٣١‏/١٠‏/٢٠٠٥

من الطفولة الى المنفى



مذكرات من جنوب العراق تحكي عذابات قصر النهاية

نضير الخزرجي
اجد متعة غير قليلة في قراءة مذكرات الرجال الذين طبعوا بصماتهم على صفحات العراق وتاريخه ومدنه، وبخاصة من اولئك الذين عاشوا العهد الملكي وامتد بهم العمر وتمادت بهم الايام الى عصرنا، يعرضون ما رأوه وما شاهدوه وما خبروه او مارسوه الى جيل العهد الجمهوري.
فغالب مقصود الذي قذفته حوادث الايام الى نيويورك ينقلك عبر (سوالف بغدادية) الى حارات بغداد وازقتها، فسوالفه حزمة قصص بغدادية يتشكل بمجموعها جانب من مذكرات الرجل الثمانيني عن بغداد القرن العشرين، والفقيه الراحل السيد محمد الشيرازي، الذي خرج من العراق خائقا يترقب يطارده حكم بالاعدام اصدره بالضد منه نظام حزب البعث، واستقر به المقام في الكويت ثم مدينة قم المقدسة، حتى انتقل الى بارئه في العام 2001، وعينه على العراق وقلبه في كربلاء، هذا الفقيه يحدثك في (عشت في كربلاء) عن واقع حال المدينة كما رأها بام عينه، ويحدثك في (حياتنا قبل نصف قرن) عن الحياة العراقية وطبيعتها كما خبرها، ويصور لك في (بقايا حضارة الاسلام كما رأيت) عن ما تبقى من تلك الحضارة في العراق كما لمسها، ثم يجمع جانبا من السيرة الذاتية في (تلك الايام) ليقرأ لك من وحي تجربته وخبرته، صفحات من تاريخ العراق السياسي في العهدين الملكي والجمهوري، ويتنقل بك الاديب الدكتور يوسف عز الدين الذي تقلبت به الايام حتى استقر به المقام في مقاطعة ويلز البريطانية، في (الشعر السياسي الحديث في العراق) بين اروقة السياسيين في العهد الملكي، يقدمهم اليك من وحي تجربته الشخصية متحدثا عن بغداد وساستها واحداثها من خلال ما ورد في صدر الأبيات الشعرية وعجزها، لشعراء ذلك العهد، والمهندس المعماري الدكتور محمد مكية الذي تهادت به الايام الى لندن، يسير بنا في (خواطر السنين) في ازقة بغداد ومحلاتها ويحدثك عن عقلية الساسة العراقيين في العهدين الملكي والجمهوري.
وينطلق الاقتصادي العراقي عبد الكريم محمد رؤوف القطان الذي حطت سفينته في المملكة المتحدة، من الازقة نفسها التي عاش فيها محمد مكية، لكنه يتركها صغيرا ليعيش شبابه في مدينة الديوانية، ولذا نضّد حبات حياته في عقد أسماه (مذكرات من جنوب العراق.. من الطفولة الى المنفى).
القطان رغم العقود التسعة التي يحملها فوق أعواد ظهره، لكن ذاكرته عن بغداد والديوانية هي ذاكرة شاب يافع، يأخذ بيدك، يدور معك على حواري بغداد والديوانية و أزقتهما، تعيش اللحظة التي عاشها والذكرى التي وضع لبناتها او عاصرها، فيحدثك وهو المدير العام للبنك التجاري العراقي عن قانون العمل الذي صدر العام 1924 والذي حصر العمل في وظائف الدولة بحملة الجنسية العثمانية، وحجبها عن الشيعة الذين يشكلون غالبية سكان العراق، حيث عهدت وزارة عبد الرحمن النقيب (الى العراقيين الأصليين وحدهم بالوظائف العامة)! (ص15).
يحدثك في مذكراته عن حمامات السوق وصابون الرقي الذي دخل في السياسة في عهد عبد الكريم قاسم بعد ان توترت العلاقات بين سورية والعراق، حيث منع الزعيم قاسم (استيراد هذا الصابون نكاية بسورية، التي انضمت الى مصر مكونتين الجمهورية العربية المتحدة، لذا اصبح استعمال صابون ابو الهيل من قبل القوميين والناصريين مطلبا قوميا، بينما كان الشيوعيون يعتبرون استعماله خيانة للمبدأ!)، (ص22).
يحدثك القطان عن المدارس الحكومية التي حظرها العثمانيون على شيعة العراق وهم غالبية السكان، فاستعاضوا عن المدارس بالمؤسسة الحسينية التي كان من نتائجها (تأسيس مدارس لأبناء الطائفة الشيعية، حيث لم يكن مسموحا إبان الحكم العثماني لأبناء الشيعة الدخول الى المدارس الحكومية التي كانت وقفا على أبناء الطائفة السنية)، (ص57) ، وفي العام 1908 تم تأسيس اول مدرسة جعفرية. (ص79). ومن مهازل السياسة الطائفية ان الشيعة بعدما منعت من دخول المدارس الحكومية ألجأها الدهر الى الاستفادة من مدارس الأقليات الدينية (اما والدي فقد واصل الدراسة في مدرسة الأليانس وهي مدرسة الطائفة الموسوية في بغداد، وكانت مدرسة ذات مستوى علمي عال، تلقى العلم بها كثير من أبناء الطائفة الشيعية الذين لم يكن مسموحا لهم دخول مدارس السلطات العثمانية)، (ص84).
ويفند القطان قول الحكومات المتعاقبة على العراق بان غلبة السنة على الوظائف و هم أقلية، يعود الى ان (افراد الطائفة الشيعية كانوا يرفضون الالتحاق بالمناصب والوظائف الحكومية نتيجة لفتوى اصدرها مرجع شيعي (!!) وكأنهم لم يسمعوا بالحشد الجماهيري الذي نظمه حزب النهضة الشيعي بين 12 و14 ايلول/سبتمبر 1927 الذي تم به الاعلان عن المطالب بوجوب تخصيص نصف الحقائب الوزارية للشيعة والنصف الثاني للسنة والمسيحيين واليهود، وكذلك المساواة في التعيينات الادارية)، (ص60).
كانت هناك نزعة طائفية في مجال التعليم كما يذهب القطان ويحكيه الواقع المر، وانتقلت هذه النزعة من العهد العثماني الى العهد الملكي الجديد الذي استبشر به الناس خيرا (لقد كان التوزيع الجغرافي للمدارس مجحفا بالنسبة الى سكان الألوية الاخرى، فعلى سبيل المثال ان عدد المدارس الابتدائية في لواء الموصل كان آنذاك 63 مدرسة، بينما عددها في لواء الديوانية أربع مدارس فقط.. فهناك مدرسة واحدة لكل 4883 نسمة من نفوس لواء الموصل يقابل ذلك مدرسة واحدة لكل 42259 نسمة في لواء الديوانية)، (ص122).
يحدثك عن مهازل الانتخابات النيابية في العهد الملكي، والتزوير الحاصل فيها (ولعل من اكبر المهازل انتخاب المجلس التأسيسي، حيث تم ترشيح السياسي جعفر جلبي ابو التمن عن قطاع الكاظمية الذي حصل على 19 صوتا، بينما حصل في المنطقة نفسها المرشح المسيحي عبد الجبار الخياط على 22 صوتا، اما المرشح اليهودي فقد حصل على 26 صوتا، هذا مع العلم بأن منطقة الكاظمية كانت منطقة شيعية مغلقة وذات ولاء شديد لعلماء الشيعة الذين رشحوا جعفر جلبي ابو التمن)، (ص61)!
يحدثك عن محطة (الترامواي) اي (كاريات الكاظم) التي تقودها الخيل والحمير، الوسيلة النقلية السريعة انذاك بين بغداد والكاظمية، التي تحولت من شركة حكومية الى اهلية مساهمة، وكان لجدي لأبي الحاج علي بن عبد الحميد البغدادي الخزرجي المتوفى العام 1910م، الذي اشتهر على لسان البغداديين والكربلائيين بعلي شاه البغدادي، أسهم فيها، (ص72).
هذه الكاريات التي استبدلت بالقطار الذي دخل العراق والذي سماه الاجداد (شمندفر)، وحرّم البعض ركوبه، لمجرد انهم لم يعهدوه من قبل، وذهب قول بعضهم مذهب الأمثال (أتتركون حمير الله وتركبون الشمندفر؟!) وكأن استخدام التكنولوجيا الحديثة سبّة عظيمة، دونها ركوب المحرمات!
ويحدثك عن القراءة الخلدونية (زيزي زيري زيران زيز) التي أتي بها ساطع الحصري أب القوميين العراقيين والعرب، وهو الحلبي ذو الثقافة التركية الذي (رباه الترك وعاش بينهم دهرا من عمره، حتى انه مات وهو لم يحسن النطق بالعربية كما يحسنها العرب، و تظهر العجمة على لسانه من الجمل الخمسة الأولى من حديثه اذا تكلم)، (ص95). ولم يعرف القطان حتى الآن هل الزيز هو (البستوكة أم حب الماء)!
يحدثك عن فن المسرح المفتوح في لواء الديوانية حيث يشهد الاهالي في ذكرى استشهاد الامام موسى بن جعفر في 25 رجب من كل عام، مسرحا مفتوحا يقف على خشبته الامام الكاظم والخليفة هارون العباسي، وتنتهي الحوارات بقرار الخليفة بقتل الامام بالسم.
فن المسرح الذي تعود اليه كل فنون التمثيل، والذي يعتبره المؤرخون اصل الفنون وان واقعة استشهاد الامام الحسين في كربلاء المقدسة، هي ملهمة هذا الفن، ما عاد اهالي الديوانية بعد سنوات يشهدون الحوار والواقعة، لأن الحكومة وبقرار طائفي منعت المراسيم والمسرح المفتوح (ولم يجسر أهالي الديوانية على تحدي قرار الحكومة لانهم بلا شك يعرفون سبب المنع الذي بقي خافيا عليّ طوال سنوات طويلة، الى ان تفتحت مداركي وعلمت بأن هناك ما يسمى بالطائفية)! (ص122).
ويحدثك بحسرة وألم عن الاعلامي والسياسي العراقي حسن العلوي، وهو في معرض الحديث عن انقلاب البعثيين على حكومة عبد الكريم قاسم، عندما كان القطان في نيويورك في رحلة عمل خاصة بشركة التامين التجاري العراقية (بعد ايام قلائل من عودتي من اميركا، نشرت جريدة صفراء اعتقد كان اسمها الثورة عمودا بقلم حسن العلوي يندد بي، وينعتني بأنواع النعوت الرخيصة التي لا تصدر الا عن أمثاله، قال عني بأني أعجمي وطبعا يقصد عجمي لاني شيعي المذهب مثله، ان كان له مذهب غير مذهب ميشيل عفلق، ذلك المسيحي الذي وعى جيدا الوصايا العشر ووضع منهاج حزبه وتعاليمه بعكسها تماما، وهذا ما كان يطبقه أعضاء حزب البعث كبيرهم وصغيرهم. كان حسن علوي، الذي هو منهم، يطمع بأن يكون مستشارا لصدام كما كان هيكل لعبد الناصر)، (ص258)، وكانت هذه المقالة وامور اخرى عربون دخول القطان الى قصر النهاية السيء الذكر الذي عذب فيه البعثيون من خالفهم في الرأي حتى الموت، وجواز الهجرة القسرية عن العراق لاكثر من اربعة عقود.
ويقدم القطان في صفحات كثيرة شهادته ومشاهداته لعمليات التعذيب التي كان يمارسها رجال الحرس القومي في سجن قصر النهاية، ويحدثنا عن وزير خارجية العراق عبد الكريم الشيخلي الذي كان اشد ضراوة على المعتقلين، وكان يُشاهد وملابسه ويده ملطخة بدماء المعتقلين من أثر التعذيب الذي يمارسه هو بنفسه، ويبدي القطان أسفا لان الشيخلي (عين بعدئذ وزيرا للخارجية في حكومة البعث، وكان يأتي الى انكلترا ويجتمع مع رئيس الوزراء في 10 دواننج ستريت، ويصافحه بيده التي كانت تقطر دما)، (ص270).
ويقدم القطان شهادته عن دكتور حزب البعث العراقي الذي كان يشرف على طبابة السجناء مِن مَن بلغ به من التعذيب مبلغا كبيرا، وقد جاء في احد المرات على عجل لمعابنة حالة احد السجناء الذي اخذ يتقيأ دما من شدة التعذيب، وتحاشى القطان ذكره صراحة، ووسمه بحرف التاء (ان الدكتور "ت" هو الآن قطب من أقطاب المعارضة العراقية في الخارج، اما عبد الكريم الشيخلي فقد أرسل له صدام من قتله في الشارع، اما المسكين الذي عذبوه، فانه لما عاد الى وعيه، انتهز فرصة غياب احد افراد الحرس القومي، وصعد الى سطح البناية ورمى بنفسه، ومات حال ارتطامه بالارض)، (ص271).
وكان قصر النهاية، الفصل الاخير من حياة القطان في العراق، وكان خروجه منه معجزة بمقاييس نظام حزب البعث العراقي، وله ان يصف خروجه من المعتقل بالمعجزة لان السجن انما اطلق عليه قصر النهاية، لان الداخل فيه لا خروج له منه الا بخروج روحه الى بارئها على يد عتاة الارض.
والكتاب صادر عن دار الساقي في بيروت في طبعته الاولى العام 2005، في 285 صحيفة من القطع الوزيري، وصمم غلافه، السيدة نشوى القطان كريمة صاحب المذكرات.

الرأي الآخر للدراسات- لندن
alrayalakhar@yahoo.co.uk