٢٠‏/٩‏/٢٠٠٥

المستلبس-اللهم الطف بنا فيما جرت به التقارير


هذه المقدمات الأولى أو المدخل لروايـــة "المستلبس" للروائي التونسي نـور الديـن العلـوي الصادرة عن دار الجنوب للنشر بتونس سنة 2005 بعنوان فرعي هو{ اللهم الطف بنا فيما جرت بـه التقــارير}.

فاتحة الحديث عن أحمد العروس.
انتــهى أحمد العروس من زمن الناس... وما انتهى زمن الناس في أحمد العروس...
فالطين مختلف وأحمد أطول...
أحمد أمل أقوى من لحظة إشراقه في غيب حزين... ورؤيا لم تحتج إغماض عين لتكون... إنه هنا والآن ويمكث في الأرض.. فاجعل لك إلى أحمد العروس سبيلا...
يقول لك أحمد في التحايا "اعبر جسورا نحو نفسك بناها الآخرون لتعبر من نفسك إلى مرض نفوسهم بالسؤال عن فراغات في نفوس الآخرين".
ويفزعك أحمد لو سرت إليه... فأحمد ليس محايدا إزاء هموم الآخرين... ويرى أبعد من أنفه لذلك يرى كثيرا ويحجم عن الإفصاح وينتظر عيونا شاهدة.
وقد يردك أحمد إلى بعض نفسك فإذا اشتبه عليك والتبس ، يقول لك أحمد "إن أحمد على غرابة شكله يقاس عليه ولا يحفظ فهو ليس خطأ شائعا ولا قاعدة مهجورة وهو ليس قاعدة لكلام الآخرين الهارب من صدقه بسلاسة المعنى إلى التيه في أساطير الأولين يعمي ليثبت عجز الناظرين ويتقول "الناس حمقى فلا تعلمهم المعنى أنهم دون يرون ظاهرة اللفظ فيكتفون". ثم يلخص "أحمد العروس ليس إنجيلا ولم يصحف، ولقد صيغ لمرة واحدة فمن استطاع إلى أحمد العروس سبيلا فقد وفر لنفسه بعض زاد لبعض الطريق". فإذا عزمت وأوشكت على أحمد... فاعلم إنه في بدء التكوين كان... ثم كان أحمد وليس نبيا... ولا معجزة وأمه ليست عذراء !
سيسألونك... عن أحمد...فاللفظ مبهم والسياق مداور ، ” قل لا تأتي به الريح ولا ينبت معلقا كالثوم والبصل“. ويسألونك عجزا ، قل ”إنه أحمد العروس المنغرس سكينا في كبد المنكرين وجوده يقولون له "من فسق في أمك يا زنيم ؟" ويسألونك عن أحمد العروس "مسكين ؟" قل ”مرهق... ويختزن ضده ... فيقوم. فلا يقتل ولا يصلب ولكن تحضنه الأرض فيشبه لقاتليه فيفرحون ! فيما بذوره تنتظر صهد المعارك الحاسمات... لتنتشر. ويسألونك دائما ... قل ”لقد نجا... ثم صار إلى ما هو عليه راهنا !“
ويسألونك وهنا، فلا تبخل عليهم بالخبر ولا تبخل عليهم بالشرر وأوقد لهم من أحمد... فعلى النار الهدى... يرون أحمد اليومي ويقرؤون اللوح ويعرفون كيف السبيل إلى الخروج .
ويسألونك رغم ذلك عن أحمد العروس... قل ”تشتد عليه الشمس فينمو صاعدا ويبز نخيل السواد إذا سمق... فإذا انزاحت جبال الصبر فيه يذوب نورا في الشفق... ثم يخرج من أخاديد الأرض العطشى ويتعملق في البساط الأبلق ولا يضمحل إذا انبثق ! فإذا ظلم قلبه يسير بالتوازي مع نفسه فلا يلتقيا لكنه ينطرح شوكا في المسالك ويصير نشيجا في الفرح.
ثم إذا سألوك بعد هذا عن أحمد، فلخص...” ينبت في أرضكم في سنين القحط وينمو بالجفاف وتحصده النذالة والعسس...“
فإذا ألحفوا كما عن البقرة الصفراء... فقل ” لا أدري فهو أسلم... وانس سؤال الآخرين عن الحقيقة وانس حقيقة الآخرين في السؤال وأسأل هل يؤدي السؤال إلى الحقيقة ثم اسأل هل لا بد للحقيقة من سؤال ؟ ثم تعمد أن تتيه في السؤال السرمدي... ما الحقيقة ؟ وانس أحمد العروس فهو ترابي الوجود واذهب في الفلسفة وتيقن إنها أسلم من حقيقة أحمد وليس لها تأثيرات جانبية ولا يخشى منها على الخصوبة والرضاع... “ فإذا كان لا بد وأنت على الصراط الأعوج... فقل... لقد نجا من الانتخاب الطبيعي، وليس الأصلح ولعله الأشقى فهو الأبقى، فاقتله تغنم صمته. ثم أذره في الرياح الأربع قبل اجتماع رماده في الغيب وعودته كالنهار“.
ذلك أحمد العروس... من لا عين رأت ولا أذن سمعت إنما خطر على قلب بشر ! فإذا نجا ثانية فلن يقنع بالانتخاب.

حديث آخر عن أحمد العروس.
ثبت أنه لأحمد أطلال ببرقة ثهمد لكنه لا يعود للبكاء عليها ويحدث له أن يقرأ كتاب العربان ويضحك، فأحمد حي ويلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد ، وقد يموت ولا يبكي عليه أحد ،فلم يكن فتى ولم يعربد إلا في حدود ضيقة .لكنه رفض يوما أن يفرد كالبعير رغم أن أيامه كانت قطرانا مجمدا، ثم إن ذلك لم يزده إلا حبا في أهله ليقول "ليتني كنت طللا قديما فأحظى بالقصائد وأدخل في الاركيولوجيا فأنعم بالسياحة ولا بأس أن لا يبكي علي أحد".
وفي اشتداد وجد أحمد العروس يزور أمه في المصح العقلي، وقبل الوصول إليها في النسيان يقول، "هذه آخر مرة" ثم ينسى ويشتاق فيعود... فيجد أمه تحت نخلة لا تطرح تمرا وليس لديها رضيع يتكلم، وتفرش علبة كرطون وتجلس على حافتها وتنظر إلى كتابة في الحافة الأخرى ولا تكلم أحدا ويقرأ أحمد المكتوب حيث تنظر أمه "قابل للكسر". ويجلس أمام أمه دهرا فلا تراه ثم يهم أن يقوم فتمسك ركبتيه وتبتسم فيوشك أحمد أن يبكي ولكنه يتهيب ذلك فتكف أمه عن الابتسام وتقول له ”كيف حال أمك ؟ أما مازالت تأكل عند جيرانها ويأتيها جيرانها ويأكلون عندها ؟ أمازلت تسرق الخضر من السوق لولدها أحمد ويضربها الباعة بالطماطم الفاسدة ويعطونها الغلة ويلحقون بها إلى البيت ؟“
ويتذكر أحمد التفاصيل الصغيرة ويحمل محفظته ويذهب إلى المدرسة وعندما يصل إلى الامتحان الكبير ومرض أمه تشد أمه على ركبتيه فيعود إليها لحظة فتقول له "بلغ سلامي إلى أمك وقل لها أن تضع الحناء على شعرها. سيدب في الحي القمل ويعقبه الجراد ولا ينجو إلا من غطى رأسه وقل للرجال-إن تبقى - أن يبولوا بأكفهم منحنين لينجوا من الرعد الكبير الذي يحصد الرؤوس المشرئبة..."
في أثناء ذلك يكون أحمد قد مر على عمره كله ونزل في آخر المطاف حيث أمه في المصح العقلي فتقول له أمه من شرودها ”قل لأمك أن لا تخرج في الليل... فولدها لا يزال صغيرا وقد يرعبه الليل... والأمن أحسن من التجوال في الظلمة“ فيؤمن أحمد "نعم يا أمي من خاف سلم". ويدير أحمد بصره في المصح العقلي. من كل الحضور الذين يمرون في الجنون تظهر ملابس أمه نظيفة وشعرها الذي كان آية ملفوفا بعناية وتجلس على مكان نظيف لكنها لا تزال ترى أحمد حيث تركته طفلا أعزل قبل أن تخرج من عقل الآخرين و تدخل في الجنون ويراها توصيه خيرا بنفسها حيث تركت نفسها قبل الدخول فيمازحها أحمد مشفقا ”كيف حالك يا حاجة“ ولكن أحمد يرى كلاما كثيرا على شفتيها فلا ينظر في اتجاه عينيها ويدس رأسه بين ركبتيه ويصمت دهرا... يعرف أنها ستقول له جملتها الشديدة "هل عثرت على أبيك ؟" ويعرف أن إجابته لن ترضيها فيقوم عائدا إلى ما لا يقصد ولا يريد وقد قرر أن لا يزور أمه أبدا حيث هي في المصح العقلي.
ويفيق أحمد العروس العائد من المصح على أحمد العروس المنثور في الساحات العامة القليلة أصلا يمشي بهدوء ويدخل في الليل ويقول ”أحمد العروس يعرف كل الفضائح و الصغارات وليس إلها ولا في القوات الخاصة ولا في الاستشعار“. ثم أمام واجهة محل نظيفة يرى أن الدهر مر على أحمد الواقف خارج البلور مرور اللئام فخلف على نفسه آثارا... ومر اليسار مرورا وخلف في أحمد رؤية ظل العالم في الماء العميق... ومر اليمين وخلف خوف انكشاف النوايا السيئة... فصار أحمد متعدد الأوجه كثير الاستغفار ويدور حول نفسه ويكلم ظله ويعتقد أنه الأصلح وأن الآخرين يعرفون و ينكرون ثم يعتقد أنه الأسوأ وأن الآخرين دفعوه دفعا... ثم يجد نفسه قبيحا جدا و يزيده قبحا بحثه عن الجمال السرمدي.. كلما أمعن بحثا أمعن اشمئزازا.
فيقرر البحث عن رجل بعينه... رجل أشم. سيقول الماكرون "أن أحمد... فلا يبحث عن رجل إلا المصاب بسدوم ولكن أحمد لا يرد عليهم، فالجهل مصيبة. ويواصل البحث عن رجل بأنفه ويخفف عن نفسه فيقول "لماذا رجل بعينه وما الذي يجعل للعين ميزة عن الأنف حتى يقال رجل بعينه" وأحمد يعرف للعين معان فأيها تكون علامة؟ إذن هو الأنف...
رجل بأنفه. ولم يكن يبحث إلا عن أبيه. فأمه علمته أن أباه رجل أشم لذلك كان ينظر للوجوه ويمعن في الرجال ذوي الأنوف... فيجد رجالا بأنوف ذليلة فلا يراهم... ثم يجد رجالا بلا أنوف ذليلة لكنهم لا يرفعون وجوههم فلا يراهم... ثم يجد رجالا بأنوف عزيزة لكنهم لا يرون أحمد فلا يراهم... ثم يجد... أن مطلبه عزيز فينسى البحث دهرا ثم يزور أمه... فيستأنف البحث ”إن أبي بينكم أيها الرجال !“ ويضحك ”من تراني أخاطب ؟“ ثم يقول بهمس ويلتفت على جنبيه ”إني لأفتح عيني حين أفتحها على كثير لكني لا أرى أحدا“ ويقول ”تباركت روحك أيها الخز اعي هذا زمانك فلماذا بكرت قليلا في المجيء وفي الذهاب ؟ وأحمد العروس لا يقرض الشعر و إلا زاد على بيتك ديوانا عن الغائبين عن أرواحهم ، الحاضرين في المطاعم والمقاهي والمآدب يتجشئون كثيرا ويقولون ”ربي أنعمت فزد“ ويقول أحمد لربه دون أن ينظر إلى السماء ”لو جاز الفناء على ملكك لانتهيت متسولا مثل أحمد العروس“ ولكنه يستغفر ويعود إلى الشاعر ويسأله هل رأيت أبي يا أبا الطيب فيقول له ”أذم إلى هذا الزمان أهيله...“فلا يبحث أحمد عن المزيد وعن أبيه في شم العرانين. ويقول ”لو كان لما هرب“ ويتوقف أحمد عن البحث. يرى حقيقة أبيه فيكف عن الكلام... من تراه يكون غير ” فدم تستغرق الكف فوديه ومنكبه وتكتسي منه ريح الجورب العرق“ ويقرر أحمد الانقطاع عن أمه في المصح العقلي. ”لا ذنب عليك يا أمي... فأحمد يعرف كل شيء ولا يرى أنك مثلما ترين فأنت أعز أنفا من أبي وأحمد لا يسوي بأنف الناقة الذنب“ .لكنه... يضيق صدره...فيشتاق... فيقاوم... فيحلم... فيرى أمه تقف على مئذنة المسجد وتغني. ”لم يكن أحمد واحدا منكم ولكنه يعرفكم واحدا، واحدا ويفكككم قطعة، قطعة ويقدر ثمنكم جيدا ولا يبيعكم لأحد فأحمد لا يتاجر في الحديد الصدئ ولكنه لا يفرش لكم عباءته للصلاة عليها ، فأحمد أعف من صلاتكم لذلك أوصيته بغسل يديه سبع مرات إذا صافح ، أحمد يا كبدي، يا أعزل... وتخوض حروبا كثيرة ولا تخرج منتصرا أبدا“. ثم تصمت. فيستيقظ أحمد وفي حلقه لقمة من الصوف المر فيذهب، فتصر أمه ”ابحث عن أبوك“ فيصحح لها أحمد ”قولي عن أبيك“ فتلح أمه ”لم يجره أحد ولا يكون إلا الفاعل وهو الذي ابتدأ فأوهمني فأسلمت له الأمر يقلبه على كل وجوهه... ثم أفقت فإذا هو قد عبر المحيط وأنت في فراشي “.
”إذا هو نذل يا أمي.“ فتقول له أمه ”لا تصدق يا أحمد يا ضناي ولا تحرم أمك من كذبتها الأخيرة ودع لي سلام الاطمئنان إلى الخديعة فأنت تدخل في الرجال بأب أشم يخفي أمك في آخر الصورة فلا تضار. أما بأب نذل وأم أكلت بلحمها خبزا ، فلا مكان لك فوق الأرض، ولن يدفنك أحد لتحتضنك الأرض بعدي“. وعندها يتمثل أحمد كل المشهد المجنون ويمرر يده على شعر أمه الأخضر ويود أن يضمها إلى صدره لكنها تكون جامدة تحت النخلة العاقر وتكون دمعة أحمد قريبة جدا فينهض، فيذهب، فتجف عينه من البكاء الداخلي.
فإذا عاد إلى نفسه بعد لأي... في ساحة منسية... وجد نفسه في دائرة مليئة بالفراغ ويعتقد أنه يتقدم. يضرب الأرض بقدميه فيشب إلى الأعلى.. فيتنفس قليلا لكنه يعود إلى القاع فيضيق صدره لكنه يواصل الاعتقاد أنه خارج المستنقع وأن الآخرين يغرقون...
وتخاطبه العناصر كلها ” يا أحمد الأحمد... ألا ترى أنك وحدك في الخضم وأن الآخرين يسبحون كالضفادع وقد ينقون ؟ تشبث يا أحمد بما بين يديك لتنجو...“ لكن أحمد يعود للغفلة عامدا لكي لا يرى كل شيء... و في تشابه الصباحات يضحك أحمد في سره... ويمضي... فكثيرون ممن رأوا أحمد في الصباح... صلوا أن تكون نهاية اليوم أجمل من صباحه وأحمد لم يتدخل فمر يومه كما تيسر . لكن الكثير منهم وقع في مآزق في أيام لم يروا فيها أحمد، وتذكروا أنهم رأوا زوجاتهم في الصباح وأخريات رأين مثلما رأوا. ويعرف أحمد طائرهم فيترك لحيته نابتة كعسل في صحن حط عليه ذباب، ويقول ”لله جنود من عسل“ أو يقول ”على نفسها جنت“ وينسى أن يحلق لحيته دائما فهي آية تذكر الناس بالصلاة.

آخر حديث عن أحمد ... ثم أحمد.
أحمد العروس متواضع الإمكانيات لذلك لا يطاوعه الشعر ويقول إذا اغتر ”أنا اشعر من المتنبي“ لكنه انتهى بعشق المتنبي في الديوان وكرهه في المسلسل وقد أفاق بعد لأي فوجد أن المتنبي أيضا قد بصم على جلده بملقط من حديد فصار يلتقط الشعراء في الجرائد المهملة واكتشف أن الشعر كلام فوق الزمن. لذلك لما عثر على عبد الإله الصالحي( صوره بعناية وعلقه في جدار وصار يقول له كل صباح بعد أن يؤدي له تحية عسكرية. اتفق معك لكني لست في البعض ولا في الأغلبية فأنا أحمد العروس. ثم يقرأ :
بعضهم يجد أعضاءه مبتورة وتكاد تبتسم.
بعضهم يقلد المستقبل.
بعضهم يقنع صندوق القمامة
بأنه أشد استدارة من الحقيقة (...)
بعضهم يغرق بكل بساطة في فرصة معوقة
بعضهم يسرق أدوات الجزم.
بعضهم يتفقد أنسابه
بعضهم يتدرب على الإطاحة بالعالم.
بعضهم يفترش السطور وينحني قليلا ليسعل.
بعضهم جزيرة
بعضهم لعاب قيد الدرس
بعضهم ينتظر الانقراض
بعضهم قد يتألم
بعضهم يتأوه كمن يعاكس القيامة.
بعضهم يعوض الجنس بقيء الشعراء.
بعضهم يلهو بالعناوين في انتظار الباص أو الجنة
بعضهم يحب
بعضهم يفهم
بعضهم يتعذب
بعضهم يركض
بعضهم يصلي
بعضهم يصرخ
بعضهم يزدرد البعض
والأغلبية لا تقرأ بتاتا.

فإذا وصل إلى الأغلبية التي لا تقرأ بتاتا قال ”أعوذ بالله من الشيطان الرجيم“، وانصرف إلى شؤون الماء والملح ويجزم ”لن أكون في البعض ولا في الأغلبية“. ولا يجد أحمد فكاكا من شؤون الماء والملح فإذا عسرت قال ”لعل للبعض عذرهم ... وللأغلبية أيضا... فالماء والملح ثقيلان، ومنهما تبتدئ الهموم“. لكنه لا يستسلم ...
وينوي...
فيختصر الطريق على السعادة، فتكشف له الصدفة تطور اقتصاد البلاد ثم ولأنه ولد في الثقب السماوي فإنه نام واقفا وسقط بالتقادم فتناسى شوارد الحياة ونام مليا ولم يخبر أحدا بكوابيسه وإن ظهرت على وجهه، فشرع يتلهى بوضع ذيل كلب في قصبة ولعب لمرة واحدة بالحياة فأوشكت الحياة أن تهرب منه فانتهى مفعولا به مرفوعا بالضمة الظاهرة على آخره فقرر أن يستحيل حجرة في ميناء فانتهى ضيفا على أبي بكر الرازي فلما أن أثقل على أبي بكر أشار له إلى باب الخروج فعاد أحمد صامتا يشير إلى نار تحت الرماد ويحدث المتنبي وبقية الحالمين بعالم آخر ويصل صباحا إلى معلقة الصالحي فيحييها تحية عسكرية وعند الوصول إلى الأغلبية التي لا تقرأ بتاتا يتخذ قرارات سريعة بخصوص الماء والملح، ولكن في اللحظة التالية يصيب قراراته ما يصيب الملح بالماء فيخرج من نفسه ويدخل في اللحظة ويقرض أظافره راقصا على ضوء شمعة واهنة ثم يمر بين عقله وكلام الآخرين عن الجنون بعد أن نشر نعيه فلم يعزه في نفسه أحد فعاد يكثف نفسه من جديد. ولكنه جمع كمسافر رموزه في حقيبة وخاض نقاشا فلسفيا أخيرا فلم يستنر غير أنه تعلم كيف تعلو العين على الحاجب ولم يكن ذلك بمحض صدفة وإن توهم . آنذاك اكتشف هوانه كاملا فعرض على نفسه هدنة مع ظله وصحح نواياه وشرع في ممارسة العادة السرية حتى انتهى بسجن النبي يوسف في رؤياه الشفافة وبسرقة صواع الملك. وفي آخر ظهور لأحمد العروس التقى بظله فحياه وقال له "الذين يبحثون عن حبال من كلام يآلف الحديث عن أحمد العروس لن يفهموه، فهو لا يكون إلا نثارا مفردا لا يحتمل الجمع. ومن عجيب الخلق أن الريح لا تذروه فلا يعمى بخبره المبصرون أما العميان لم يحرموا أحمد العروس وحده ولكن... ما زال بإمكان أحمد أن يعلمهم الصبر. ويجوز بهم إلى ضفة واضحة وأن يعلم من استطاع إليه سبيلا.“
فهو أحمد العروس..... فإذا جاءك بريده...... فأرخ لخيول لغتك العنان ، أو فاخرس ولا تستفت أحمد العروس فأحمد مسكون بالهواء الطلق ويعي حدود الغرفة الضيقة فيدفع جدرانها عن صدره بالكلام .
د: نور الدين العلوي : روائي من تونس (
E.mail - abouchedy@yahoo.fr