١١‏/٤‏/٢٠٠٦

DNA ,ومسرحة القصيدة

DNA
مسرح القصيدة ام مسرحتها؟
د.حسن السوداني

ان المسرح كالشعر هو اكثر الفنون قابلية على استخلاص ما هو جوهري.
الكاتب المسرحي انتوني سفيرلينج

أحياناً تتجلى السعادة في لحظة سفرنا داخل النص أو عندما يسافر النص الأدبي داخل حياتنا ليستوطن فيها ويتمكن منا فيجعلنا نعيد كتابة الآخر بعد لحظات التعايش بيننا وبين ما وراء الكلمات رولان بارت


 


4



عندما تتكرر المحاولات الجادة للاستفادة من القصيدة في عمل مسرحي, وعندما تتراوح النتائج بين الناجح والمدهش, يبرز لنا اكثر من تساؤل عن ماهية هذه القصيدة او الكلمات ومدى اختلافها عن غيرها من جزيل الشعر وكثرته, وربما هذه التساؤلات استدعتها التجارب المسرحية الست التي استندت كليا او جزئيا على قصائد الشاعر عدنان الصائغ والتي يمكن اجمالها بـ( هذيان الذاكرة المرـ بجزئيه ـ والذي قدما في العراق في عام1989 و1993 للمخرج غانم حميد , وقصائد قصيرة للصائغ تمسرحها الممثلة السويدية ليزا فري, Liza Fry وتقدمها على مسرح X في مالمو عام 2001, مسرحية التنور, عام 2004 ومسرحية الخلوة عام 2005 ومسرحية DNA عام 2006 وجميعها ـ اي التجارب الثلاث الاخيرة ـ قدمت في السويد للفنان حسن هادي, ورغم التناول المتعدد والرؤى المختلفة التي اشتغل عليه مقدموا هذه العروض الا ان الثابت فيها كان استخلاص ماهو جوهري من الحياة وهو ما عبرت عنه القصيدة او القصائد, او كما عبر عنه الكاتب المسرحي انتوني سفيرلينج, واذا كانت معظم التجارب قد استندت بدرجة كبير على قصيدة نشيد اوروك للصائغ وبدرجات متفاوتة على بقية القصائد فان هذه القصيدة تعيدنا الان الى الكم الهائل من الكتابات التي تناولتها من مختلف الجوانب, الا المسرحي منها والذي ظل نائيا عن التحليل وربما هذه التجارب هي محاولة كتابة ماهو مسرحي عن القصيدة, فالشاعر شيركو بيكه س يكتب عنها قائلا (القصيدة هي حفر دائم ـ قصيدة أركيولوجية ـ تحفر وتحفر. وكذلك هي قصيدة "هيمنة الخوف" التي تعيش في الماء والخبز ـ اللقمة اليومية ـ حيث نعلكها على مدار 24 ساعة يومياً. واللغة هنا تشبه القلعة الأخيرة لمقاومة الشاعر ولكي يحمي الوطن, خندق شعري طويل بقامة العراق حيث يدافع فيه الشاعر عن كل الموجودات التي حوله) ربما هذه النقاط وغيرها كثير ما دفع ويدفع الكثير من المخرجين ويستهويهم للغور في سبر القصيدة, وهو ما حدث في التجربة الجديدة للفنان حسن هادي عندما استفاد من فكرة الاستساخ لخلية جندي عراقي قتل في الحرب الأخيرة حيث يقوم البروفسور الغربي بكشف عمله المثير باستنساخ بشري من خلية هذا الجندي القتيل ، ليحقق بذلك حلمه في الخلود من خلال تسجيل بحثه هذا كانتصار للتطور الطبي في تاريخ العلم (أنت اهم انسان في هذه الارض بعد يومين, انت التي ستملأ صورك الصحف , وتجف الاقلام بالحديث عنك وتدمع العيون من كثرة النظر اليك دون اية رمشه , انت حديث وتحليل ومجادلت الناس اجمع). هكذا يخاطب البروفسيور بطلة عملة او انسانه الـ" مقترح". وربط المخرج - المعد ذلك الانتصار بين ذاكرة ميتة (منذ العام 2003) وذاكرة ولدت للتو (أي العام 2025).. فتكون الذاكرة هي البطل وهي الفيصل في أن يكون للبروفسور خلوده وحلمه أو لا يكون..
النص:
يتكون نص DNA من مجموعة مقاطع من "نشيد أوروك". للشاعر العراقي عدنان الصائغ ، ونصوص قليلة مختارة للشاعر السويدي ارنه زارنك Arne Zaring
حاول المعد" حسن هادي" ان يجمعها في وعاء فكرته حول موضوعة الاستنساخ مستثمرا الاجواء المتعددة التي تحتويها قصيدة الصائغ الطويلة" نشيد اوروك" بعوالمها الهذيانية التي سنجد لها صدى واضحا لدى بطلة العمل وهي تمر بحالات تنشيط الذاكرة التي طالما حاول البروفسور ان يطمرها لخلق ذاكرة بديلة , الا ان عودة الذاكرة والتي هي ذاكرة الجندي القتيل تجعل من عمل البروفسور برمته عبثا.......... تتحدث الذاكرة:
"الوطن . واو . طاء . نون . والاطفال , قال المقاول ـ نبني الوطن , فكومت عمري طابوقة فوق طابوقة , كان المقاول ينشئ من لحم احلامنا شققا وفنادق , لكنا حين كنا نجئ الى بغداد تطردنا شرفات الفنادق والحارس الاجنبي , فنأوي الى خان احزاننا وننام . قال السياسي ـ نبني الوطن , فرحنا نشد البلاد على جوع أمعائنا ونهوس بالطرقات ـ يطاردنا الشرطة والملكيون والفقر . قال المرابي ـ قال الصحافي قالو وقالو"
وفي الوقت الذي تستمر فيه القصيدة او الذاكرة بالهذيان يحاول البروفسور ان يقنع نفسه او اكتشافه بمبررات منجزه ..
"هنالك عجز في التواصل والتفاهم . وجودنا المشترك بثقافتين مختلفتين اتسم بالاستفزاز , و التنافر و الغربة و العناد بالاتفاق انت انساني انا , المثالي في هذا البلد على اقل تقدير. تمتلكين بشرة و حرارة الشرق وعادات وتقاليد الغرب, انت حضارتين في انسان واحد , تلك هي العظمه" ..
هذا المنطق طالما نجد له صدى في المجتمعات الاوربية او هو الوجه الخفي لحقيقة مفهوم الاندماج في تلك المجتمعات والتي طالما عانى فيها المهاجر من عدم فهم واضح له ولمعتقداته او عاداته مما جعله في كثير من الاحيان منكفأً على نفسه او معزولا بشكل اضطراري بسبب ذلك العجز في التواصل والتفاهم الذي ذكرهما البروفسور او فرضياته التي بنى عليها مرتكزات بحثه في الاصل.
وهنا يمكن ان نؤشر حالات من التأرجح في واقع اللغة المستخدمة كون المعد قد حافظ على نصية القصيدة وشعريتها دون ان يضفي عليها ما يؤهلها للاندماج مع لغة النص الاخرى مما خلق نوعا من التفاوت بين لغة القصيدة وبقية الحوار المستخدم في متن النص, كما ذهب المعد احيانا الى نوع من المباشرة لجر القصيدة الى واقعية الحوارات اليومية ولايصال فكرته السرية داخل العرض.
العرض:
حاول المخرج منذ اللحظات الاولى للعرض ان يشتغل على تثبيت منظومة بصرية تعتمد اللون كثيمة ارتكازية والنسق الحركي البسيط كوحدات متحركة مقصيا كل انواع البهرجة او التضخيم السينوغرافي. فالاحداث كاملة تدور في صالة طبية فرضت اللون الابيض كلون سائد مريح" ملابس المريضة, الطبيب, الممرضة" وهو لون يدخلك الى اجواء نفسية ملائمة فضلا عن استخدام السرير الطبي وثلاث ملاءات مرتبطة بسقف المسرح متدلية ومرتبطة بالسرير الطبي المتحرك . اما الوحدات المتحركة المتربطة بنسقية الحركة فقد اعتمدت التشكيلات الثلاثية التي تأخذ اشكال الهرم القائم او المثلث الارضي او الخط المستقيم او التشكيل المبعثر وفي اغلب الاوقات يكون راس الهرم او المثلث هو المريض او الاكتشاف او الذاكرة الجديدة في حين تكون القاعدة فيه الممرضة والطبيب. ولعل هذا النمط من التعامل الاخراجي يتطلب اداءأ جسديا متميزا للممثل ويسعى في الوقت ذاته للوصول الى الشكل الدال(Significant form) وهو نمط من الاستخدامات الشكلانية التي دعى ونظر اليها رائد هذا الاتجاه الإنجليزي كلايف بل , والذي عد في حينه ثورة على الفن التقليدي التعليمي. يقول كلايف بل في ذلك: " إن الأشكال إذ تنتظم وتجتمع وفقا لقوانين معينة مجهولة وغامضة, تحرك مشاعرنا فعلا بطريقة معينة, وأن مهمة الفنان هي أن يجمعها وينظمها بحيث تحرك مشاعرنا. هذه التجمعات والتنظيمات هي ما أطلقت عليه على سبيل التيسير ... اسم "الشكل الدالsignificant "Form . وقد ساعد الاداء المتميز للممثلين الثلاثة: رونا بيركمان Rune Bergman، وعايدة Aida، واوسا اهلاندر.Åsa Ahlander. على تجسيد فرضية المخرج للوصول الى الشكل الدال والمتناغم مع نص الحوارات للشخصيات الثلاث, ويلاحظ المتتبع للاعمال الثلاث التي قدمها المخرج حسن هادي والمأخوذة عن قصائد الشاعر عدنان الصائغ وطريقة تعامله معها انه يعمد الى نوع من التشكيلات الجسدية المعبرة عن شكل معروف لدى المتلقي " خارطة العراق" ـ مثلاـ او الصليب او غيرها من التشكيلات الموحية, ورغم ان تلك التشكيلات تدفع الشكل في العرض المسرحي الى نوع من المباشرة الا انها قد ابتعدت عنها كثيرا في هذا العرض مما يؤكد استفادة المخرج من مشاهداته وتطور اساليبه وادواته, بل ويمكن تلمس الكثير من النضج في تجربة حسن هادي الاخراجية عن بقية اعماله السابقة, كما يحسب له ايضا محاولته لتقديم العمل بلغتين في ان واحد وتقسيم الحوار بين الممثلين لادائه باللغتين العربية والسويدية مع وجود شاشة تتوسط المسرح تترجم بطريقة فنية حوار الممثل للعربية او السويدية ويعطي المجال للتغلب على صعوبة تقديم العمل باللغة العربية لجمهور سويدي فضلا عن استخدام الشاشة لتقديم الصور والبيانات الرقمية لذاكرة المريضة او الاختراع جاءت في اغلب الوقت متقنة ومعبرة وهي من تصميم التقني العراقي سلام سميسم. كما كان للترجمة الجيدة للنصوص الشعرية والحوار المسرحي والتي قام بها: ملاك مظلوم، وآرنه زارنك، ونادين، وعايدة دورا ايجابيا في ايصال العمل الى المتلقين من السويديين او العرب بطريقة سهلة وفعالة.



رأي في ميلاد النبي الكريم

ميلاد خاتم الانبياء والرسل ميلاد التاريخ والقيم


بقلم: د. وليد سعيد البياتي
albayatiws@hotmail.com

فلسفة ولادة الانبياء والرسل
    مع حسابات الجوانب الانسانية والبشرية باعتبار ان الانبياء والرسل بشر ولدوا لاب وام (الا في حالتي آدم (ع) الذي خلقه بقدرته من الطين فجعله حمأ مسنون، ثم صلصال نفخ فيه الروح فصار بشرا، وعيسى (ع) الذي خلقه من ام فقط ومن غير اب ينسب اليه فكان معجزة من معاجز الحق) فان التاريخ الانساني والحضاري يخبرنا ان الانبياء والرسل بشر ولدوا لاب وأم، وثمة ملايين يولدون يوميا، وثمة ملايين اخرين يغادرون الحياة لاسباب شتى، واذا كانت حركة التاريخ الاسلامي قد كشفت عن عدد الانبياء والرسل فكانوا من آدم  وحتى الرسول الخاتم مائة واربع وعشرون الف نبي ورسول منهم 330 نبيا مرسلا، فيهم خمسة هم اهل العزم كما جاء على لسان الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله، (راجع الانبياء حياتهم وقصصهم/10)، وعلى الرغم من ان بين الرسول والنبي عموم وخصوص من وجه فكل رسول نبي ولا عكس، الا ان ثمة خصوصية اختص بها الحق سبحانه رسله وانبياءه في ولاداتهم مما لاتتوفر عند احد الا في ولادات الائمة المعصومين عليهم السلام والاولياء في  في بعض حالاتهم.
      لايمكن اعتبار ولادة اي من الانبياء والرسل مجرد ظاهرة طبيعية تتكرر بين حين وآخر، كما لا يمكنا اعتبارها حدثا خارج حدود السببية او السنن الالهية والتاريخية، ولما كان هناك نظام سنني للوجود بجوانبه الكونية والانسانية، فان ولادة الرسول والنبي يعتبر تواصلا طبيعيا وعقلانيا بين الخلق التكويني والخلق التشريعي، فالله تعالى هو الذي خلق الكون وبالتالي هو ايضا الذي شرع قوانينه ونظمه، وخلق الانسان وانزل له شرائع تنظم جزئيات حياته، فكان الانبياء والرسل حاملي هذه الشرائع، والمبلغين عن الله بها، ولما كان النبي والرسول يمثل حلقة وصل بين الكوني والانساني فقد رافقت ولادات الانبياء والرسل حوادث وظواهر وانفعالات ارضية وكونية، كدليل على حالة الترابط بين الكوني والانساني، ولكنها لا تتحقق الا في حالات الكمالات المطلقة التي يتمتع بها بعض البشر وعلى رأسهم الانبياء والرسل والائمة المعصومين ثم الاولياء، وهذه الكمالات تتحقق فقط في مطلق العلاقة بين الارض والسماء، او بين الانسان والعقيدة، فلو لم يكن النبي او الرسول الممثل الكامل لقيم العقيدة لما كانت اي قيمة للظواهر الكونية والارضية التي ترافق ولادة الانسان النبي والانسان الرسول، وإذا كانت كل تلك الرؤى يمكن ان تتحقق في جميع الانبياء والرسل في ولاداتهم، وتكوين حيواتهم، فان ولادة الرسول الخاتم محمد (ص) جاءت لتستوعب كافة العلاقات والظواهر بين الكوني والانساني وفق مفاهيم معرفية واخلاقية خارج النظرة التجزيئية التي لا تربط العقيدة بحركة التاريخ من موقع ارتباط هذه الاخيرة بالله تعالى شانه، فقد ولد الرسول الخاتم ليشكل بولادته استيعابا كليا لحركة التاريخ الرسالي، وليعطي لقيم الرسالات بعدا آخر بإعتباره قائدا لائمة كونية تمتاز بصيرورة تاريخية لا نهاية لها، فولادة الرسول الخاتم جاءت لتشكل ولادة أمة، حملت على عاتقها تغييرا جذريا في حركة التاريخ الانساني، فالامة الاسلامية لم تولد الا بعد ولادة الرسول الاعظم (ص)، ومن هنا قال الحق سبحانه: "كنتم خير امة أخرجت للناس" آل عمران/ 110 مما يعطي خصوصية للامة الاسلامية بإعتبار ان الجنس البشري موجود وقد شهد مراحل من التطور والتحول والنكوص عبر توالي الامم والحضارات، لتاتي الامة الاسلامية مستوعبة كل هذه التجارب عبر حركة التاريخ ولتضع البشرية على المسار الصحيح لكونها الامة التي وقع عليها الاختيار الالهي لتحمل منهج آخر الرسالات السماوية، وليتحقق عبرها التواصل بين الكوني والسماوي متمثلا بشخصية الرسول الاعظم وآله الاطهار صلوات الله وسلامه عليه وعليهم.

ولادة التاريخ والقيم الحضارية
    ان البحث في نشوء التاريخ يتجاوز زمنيا ظهور الجنس البشري على سطح الارض، بل ان يتشكل عند حدود النشاة الاولى للخليقة وفق المعيار الالهي، ولهذا لا يمكن وضع حد زمني لنشأة التاريخ الا بحدود معرفتنا القاصرة، ولكن ولادة الانبياء والرسل شكلت ولادات تاريخية عبر حركة التاريخ الكلية، وهذه الولادات ذات الابعاد الكونية والانسانية قدمت قيما عليا مثلت تفاعلا اسمى للعلاقات وفق المنهج الالهي، فقد جاء الاسلام ليجد بنى متعددة من القيم والمفاهيم والاعراف التي كانت سائدة بين الافراد والجماعات البشرية التي سكنت شبه الجزيرة العربية، والتي كان بعضها ينحو منحا ايجابيا، كالكرم والشجاعة وقري الضيف والايثار، وغيرها من القيم والاعراف التي توارثتها القبائل والبيوتات العربية، اضافة الى بعض المفاهيم ذات الجانب السلبي كوأد البنات، والعبودية، فكانت ولادة الرسول الاعظم لتشكل ولادة للقيم والمفاهيم الرسالية ذات المنشأ الالهي، ومن هنا جاء التعريف الاسلامي للقيم التي نادت بها الرسالة المحمدية على لسان صاحب الرسالة البشير النذير في  مقولته الشهيرة: (إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق).
        لقد ربطت العقيدة الاسلامية علاقة الاسلام بالقيم وفق المسار نحو المثل العليا (الله) وان هذه العلاقة تتحقق كلما كان الارتباط بالله ارتباطا تعبديا فتعبير القرآن الكريم في قوله عزوجل: "إن اكرمكم عند الله اتقاكم" الحجرات/13، تضع معيارا تعبديا للعلاقة القيمية بين الانسان والخالق، واصبحت الولادة قيمة تحقق العلاقات بين القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية بشكل شمولي، او ما يعرف في العلم الحديث بالرؤية الابستمولوجية للموضوع، ومن هنا يمكن الاعتراف بان العقيدة الاسلامية قدمت طفرة نوعية في المفاهيم والقيم الحضارية لما تتصف به من شموليه، ومن جانب آخر فان الفكر الاسلامي يقدم تصورا مستقبليا في النظرة الى الاتي، فالعصر الذهبي اوعصر الخلاص هو المستقبل القادم المتمثل بظهور الامام المهدي عجل الله فرجه الشريف، بإعتباره القيمة النهائية والخلاصة التامة التي اريد لها ان تمثل استيعابا كليا وعميقا للرسالة الاسلامية، فولادة الرسول الاعظم هي في الحقيقة النظرة المستقبلية للوجود الانساني باتجاه الخلاص وفق المنهج الالهي.
       من جهة اخرى يمكن اعتبار ولادة الرسول الخاتم (ص)، ولادة للوعي الجمعي، فالعقيدة الاسلامية عملت على توثيق الاواصر بين افراد المجتمع الاسلامي سعيا الى ازالة الفوارق الاجتماعية وصولا الى المجتمع المثالي والذي سيكون معيارا لكل البنى الاجتماعية الاخرى، فالوعي الحقيقي سيمثل ادراكا عميقا للرسالة ومنهجها، لكن الوعي عملية تراكمية بالنسبة للعقل غير المعصوم، فكان المنهج الرسالي قد سعى الى تطوير الوعي الفردي والجمعي في وقت واحد، وقد ولد هذا التطور بولادة الرسول الخاتم، فكان اهل مكة قد ادهشتهم قدسية هذا الطفل الذي رافقت حياته سلسة من المعاجز الالهية والبشارات السماوية في الكتب القديمة لتشكل كلها اساسا بالوعي بهذه الكيان القدسي، ثم عمل الرسول الاكرم، على تكريس هذا الوعي ليتحول الى وعي بالرسالة الخاتم ومنهجها الالهي.
     وهكذا فيمكن اعتبار ولادة خاتم الانبياء والمرسلين عليه وعليهم افضل الصلاة واكرم التسليم، قد شكلت سلسلة لا متناهية من الولادات التي كونت حلقات غير منقطعة في ترتيب العلاقات بين الانسان والخالق اعتبارا من الشمولية الكونية التي تمثلها الرسالة وصاحبها، لتصبح الولادة عنوانا لمستقبل الانسانية الذي تتحقق فية ارادة الله في الخلافة عبر قيم الجعل الالهي.

الرأي الآخر للدراسات – لندن
  alrayalakhar@yahoo.co.uk
          

في الذكرى الثالثة لسقوط الصنم


عشية الذكرى الثالثة لسقوط الصنم:

نــــــــــــزار حيدر لجريدة (الصباح )البغدادية:

انقلاب جذري في المشهد الثقافي

توطئة

عشية الذكرى الثالثة لسقوط الصنم، رمز النظام الديكتاتوري الشمولي البائد، الذي حكم العراق طيلة أكثر من ثلاثة عقود عجاف من الزمن، أجرت جريدة (الصباح) البغدادية، استقراءا لآراء عدد من العراقيين بشأن المشهد الثقافي العراقي الجديد.

نــــــــــــــــــــــــــــزار حيدر، مدير مركز الاعلام العراقي في واشنطن، كان من بين من استقرأت( الصباح) رأيهم، فكان جوابه كالتالي؛
   في الأعوام الثلاثة الماضية التي تلت سقوط الصنم، شهد المشهد الثقافي العراقي تحولا جذريا على عدة مستويات، لعل من أبرزها:
   أولا: انتهاء عهد الفكر الشمولي، وتجلي ثقافة التعددية في أبهى صورها، فلم يعد المواطن العراقي يقرأ فكرا واحدا مفروضا عليه بالقوة والاكراه، أو يصبح ويمسي على صورة واحدة، أو يستيقظ ويغفو على رأي واحد، بل راح العراقيون يختارون بأنفسهم ما يشاؤون من الفكر والرأي، من دون رقيب أو حسيب، الا قناعاتهم الخاصة وخلفياتهم المتنوعة، فنراهم اليوم، يقرأون ما يشاؤون من فكر اليمين واليسار، والاسلامي والعلماني، وعلى مختلف الاصعدة، وهم الشعب المعروف بأنه الأكثر قراءة من بين شعوب العالم.
   لقد بات العراقيون يختارون المحطة الفضائية التي يشاؤون، ويختارون المجلة والجريدة والمحطة الاذاعية التي يحبون، وينتقون الكتاب والموسوعة التي تنسجم مع توجهاتهم، من دون أن يفرض عليهم الحاكم نوع الخبر والتحليل السياسي والتقرير الاعلامي والصورة والثقافة التي كان يفرضها عليهم النظام الشمولي بالحديد والنار، فلم يعد التقرير السياسي لمؤتمر الحزب الحاكم هو سيد المكتبات العامة والخاصة، والحاضر الوحيد في قاعة الدرس، وأمام الطلاب.
   في العراق الجديد لا معنى للممنوعات في مجال الثقافة والفكر، الا ما يمنعه الرقيب الذاتي للمواطن نفسه، والذي هو عبارة عن نتاج التراكم الثقافي والوعي السياسي الذي يتحلى به العراقيون.
   لقد ملك العراقيون اليوم حرية الاختيار، في ظل التعددية الثقافية، ما أفضى الى امتلاكهم لقرار بلورة الرأي، حسب الوعي والادراك الذي يتميز به كل واحد منهم، أي أن العراقيين امتلكوا رد الفعل الممكن والمناسب وما يترتب على نوع الثقافة التي يطلعون عليها كل يوم، اذ لم يعد رد فعلهم قرارات منصوص عليها من قبل مجلس قيادة الثورة مثلا.
   ثانيا: وفي هذا الجو الثقافي الجديد، تجلى التنوع الثقافي الذي قمعه النظام الشمولي البائد، وكاد أن يقضي عليه، اذ لم يعد ممنوعا على الكردي مثلا أو التركماني أو الايزدي أو الصابئي أو الآشوري أو الكلداني أو الشيعي أو السني أو أي مكون آخر من مكونات المجتمع العراقي، أن يعبر أو يعتز أو يقرأ أو يدرس أو يتحدث بخلفيته الثقافية وبلغته الأم، لا في المدرسة ولا في وسائل الاعلام، ولا في المقهى ولا في الشارع، ولذلك شهدنا ولادة العديد من الفضائيات التي تعبر عن التنوع الثقافي الذي يتميز به العراق وشعبه منذ أقدم العصور، والذي يضيف الى العراقيين، تنوع في الفهم وقوة في المنطق وقدرة على البناء الحضاري الذي ما شيد بناؤه الا بالتنوع الثقافي، على اعتباره نتاج تلاقح الثقافات المختلفة، والأفكار المتعددة.
   هذا التنوع الثقافي، أعاد للمكتبة العامة ألقها الثقافي وحيويتها، وأدار المطابع لتستعيد عافيتها، فصدرت المجلات الدراساتية والدوريات المتخصصة، كما أعاد للكتاب مكانته في المشهد الثقافي العراقي، بعد أن كان النظام الشمولي البائد قد فرض حصارا شديدا على الكتاب، فمنع القراءة الا بقرار، وحاصر الثقافة لتقتصر على ثقافة الحزب الحاكم أحادية الجانب.
   يبقى أن يتخلص العراقيون ويكنسون من واقعهم الجديد بعض الأمراض التي أصابت الشخصية العراقية جراء الفكر الشمولي الذي خيم على العراق أكثر من 35 عاما، والتي يمكن اجمالها بمرضين؛
   الأول، هو مرض عبادة الشخصية الذي كرسته ثقافة النظام البائد، فهي تدمر مفهوم الرأي العام، وقبل ذلك، تسلب من الانسان حرية الاختيار، لأن عبادة الشخصية مرض يمنع المرء من الاختيار الحر، وبالتالي يحوله من  متلقي ثقافي، يميز فيختار،  الى مستهلك ثقافي لا يعي كثيرا ما يقرأ، بسبب الأحكام المسبقة التي تكبله، جراء الانبهار بالشخصية الذي يكون سيد الموقف في هذه الحالة.
   الثاني: الغاء ثقافة الصورة والعنوان والأزياء والألقاب، التي كرسها النظام البائد ضمن موسوعة ثقافية فاسدة، أراد بها حث المواطن على عبادة الصورة، والنظر الى من يقول وليس الى ما يقول، وتلك هي من أخطر ظواهر القمع الثقافي والفكري الذي تبتلي به أمة من الأمم.
   ان القضاء على هذين المرضين، سيساهمان في صناعة جو ثقافي نظيف، في اطار الانفتاح الثقافي، الذي لا يعتمد القشور، وانما يكرس المحتوى الثقافي في أبهى صوره، من خلال وعي المفهوم والتعصب للفكرة بدلا من التعصب للشخص، بعيدا عن التحجر والتعصب الثقافي ضيق الافق والتكفير والتخوين، يحترم الرأي الآخر، ويقاتل من أجل أن يدلي به صاحبه، كما يحرص على أن يقول رأيه في أية قضية من القضايا العامة المطروحة للنقاش.
   وبذلك سننهي عهد الممنوعات وثقافة السلطة والحزب الحاكم والزعيم الأوحد، الذي لا يرى الا نفسه قادرا على التفكير والانتاج الثقافي، وأخيرا، اعادة حق الخيار الى المواطن وليس الى السلطة.
   انه انقلاب جذري في المشهد الثقافي العراقي، اليس كذلك؟.
9 نيسان 2006

قصتي مع سقوط التمثال ـ عبد الباري عطوان

قبل ثلاثة اعوام، بالتمام والكمال، كنت ضيفاً علي عدة برامج تلفزيونية بريطانية، للحديث عن لحظة سقوط التمثال في ساحة الفردوس ومعانيها، والمستقبل المشرق الذي ينتظر العراقيين.
في البرنامج الاول سألني المضيف عن شعوري الحقيقي وانا اري الاحتفالات العفوية في شوارع بغداد، وردي علي اعلان الرئيس بوش حول انتهاء الحرب، فقلت بالحرف الواحد أخشي ان يندم الامريكان والعراقيون انفسهم علي زمن يحتفلون بنهايته، فالحرب الحقيقية ستبدأ غداً، وسيتحول العراق الي دولة فاشلة . وقد ذكرني المذيع التلفزيوني نفسه بهذه المقابلة، وقال لي، اننا اعتقدنا انك مجنون لا تعرف ما تقول في حينها وسخرنا منك، والآن اعترف باننا كنا مخطئين، ونقدم لك اعتذارنا .
في البرنامج الثاني، كنت ضيفاً علي برنامج شهير يقدمه اندرو نيل، وهو صحافي بريطاني معروف ترأس تحرير صحيفة صنداي تايمز البريطانية التي توزع مليونا ونصف المليون نسخة كل يوم أحد. المستر نيل قال لي: ماذا تتوقع للعراق بعد هذا الانتصار الكبير؟ قلت: المزيد من القتل والدمار وعدم الاستقرار، فقال لي غاضباً: انت شخص متشائم، وغير واقعي، واراهنك بان العراق بعد 18 شهراً سيكون بلداً ديمقراطياً، مستقراً مزدهراً، ونموذجاً يحتذي في المنطقة بأسرها، فقلت له: انا اتحداك بان امنياتك هذه لن تتحقق بعد 18 عاماً، لانك لا تعرف العراق، ولا تعرف امريكا فلم تتدخل امريكا في بلد الا وحولته خراباً، وحكامها الحاليون يريدون اذلال العرب والمسلمين لمصلحة اسرائيل. وكل ما اتمناه ان تستضيفني في برنامجك بعد 18 شهراً لنري من يكسب الرهان، فإذا كسبت انت وتبين انك علي حق في نبوءتك فاعتذر علناً، لك وللمشاهدين، واذا لم تصدق هذه النبوءة فعليك ان تتحلي بالشجاعة وتعتذر من جانبك.
المستر نيل لم يعتذر قطعاً، والاكثر من ذلك لم يستضفني في برنامجه منذ ذلك التاريخ، وانا الذي كنت ضيفاً شبه دائم، لان العراق الذي بشر به هو والكثيرون من امثاله كان وهماً، وجزءا من حملة اكاذيب صدقها بعض العراقيين للأسف.
ولم يكن المستر نيل وحده الذي لم يتحل بالشجاعة ويعتذر عن مشاركته في حملات التضليل، وانما ايضاً مجموعة من الساسة العراقيين الذين يقيمون كراسي حكمهم ومناصبهم علي جثث مئات الآلاف من العراقيين، من امثال السادة عبد العزيز الحكيم، وابراهيم الجعفري، وعدنان الباجه جي، وبحر العلوم، وجلال الطالباني، ومسعود البارزاني والعشرات غيرهم من قادة احزاب وكتاب وشعراء ومفكرين وفنانين.
قبل سقوط التمثال كان العراق يرزح تحت حصار ظالم، ويتعاون بالكامل مع فرق التفتيش الدولية، ويوزع حصص الغذاء علي كل اسرة في مطلع كل شهر بدقة متناهية، عراق آمن مستقر موحد، مواطنه ينعم بالماء والكهرباء ويذهب الي عمله كل صباح، ويعود الي بيته مطمئناً، حيث يتساوي الجميع تقريباً في المعاناة تحت الحصار.
عراق اليوم، وبعد سقوط التمثال بلا امن ولا طمأنينة، بلا حاضر، ولا مستقبل، لا ماء ولا كهرباء، ولا وظائف، سيارات مفخخة، وجثث بالعشرات يومياً مجهولة الهوية، معصوبة الاعين، مقيدة اليدين وآثار تعذيب وحشي علي اجساد اصحابها، ورصاصة في مؤخرة الرأس.
قبل ثلاث سنوات كان العراقيون في المنافي ينتظرون سقوط التمثال لكي يعودوا الي بلدهم، بعد ثلاث سنوات لم يعد اي من هؤلاء، باستثناء المرتبطين بالمشروع الاحتلالي الامريكي، وانضم الي هؤلاء ضعفهم، فجميع ابناء الطبقة الوسطي هربوا الي الدول المجاورة، او اي دولة اوروبية تقبلهم، ولم يبق في البلاد الا الفقراء والمعدمين وعصابات الاجرام، وعناصر الميليشيا الطائفية.
ومن المفارقة ان معظم اسر حكام العراق الجدد واطفالهم ما زالوا خارج العراق، يتنعمون بالاموال الوفيرة التي انهالت عليهم، يتسوقون من محلات لندن وباريس واستوكهولم ونيويورك، فالانتماء للعراق بات مجرد اتصال هاتفي، ومتابعة الأخبار عبر القنوات الفضائية.
مرت الذكري الثالثة لـ تحرير العراق علي صوت التفجيرات الدموية، والفراغ السياسي، وتشاحن الفرقاء السياسيين علي المناصب الوزارية، والخلاف علي شخصية رئيس الوزراء، وكأن تشكيل الحكومة سيضع حداً للعنف والارهاب، وسيعيد الامن والطمأنينة للعراقيين.
فرسان العراق الجديد لم يحتفلوا بذكري التحرير ولم نر مهرجانات فرح في الشوارع، وساحة الفردوس بالذات تسجيلاً لهذه اللحظة التاريخية العظيمة. كما اننا لم نشاهد المبشرين بالعهد الامريكي السعيد يعتلون المنابر الاعلامية، المكتوبة والمرئية، لكي يسردوا علينا وعلي المشاهدين والقراء العراقيين الانجازات العظيمة التي تحققت في السنوات الثلاث الماضية.
نتحدي ان يدلنا احد هؤلاء، او غيرهم، علي زعيم عراقي واحد، زعيم يقول انه يمثل جميع ابناء العراق، زعيم واحد غير طائفي، نعم هناك زعماء شيعة، زعماء سنة، زعماء تركمان، زعماء اكراد، زعماء عشائر، زعماء طوائف، ولكن ليس هناك زعيم عراقي واحد مثلما كان عليه الحال في الماضي.
ساحة الفردوس التي شهدت الاحتفالات الضخمة يوم سقوط التمثال باتت مكمن خطر امني ضخم، والفنادق الفخمة التي تحيط بها اصبحت هدفاً لهجمات الانتحاريين، والصحافيون الاجانب يعتكفون في غرفهم داخلها لا يستطيعون مغادرة بوابة الفندق المحصنة.
المقاومة العراقية نجحت في تخريب مشروع الاحتلال الامريكي بان جعلته مكلفاً للغاية مادياً وبشرياً، واكملت الميليشيات الطائفية الحاكمة مهمتها باذكاء فتيل الحرب الاهلية من خلال جرائم القتل التي تمارسها علي الهوية.
صحافي اجنبي حاول بالامس ان يلتقط صوراً لميدان الفردوس مكان سقوط التمثال في اكبر حركة مسرحية عرفها التاريخ، فانقض عليه ثلاثة مسلحين وشهروا مسدساتهم في وجهه، وطلبوا منه ان لا يلتقط اي صورة.
قبل ثلاث سنوات نقلت محطات التلفزة صوراً لرجل يضرب صورة الرئيس صدام حسين بحذائه بطريقة هستيرية، ويتهمه بتخريب العراق، تري اين هذا الرجل، وهل هو علي استعداد لضرب صور بوش وبلير والجعفري والباجه جي والجلبي بالحذاء نفسه، او غيره، وهل هو ما زال علي قيد الحياة، ولم يكن من بين مئتي الف قتيل سقطوا في حرب تحرير العراق والحرب الطائفية التي تبعتها؟
ثلاثمئة مليار دولار وثلاثة آلاف قتيل امريكي، ومئة بريطاني، ومئتي الف عراقي، ونصف مليون من الجرحي، وامارات طوائف، وبطالة، وثلاجات مستشفيات تزدحم بالجثث، واطفال لا يعلمون ما يحمل لهم الغد.. هذا هو باختصار العراق الجديد عراق الجلبي والحكيم والباجه جي والطالباني ومن لف لفهم.


عن صحيفة القدس العربي/لندن/9 أفريل 2006