الباحثة التونسية د. سونيا الشامخي الحديث عن متفرج متخلف طريقة للتغطية علي تقصيرنا |
تونس ـ القدس العربي تقام للفترة من 21 - 22 آب (اغسطس) 2001 اعمال الندوة الفكرية العلمية ضمن فعاليات الايام السينمائية سيدي منصور بصفاقس في دورتها الثانية تحت شعار: هل من ضرورة لنقد سينمائي؟ بمشاركة نخبة من الباحثين والنقاد والسينمائيين من تونس والعالم العربي نذكر منهم مني واصف ويوسف شعبان وعزت العلايلي وخالد يوسف مخرج فيلم العاصفة والنوري بوزيد وعبد اللطيف بن عمار وفريد بوغدير والهادي خليل وعبد الكريم قابوس ومحمد محفوظ. وتشارك في هذه الندوة ايضا الدكتورة سونيا الشامخي الباحثة والناقدة المعروفة بمداخلة عن التلقي السينمائي ودور الناقد كوسيط بين الفيلم والمتفرج . وبهذه المناسبة كان لـ القدس العربي معها هذا الحوار: عرفناك كباحثة في مجال الجماليات في الفنون التشكيلية حيث تقومين بتدريسها ايضا في المعهد العالي للفنون الجميلة بجامعة الجنوب/ صفاقس، وتكتبين في النقد الفني في الصحافة التونسية. وها انت اليوم تساهمين في مجال النقد السينمائي في ندوة مهمة مثل هذه. كيف ترين الي تنوع اهتماماتك، وهل اهتمامك بالسينما وليد الراهن؟ حصلت مؤخرا علي شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون في باريس باطروحة عن مفهوم الإنغلاق في السينما التونسية . وقبل ذلك أنا متحصلة علي دبلوم فن وتواصل (اختصاص تصميم غرافيكي وإشهاري) من المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس وشهادة التعمق في البحث من السوربون (اختصاص سينما، تلفزة وسمعيات بصرية). وبموازاة ذلك تابعت، تحت إشراف الأستاذ جون بول توروك ، تكوينا في تقنيات كتابة السيناريو. وقد كانت الدكتوراه بالنسبة لي تتويجا لعلاقة مع الفن بدأت بعفوية وانتهت إلي علمية لكنها تبقي متمسكة بالعفوية الأصلية وبالتلقائية. ففي اعتقادي أن ما يميّز الفعل الفني هو قدرته علي الحدس وعلي التعاطف مع شتي أحوال الذات البشرية. ولذلك لا عجب عندما ساعدتني دراساتي المختلفة في باريس علي التعرف عن كثب علي رحاب عالم أحببته دون الوقوع في متاهة الانبهار وفقدان الشخصية. ولعلمي بأن طريقا مثل هذا من الخطورة والطموح يتطلب سعيا دائبا ورغبة لا حدّ لها، فإني غالبا ما كنت أتوخّي، فيما باشرته من أعمال، تمشّيا غير خطّي، الأمر الذي يجعل نشاطي يبدو وكأنه مشتّت ومتوزّع وفق مجالات عديدة ومتباعدة. والواقع إنني أتابع ومن مواقع متعدّدة نفس الهدف. فسواء تعاطيت الكتابة السردية (صحافة، سيناريو) أو عالجت الصورة (تشكيل وسينما) أو أنجزت بحوثا نظرية، فإنني في حقيقة الأمر أقوم بالمراوحة المستمرّة بين ما هو ثابت وما هو متحوّل. والثابت الذي أتابعه بلا كلل هو هاجس البحث عن هوية ثقافية عربية تكون من الصفاء والأريحية بحيث تسمح للذات الفردية بأن تكون هي عين نفسها، وبأن تساعدها علي بلورة ختمها الخاص. لذلك فان اهتمامي بمجالات مختلفة من الفن هو بالأساس هاجس شخصي لتكويني الثقافي بما يؤهلني للمساهمة بتواضع في دفع أفق الثقافة العربية. هلا تحدثت لنا قليلا عن اطروحتك هذه واهم ما جاء فيه؟ كانت اطروحتي هذه بإشراف البروفيسور دانيال سيرسو الناقد السينمائي والمخرج الفرنسي المعروف وهو الي ذلك مدير قسم السينما والبصريات في السوربون/ سان شارل، وتتناول عبر مقترب استاطيقي سيميولوجي بالدرجة الاولي مفهوم الانغلاق من خلال تحليل فيلمي لمجموعة بارزة من أعمال مخرجي الجيل الثاني في السينما التونسية وبالتحديد للفترة ما بين 1980 - 1995 . ما المقصود بمصطلح الانغلاق ؟ هو اصطلاح استاطيقي يهتمّ بالمعطيات الجمالية ككتابة سينوغرافية تضفي علي الفيلم كفضاء بصري احساسا بالانغلاق من قبل المتلقي عبر استعمالات محددة للكاميرا وكذلك عبر العناصر الأخري للغة السينمائية مثل الإنارة والديكور وكذلك عبر تحديد مقصود في استخدام لقطات مشهدية من نوع خاص تعتمد اللقطة القريبة Gros plan واللقطة القريبة جدا Tres Gros plan أو تستند الي استعمال خاص لمفهوم البعد Profondeur de champ ولطريقة في المونتاج كأداة تولد ايقاعا كئيبا خانقا يكاد يوحي بالخوف من الأماكن المغلقة claustrophobie حيث يأخذك الفيلم في دوامة من الانغلاق. هذا البعد الاستاطيقي هو الذي يسمح بتأويل وتصنيف لمختلف أنواع الانغلاقات الي ثلاثة محاور جوهرية هي: أولا الانغلاق في دائرة الأب وثانيا الانغلاق في نواميس اجتماعية محافظة وتقليدية وثالثا الانغلاق في دائرة المأساة او التراجيديا. بمعني أننا وعبر قياسك النقدي هذا قد نحصل علي رؤية جديدة للفيلم التونسي موضوع الدراسة، فما هي عناصر هذه الرؤية الجديدة عبر مفهوم الانغلاق؟ اول هذه العناصر الا نحصر الفيلم في طرح اجتماعي لقضايا محلية وأن نؤكد مرة اخري أنه لا خطاب في السينما يتحقق إلا من خلال فهم وتحليل لمعطياته الفنية والجمالية واللغوية (اقصد اللغة السينمائية) بالدرجة الاولي. فلقد اقتصر البحث في اطروحات ومقالات نقدية حول السينما التونسية وربما حتي السينما العربية عموما حول كيفية معالجة السينما للواقع المعاش والقضايا الاجتماعية أو للتاريخ وتمّ اهمال الخطابات الجمالية التي بدونها لا يمكن ان يعمل المخرج بوصفه فنانا. ومن هنا كان الغرب لا ينظر الي المخرجين العرب الا بكونهم مراقبين ومحللين اجتماعيين بينما لا يتم الاعتراف بمقدراتهم الفنية ورؤاهم الجماية والفلسفية. ولذا فأنا اعتبر اطروحتي هذه دعوة لإعادة الاعتبار الي السينمائي العربي والتونسي تحديد بوصفه فنانا ومبتكرا ومبدعا علي الصعيد الجمالي. ودعني اعطيك مثلا علي تلك الرؤية المتعسفة فعندما يشارك الفنانون العرب في مهرجان كان مثلا بافلامهم علي قلتها فإن العين الغربية لا تري في الفيلم هذا الا فرصة لملاحظة ومن ثم انتقاد اوضاع اجتماعية محلية ومن اهمها قضية المرأة كما حصل في الدورة الاخيرة لهذا المهرجان العتيد مع الفيلم التونسي فاطمة من اخراج خالد غربال حيث تحدث الجميع عن مشكلة العذرية عند الفتاة واعتبروا ان جرأة تناول هذا الموضوع كافية لاعتبار الفيلم ناجحا، بينما هذا المقياس، أي الموضوع المتناول في فيلم ما، لا يستعملونه لتقييم أفلامهم هم. انت تدعين اذن الي التغاضي عن القضايا الاجتماعية الكبري التي تتحكم بالمصير العربي من خلال العمل الفني والسينمائي خاصة، أليس كذلك؟ كلا، اطلاقا. فبالدرجة الاولي أعتقد ان الخطاب الاجتماعي لا قيمة له في فيلمٍ ما، اذا لم يستند هذا الفيلم الي اختيارات جمالية ينطلق منها بل ويتأسس عليها. أي بلغة أخري فإنه بموضوع جيد اجتماعيا كان أم سياسيا ولكن بمخرج رديء علي المستوي الجمالي فإن ما ينتجه من افلام ستكون عديمة الفائدة تماما علي المستويين الاجتماعي والفني. هذا فيما يخص العنصر الاول. فما هو العنصر الآخر في تلك الرؤية؟ العنصر الثاني الذي أتحدث عنه هو تدقيقا وفي اطار الاجابة عن تساؤلك حول مدي اهتمامي بالجوانب الاجتماعية التي تطرحها السينما التونسية، هو انني اشير بوضوح الي أي حد تتقاطع مشاكل وهواجس المواطن العربي والتونسي مع مشاكل وهواجس الانسان في أي بقعة من العالم. فلو كان لكل بلد مشاكله الخاصة فإنها تتلاقي في الأساس الوجودي للشرط الانساني هذا متمثلا في مبادئ الإختيار و مدي الاندماج في المتن الاجتماعي او الالتجاء الي الهامش و القابلية علي خلق طابع خاص للوجود الفردي . فعلي سبيل المثال، عندما تناولت مفهوم الانغلاق في دائرة الأب لم احصر التحليل في مدي بطش وتعنت وعنف الأب العربي في مقابل مدي سلبية وخضوع واستسلام الإبن العربي لهذه لسلطة البطريركية، بل وضعت علاقة الأب/الإبن في مجالها الوجودي كإشكالية قائمة بذاتها، كما تناولها الفكر الغربي عموما من سوفوكل الي رولان بارت مرورا بـ فرويد طبعا. فبهذا المقتضي تكون علاقة الإبن بأبيه علاقة تصادمية لأن الإبن منذ الولادة مثقل بعبء المديونية La dette إزاء أبيه الذي تسبب في إعطائه الحياة. فلا يكون الابن حرا ومهما اختلفت النظم الاجتماعية إلا برفضه لأبيه ومناهضته له، فهو مجبر كما يقول بارت ان يكون خائنا للأب حتي يستقل بذاته. وعندما نصور الملامح الكونية التي تخصّ كل مشاهد عربيا كان أم لا، ونوضح انها مشكلة انسانية بالدرجة الاولي نستطيع ان نبين الملامح الخاصة لهذا الصراع الأزلي بين الأب و الإبن العربي. ففي الاخير تبقي الحرية وتكوين الشخصية الذاتية المستقلة رهان من شخص يطالب بختمه الخاص وبصمته الخاصة مقابل مجتمع يرفض الاختلاف ويؤسس الهوية ضمن مبدأ التماثل والإجماع. وماذا عن الانغلاق التراجيدي كعنصر ثالث في نظريتك النقدية؟ الانغلاق التراجيدي كما يتمثل في الافلام التي عالجتها هو ان تكون الشخصية الرئيسية في الفيلم منكمشة علي نفسها وتعيش حالة من النرجسية تجعلها حبيسة الذاكرة وتمنعها من الخروج من هذه الدائرة الي افق التعايش مع الأخرين او البحث عن افق مغاير لواقع مفروض عليها مما يؤدي بها الي التباكي والتشاكي دون ان تقبل بدفع الثمن المترتب علي تلك المغايرة وذلك الاختلاف. وماذا لاحظت في هذا السياق؟ فيما يخص السرد الفيلمي لاحظت ان معظم هذه الافلام التي قمت بدراستها لمخرجي الجيل الثاني في السينما التونسية مثل ريح السد ّ و صفائح من ذهب للنوري بوزيد، او الشامة للمخرجة ناجية بن مبروك، و صمت القصور لمفيدة التلاتلي، الخ... تعتمد تكنيك الـ فلاش باك وهذا ما يجعل الشخصية تفرُّ من واقعها ولا تبحث عن افق مغاير بل تستبطن ماضيها وتعيش علي صور الذاكرة. وكما يقول رولان بارت فإن مفهوم الذاكرة يتأسس علي نمط الصورة التي تنتمي الي الماضي لا يمكن ابدا تخطيها L' image est passée, jamais dépassée ويعتبر هذا الانغلاق ذا بعد كوني لأنه يخصُّ كل شخص انحصر في دائرة الذات وانقطع عن شتي الانماط الحياتية التي تجعله يربط مصيره بالانفتاح علي الكون كله. والآن أسألك، ما اهمية هذا النوع من النقد، وهو لا شك متقدم جدا، في محيط متخلف مثل محيطنا العربي؟ انا لا اوافقك علي ان المحيط العربي هو محيط متخلف، فمن السهل ان نعتبر ان المتفرج غبيّ او أحمق حتي نغطي علي تقصيرنا ازاء الفرد العادي نحن كمعنيين ومختصين بالفن والثقافة، وذلك بتأسيس مناخ لتلق جيد ولتذوق جمالي راق. فإن الفيلم غالبا لا يلتقي بالمتفرج بطريقة مباشرة وعفوية بل يكون بواسطة تعريف وتحليل من قبل فئة مختصة. ففي الغرب مثلا هناك تقليد في هذه الوساطة بين الفيلم ومتفرجيه. ولقد لعب النقد الصحافي ثم التلفزيوني، وكذلك البحوث الجامعية، دورا كبيرا في تأطير المتفرج الغربي وخلق مجال استقبالي لما سُمِّيَ فيما بعد بـ سينما المؤلف التي ما كانت لتلاقي جمهورها ولا أن تستمر لحدّ الآن لولا هذه الفاعلية النقدية التربوية . ومن جهة اخري فان الدليل علي ضرورة الوساطة بين الفيلم ومتلقيه ما تفعله السينما التجارية من تعويض الوساطة النقدية بالوساطة الاشهارية ايمانا منها بان الفيلم لا يمكن له ان يلاقي متفرجه بصفة مباشرة. اما بشأن عملي النقدي شخصيا فإنه يؤسس لطرح علمي للسينما التونسية (ولمَ لا، للسينما العربية من بعد) برصده وباحتفائه بما يمكن ان يُدَرَّسَ من مفاهيم التحليل الفيلمي ومن اختيارات حول السينمائيين الذين تُعتبر سِيَرَهُمْ جانبا من تاريخ الفن العربي. وكما تعلم فانه بينما يحتفل جماهيريا بأفلام الممثل العالمي سلفستر ستالون تدرس الجامعات الغربية السيرة الفنية لأساطين الفن السينمائي العالمي من امثال اورسون ويلز و ايزنشتاين و جان لوك غودار وغيرهم من العمالقة... لذلك تكون الابحاث الجامعية والدراسات النقدية التي تنحو هذا المنحي هي حلقة من حلقات تربية وتهيئة الذوق الفني للمتلقي العربي. من الواضح ان هذه هي اهم المحاور التي ستتضمنها مداخلتك في الندوة العلمية للأيام السينمائية سيدي منصور بصفاقس؟ بما ان السينما العربية الان تكاد ان تفقد جمهورها فان الخوض في النقد والتنظير وبالتحديد ضمن نظريات التلقي والاستجابة السينمائية هو ضرورة لا بديل لها من اجل عقد المصالحة ثانية بين الفيلم والعربي وجمهوره اولا حتي يواكب الجمهور رهانات الجيل الجديد من الفنانين العرب ويكون قادرا علي استيعاب الأزمة التي نمرّ بها جميعا في العالم العربي وما يمكن ان نستثمره من الأزمة ذاتها وبالتالي تقديم أفق لتثمين المغامرة والمخاطرة والروح التجريبية. اضافة الي ذلك تقديم المشورة والمزيد من التبصير بهذا الفن الراقي والخطير الي كل المشتغلين في الحقل السينمائي. ومنطقيا فانه لا يمكن تلقي فيلم جديد من قبل متفرج غير متجدد. ومن هنا الدعوة الجادة والحميمية الي اخذ النقد السينمائي العربي علي محمل المسؤولية. التقاها: حكمت الحاج* |
مجلة فكرية ثقافية عامة بإشراف حكمت الحاج وتحرير نادية حنظل و لقاء الحر و كاتارينا اسكسون و محمد علي أحمد
٣٠/٣/٢٠٠٧
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق