية أكثر لدى الفقيه عند قراءته النصوص الدينية من قرآن كريم وسنَّة، لتوظيفها في مجال الاجتهاد والإفتاء، فمنهم من يجرد النصوص المنقولة عن العقل، فيتوقف على النقل ويتسمَّر عليه دون أن يعمل عقله في استنباط ما يواكب تطورات العصر، مظهرا الدين الاسلامي الحنيف بمظهر التخلف والرجعية، ومنهم من يسلط ضياء العقل على النصوص، ليستنبط من النقول ما ينفع الناس الآن وفي المستقبل، دون أن يعتدي على حريم النصوص أو أن ينتقص من قائلها، مظهرا الدين الاسلامي الحنيف كما يجب أن يكون، وهو كذلك، بوصف الإسلام الخاتم للأديان، وبوصفه الداعي الى العلم والتجربة وبناتهما، ولا يتقاطع معهما.
وتمتلك المدرسة الفقهية العقلائية التي تلزم الفقيه إعمال عقله وتشغيله عند الاستنباط، في الوقت الحاضر أعمدة عدة، بانت للأديب والأكاديمي العراقي، الأمين العام للمجمع العلمي للبحوث والدراسات في لندن، الدكتور هادي حسن حمودي، إحداها فعقد معها حوارا فكريا قرأ فيه منهج الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي في التعاطي مع العقل والنقل، صدر الحوار مؤخرا على هيئة كتاب من 288 صفحة من القطع المتوسط، صادر عن بيت العلم للنابهين في بيروت، حمل عنوان: "حوار مع دائرة المعارف الحسينية للكرباسي .. العقل والنقل"، تعرض فيه الباحث الى فصل "العقل" في ثمان صفحات استله من مجلد "الحسين والتشريع الاسلامي" للكرباسي، في جزئه الأول الصادر في طبعته الأولى العام 2000م، عن المركز الحسيني للدراسات في لندن، في 538 صفحة من القطع الوزيري.
ولما كان الحوار ينطوي على موافقات ومخالفات في الرأي، فان الدكتور حمودي وبأسلوبه النقدي الممتع، يقدم للكتاب تحت عنوان "ما أفسد الخلاف للود قضية"، وهو بذلك ينبيك قبل أن تلج باب الحوار، إن قراء أفكار الفقيه الكرباسي، هي قراءة فكرية تقترب من العقلانية بقدر اقتراب العقل من النقول، وتبتعد عن التراثية بقدر ابتعاد العقل عن النقول، وبذلك فان المؤلف يقدم نفسه كباحث عقلاني، وهذا شأنه في الكثير من مؤلفاته الأدبية والنحوية، كما انه يضع صاحب دائرة المعارف الحسينية في مصاف العقليين الداعين الى استخدام العقل وتفعيلة في كل مناحي العلم على غرار أصحاب الاتجاه العقلي أمثال، أبو الحسن مقاتل بن سليمان الأزدي (ت 150هـ) صاحب كتاب تفسير القرآن (تفسير مقاتل البلخي)، والخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي (100-175هـ) صاحب كتاب العين، وجابر بن حيان الكوفي الأزدي (120-198هـ) صاحب كتاب الكيمياء، وأبي محمد عبد الله بن محمد الأزدي الصحاري (ت 466هـ) صاحب كتاب الماء، واحمد بن فارس (306-395هـ) صاحب كتاب النقد الأدبي.
ولأن موسوعة دائرة المعارف الحسينية فاقت أعداد مجلداتها الستمائة مجلد دون أن يكون للفقيه الكرباسي جيش من العاملين في الحقول المختلفة كعادة الموسوعات التي ترصد لها الحكومات والمنظمات الملايين من الدولارات والمئات من المحققين، فان المصنف رغم تقاطعه في بعض مفاصل الحوار وتأليفه وتحقيقه لأكثر من 35 مصنفا، يقر: "والحق إني لينالني العجب والاستغراب كلما اطلعت على جزء جديد من تلك الموسوعة التي قد تتجاوز الخمسمائة مجلد، وهي تحاول الإحاطة بكل موضوع ذي علاقة بعنوانها، في عصر عزّ فيه القارئ، وندر فيه المؤلّف المخلص لقناعاته، وأندر منه مَن عبّر عنها بأناة وتأنٍّ واستقصاء، عملا بحرية الفكر والمعتقد التي ضمنتها أديان السماء وقوانين الإنسانية، وبخاصة في عصرنا هذا".
توزع الكتاب على ثمانية فصول، صال قلم المصنف في ميادين الفكر والفقه والتفسير واللغة والعلوم والأدب، مع بيان عدد من التطبيقات الحديثة على علاقة العقل بالنقل.
قرأ المصنف في الفصل الأول وتحت عنوان (العقل وعلاقته بالتشريع) ما جاء في فصل العقل من كتاب (الحسين والتشريع الاسلامي)، فأقرّ: "إن مسألة العقل وماهيّته ودوره في حياة البشرية مسألة شائكة شغلتني، وما زالت تشغلني، فالعقل ليس شيئا ماديا، بل هو اصطلاح على تلك القوة الهائلة التي ينتجها تشغيل الدماغ، أو قل تشغيل المخ وما يتعلق به"، أو حسب تعبير الفقيه الكرباسي: "القوة التي يدرك بها الانسان ويحكم من خلالها على مدركاتها، وإنما سُمي العقل لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك". من هنا فان المصنف يفصّل القول في بيان الدلالة اللفظية والمعنوية، ودور العقل في التشريع الاسلامي عند الاجتهاد والاستنباط، لينتهي الى القول: "وباعتبار الشيخ المؤلف أحد كبار فقهاء العصر، على الرغم من عزوفه عن الاعتراف بهذه الحقيقة التي يلمسها كل من اقترب منه، وانصرافه الى العناية بدائرة المعارف الحسينية التي وهبها جلّ وقته وعصارة معارفه.. فانه عُني عناية خاصة بـ (العقلية) التي يجب على الفقيه أن يحظى بها، والتي لا يحق للمرء أن يعلن فقاهته وقدرته على استنباط الحكم الشرعي من غير أن يتمتع بتلك القدرة العقلية". فتملك العقل لا يكفي لوحده وإنما لابد لمن يتصدى لاستنباط الأحكام الشرعية، التوفر على (العقلية) أي: "أسلوب التفكير وإمكانية التلاؤم مع الواقع بالانطلاق من المبادئ العامة والقواعد الكلية التي جاء بها الإسلام من أجل أن تكون نتائج تلك العقلية نافعة للناس وميسرة عليهم شؤون دينهم". على أن تكون العقلية كما يقول الفقيه الكرباسي: "قريبة من الفطرة الإنسانية والواقع المعاش والمذاق الاسلامي".
وينتقد المصنف اولئك الذي يجمدون على النصوص ويهبون لعقولهم إجازة مفتوحة، واضعين الناس بفتاواهم في مخمصة وحيص بيص، ويتساءل: "هل يمكن أن نأخذ برأي من يحرّم على المرأة استعمال الهاتف (التلفون) لأن لفظه مذكّر، ويحرّم عليها أن تنام قرب الجدار أو الحائط للعلة نفسها!! ولا أدري لماذا لا يحرم على المرأة أن تقف الى جوار الطبّاخ (آلة الطبخ) أو القِدر ولفظ كل منهما مذكّر أيضا!!".
ويشرح المصنف بشيء من التفصيل العلاقة بين العقل والعلم بوصفهما: "أمران متلازمان. العقل موجود منذ أن ظهر الإنسان على سطح الأرض، والعلم ناتج من نتائج (تشغيل) ذلك العلم". ويرى وجود علاقة لفظية بينهما: "فاللفظان مشتركان في حرفين هما (العين واللام) وانتقل (القاف) من وسط لفظة (عقل) الى (ميم) في آخر لفظة (علم)". ويخلص المصنف في نهاية الفصل الأول الى التأكيد بأن: "العلم لا وجود له إلا مع العقل. والعلم نتيجة طبيعية لحسن استخدام المرء لعقله، وخضوعه لأحكامه. والعقل من غير علم مجرد هوىً وعاطفة لا يعتمد عليهما ولا يعتد بهما في التطور الحضاري".
ويتخذ المصنف من العقلية العلمية منطلقا، ليبحث في الفصل الثاني "علاقة العقل بالاجتهاد والشورى"، فلا يقصر قوله على الاجتهاد الفقهي، وإنما يوسعه الى: "الاجتهاد في جميع شؤون الحياة من طلب علم نافع وأداء عمل صالح، وإدارة أمور الحياة اليومية، سواء كانت الحياة الخاصة للفرد أم الحياة العامة للمجتمع، وإبداء الرأي الناضج في الشؤون العامة، وهو ما اصطلح عليه الناس باسم الشورى". وبهذه التوسعة العقلائية يقرر انه: "لا شورى من غير اجتهاد، ومَن توفر فيه شرط الاجتهاد في علم أو عمل أو تخصص ما، كان له أن يصير من أهل الشورى، وحق على المجتمع أن يستمع لرأيه" بلحاظ إن الشورى قيمة حضارية، كما انه: "في أزمنة التألق الحضاري للمسلمين، كانت الشورى المبنية على الاجتهاد وما يتضمنه من أخلاق سامية نبيلة، جناح الأمة في التحليق عاليا في سماء التقدم والتحضّر والرقي. وحين تناسى الناس الاجتهاد والشورى، ضعفت الدولة حتى آلت الى السقوط رويدا رويدا". وحتى تعود الأمة الى سابق عهدها قوية مهابة، عليها أن تسلك طريق الاجتهاد والشورى، ولكن: "لا اجتهاد ولا ابتكار ولا إبداع ما لم يكن منبثقا من الأصول والأسس التراثية والخبرات التي اكتسبتها الأجيال السابقة، وأن يكون البناء على تلك الأصول والأسس منعا لأي تفرّق أو تمزّق في النسيج الحضاري للمجتمع".
وينتقل المصنف في الفصل الثالث الى تبيان "الاتجاه العقلي والتيار النقلي"، وفرّق بين الاتجاه والتيار، بلحاظ أن الأول فيه تجديد، والثاني فيه تواصل وتدفق بلا انقطاع والتزام بحرفية النص، ويخلص الى إن: "النقل، على أهميته لا يغني عن إعمال العقل وتشغيله، ولا يغني عن طلب العلم النافع وأداء العمل الصالح، وما الصلاح إلا ما فيه نفع الناس والبلاد". ويعتبر المصنف تحت عنوان فرعي "القرآن والاتجاه العقلي" إن: "القرآن الكريم رائد الاتجاه العقلي لحثه المتواصل على إعمال العقل وتشغيله، وعلى طلب العلم" مستشهدا بآيات عدة.
ويتخذ المصنف من العنوان الفرعي مدخلا الى الفصل الرابع لبحث "ميدان التفسير القرآني"، ناعيا على بعض التفاسير استغراقها في النقل وإعراضها عن العقل، رغم أن بعض ما تنقله مما لامسته يد التحريف وظللته غربان الأهواء، ويتعارض مع قطعيات العلم. وفصّل القول في بيان معالم "تفسير مقاتل" للقرآن الكريم، لأبي الحسن مقاتل بن سليمان الأزدي البلخي، نسبة الى بلخ من مدن خراسان حيث ولد فيها، وهو من رواد الاتجاه العقلي بوصفه: " أول من فسّر القرآن الكريم تفسيرا كاملا لا يعتمد على النقل، بل على تشغيل العقل وتنشيط الذهن". وحاول المصنف وتحت عنوان فرعي "شبهات التدليس والكذب" أن يرفع عن مقاتل شبهة التدليس والكذب، بتفصيل القول في بيان سنة ولادته، للتأكيد بصدق روايته عن مجاهد بين جبر المكي المتوفى في سنة 104، وانه كان شابا حين روى عنه، كما روى عن الضحاك بن مزاحم المتوفى في سنة 102 أو 105، وانه لم يكن حينها صغيرا. على انه يصح رواية الصبي، فيحملها صغيرا وينقلها كبيرا، كما في رواية السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب (6-62هـ) التي روت خطبة أمها فاطمة الزهراء في مجلس الخليفة أبي بكر، حيث حملتها واستوعبتها وهي صغيرة ثم نقلتها وهي كبيرة، بل لا يستبعد الفقيه السيد محمد الشيرازي (1347-1422هـ) حجية قول الصبي المميز، إذ: "لو روى وهو مميز فلا يبعد القول بالحجية أيضا لبناء العقلاء على ذلك وللسيرة ولغير ذلك" (راجع: الشيرازي، فقه الزهراء.. خطبتها في المسجد، بيروت، دار الصادق، ط1، 1419هـ/1998م، ج1 ص61).
ومن ميدان التفسير ينتقل المصنف في الفصل الخامس الى "الميدان اللغوي .. الخليل بن أحمد"، بوصف الفراهيدي واحدا من رواد الاتجاه العقلي الذي استطاع أن يشغل عقله، فيأخذ بالعقل مستفيدا من النقل، وكان من إبداعات العقل انه تمكن من استنباط إيقاعات موسقى الشعر، وعن طريقها ضبط أوزن ذلك الشعر وبحوره. على أن الفقيه الكرباسي استحدث العشرات من البحور الجديد، نقرأها في كتاب (هندسة العروض). والى جانب ميدان العروض، اشتهر الخليل بن احمد الفراهيدي في ميدان اللغة وكتاب العين، والميدان النحوي وكتاب النحو، الذي حقق فيه الدكتور حمودي ونزع تأليفه عن سيبويه عمرو بن عثمان بن قنبر (ت 177هـ)، وأرجعه الى الفراهيدي، حيث: "نعتقد جازمين أن الكتاب المنسوب لسيبويه، هو كتاب النحو للخليل بن أحمد، مع إضافات أضافها سيبويه، هنا وهناك، لا تخل بأن الكتاب للخليل".
ويتحول المؤلف في الفصل السادس، من الميدان اللغوي الى "ميادين العلم"، ليتحدث عن جابر بن حيان الكوفي الأزدي الذي اشتهر بريادته لعلم الكيمياء، وأبو محمد عبد الله بن محمد الأزدي، بوصفه من رواد الاتجاه العقلي في التراث العربي. فالأول: "كان مبدعا حقا، وهو احد رواد الاتجاه العقلي الساعي وراء التجربة العلمية" والثاني: "اتخذ من التجربة وسيلة للوصول الى تشخيص الأمراض ووضع العلاجات لها، وكذلك الى الحديث عن وظائف الأعضاء، وقد ذكر في كتابه (الماء) ما يشير الى معرفته بالدورة الدموية في الجسم، والى كيفية الإبصار، وكيفية تكوّن الذاكرة لدى الانسان".
ومن ميادين العلم الى ميدان الآداب في الفصل السابع والحديث عن "أحمد بن فارس"، بوصفه ممن: "رسّخ الاتجاه العقلي في دراسة الآداب واللغة ونقد النصوص، حتى اضطره الجوع والفقر الى التحول الى التيار النقلي في أواخر حياته"، واشتهر ابن فارس انه أول من اخترع: "مصطلح (فقه اللغة) إذ لم يكن العرب يعرفون هذا المصطلح من قبله، فجعله عنوانا لكتابه (الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها)"
ولتوضيح قصور النقل عن بيان كامل الحقيقة، فان المصنف في الفصل الثامن والأخير يقدم ثلاثة "تطبيقات عملية معاصرة"، التطبيق الأول هو "خرافة اللهجات وأساطيرها"، مؤكدا إن الذين درسوا اللهجات العربية: "تناسوا أوليات شروط البحث العلمي، وأبرزها قراءة النصوص قراءة واعية، لا كنصوص منفصلة عن حركة المجتمع، وقائمة بذاته، وكأنها جزر مستقلة عن المؤثرات التي حولها". من هنا فانه يرى أن الحديث عن لهجات عربية إنما هو حديث عن وهم، قال به البعض وسار عليه المعاصرون من النقليين، الذين لم يأتوا بجديد غير استنساخ أفكار بعض المستشرقين، فلو أنهم أعملوا عقولهم لبان لهم أن الاختلافات الموجودة في بعض المفردات: "لا تقوى على خلق اختلافات جذرية بين لهجة وأخرى، ولا يمكن أن يبنى عليها أن العرب هم مجموعة أقوام وليسوا قوما موحدين أساسا". على إن الفقيه الكرباسي، يعتقد إن المفردة الدارجة بشكل عام إما محرفة من أصولها الفصحى أو مخففة عنها، درج على تناقلها، أو اقتصر استخدامها في منطقة دون أخرى، أو عمم استخدامها بعد ما كانت تخص حالة معينة، أو إنها دخيلة.
وينتقد المصنف في التطبيق الثاني تحت عنوان "القرآن الكريم قراءة واحدة" القول الشائع بالقراءات المتعددة للقرآن، ويرى إن القرآن نزل بقراءة واحدة، والقراءات إن كانت سبعة أو عشرة أو أربعة عشر وأوصلها البعض الى 36 قرءاة، هي من صنع من أتى بعد الرسول محمد (ص) بأكثر من قرنين، ثم أصبح النقليون عيالا على السلف دون أن يُعملوا عقولهم. ويستعرض عددا من القراءات لآيات قرآنية، مفندا الاستدلالات التي أتى بها النقليون، مؤكدا إن تعدد القراءات لكلمة داخل آية يغير من المعنى ومن الحكم، فلا يصح العمل بها، لان حكم الله واحد. ويعبر المصنف عن استغرابه الشديد كون: "القراءات على اختلافاتها ينتهي سندها الى النبي، وكأنه (ص) كان يقرأ كل حين بما يختلف عن قراءته السابقة!!"، فلا يرى من الصواب الأخذ بالقراءات، وهو رأي يؤيده فيه الفقيه الكرباسي الذي لا يرى للقراءات من حجية.
وتحت عنوان "في تحقيق النصوص" ينتقد المصنف في التطبيق الثالث والأخير اولئك الذين يتناولون كتب التراث بالتحقيق فيملأون الكتاب بالحواشي والهوامش التي لا غناء في معظمها، فهو يحشي النقل بنقل آخر، دون أن يترك السبيل لعقله للإبداع، وبعضهم يصل به الجمود تحت عنوان التقديس غير المبرر فيترك كتب التراث على حالها دون تطويرها حتى ولو من باب الشكل والمظهر.
في الواقع إن الكتاب بتنوع ميادين بحثه ودوائره، أشبه بصخرة عقلية يرمي بها الكاتب في بحيرة النقل، ليحرك ساكن التراث ويكشف عن معادنه.
* إعلامي وباحث عراقي
الرأي الآخر للدراسات – لندن
alrayalakhar@hotmail.com
نضير الخزرجي*
لم يخلق الله خلقا أحسن ولا أطوع ولا أرفع ولا أشرف ولا أعز من العقل، فبه يسعد المرء أو يشقى، وبه يتعالى المرء أو يتسافل، ولا يكون المرء عاقلا إلا اذا شغّل ماكينة عقله وحرَّك عجلاتها بما ينفعه والدوائر المحيطة به، من أسرة وعشيرة ومجتمع وأمة وبشرية، فكلما تفتق عقله عن خير توسعت دوائر إشعاعه الى مديات أكبر وأكبر، ولا يكون الأمر سهلا، ولكن الصعاب تتذلل كلما صعد المرء مراقي العلم، فلا علم بلا عقل ولا عقل بلا علم، فـ (العقل خلق من نور) كما يقول نبي الرحمة والسلام محمد بن عبد الله (ص)، و(العلم نور) كما يقول صلوات الله عليه، وأمكن بذلك تشبيه نسبة العقل الى العلم، كالشمس الى القمر، فالشمس سراج متوهج والقمر النور المنعكس من ضياء هذا السراج، وكما لا تستقيم الحياة إلا بضياء الشمس ونور القمر، فان حياة البشرية لا تستقيم إلا بضياء العقل ونور العلم، وكما يقول أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري (ت 31 هـ): "يا جاهل تعلّم فان قلبا ليس فيه شيء من العلم كالبيت الخراب الذي لا عامر له".
وعند قراءة نصوص التراث بأطيافه المختلفة من نصوص دينية وتاريخية وأدبية وغيرها، يتبدى مفهوما (العقل والنقل)، بوصفهما المفتاح الهادي الى فتح مغاليق النصوص، وتبرز الأهمية أكثر لدى الفقيه عند قراءته النصوص الدينية من قرآن كريم وسنَّة، لتوظيفها في مجال الاجتهاد والإفتاء، فمنهم من يجرد النصوص المنقولة عن العقل، فيتوقف على النقل ويتسمَّر عليه دون أن يعمل عقله في استنباط ما يواكب تطورات العصر، مظهرا الدين الاسلامي الحنيف بمظهر التخلف والرجعية، ومنهم من يسلط ضياء العقل على النصوص، ليستنبط من النقول ما ينفع الناس الآن وفي المستقبل، دون أن يعتدي على حريم النصوص أو أن ينتقص من قائلها، مظهرا الدين الاسلامي الحنيف كما يجب أن يكون، وهو كذلك، بوصف الإسلام الخاتم للأديان، وبوصفه الداعي الى العلم والتجربة وبناتهما، ولا يتقاطع معهما.
وتمتلك المدرسة الفقهية العقلائية التي تلزم الفقيه إعمال عقله وتشغيله عند الاستنباط، في الوقت الحاضر أعمدة عدة، بانت للأديب والأكاديمي العراقي، الأمين العام للمجمع العلمي للبحوث والدراسات في لندن، الدكتور هادي حسن حمودي، إحداها فعقد معها حوارا فكريا قرأ فيه منهج الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي في التعاطي مع العقل والنقل، صدر الحوار مؤخرا على هيئة كتاب من 288 صفحة من القطع المتوسط، صادر عن بيت العلم للنابهين في بيروت، حمل عنوان: "حوار مع دائرة المعارف الحسينية للكرباسي .. العقل والنقل"، تعرض فيه الباحث الى فصل "العقل" في ثمان صفحات استله من مجلد "الحسين والتشريع الاسلامي" للكرباسي، في جزئه الأول الصادر في طبعته الأولى العام 2000م، عن المركز الحسيني للدراسات في لندن، في 538 صفحة من القطع الوزيري.
ولما كان الحوار ينطوي على موافقات ومخالفات في الرأي، فان الدكتور حمودي وبأسلوبه النقدي الممتع، يقدم للكتاب تحت عنوان "ما أفسد الخلاف للود قضية"، وهو بذلك ينبيك قبل أن تلج باب الحوار، إن قراء أفكار الفقيه الكرباسي، هي قراءة فكرية تقترب من العقلانية بقدر اقتراب العقل من النقول، وتبتعد عن التراثية بقدر ابتعاد العقل عن النقول، وبذلك فان المؤلف يقدم نفسه كباحث عقلاني، وهذا شأنه في الكثير من مؤلفاته الأدبية والنحوية، كما انه يضع صاحب دائرة المعارف الحسينية في مصاف العقليين الداعين الى استخدام العقل وتفعيلة في كل مناحي العلم على غرار أصحاب الاتجاه العقلي أمثال، أبو الحسن مقاتل بن سليمان الأزدي (ت 150هـ) صاحب كتاب تفسير القرآن (تفسير مقاتل البلخي)، والخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي (100-175هـ) صاحب كتاب العين، وجابر بن حيان الكوفي الأزدي (120-198هـ) صاحب كتاب الكيمياء، وأبي محمد عبد الله بن محمد الأزدي الصحاري (ت 466هـ) صاحب كتاب الماء، واحمد بن فارس (306-395هـ) صاحب كتاب النقد الأدبي.
ولأن موسوعة دائرة المعارف الحسينية فاقت أعداد مجلداتها الستمائة مجلد دون أن يكون للفقيه الكرباسي جيش من العاملين في الحقول المختلفة كعادة الموسوعات التي ترصد لها الحكومات والمنظمات الملايين من الدولارات والمئات من المحققين، فان المصنف رغم تقاطعه في بعض مفاصل الحوار وتأليفه وتحقيقه لأكثر من 35 مصنفا، يقر: "والحق إني لينالني العجب والاستغراب كلما اطلعت على جزء جديد من تلك الموسوعة التي قد تتجاوز الخمسمائة مجلد، وهي تحاول الإحاطة بكل موضوع ذي علاقة بعنوانها، في عصر عزّ فيه القارئ، وندر فيه المؤلّف المخلص لقناعاته، وأندر منه مَن عبّر عنها بأناة وتأنٍّ واستقصاء، عملا بحرية الفكر والمعتقد التي ضمنتها أديان السماء وقوانين الإنسانية، وبخاصة في عصرنا هذا".
توزع الكتاب على ثمانية فصول، صال قلم المصنف في ميادين الفكر والفقه والتفسير واللغة والعلوم والأدب، مع بيان عدد من التطبيقات الحديثة على علاقة العقل بالنقل.
قرأ المصنف في الفصل الأول وتحت عنوان (العقل وعلاقته بالتشريع) ما جاء في فصل العقل من كتاب (الحسين والتشريع الاسلامي)، فأقرّ: "إن مسألة العقل وماهيّته ودوره في حياة البشرية مسألة شائكة شغلتني، وما زالت تشغلني، فالعقل ليس شيئا ماديا، بل هو اصطلاح على تلك القوة الهائلة التي ينتجها تشغيل الدماغ، أو قل تشغيل المخ وما يتعلق به"، أو حسب تعبير الفقيه الكرباسي: "القوة التي يدرك بها الانسان ويحكم من خلالها على مدركاتها، وإنما سُمي العقل لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك". من هنا فان المصنف يفصّل القول في بيان الدلالة اللفظية والمعنوية، ودور العقل في التشريع الاسلامي عند الاجتهاد والاستنباط، لينتهي الى القول: "وباعتبار الشيخ المؤلف أحد كبار فقهاء العصر، على الرغم من عزوفه عن الاعتراف بهذه الحقيقة التي يلمسها كل من اقترب منه، وانصرافه الى العناية بدائرة المعارف الحسينية التي وهبها جلّ وقته وعصارة معارفه.. فانه عُني عناية خاصة بـ (العقلية) التي يجب على الفقيه أن يحظى بها، والتي لا يحق للمرء أن يعلن فقاهته وقدرته على استنباط الحكم الشرعي من غير أن يتمتع بتلك القدرة العقلية". فتملك العقل لا يكفي لوحده وإنما لابد لمن يتصدى لاستنباط الأحكام الشرعية، التوفر على (العقلية) أي: "أسلوب التفكير وإمكانية التلاؤم مع الواقع بالانطلاق من المبادئ العامة والقواعد الكلية التي جاء بها الإسلام من أجل أن تكون نتائج تلك العقلية نافعة للناس وميسرة عليهم شؤون دينهم". على أن تكون العقلية كما يقول الفقيه الكرباسي: "قريبة من الفطرة الإنسانية والواقع المعاش والمذاق الاسلامي".
وينتقد المصنف اولئك الذي يجمدون على النصوص ويهبون لعقولهم إجازة مفتوحة، واضعين الناس بفتاواهم في مخمصة وحيص بيص، ويتساءل: "هل يمكن أن نأخذ برأي من يحرّم على المرأة استعمال الهاتف (التلفون) لأن لفظه مذكّر، ويحرّم عليها أن تنام قرب الجدار أو الحائط للعلة نفسها!! ولا أدري لماذا لا يحرم على المرأة أن تقف الى جوار الطبّاخ (آلة الطبخ) أو القِدر ولفظ كل منهما مذكّر أيضا!!".
ويشرح المصنف بشيء من التفصيل العلاقة بين العقل والعلم بوصفهما: "أمران متلازمان. العقل موجود منذ أن ظهر الإنسان على سطح الأرض، والعلم ناتج من نتائج (تشغيل) ذلك العلم". ويرى وجود علاقة لفظية بينهما: "فاللفظان مشتركان في حرفين هما (العين واللام) وانتقل (القاف) من وسط لفظة (عقل) الى (ميم) في آخر لفظة (علم)". ويخلص المصنف في نهاية الفصل الأول الى التأكيد بأن: "العلم لا وجود له إلا مع العقل. والعلم نتيجة طبيعية لحسن استخدام المرء لعقله، وخضوعه لأحكامه. والعقل من غير علم مجرد هوىً وعاطفة لا يعتمد عليهما ولا يعتد بهما في التطور الحضاري".
ويتخذ المصنف من العقلية العلمية منطلقا، ليبحث في الفصل الثاني "علاقة العقل بالاجتهاد والشورى"، فلا يقصر قوله على الاجتهاد الفقهي، وإنما يوسعه الى: "الاجتهاد في جميع شؤون الحياة من طلب علم نافع وأداء عمل صالح، وإدارة أمور الحياة اليومية، سواء كانت الحياة الخاصة للفرد أم الحياة العامة للمجتمع، وإبداء الرأي الناضج في الشؤون العامة، وهو ما اصطلح عليه الناس باسم الشورى". وبهذه التوسعة العقلائية يقرر انه: "لا شورى من غير اجتهاد، ومَن توفر فيه شرط الاجتهاد في علم أو عمل أو تخصص ما، كان له أن يصير من أهل الشورى، وحق على المجتمع أن يستمع لرأيه" بلحاظ إن الشورى قيمة حضارية، كما انه: "في أزمنة التألق الحضاري للمسلمين، كانت الشورى المبنية على الاجتهاد وما يتضمنه من أخلاق سامية نبيلة، جناح الأمة في التحليق عاليا في سماء التقدم والتحضّر والرقي. وحين تناسى الناس الاجتهاد والشورى، ضعفت الدولة حتى آلت الى السقوط رويدا رويدا". وحتى تعود الأمة الى سابق عهدها قوية مهابة، عليها أن تسلك طريق الاجتهاد والشورى، ولكن: "لا اجتهاد ولا ابتكار ولا إبداع ما لم يكن منبثقا من الأصول والأسس التراثية والخبرات التي اكتسبتها الأجيال السابقة، وأن يكون البناء على تلك الأصول والأسس منعا لأي تفرّق أو تمزّق في النسيج الحضاري للمجتمع".
وينتقل المصنف في الفصل الثالث الى تبيان "الاتجاه العقلي والتيار النقلي"، وفرّق بين الاتجاه والتيار، بلحاظ أن الأول فيه تجديد، والثاني فيه تواصل وتدفق بلا انقطاع والتزام بحرفية النص، ويخلص الى إن: "النقل، على أهميته لا يغني عن إعمال العقل وتشغيله، ولا يغني عن طلب العلم النافع وأداء العمل الصالح، وما الصلاح إلا ما فيه نفع الناس والبلاد". ويعتبر المصنف تحت عنوان فرعي "القرآن والاتجاه العقلي" إن: "القرآن الكريم رائد الاتجاه العقلي لحثه المتواصل على إعمال العقل وتشغيله، وعلى طلب العلم" مستشهدا بآيات عدة.
ويتخذ المصنف من العنوان الفرعي مدخلا الى الفصل الرابع لبحث "ميدان التفسير القرآني"، ناعيا على بعض التفاسير استغراقها في النقل وإعراضها عن العقل، رغم أن بعض ما تنقله مما لامسته يد التحريف وظللته غربان الأهواء، ويتعارض مع قطعيات العلم. وفصّل القول في بيان معالم "تفسير مقاتل" للقرآن الكريم، لأبي الحسن مقاتل بن سليمان الأزدي البلخي، نسبة الى بلخ من مدن خراسان حيث ولد فيها، وهو من رواد الاتجاه العقلي بوصفه: " أول من فسّر القرآن الكريم تفسيرا كاملا لا يعتمد على النقل، بل على تشغيل العقل وتنشيط الذهن". وحاول المصنف وتحت عنوان فرعي "شبهات التدليس والكذب" أن يرفع عن مقاتل شبهة التدليس والكذب، بتفصيل القول في بيان سنة ولادته، للتأكيد بصدق روايته عن مجاهد بين جبر المكي المتوفى في سنة 104، وانه كان شابا حين روى عنه، كما روى عن الضحاك بن مزاحم المتوفى في سنة 102 أو 105، وانه لم يكن حينها صغيرا. على انه يصح رواية الصبي، فيحملها صغيرا وينقلها كبيرا، كما في رواية السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب (6-62هـ) التي روت خطبة أمها فاطمة الزهراء في مجلس الخليفة أبي بكر، حيث حملتها واستوعبتها وهي صغيرة ثم نقلتها وهي كبيرة، بل لا يستبعد الفقيه السيد محمد الشيرازي (1347-1422هـ) حجية قول الصبي المميز، إذ: "لو روى وهو مميز فلا يبعد القول بالحجية أيضا لبناء العقلاء على ذلك وللسيرة ولغير ذلك" (راجع: الشيرازي، فقه الزهراء.. خطبتها في المسجد، بيروت، دار الصادق، ط1، 1419هـ/1998م، ج1 ص61).
ومن ميدان التفسير ينتقل المصنف في الفصل الخامس الى "الميدان اللغوي .. الخليل بن أحمد"، بوصف الفراهيدي واحدا من رواد الاتجاه العقلي الذي استطاع أن يشغل عقله، فيأخذ بالعقل مستفيدا من النقل، وكان من إبداعات العقل انه تمكن من استنباط إيقاعات موسقى الشعر، وعن طريقها ضبط أوزن ذلك الشعر وبحوره. على أن الفقيه الكرباسي استحدث العشرات من البحور الجديد، نقرأها في كتاب (هندسة العروض). والى جانب ميدان العروض، اشتهر الخليل بن احمد الفراهيدي في ميدان اللغة وكتاب العين، والميدان النحوي وكتاب النحو، الذي حقق فيه الدكتور حمودي ونزع تأليفه عن سيبويه عمرو بن عثمان بن قنبر (ت 177هـ)، وأرجعه الى الفراهيدي، حيث: "نعتقد جازمين أن الكتاب المنسوب لسيبويه، هو كتاب النحو للخليل بن أحمد، مع إضافات أضافها سيبويه، هنا وهناك، لا تخل بأن الكتاب للخليل".
ويتحول المؤلف في الفصل السادس، من الميدان اللغوي الى "ميادين العلم"، ليتحدث عن جابر بن حيان الكوفي الأزدي الذي اشتهر بريادته لعلم الكيمياء، وأبو محمد عبد الله بن محمد الأزدي، بوصفه من رواد الاتجاه العقلي في التراث العربي. فالأول: "كان مبدعا حقا، وهو احد رواد الاتجاه العقلي الساعي وراء التجربة العلمية" والثاني: "اتخذ من التجربة وسيلة للوصول الى تشخيص الأمراض ووضع العلاجات لها، وكذلك الى الحديث عن وظائف الأعضاء، وقد ذكر في كتابه (الماء) ما يشير الى معرفته بالدورة الدموية في الجسم، والى كيفية الإبصار، وكيفية تكوّن الذاكرة لدى الانسان".
ومن ميادين العلم الى ميدان الآداب في الفصل السابع والحديث عن "أحمد بن فارس"، بوصفه ممن: "رسّخ الاتجاه العقلي في دراسة الآداب واللغة ونقد النصوص، حتى اضطره الجوع والفقر الى التحول الى التيار النقلي في أواخر حياته"، واشتهر ابن فارس انه أول من اخترع: "مصطلح (فقه اللغة) إذ لم يكن العرب يعرفون هذا المصطلح من قبله، فجعله عنوانا لكتابه (الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها)"
ولتوضيح قصور النقل عن بيان كامل الحقيقة، فان المصنف في الفصل الثامن والأخير يقدم ثلاثة "تطبيقات عملية معاصرة"، التطبيق الأول هو "خرافة اللهجات وأساطيرها"، مؤكدا إن الذين درسوا اللهجات العربية: "تناسوا أوليات شروط البحث العلمي، وأبرزها قراءة النصوص قراءة واعية، لا كنصوص منفصلة عن حركة المجتمع، وقائمة بذاته، وكأنها جزر مستقلة عن المؤثرات التي حولها". من هنا فانه يرى أن الحديث عن لهجات عربية إنما هو حديث عن وهم، قال به البعض وسار عليه المعاصرون من النقليين، الذين لم يأتوا بجديد غير استنساخ أفكار بعض المستشرقين، فلو أنهم أعملوا عقولهم لبان لهم أن الاختلافات الموجودة في بعض المفردات: "لا تقوى على خلق اختلافات جذرية بين لهجة وأخرى، ولا يمكن أن يبنى عليها أن العرب هم مجموعة أقوام وليسوا قوما موحدين أساسا". على إن الفقيه الكرباسي، يعتقد إن المفردة الدارجة بشكل عام إما محرفة من أصولها الفصحى أو مخففة عنها، درج على تناقلها، أو اقتصر استخدامها في منطقة دون أخرى، أو عمم استخدامها بعد ما كانت تخص حالة معينة، أو إنها دخيلة.
وينتقد المصنف في التطبيق الثاني تحت عنوان "القرآن الكريم قراءة واحدة" القول الشائع بالقراءات المتعددة للقرآن، ويرى إن القرآن نزل بقراءة واحدة، والقراءات إن كانت سبعة أو عشرة أو أربعة عشر وأوصلها البعض الى 36 قرءاة، هي من صنع من أتى بعد الرسول محمد (ص) بأكثر من قرنين، ثم أصبح النقليون عيالا على السلف دون أن يُعملوا عقولهم. ويستعرض عددا من القراءات لآيات قرآنية، مفندا الاستدلالات التي أتى بها النقليون، مؤكدا إن تعدد القراءات لكلمة داخل آية يغير من المعنى ومن الحكم، فلا يصح العمل بها، لان حكم الله واحد. ويعبر المصنف عن استغرابه الشديد كون: "القراءات على اختلافاتها ينتهي سندها الى النبي، وكأنه (ص) كان يقرأ كل حين بما يختلف عن قراءته السابقة!!"، فلا يرى من الصواب الأخذ بالقراءات، وهو رأي يؤيده فيه الفقيه الكرباسي الذي لا يرى للقراءات من حجية.
وتحت عنوان "في تحقيق النصوص" ينتقد المصنف في التطبيق الثالث والأخير اولئك الذين يتناولون كتب التراث بالتحقيق فيملأون الكتاب بالحواشي والهوامش التي لا غناء في معظمها، فهو يحشي النقل بنقل آخر، دون أن يترك السبيل لعقله للإبداع، وبعضهم يصل به الجمود تحت عنوان التقديس غير المبرر فيترك كتب التراث على حالها دون تطويرها حتى ولو من باب الشكل والمظهر.
في الواقع إن الكتاب بتنوع ميادين بحثه ودوائره، أشبه بصخرة عقلية يرمي بها الكاتب في بحيرة النقل، ليحرك ساكن التراث ويكشف عن معادنه.
* إعلامي وباحث عراقي
الرأي الآخر للدراسات – لندن
alrayalakhar@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق