مئوية صمويل بيكيت (1906 ـ 1989).. زاهد عاش مع جويس واراد الخروج من معطفه: بحث دؤوب عن شكل قادر علي التعبير عن اللاشيء وادخال الفوضي الي عالم الفن!
ابراهيم درويش تمر هذا العام المئوية الاولي علي ولادة الكاتب المسرحي والروائي المعروف صمويل بيكيت رائد مسرح العبث وبهذه المناسبة اعدت ايرلندا، الجمهورية برنامجا حافلا يستعيد مجد هذا الكاتب الذي يظل بالنسبة للكثيرين كاتب اليأس والراهب الملغز اما بالنسبة للاخرين فكان ايرلنديا، حنونا مليئا بالحياة، ومن ضمن الاعمال التي ستقدم للكاتب الحائز علي جائزة نوبل للاداب بانتظار غودو و نهاية اللعبة . بالنسبة لادنا اوبراين في مقالها عن بيكيت (الغارديان 11/3/ 2006 ) فبكيت كان رجل الحنان والرفق، وهو الذي قال ان الفنان الذي يهتم بفنه لا اخ له وجاء من لا مكان، اما بالنسبة للتأثيرات التي شكلت رؤية الفنان فقد كان نتاجا لثقافته الايرلندية الشعبية منها، الشراب وارتياد الحانات وكان نتاجا لتأثيرات جون سينغ الذي كان بيكيت مدينا له ووصفه بـ الروح اللطيفة ، اما الشخص الاخر الذي اثر عليه فكان جيمس جويس، حيث كتب الكثير عن هذه العلاقة مع ان بيكيت حاول تجاوز هذا التأثير، ولم يأبه لما قيل انه عمل سكرتيرا لجويس عندما كان كاتبا شابا متشردا في باريس، وكان بيكيت واحدا من اثني عشر حواريا دعاهم جويس للرد علي النقاد الذي هاجموا عمله الذي كان يعده ونشر في مجلة ترانزيشن . وتري اوبراين ان اثر جويس علي بيكيت لا مهرب منه وهو ما جهد بيكيت كثيرا للتخلص منه. وفي لقاء مع صحيفة نيويورك تايمز تحدث عن الفرق بينه وبين جويس حيث قال ان صاحب عوليس كان يكتب من معرفة مطلقة ويتمتع بقدرة مطلقة، وعندما تحدث عن نفسه فقد زعم ان ليس لديه ما يقوله ولكن الرغبة بالقول . ولم يكن بيكيت بعيدا عن المرأة واثرها وبمقارنته مع جويس الذي كان ينشد الرغبة الجسدية منها كان ينشد منها ما لا يثير الرغبة، ومقارنة مع الشاعر ييتس الذي كان يبحث عن اللاممكن وما لا يطال من المرأة تقول اوبراين ان بيكيت احب في عمر الثانية والعشرين، ابنة عمته بيغي سنكلير، حيث تناول الاشعار المعبرة عن احلام الشباب وكان يحلم بمزج الحرارة البيضاء بجوهرها الحزين اللامتناهي ولكن عندما تحول الحلم نحو رائحة الجسد ورغبة محمومة هرب بيكيت. في قصة الحب الاول التي نشرها عندما كان يبلغ من العمر 30 عاما، يظهر عاريا وفاضحا، فالسارد فيها متشرد، لا يعرف مكانا له بعد وفاة والده وطرده من غرفته، ويجلس وحيدا علي كرسي في الحديقة حيث يلتقي لولو، والعلاقة بينهما تتطور لاتحاد ولكنه اتحاد غير مكتمل، فبكيت يصر علي الفصل بينهما في البيت، وعندما تخبره عن حملها وتزيح الستارة لكي تريه بطنها المنتفخ، يرحل عقله بعيدا، ويخطط للرحيل، ومع اول صرخة مخاض، يرتدي ملابسه ويضع قبعته وحذاءه مع معطفه ويرحل. تقول اوبراين ان الكثير من الكتاب (جويس وهيمنجواي) لم يكونوا يفضلون منهج التحليل النفسي، حيث كانوا يعتقدون ان نهب اللاوعي سيؤثر علي العبقرية ـ ولكن بيكيت لم يكن مع هذا الرأي حيث دخل في مصحة علاج نفسي في مصحة تافيستك في لندن لعامين، وقرأ فرويد، ويونغ واوتو رانك وادلر، ودرس كتبهم كما حضر محاضرات التي قدمها يونغ. كتب بيكيت ثلاثيته الاولي مولوي (1951) موت مالون (1951) و اللامسمي (1953) اضافة لـ بانتظار غودو بالفرنسية، حيث قال ان اللغة الفرنسية لا تهتم كثيرا بالاسلوب، كما انها تبعده كثيرا عن تأثيرجويس. وستصبح اللغة الفرنسية لغة الكتابة له عندما بدأ يشق طريقه الخاص بعيدا عن تأثيرات جويس، فاعماله (ميرفي مثلا) التي نشرها في اثناء الحرب العالمية الاولي وقبلها نجد كاتبا لا يعرف طريقه، يتحسس، يريد ان يقول شيئا ولكنه لا يجد الاسلوب المناسب للتعبير، مع صدور ثلاثيته وظهور مسرحيته بـ انتظار غودو علي مسرح صغير في فرنسا نعثر علي الكاتب في تجلياته الخاصة دي بابيلون الباريسي. في بريطانيا لم يتم تقبل بيكيت بعد، وكل الاصوات النقدية لم تجد في اعماله ما يثير الا بعض الاصوات النشاز التي خرجت عن خط الهجوم القاسي عليه. ولكن الرؤية ستتحول وستصبح مسرحيته القاسية نهاية اللعبة من اهم الاعمال المسرحية التي كتبت في القرن الماضي، مع ان احدا لم يتقبلها في البداية. كانت الثلاثية الروائية مخرجا لمأزق الكتابة او ما اسماه بيكيت الحصار في الغرفة ، حيث اصبحت الكتابة لها وجهتها الخاصة، نحو الافكار الضرورية، المختصرة. بدايات بيكيت الاكاديمية لم تكن ناجحة فهو الكاتب الطلائعي لم يكن علي وفاق مع النظام التعليمي في مدارس دبلن، وخلال الفترة التي قضاها مدرسا اشتكي التلاميذ من اسلوبه الدراسي الصارم، مما ادي الي قيام مدير المدرسة بانذاره اكثر من مرة، مؤكدا له ان طلاب مدرسته هم نخبة العاصمة الايرلندية كريما البلد ، ولكن بيكيت كان ينظر اليهم كحفنة من التلاميذ الاغنياء الاغبياء . ومما زاد من نفوره من الجو الاكاديمي، اكتشافه نفاق هذا العالم عندما اخترع مدرسة ادبية طلائعية فرنسية، وقدم ورقة عن شاعرها ووجد ان الحضور كانوا علي علم بهذه المدرسة والشاعر الذي كان من بنات افكاره فكان الطلاق. قرر بيكيت بعد حصوله علي الماجستير من كلية ترينتي الاستقرار في باريس عام 1937، وفي بداية عام 1938 عندما كان في طريقه مع اصدقاء له لبيته في باريس قام قواد بطعنه، ولم تصب الطعنة قلبه الا ان احدي رئتييه تضررت، وعندما افاق في المستشفي وجد جويس الي جانبه مع طبيبه الخاص الذي طلب منه العناية بصديقه. والتقي لاحقا بيكيت بمهاجمه في المحكمة الذي قال انه لا يعرف لماذا قام بالعمل وعبر عن اسفه وندمه، وهو عذر اقبح من الذنب او الجريمة التي ارتكبها، اسم المهاجم كان بروديه. اثناء علاجه في المستشفي كان من زواره سوزان ديشونوف دومانسيل، سيدة فرنسية في اواخر الثلاثينات من عمرها، وتكررت اللقاءات بينهما بعد خروجه من المستشفي، وكانت سوزان امرأة منضبطة كرست نفسها لخدمة بيكيت والسهر علي اعماله، وتزوجا لاحقا في انكلترا عام 1961. ومع الاستقرار الذي عاشه مع سوزان الا ان عام 1941 كان حزينا بوفاة جويس وبداية الهجوم النازي علي فرنسا، ومع انه ظل محايدا باعتباره ايرلنديا الا انه انضم للمقاومة الفرنسية، وعمل في منظمة امنية محلية هي غلوريا . عاش بيكيت في باريس حياة قاسية، فمع صديقته سوزان ديشوف دومنسل التي كانت رمزا يذكر بالام، وكان يتعيش علي بعض القروش التي ترسلها له عائلته في الغرفة التي جمعته مع سوزان، كان يعيش في عالم كلماته مسلحا بعدد من القواميس، والاناجيل وكوميديا دانتي التي احبها، فيما كانت سوزان تشتغل علي الة الخياطة تخيط الملابس والثقوب، ونعطي دروسا في البيانو. وعندما انهي بيكيت ثلاثيته هذه كانت سوزان هي التي اخذتها الي الناشرين وعرضتها عليهم، والنجاح جاء من جيروم ليندون الذي كان يعمل محررا لدي دار نشر، حيث امسك نفسه عن الضحك عندما كان يقرأها في مترو باريس. بعد وفاة سوزان اعترف بيكيت لكاتب ذكرياته بانه مدين لها بكل شيء، ولكن بيكيت كان رجلا معقدا ـ وزوجا آبقا، فقد كان يحب الشراب مع اصدقائه الامر الذي لم تكن تقره. درس بيكيت الفرنسية والايطالية في كلية ترينتي في دبلن، وتأثر كثيرا باستاذه توماس رودموز ـ براون وكذلك استاذته بيانكا اوزبوزيتو، لقاؤه بجويس تم اثناء رحلة له لباريس، حيث قدمه للكاتب الذي اضحي مشهورا بعد اصداره صورة الاديب في شبابه و يوليسيس صديقه توم ماكغريفي ونظرا للاهتمامات المشتركة في اللغات فقد اصبحا صديقيين، وكان تأثير جويس علي بيكيت عميقا جدا، اضافة لحب الاديبيين للغة والكلمات واهتمامات جويس الخاصة بالتعبيرات المحكية في اللغات الاخري التي ادخلها في اعماله وحاول بيكيت لاحقا تقليده فيه. كان بيكيت جزءا من حلقة جويس او احد حواريه ولم يكن فقط من الذين يلتقون معه في المناسبات الاجتماعية. بدأ بيكيت بنشر اعماله القصصية في نهاية العشرينات، حيث نشر اولي قصصه القصيرة افتراض ، ونشرها في المجلة الطلائعية ترانزيشين (1929). عندما عرضت مسرحيته بانتظار غودو دهش العالم المسرحي للغة الجديدة، والشكل المسرحي الجديد، فهنا ديدي وغوغو، المهرجان، يقفان علي المسرح، لا يعملان شيئا في المسرحية المكونة من فصلين سوي انتظار غودو الذي قد يأتي ولا يأتي ، وفي الوقت الذي لم يكن المشاهدون قادرون علي فهم العمل وطبيعته، الا ان الذين فهموه اشاروا الي دراما انسانية، عن الامل، والرفقة، والانتهاك والتوقعات. وحافظ بيكيت فيما بعد علي النسق الاسلوبي الذي اجترحه في الاولي، حيث جاءت بعد ذلك نهاية اللعبة (1953) التي تعتبر المسرحية الاكثر اثارة وقسوة، الايام السعيدة (1961) و مسرحية (1963)، واعتمد فيها علي المجرد في محاولة لاستكشاف موضوعات قوية، وفحص فحواها القيمي وان كانت مهمة للدراما الانسانية ام لا. ولا يعني ان اعماله هذه خالية من فكرة الموت، والالم، فوفاة والدته عام 1950 وشقيقه فرانك عام 1954 تركا اثرهما الصادم علي قلبه، وسيواصل رمز الام والشقيق الحضور كاشباح او اطياف في اعماله الدرامية والروائية القادمة. بدأت شهرة بيكيت في الاوساط الادبية تزداد في الستينات، مما يعني انه نجح اخيرا بالتخلص من شبح جويس وعوليسه . عاد بيكيت الي دبلن عام 1959، حيث حصل علي درجة دكتوراة فخرية من كلية ترينتي، ونال جائزة النقاد الدولية مع خورجي لوي بورخيس، و 23 تشرين الاول (اكتوبر) 1969عرفت زوجته سوزان من مكالمة هاتفية انه نال جائزة نوبل للاداب، وكان تعليق بيكيت الاولي علي الفوز ان جويس كان الاولي بالفوز بها منه، ومن هنا قدم الجزء الاكبر من قيمة الجائزة المالية للجمعيات الخيرية والكتاب المحتاجين. لم يكتب بيكيت الذي صار محط اهتمام الكتاب والنقاد والممثلين والمخرجين كثيرا في حقبة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، حيث قلل كثيرا من الكتابة ولم يكن يكتب الا لضرورة قصوي، واعماله التي اصدرها قبل وفاته مثل روكبيه و ومصادفة اوهايو تبدوان اكثر فنتازية ومحبكوتان بطريقة مقيدة اكثر من اعماله الاولي، ولكن بيكيت كتب عددا من النصوص الادبية للتلفزيون، وفي هذه الفترة كان يعيش في ملجأ للعجزة وكان يتلقي ضيوفا بين الفينة والاخري، ولكن ما كان يدهش الزوار هو الحضور الذهني العالي للكاتب، الذي ظل يتذكر تلفون صديقه وملهمه جويس، وكان قادرا علي تذكر مقاطع من الانجيل، انجيل لوقا، واغسطين، ومن اشعار هاينه وهولدرينغ وييتس. كان يحس الرسم والموسيقي، وكان يدرس اللوحة الفنية بوصة بوصة ويعود الي اللوحة مرات كثيرة لدراسة ما اثار اعجابه فيها. مات بيكيت في 22 كانون الاول (ديسمبر) 1989 اي بعد اشهر من وفاة زوجته سوزان (ماتت في تموز (يوليو) 1989) ظل بيكيت يصارع الشهرة ويبتعد عنها ولم يكن يحب مناقشة اعماله، بل قال مرة انه عندما كان يجف الحبر عن عمله كان يخرج من اطار اهتماماته، ولهذا ظل مثل الراهب بعيدا عن العالم مع انه كان في قلبه. ومع ذلك كان انسانا رقيقا، كما تشير اوبراين في شهادتها. في مناسبة المئوية الاولي لولادته، صدر عن دار بلومبزبري كتاب من تحرير كاتب سيرته الذاتية جيمس وزوجته اليزابيب نولسون بعنوان ذكري بيكيت، تذكر بيكيت ، والذي يحتوي علي مجموعة من المقابلات التي اجراها بيكيت مع نولسون، وما يثير في هذه المقابلات انها عن حياة واهتمامات الكاتب ولا يتحدث كثيرا فيها عن اعماله، بل لا يجد الاكاديميون الذين لم يثيروا اهتمام بيكيت في حياته شيئا يرضي ذواتهم المتضخمة. فالكتاب يحتوي علي معلومات عن حياة الكاتب اليومية، اهتماماته بالرياضة اسوة بوالده، ووجبته المفضلة وهي الكبدة مع البصل وكان يفضل تدخين السجائر الصغيرة ويحب الفن، حيث كان بيته مليئا باللوحات. هنا نعثر علي الطفل سام يسير مع والده في حي فوكسروك في دبلن الغني في طريقهما الي الحمام التركي، وهي معلومات قدمها نولسون في السيرة الذاتية الرسمية التي نشرها في القرن الماضي، معتمدا علي ارشيف الكاتب المحفوظ الان في جامعة ريدنيغ، بالاضافة للمقابلات هناك مقالات كتبها معجبون وفنانون عملوا معه، مثل المخرج والمسرحي انتوني مينجيلا مخرج فيلم المريض الانكليزي ، والشهادات تتراوح بين الجدة في الموضوع، والملل، ولكن هناك محاولة لتأكيد اهمية بيكيت كاهم كاتب في القرن العشرين، وتؤكد شهادات علي قدرة بيكيت البصرية مع قدراته الذهنية مع انه لم يتدرب في مجال الاعلام البصري او الفن. كما احتوي الكتاب علي عدد من شهادات الكتاب الذين تركت اعماله اثرا عليهم مثل جي ام كويتزي، بول اويستر. الكتابة عن اليومي والعادي في حياة بيكيت لا يقدم كثيرا للقاريء المهتم باعمال بيكيت، الكاتب الجاد، الذي اعاد صياغة وتعديل اعماله الاولي، لكي تتواءم مع مشروعه الطويل وهو البحث عن شكل قادر علي التعبير عن اللاشيء في الحياة، وادخال الفوضي واللانظام في عالم الفن. ناقد من اسرة القدس العربي 0 |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق