١٨‏/٩‏/٢٠٠٦

ج ح خ ه ع غ ف قض ط ن ا ل ب ي س ش ظ ز و ة ى لا ر ؤ ء ئ

 

د ج ح خ ه ع غ ف ق ث ص ض ط ك م ن ت ا ل ب ي س ش ظ ز و ة ى لا ر ؤ ء ئ.

 

http://www.kabbalah.info/arabickab/index_arabic.htm

اتجاه - اتحاد جمعيات اهلية عربية


اتجاه - اتحاد جمعيات اهلية عربية
يتمتع بصفة استشارية خاصة من الامم المتحدة


بيان حول اجتماع الجمعيات العربية الطاريء (14 ايلول 2006)

بحضور مندوبين عن 25 جمعية عربية عقد في مقر اتحاد الجمعيات (اتجاه) اجتماع طاريئ عصر يوم الخميس 14 ايلول, وذلك لتدارس خطوات الجمعيات العربية في مواجهة قرار وزير الامن الاسرائيلي التعسفي اغلاق جمعية انصار السجين ومصادرة املاكها ومحتوياتها, في حين كان موضوع البحث الاخر هو برنامج وزيرة المعارف التنفيذي بشأن دمج الشباب العربي في الخدمة القومية الاسرائيلية. وبعد بحث شارك فيه جميع الحضور تم بلورة واقرار المواقف والخطوات التالية:

1. الاغلاق الاداري لجمعية انصار السجين

الجمعيات العربية الاعضاء في اتحاد الجمعيات تؤكد التزامها الاخلاقي والوطني والفعلي لجمعية انصار السجين هذه الجمعية الرائدة والتي تشكل مجماكا اساسيا ضمن العمل الاهلي والوطني وضمن اتحاد الجمعيات
وبالرغم من اخراجها عن القانون بقرار تعسفي فان الجمعيات ملتزمة ببذل كل ما يلزم من اجل ايجاد الطريق للمساعدة في ان تبقى الجمعية ودورها, وتؤكد رسالتنا ان الاغلاق لن يمر مر الكرام. كما تؤكد الجمعيات ان التصدي الفعال لقرار وزير الامن من شأنه ان يحمي الجمعية وكل قطاع العمل الاهلي.

الجمعيات العربية الاعضاء في اتحاد الجمعيات (اتجاه) تندد بقرار وزير الامن الاسرائيلي عمير بيرتس اعلان جمعية انصار السجين غير مصرح بها, ومصادرة املاكها واجهزتها المكتبية لصالح حكومة اسرائيل. كل ذلك استنادا الى انظمة الطواريء الانتدابية من العام 1945.

الجمعيات العربية تندد بالاقتحام البوليسي والشاباكي لمنزل رئيس الجمعية السيد منير منصور, واجراء تفتيش استفزازي (الساعة الواحدة بعد منتصف ليلة السابع من ايلول) وقطع اية امكانية اتصال خارجي عنه خلال التفتيش.

الجمعيات العربية تطالب وزير الامن التراجع الفوري عن عدوانيته وقراره التعسفي بالنيل من حرية عمل وتنظيم المجتمع الفلسطيني, ونطالبه باعادة النظر في قراره الاداري والغائه فورا ودون قيد او شرط.

الجمعيات العربية تطالب بادماج الاسرى والسجناء الامنيين من الداخل ضمن اية صفقة لتبادل الاسرى.

الجمعيات العربية ترى في هذه الحملة استمرارا للتصعيد العدواني الاسرائيلي تجاه شعبنا وتصعيد التحريض العنصري الدموي على الجماهير العربية ومؤسساتها وقياداتها. كما ترى بتوقيتها سعيا للانتقام السلطوي من جمعية انصار السجين كونها في طليعة النضال من اجل ادماج السجناء الامنيين واسرى الداخل ضمن اية صفقة محتملة لتبادل الاسرى.

الجمعيات العربية ترفض قرار وزير الامن وتؤكد انها ترى بجمعية انصار السجين عنواننا تجاه قضية الاسرى والمعتقلين كونها جمعية شرعية وطنية تعالج احدى اكثر قضايا شعبنا ايلاما, كما نؤكد ان مصداقية الجمعية ومصدر شرعية وجودها ودورها ليس وزير الامن الاسرائيلي ولا انظمة الطواريء الانتدابية التي يستند اليها.
كما نؤكد ان معالجة الاغلاق الاداري هي مهمة جمعية انصار السجين المباشرة لكنها ايضا وبذات القدر مسؤولية كل جمعية ومؤسسة فلسطينية في الداخل, انها ايضا مسؤولية الشعب الفلسطيني الذي يريد الحرية لاسراه ومعتقليه في سجون الاحتلال.

الجمعيات العربية المجتمعة على قناعة باهمية استنفاد الاجراء القضائي رغم عدم الركون اليه وعدم الثقة بان الجهاز القضائي الاسرائيلي سيقوم بحمابة ضحايا الامر الاداري التعسفي, لكن القيام بذلك من باب التحدي والمواجهة. الحمعيات المجتمعة على قناعة بان اية دعوى قضائية يجب ان تكون باسم كل الجمعيات والمؤسسات الوطنية والتمثيلية وحتى مؤسسات دولية مساندة.

الجمعيات المجتمعة يوم 14 ايلول في اتحاد الجمعيات (اتجاه) وبعد ان استمعت الى تقرير من الاخ منير منصور رئيس جمعية انصار السجين اقرت الخطوات التالية:

مساندة فورية وتوفير كل الخدمات المكتبية واللوجستية للحفاظ على دور جمعية انصار السجين وتوفير بنية عمل لها.
المشاركة في انشطة الدفاع عن جمعية انصار السجين والتعاون مع لجنة متابعة قضايا الاسرى والمعتقلين في تنظيم انشطة جماهيرية.
اطلاق حملة اعلامية على مستوى الشعب الفلسطيني في كافة اماكن تواجده في الوطن والشتات.
اصدار رسالة الى كل السفارات الاجنبية في تل ابيب وايصال موقف المجتمع المدني الفلسطيني.
اصدار رسالة الى حركات التضامن العالمية واصدقاء الشعب الفلسطيني من اجل التضامن الفعال مع جمعية انصار السجين.
تقديم شكوى لمساعدة الامين العام للامم المتحدة (هينا جيلاني) المعنية بمراقبة انتهاكات المدافعين عن حقوق الانسان وفي هذا السياق جمعية انصار السجين.



هذا وقد تم اقرار تقسيم عمل داخلي بين الجمعيات في تنفيذ المهام التي بدأت على الفور تأخذ بعدا تنفيذيا ضمن خطة عمل مشتركة. كما وتم اقرار لجنة حقوقيين تعمل على حماية دور الجمعية ومرافقة الحملة لالغاء قرار وزير الامن التعسفي.

2. بدء وزارة المعارف بتطبيق الخدمة القومية على الشباب العرب



اكدت الجمعيات المشاركة ما يلي:
موقفها المناهض للخدمة القومية ولبرنامج وزيرة المعارف الذي بدأته بالتعاون مع الجيش الاسرائيلي وصناديق اسرائيلية, بناء على بيان اتحاد الجمعيات بهذا الخصوص.
التنبه الى تراجع ثقافة المقاومة واستقلالية حدول اعمالنا ومبادراتنا بين اوساط واسعة من الشباب لصالح مشاريع سلطوية تم تبنيها في سلطات محلية مثل الشرطة الجماهيرية التي بدأت بشكل واسع بعد انتفاضة الاقصي في العام 2000.
التحذير من وجود عدد من المؤسسات العربية بلدية واهلية وغيرها تعمل كوكلاء للسلطة في الترويج لمشاريع الخدمة القومية والمدنية ولمعادلة اشتراط الحقوق او مواجهة التمييز العنصري الرسمي من خلال فرض "واجبات" على الشباب العربي تكون مقدمة الى الخدمة العسكرية والاندماج في مسار الاسرلة.

التاكيد على ان علاقتنا مع الدولة هي علاقة صراع واننا لسنا مستعدين ولا في اي حال الاندماج في الصيغة الصهيونية للدولة بل دورنا مواحهتها.

الجماهير العربية ليست مطالبة بطرح بدائل للخدمة القومية, وترفض الجمعيات هذا المبدأ وهذه المعادلة وكأننا مطالبون ببدائل. نحن نرفض الخدمة القومية كمبدأ.

تحذر الجمعيات من صمت المؤسسات الوطنية والتمثيلية تجاه برنامج وزيرة المعارف وتحذر من عواقب التعامل وكأن شيئا لم يكن وتحذر من توجه المراضاة مع الوزيرة.

الجمعيات العربية تؤكد تعدد المبادرات الاجتهادات لمناهضة الخدمة القومية, وتؤكد دعمها للمبادرات والبرامج التثقيفية وبرامج الهوية والحقوق التي تقوم بها جمعيات عدة على ارض الواقع, وسعيها لتدعيم هذه المبادرات والتنسيق بينها على اساس تكاملي لتشكل بنية هامة لمناهضة جماهيرية فعالة للخدمة القومية.

الجمعيات العربية تسعى الى خلق جو عام معارض للخدمة مع التأكيد ان الجمعيات وحدها غير قادرة على القيام بهذا الدور, وليس صحيحا ان تقوم به وحدها, وعليه تقرر البدء بالتنسيق مع الاطر الحزبية والو\نية والمجتمعية ذات الشان من اجل بلورة برنامج وطني مشترك وجماعي, وتقرر اقامة لجنة متابعة الاعداد لورشة نقاش جماعي وتسعي لدفع مؤسساتنا باتجاه مؤتمر وطني لمناهضة الخدمة القومية.
المرافعة امام مؤسساتنا الوطنية

بدء العمل على اطلاق حملة شعبية وتثقيفية لمناهضة مشروع الخدمة القومية.

الاعلان على لجنة عمل لقيادة الحملة لمناهضة الخدمة القومية تكون مفتوحة للجمعيات المعنية للانضمام وهي كالتالي: امير مخول, محمد زيدان, معين عرموش, نديم ناشف, سهيل عمري, د. روضة بشارة عطالله, محمد ابو ضعوف





اتجاه - اتحاد جمعيات اهلية عربية.

فرناندو أربال
مقاطع من حجر الجنون
ترجمة: حكمت الحاج (كاتب عربي يعيش في تونس)

عندما أفكر فيها، ذاكرتي، الوزير الأسود والفيل الأسود يسهران فى آن واحد في زاوية غرفتي عندما أفكر فيه، خيالي، أرى "أسد كوبنهاجن " يمر من أمامي. عندما أفكر فيها، أحلامي، تتغطى الأرض بقبعات بدون زوائد. عندما أكتب " لا شيء " في ظلام طاولتي تحت ابهامي استطيع أن أقرأ بحروف فسفورية كلمة " لاشيء ". أيها السادة : استلمت رسالتكم الموقرة بالرقم 8763 ب م / ب والمؤرخة في السابع والعشرين من كانون الثاني الماضي. أرجو المعذرة على تأخري في الاجابة. ولكن أوجاعا عنيفة في رقبتي سببت لي الكثير من المعاناة في هذه الفترة وسمرتنى الى الأرض أياما طويلة. أنا في الحقيقة وضعت على واجهة بيتي بساطين كبيرين بنفسجيين وأرجو منكم أن تصدقوني عندما أقول لكم أنهما ضروريان جدا لهدوئي. وأخيرا جاء بعض الناس في زيارة إلى وعكروا سكينتي وبالتالي اضطررت الى استخدام هذه الطريقة لابعادهم. أنتم تفهمون جيدا أنني لا أستطيع أن أسهر الليل وأقضي النهار على شرفتي. العلامات الأخرى التي ثبتها على الجدار لها نفس الوظيفة بما في ذلك اللوحة التي كتبت عليها: "إبتعدوا عني أيها القذرون". الحل الذي تقترحونه على (أن أدع البساطين والعلامات الأخرى في ممر شقتي) لا ؟ يعود على بأية فائدة. إن الزوار يدخلون دائما من الشباك وأحيانا ينفذون عبر الجدار وهذا الأمر يجعلني أفكر بأنهم يأتون إلي طائرين في الهواء. اعملوا على تهدئة المواطنين وقولوا لهم ألا يروا في هذه الوسائل المتواضعة لحماية الذات شيئا يجرح شعورهم. أشكركم على لطفكم معي لحل مشاكلي الخاصة الحميمة. هذا وتقبلوا فائق احترامي.




كنا نحن الاثنين في السينما وبدلا من أن أشاهد الفيلم
كنت أنظر إليها. لمست ضفائرها ومسحت على حواجبها
ومن ثم قبلت ركبتيها ووضعت على بطنها دمية
من الورق عملتها من التذاكر. كانت تنظر الى الشاشة
وتضحك، حينذاك مسدت نهديها وفي كل مرة كنت
أضغط على أحد النهدين كاشا سمكة زرقاء تقفز منه.
***
التجأت الشجرة الى الورقة
والتجأ البيت الى الباب
والمدينة الى البيت إلتجأت
كنت أتمشى متأملا هذا العرض ورأيت مرة أخرى
أن الشجرة قد تحولت الى ورقة وأن البيت قد تحول الى باب
والمدينة الى بيت. وهذا هو السبب الذي
يجعلني أبذل قصارى جهدي لكي لا أخبيء نفسي في
يدي.
***
ضربت رأس الشيخ بالفأس ومن فتحة الجرح خرجت
هي
عارية تماما. تقدمت نحوي وأنا أعطيتها ضفدعة
وبدأت
هي ترضعها. أغلق الشيخ جمجمته المكسورة بيديه ومن
ثم انفجرت الشعلات تحت قدميه. هي اقتربت منه
وابتلعت
النار. دخلنا نحن الاثنين أنا واياها الى بيت لكن فورا
أدركنا
أنه ليس بيتا بل بيضة شفافة وتعانقنا أنا وهي وعندما
أردت
أن أبتعد عنها شعرت بأننا قد تحولنا الى جسد واحد ذي
رأسين. نفخ الشيخ على البيضة فطارت ذاهبة بنا أنا
وهي.
رجل يرتدي زي الأساقفة وفي يده سوط أمرني
بالدخول الى
الكنيسة. بدا لي أن البوابة مكونة من ردفي امرأة عملاقة
تركع. في زاوية أمامي امرأة كانت ترقص وهي مختفية
تماما وبصعوبة كنت أستطيع أن أحرز مفاتنها. أردت
أن أذهب
الى الزاوية ولكنني بقيت أنظر الى المرأة وهي ترقص.
اقتربت
منى وطلبت أن ألمس نهديها. كنت خائفا ألا يرانا أحد
ما.
ولكنني في الأخير أطعت. حينذاك رفعت أحد براقعها
.وبدلا من كنت خائفا ألم يرانا أحد. حاولت أن أتخلص ولكن بلا
جدوى
خلال الاحتدام نزعت واحدا من براقعها ورأيت أن
ذراعيها ليسا
سوى أغصان سميكة خالية من الورق ووجهها كان
شاحبا للغاية
ومجعدا جدا. بدأت تضحك بفم أدرد. سمعت صوت
الطفل يصيح.
هذا هو. التفت وأبصرت رأسه في يد الرجل الذي
يرتدي زي الأساقفة. كان يحدق في. أردت الفرار
ولكن أغصان المرأة
سجنتني مثل الكماشات.
***
وضعت الفرجال على بطنها وبدأت أرسم دوائر داخل
دوائر.
وكانت تقطع سرتها وركبتيها وقلبها ولكي لا أنسى
وجهها
تخيلتها ممتلئة بالأرقام ومن ثم بدأت تمطر. وركبت
عارية
على ظهر حصان وهى منتصبة كالفرسان وكنت أمسك
بالعنان.
كانت تتساقط من السماء أسماك وتمر من بين ساقيها
والأسماك
تضحك. أحيانا كفي اليمنى تنفصل عن ذراعي من
الرسغ وتنضم
الى يدي اليسرى. أنا أمسكها بقوة حتى لا تسقط
وأفقدها ودائما
على أن أكون في أقصى درجات الانتباه خصوصا في
ساعة
إعادة التركيب لئلا أضعها بالعكس حيث الكف
موجهة الى الخارج.
***
ولد فرناندو أرابال في مليلة اسبانيا. ومنذ نيسان 1955 عاش في باريس حيث شارك في الحركة السوريالية. وكروائي فقد نشر بالفرنسية، "بعل بابل" ودفن سردينيا" ولكنه اشتهر بمسرحياته. وشعر مثل مسرحه تسوده روح الدعابة السوداء. من أهم أعماله "حجر الجنون" وهو شرح لكوابيسه.

فرناندو أربال مقاطع من حجر الجنون ترجمة: حكمت الحاج (كاتب عربي يعيش في تونس) عندما أفكر فيها، ذاكرتي، الوزير الأسود والفيل الأسود يسهران فى آن واحد في زاوية غرفتي عندما أفكر .

قيام المقاومة

قيام المقاومة
تباشير من أجل فلسفة المستقبل
زهير الخويلدي
"الأنا تضع نفسها حين تقاوم" [فخته][1]
"فأينما توجد سلطة توجد مقاومة " [فوكو][2]
إذا كان غرضنا هو صنع المستقبل والتشجيع على الصبر والوعي والإبداع والدفاع عن حق الأمة في الوجود بالاستماتة والاستثبات فانه من اللازم أن تكون فلسفتنا المنبعثة من ركام القرون الوسطى وحطام الاستبداد ورحم الاستعمار فلسفة مقاومة ونظرية في الثورة والنضال تتقن لعبة السياسة وتضع يدها على سياسة اللعبة العالمية وذلك بالاقتدار على الجمع بين حنكة السياسيين وأخلاق العلماء وشجاعة المحاربين من المدافعين عن الكرامة وكذلك بإعادة تعريف السياسة تعريف راشدا والتوجه على التو نحو الممارسة والفعل من أجل تحرير الأرض وصون العرض والذب عن الأوطان.
ما يسترعي الانتباه أنه قد شاع رأي فاسد حول المقاومة مفاده أنها مجرد رد فعل ورجع صدى، فسلطة الاحتلال هي الوجه والفعل والمقاومة هي القفا والشكل الأقصى للانفعال،وبالتالي نعثر على تسلط وتوسع لإرادة الطغيان من جهة يقابله رفض وعصيان وتمرد على هذه السلطة الغاشمة من جهة أخرى.
على هذا النحو يزعم مروجو هذه الدعوى أن المقاومة تشكل بالنسبة للسيطرة الاستعمارية الامبريالية والتوسع الاستيطاني الصهيوني وجهها الآخر المنفعل على الدوام والمعرض للهزيمة اللامتناهية ومعنى ذلك أن مجهود المقاومين ليس بالضرورة سيكلل بالنجاح حتى وإن توفرت فيه مجموعة من الشروط والمبادئ.
وقد عزز أصحاب هذا الرأي موقفهم بمجموعة من الحجج والبراهين التاريخية والفكرية مثل:
- نهاية التاريخ وموت الآلهة.
- ميلاد الإنسان الأخير وخلع الفرد الواعي من عرشه وتبعيته لللاوعي.
- لا نقدر على الإفلات من قبضة العولمة الاختراقية، فالعالم أصبح قرية صغيرة.
- لا وجود لخارج مطلق بالنسبة للسلطة وحتى المقاومة لابد أن تكون من داخل هذه السلطة ومن
أجل إكسابها المزيد من المشروعية.
- الاستعمار هو مكر العقل الكلي على مسرح التاريخ وهو المكر الذي لا راد له.
- دخول عصر إمبراطوري يتميز بانتكاسة مفهوم الدولة الأمة وسطوع نجم اللاوطنية الجذرية وانتشار إيديولوجيا ما بعد القومية.
فهل يعقل ألا تقوم مقاومة من طرف أمة تتعرض للعدوان وتستهدف بناها التحتية من طرف الاستعمار؟ من ينهي سلطة الاحتلال؟ هل هو الضحية الذي وقع عليه الفعل بإيمانه بحق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها وبإيمانه بحقه المشروع في المقاومة أم الجلاد المعتدي عندما يوبخه ضميره يستيقظ فيه صوت الروح ويعود إلى رشده ويستعيد ما في جبلته من إنسانية؟
لماذا تريد الامبريالية وربيبتها الصهيونية أن تربط اسم المقاومة لدينا بتهمة الإرهاب؟
أليس الإرهاب مجرد كلمة اخترعتها الفئات المسيطرة من أجل الهيمنة على الآخرين؟
هل نتنصل من المقاومة كي لا نتهم بالإرهاب أم ينبغي الإشادة بها وإسنادها بالفلسفة التي تنقصها؟
ولكن أليس من اللائق بالنسبة الينا أن نعلن دون مواربة ولا تردد أنه: حيث تكون سلطة استعمارية استيطانية تقوم مقاومة وصمود وتصدي؟
ما يجدر ملاحظته هو اقتران خطر الاستعمار بقيام نقاط مقاومة كثيرة تناهض هذه العولمة وتقوض أركان المعتدين وتكيل لهم الصاع صاعين ويحركها المبدأ الحقوقي الكوني: العين بالعين والسن بالسن والبادء أظلم، وتلعب نقط المقاومة هذه في العلاقات السلطوية الدولية دور الخصم والهدف والدعامة والمتكأ وتؤدي مهمة الدليل والمرشد والسند الشرعي والسبب الموضوعي للشعوب المضطهدة والمظلومة، ترفض منطق الغطرسة وتحاول فرض قوة المنطق وترى أن الحق يعلو ولا يعلى عليه، تفكك علاقات المصلحة والهيمنة وتستبدلها بعلاقات التعايش وحسن الجوار وأخلاق الضيافة على أساس احترام متبادل وإنصاف.
اللافت للنظر أن المقاومة ليست خديعة أو وعد لا ينبغي أن يوفى به بل هي ترتسم كالمقابل العنيد الذي لا يمحي للاحتلال وتشكل الطرف النقيض في علاقات الهيمنة والقوة الضاربة للذين اغتصبت ديارهم واكتووا بنار العولمة الملتهبة. إذ يقول روجي غارودي في هذا السياق:
"لم تنجح إرشادات الكنيسة والثورات الاقتصادية والسياسية في تغيير الإنسان والعالم فقد مر مبشرون سماويون عاجزون وثوار كثر أرادوا تغيير كل شيء إلا أنفسهم ويجب أخيرا تصور ما بعد العصرية. العصرية تقوم على الظن بان العلم والتقنية هما معيارا التقدم الوحيدين (...)
نحن نعيش تحت احتلال جديد احتلال غريب بالنسبة للإنسان: انه احتلال وسائل الإعلان والتلفزيون. يجب تنظيم شبكات مقاومة لللامعنى وتحويل جهود كل الذين يريدون أن يكون لحياتهم معنى. حياتهم كلها: العمل، الانتاج، الخلق، الفنون."[3]
والحق أنه لا توجد مقاومة واحدة بل عدة مقاومات:
1- هناك المقاومات الممكنة التلقائية المنعزلة والمستكينة والميالة إلى الصلح والمتضاربة وهي المقاومات السلمية الهادئة الثقافية والاجتماعية والسياسية(المعارضة) بالمشاركة من خلال الهوية السردية في صنع العالمية.
2- وهناك المقاومات الضرورية المشروعة، غير المحتملة والعنيفة في نظر الدوائر الأجنبية والهادفة إلى مصلحة محددة سلفا وهي طرد الاحتلال ومناهضة العولمة بكل ما أعدت لها من قوة.
نقط المقاومة هذه حاضرة في كل مكان من شبكة السلطة الغازية، فلا وجود لمثلث واحد للموت أو مكان وحيد منعزل رافض لتواجد الأجنبي هو مكان التمرد المطلق وإنما روح الصمود متغلغلة في كل الأنفس وبوصلة المقاومة تمثل المعين الذي لا ينضب للانتفاضة، تهذب جميع التمردات وتجعل أشكال النزاعات توطئة من أجل ثورة شاملة.
ثمة مقاومات الآن في الحضارة المهددة بالاندثار لحظة القطيعة الكارثية وليس مجرد مقاومة واحدة، إنها حالات واستراتيجيات تنتمي إلى أنواع كثيرة وتقوم بها أطياف عديدة ولا تتوخى أسلوبا واحدا ولا تتبع منهجا مشتركا بل إنها لا تمتلك هدفا بعينه لوجودها فهي تتحرك فوق برك من الوحل وأراضي ملغمة وتقطن فوق حقل من القوى المتصارعة والمتحركة.
يقول ادغر موران :
« Pire، il est possible qu’une nouvelle grande barbarie déferle et qu’il nous faille abandonner tout espoir d’hypercomplexité. Mais، même alors، amour fraternel، intelligence consciente، là où ils seront à l’œuvre، constitueront non seulement la véritable résistance، mais le resourcement et le recours permanent dans la lutte interminable contre la cruauté. »[4]
لكن ماذا تعني بالنسبة إلينا في الحضارة العربية الإسلامية " فلسفة المقاومة "؟
ما المقصود بقيام المقاومة من وجهة نظر عربية إسلامية؟
إذا عدنا إلى لسان العرب نجد المصطلحات والدلالات التالية:
- المقاومة إقامة أي سكن ومرابطة ومكوث دون مبارحة مهما كانت الضغوط.
- المقاومة هي من صنع قوم أي أمة وملة وجماعة للدفاع عن حقها في الحياة.
- المقاومة تنطلق من مقام أي أرض وإقليم ووطن تصون سيادته من كل انتهاك.
-المقاومة هي فعل قيام أي نهوض وحركة وهبة واحدة للجسد الواحد ضد الرضوخ و الاستسلام.
- المقاومة هي استقبال للقيامة أي البعث والمعاد والنشور بالخروج من الجحود إلى الشهود.
نحصل عن النتيجة التالية: "المقاومة هي إقامة قوم في مقام من أجل القيام ليوم القيامة".
من هو المقاوم؟ و بعبارة أخرى من ذا الذي يستحق اسم المقاوم؟
كلنا نقاوم وليس هناك استثناء في فعل المقاومة وكل متخل هو مقعد ولا ينتسب إلى هذه الأمة إلا من الواجهة الخلفية، والمقاوم هو الإنسان الحر حرية فردية مطلقة الذي يعمل من أجل دنياه وآخرته ومن أجل مقامه وقومه وهو الذي استطاع أن يعيد وحدة الفكر والقول والعمل إلى بنية شخصيته فأصبح يفكر كما يريد و يقول ما يفكر فيه ويعمل كما يقول ثم لا تكون عاقبة عمله غير الخير والمنفعة للناس والبر بهم. اذ " تقتضي ثقافة المقاومة التوحيد بين المستويين، القول والعمل، الفكر والوجدان، الداخل والخارج، من أجل توحيد شخصية المقاوم وتوحيد طاقاته فيصبح كالسيف القادر على القطع دون أن ينكسر الحد."[5]
لكن نقاوم بماذا؟ ماهي أدوات المقاومة؟
الجهاد والكفاح والثورة من أجل التحرير والاستقلال.
الإصلاح والمعارضة الراديكالية من أجل التنمية والتجديد والتوحد.
الثورة الثقافية والفكرية من أجل التحضر والإبداع والتطوير.
إن المقاومة عمل متكامل يقترن فيه القلم بالسيف ويشترك أثناءه الدعاء باللسان مع العمل بالجوارح والتصديق بالقلب ويرتبط عنده التضحية بالمال بالمغامرة بالنفس. تبدأ من الإنسان والمجتمع والأرض والدولة وتنتهي إلى العلم والفكر والمعرفة والايديولوجيا.
لابد إذن أن يشتمل فعل المقاومة على المنظومة الرباعية التالية: اللغة والقوم والدين والفلسفة.
استعادة لغة الضاد من جهة توهجها الروحي استعمالا وتكلما وخلقا وترجمة ما تحويه اللغات الأجنبية إليها هو فعل مقاوم.
أن ننظر إلى العرب على أنهم قومية موحدة وأمة واحدة وننادي بتكوين وطن عربي واحد يكون كالبنيان المرصوص والجسد الواحد من خلال مفهوم الهوية القصصية القرآني هو فعل مقاوم.
التمسك بالدين الإسلامي الحنيف وقراءته قراءة ثورية تقدمية على ضوء حاجيات العصر والنهل من معينه الذي لا ينضب للرد على التحديات هو فعل مقاوم.
" وأفضل للمقاومة الآن جعل العمل جزءا من الإيمان. فمن لا عمل له لا إيمان له. ومن يكتفي بالتعاطف مع المقاومة الفلسطينية ( واللبنانية) يؤيدها بالدعاء بالنصر ويشجب قسوة العدو فإن إيمانه ناقص..."[6]
أن نعتز بالفلسفة العربية وننظر إلى ما أنتجه أجدادنا من علوم وصنائع بعيون الإعجاب والافتخار وأن نعمل على تحقيقها ونقدها واستئنافها على أسس ومناهج جديدة هو نوع من المقاومة.
ماهي مقاصد المقاومة؟ فنحن نقاوم من أجل ماذا؟ هل المقاومة فعل عبثي يائس من مداومته ونجاحه أم أنها مشروع مستقبلي وتأسيسي يحرر الحياة حيثماهي أسيرة في المعمورة؟
إننا نقاوم من أجل:
- فداء الوطن وجهادا في سبيل لله.
- التضحية من أجل الآخر الانساني بالدفاع عن حقه في حياة عادلة وكريمة وآمنة مع المحافظة على الوجود الذاتي.
- الدفاع عن العقيدة والأرض والوطن ومقدرات الأمة.
- من أجل لاشيء، المقاومة فعل منزه عن كل غرض ، فهو غائية دون غاية.
- تحقيق العهد الذهبي للأمة وهو موعود به في المستقبل أكثر منه متحقق في الماضي.
- الوصول بالأمة إلى الرباط والوحدة والاعتصام بالعروة الوثقى،" فالبيت المنقسم لا يقوم".
لكن لابد من التمييز بين مجموعة من المصطلحات المتقاربة والملتبسة والتي هي كلمات حق أريد بها باطل مثل: التخريب والمقاومة،التعصب والانتماء، الإرهاب والعنف المشروع (حق الرد)، المحافظة والأصالة، الاستعمار والتنوير،الاستبداد والشورى، التغريب والتحرير.
ماهي مكاسب المقاومة؟
المقاومة هي صمام الأمان والدرع الواقي للأمة حققت توازن الرعب مع العدو وجسدت أحسن ما يكون مقولة الثأر الحضاري ووفرت إمكانية هائلة للنهوض واللحاق بركب الأمم المتطورة.
إن المقاومة الشرسة فاجأت الغزاة وفضحت أدواتهم غير المشروعة وكلفتهم خسائر مادية جسيمة ولم تساوم على حساب كرامتها ومبادئها وقيمها.
" المقاومة لا تقوم إلا على مفهوم الجبهة الوطنية المتحدة و"الجمع بين الفرق" وليس "الفرق بين الفرق"، التعددية على مستوى النظر والواحدية على مستوى العمل. الحق النظري متعدد والحق العملي واحد. وقد قامت الحركة الوطنية في فيتنام وكوبا على هذا التصور. وكانت كل مقاومات الاحتلال جبهات وطنية متحدة في فرنسا أثناء الاحتلال النازي وفي الجزائر أثناء حرب التحرير وهو أحد مكتسبات المقاومة الفلسطينية، ثورة الاستقلال في نهاية عامها الأول..."[7]
لا ريب أن المقاومة حق مشروع وخطوة رئيسية على طريق الإصلاح الديمقراطي والنهوض الحضاري لأنها صرخة حق في مواجهة الظلم والاستكبار، إنها ثورة في وجه العدوان ونصرة للمظلوم. إن الجهاد واجب مقدس ضد الاحتلال الامبريالي الصهيوني في العراق وفلسطين ولبنان، فإذا كنا جزء لا يتجزأ من أمة عربية إسلامية واحدة، تاريخها واحد ونضالها واحد ومصيرها واحد فإن "ما أخذ منا بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وإن الحق بغير القوة ضائع وان أمل السلام بغير إمكانية الدفاع عنه هو استسلام".[8]
إن نقاط المقاومة وبؤرها مشتتة تختلف كثافتها حسب الزمان والمكان وهي كذلك موزعة في الوطن بطريقة لا انتظام فيها. في غالب الأحيان نجد أنفسنا أمام نقط مقاومة متحركة مؤقتة تقحم في المجتمع صدعا متنقلا فتعدد وحدات وتضم شتات جماعات وتحدث انفصاما في الأفراد ذاتهم وتشتتهم وتعيد صياغتهم راسمة على أجسادهم ونفوسهم أمارات ومناطق لا تمحي.
إن تبعثر نقاط المقاومة هو الكفيل باختراق التراتبيات الاجتماعية وبتذرية الوحدات الفردية، انه يحدث انفصاليات كبرى وجذرية وانقساما ثنائيا هائلا ، عندئذ عندما تقوم جماعات وأفراد ويهبون هبة رجل واحد ليواجهوا بصفة نهائية موجات الطوفان وليتحدوا جحافل الجراد التي تغطي الأفق، من أجل أن يوقظوا بعض المناطق من الجسد وأن ينعشوا بعض اللحظات من الحياة ويحيوا بعض أنواع من السلوك والتصرفات اللازمة للانتفاضة والمواجهة والتصدي فأن لا صوت يعلو على صوت المقاومة والصمود. ما من شك أن التنظيم الاستراتيجي لهذه النقاط الرافضة والبؤر الملتهبة هو الذي يجعل مشروع المقاومة العادلة والدائمة ممكنا.
إن فلسفة المقاومة تقاوم بدورها وتنتج مواجهات مع ثقافة الهزيمة وفكر الاستسلام ومع الفلسفات البائسة تلك التي تقوم بإخضاع الفلسفي لإكراهات غير فلسفية وتسبب البربرية والكارثة والجحيم بالنسبة للإنسانية والمعمورة، إذ" ليس ثمة بربرية غير فلسفية"، فالانفتاح والتسامح والعيش الكريم كلها إيديولوجيا العولمة ما انفكت تنتج الظلم والقهر والفقر للآخر،كما أن التنوير قد أدى إلى الاستعمار، أما كوننا مواطنين إمبراطوريين نعيش اللاوطنية الجذرية بعد فشل مشروع الدولة الأمة وبروز السياسات ما بعد القومية فهذا أضغاث أحلام الليبرالية الجديدة ومن تحالف معهم من طفيليين ومحافظين جدد.
على خلاف ذلك تؤكد فلسفة المقاومة على أحقية الإضراب بالنسبة لكل فيلسوف وعلى ضرورة مرابطته ومآزرته للشعب، "فأن نتفلسف هو أن نبدع وأن نبدع هو أن نقاوم ماهو سائد" (دولوز/غتاري)، كما أن "الحق في التفلسف هو الحق في المقاومة وهو كذلك الحق في المواطنة والانتماء"(دريدا). الكف عن حراسة الماضي والتوقف عن الدفاع عن الميراث والشروع في صنع المستقبل باستثمار الحاضر وتوظيف التراث توظيفا ايجابيا تلك هي المهمة المناطة بالفلسفة العربية من حيث هي فلسفة مقاومة وذلك هو الأمر القطعي الذي ينبغي أن يتمثله الكاتب عندنا إذا ما أراد أن يكون قارئ رسالة الإسلام وطبيب للحضارة الشرقية.
إن الكتابة بلغة الضاد هي من أجل هؤلاء الأميين الذين بدأت انطلاقتهم بالامتثال للأمر القطعي: اقرأ، وان الكلام والجهر بالقول والمناداة بأعلى الصوت هو من أجل المصابين بالعي والذين في قلوبهم مرض وان التفكر والتعقل والتدبر هو من أجل فاقدي الرشد وعميان البصيرة. إن الكتابة الملحمية لا تفيد معنى تشبيهيا بل قضية صيرورة إذ ليس المفكر العربي اليوم معتوها أو لاواعيا أو أميا وإنما يصير كل ذلك ولا يكف عن فعله هذا وينتزع نفسه من حالة احتضاره ويبعث من رماده. فنحن كعرب لا نكتب فقط من أجل حاضرنا وماضينا ومصيرنا بل نكتب ونفكر من أجل الآخرين أنفسهم حتى نصير كائنات أخرى. إن الآخر حاضر دائما في الفكر العربي الإسلامي لا نتيجة شفقة وإنما كمنطقة للتبادل معه حيث ينتقل شيء ما من هذا إلى ذلك.
إن الإبداع الفلسفي يكون بمطابقة الفيلسوف العربي لعصره وضمان الاستمرارية للفكر الفلسفي الإسلامي في عصور إزدهاره وإعادة الاعتبار للحركة الفكرية الأولى التي نشأت وازدهرت في بلاد المشرق بين القرنين الثالث والخامس الهجريين أي التسع والحادي عشر الميلاديين وذلك مع الكندي (796-873م) والفارابي (870-950م) وابن سينا (980-1037م) وعرفت مفكرين أحرارا مثل أبوبكر الرازي وابن الراوندي والتوحيدي والمعري والسجستانى والرازي والتي شهدت دفعة جديدة في الأندلس والمغرب على يد ابن باجة توفي (عام 1138م) وابن طفيل (1185م) وابن رشد( 1198م). وكذلك نفض الغبار عن الحركة الفلسفية الثانية التي انطلقت في المشرق من مدرسة ابن سينا الإشراقية والتي مثلها السهروردي والطوسي والشيرازي.
غير ان الفيلسوف العربي لا يبدع بقدر عودته إلى الماضي وابتعاده عن تاريخ الفلسفة الراهن بل بقدر الاندراج فيه والانخراط في القضايا التي يطرحها على الإنسانية ويهتم بما هو كوني universel. إنها علاقة الاحتكاك التي تكون بها الفلسفة العربية مع اللافلسفة ومع اللامعقول وتنحت بها هذه الصيرورة المزدوجة التي تشكل شعب المستقبل والأرض الجديدة للفكر. فعلى الفيلسوف العربي أن يصير لا فيلسوف حتى تصير اللافلسفة أرض الفلسفة العربية وشعبها.
"إن الفلسفة بالمعنى الواسع للكلمة أنجزت وتنجز إعادة أقلمتها ثلاث مرات: مرة في الماضي في إطار اليونان والشرق ومرة في الحاضر في إطار الدولة الديمقراطية الغريبة ومرة في المستقبل في إطار الشعب الجديد أو الأرض الجديدة للفكر"[9] وهي أرض العروبة والإسلام وفى مرآة المستقبل هذه يتغير شكل الفلسفة عما كان عليه عند الإغريق والغرب بطريقة متميزة لأن الصيرورة هي التي تقذف من تحت الإغريق والدول الغربية شعبا وأرضا جديدة لعالم لا يعرف النهاية ودائما في طور إنجاز نفسه. أليس من صميم التفلسف والفلسفة أن يصير الفيلسوف أجنبيا عن نفسه ولغته الخاصة وأمته؟ أليس هذا هو أسلوب الفلسفة العربية المعتاد في أن تترحل دائما خارج أرضها لتعود إليها؟
إن الشعب الجديد للفلسفة يكمن داخل المفكر نفسه بوصفه صيرورة شعب،إذ بقدر ما يكون المفكر داخلا في الشعب فإنه يغدو صيرورة لا تقل محدودية منه وليس في استطاعة المفكر أن يخلق شعب بأكمله بل كل ما في إمكانه هو مناداته بكل قوة وحثه على المجيء ولا يمكن للشعب أن يخلق ذاته ويهتم بالأجيال إلا تحت الآلام المبرحة والمخاض العسير وكذلك لا يستطيع أي شعب أن ينشغل بالفلسفة إلا في هذه الوضعية القصوى كحالة المعاناة والتدهور والحرب.
لذلك ينبغي أن تحتوي كتب الفلاسفة العرب على قدر يصعب تحمله من المعاناة تجعلنا نستشعر مجيء شعب يشاركها في هذه المحنة وينخرط معها في المقاومة -مقاومة الموت والعبودية والعار والخيانة- للتصدي لما هو مرفوض كليا، التصدي للعنصرية والبربرية والطغيان والفاشية والشوفينية.
إن عار الإنسان بإنسانيته لا يعانيه في الحالات القصوى العرب والمسلمون ولا مواطنو العالم الثالث وحدهم وإنما يمتد إلى جميع سكان العالم لمعايشتهم ظروف تافهة من ابتذالية الحياة وانحطاطها. يشكل هذا الشعور بالعار والإحساس بوطأة الفضيحة وتوبيخ الضمير وطلب الشفاء والتطبب من الدوافع القوية لإبداع الفيلسوف المقاوم عندنا وفي أنحاء المعمورة، فالفيلسوف باعتباره طبيب للحضارة ومبتكر لأنماط جديدة ومحايثة للوجود هو وحده الذي يشخص هذه الصيرورات داخل كل حاضر يمضي ويعمل على التصدي للقيم الزائفة ويواجه أشكال الحياة المرتهنة بالسوق والاستهلاك وتجارة النفط والسلاح، فإذا كان من اللازم أن تكون الفلسفة العربية فلسفة مقاومة وصمود لماذا تساقطت في تاريخ لم تأتي منه أو بالأحرى لا تأتي منه إلا لتغادره؟
إن الفلسفة العربية تحتاج في الحقيقة إلى لافلسفة تفهمها وما ينقصها هو فهم لافلسفي لكي يكتمل فهمها لنفسها، إنها ينبغي أن تتجاوز لحظة الحديث عن البداية والنهاية وتركز إنتباههما على لحظة من صيرورتها أو من تطورها إذ تصبح مدعوة للزوال ما إن تتحقق. لهذا تحتاج الفلسفة عند العرب وفي دار الإسلام وفي دول الجنوب إلى مسطح المحايثة لاقتطاع جزء من السديم يغوص فيه الدماغ البشري ليستخرج منه ظل الشعب الآتي حتى يستدعيه الفكر الحر إذا أراد أن يوقف نكبته الوجودية الكبرى وينقذ نفسه من المؤامرة المطلقة التي تشنها الامبريالية الحضارية.
من هذا المنظور ليست فلسفة المقاومة كلمة تقال بل هي شهادة على العصر والتصريح بالحق والفصل بينه وبين الباطل وهي كذلك حكم على الواقع ثم الكشف عن حقيقته والفيلسوف المقاوم هو هذا الشاهد على العصر والشهيد من أجله والمشهود له بالانتصار إلى الحق، فليست الشهادة فقط إظهارا للواقع على أنه حقيقة بل هي أيضا فعل شعوري يعبر عن وجود الفيلسوف ووفائه للحقيقة وتمسكه بالمبدأ وتحمله المسؤولية في كل حالة ويكون الفيلسوف "رسول" الحق و"نبي" العصر إذا حقق رسالة الفلسفة، فماهي رسالة الفلسفة حتى تكون شهادة؟ وما هو دور الفيلسوف حتى يكون شاهدا وشهيدا ومشهودا له؟
من البين أن الفلسفة ليست مجرد عرض النظريات ونشر الثقافة والإطلاع على الحقائق لتغطية الواقع وتغليفه بها بل هي كشف الواقع وتعريته وفضح أشكال التشويه والاستغلال التي يتعرض لها الناس في هذا الواقع، اذ "ليست رسالة الفكر الحديث بلغة العلماء، عرض النظريات على المستوى العلمي الخالص... (بل) هي التعبير عن الواقع بأسلوب مباشر يفهمه الواقع نفسه ويؤثر فيه"[10].
على هذا النحو فإن رسالة الفلسفة هي إبداع المقاومة والانخراط في مجاهدة النفس ومغالبة أهوائها والقيام بأفعال مناورة وتصدي وصمود بالتحليل المباشر للواقع وعرض الواقع بنفسه كحركة وفكر وانتقال من طور إلى آخر. إن هدف الفلسفة ليس تفريغ الواقع من مضمونه وتصريف طاقاته هذرا وتمييع انتفاضاته واستغلال نقاط قوته لإعادة إنتاج الوضع الساند، وليس مشروع المقاومة تسكين الواقع وتجميل أوضاعه المأساوية وتزينها لغاية الإبقاء عليه والمحافظة عليه كما هو بإشباع حاجاته الثانوية وامتصاص أوجاعه بالتعبير المكبوت عن معاناته و"التردد بين التذمر المكبوح في الحلقات الخاصة والرضا الفاضح والموافقة العلنية في الواجهات الاجتماعية والحلقات العامة".
إن رسالة فلسفة المقاومة هي بلوغ مضمون الواقع وتطويره وجر عجلة تنميته إلى حدودها القصوى والمساهمة في دفع حركته التحديثية نحو الأمام بالتصدي للخيانة والعار ورفض المساومة والابتزاز وكل أشكال الاستقالة والتنازلات، لذلك تظهر فلسفة المقاومة كفلسفة رفض واعتراض وتمرد وعصيان.عندئذ يستطيع الفكر العربي اليوم أن يرفض ويعترض وأن يثبت وجوده بالنفي والسلب والاحتجاج والتحطيم والمجاهرة بالحق.
لقد آن الأوان أن يبحث الفيلسوف المسلم عن دور له في المجتمع وأن يدير بنفسه شؤون المدينة وأن يتحكم في مصيرها ويتحمل مسؤوليته في ذلك. آن له أن يفضح مظاهر الاضطراب الفكري والهشاشة النظرية والضعف التأسيسي وكل أشكال الاغتراب الثقافي وأن يعي أزمة الفلسفة عند العرب وأزمة حضارتهم ويبذل الجهد لتجاوزهما. علاوة على ذلك "تقتضي ثقافة المقاومة تحديد الصلة وظيفيا بين الوحي والواقع وأنماط وطرق وآليات تغييره وكيفية إدارة الصراع مع المشركين والمنافقين والحانثين بالعهود مثل اليهود حتى تقوم ثقافة المقاومة على منطق الجدل ولا يوجد كتاب يمكن أن يستنبط منه حكم بتحريم الصلح مع "بني اسرائيل" مثل القرآن الكريم.."[11]
إن الفيلسوف العربي اليوم هو المفكر الشاب الذي استطاع أن يعي تراثه وأن يبصر واقعه وان يشخص أزماته ويفهم طبيعة التحديات ويوفر الشروط لتجاوزها وأن يدفع بمجتمعه إلى التكاتف والنهوض والتقدم. ولا بد أن يحترس من المخاطر والإغراءات التي تمنعه من تحقيق مناطه سواء كانت خارجية مثل إغراءات السلطة وإرهابها وغواية المناصب وشهوة كسب المال وحب الشهرة والمجد أو كانت داخلية مثل التطلع والتكسب والانعزال والهجرة والتصوف وان يلتجئ إلى الحوار واللغة باعتماد الكلام المسموع أم المقروء في التعبير وأن يراوح بين تأليف الكتب وإنتاج المقالات ويجمع بين التخصص الدقيق والثقافة العامة وأن ينتقل من مجرد عرض النظريات الفكرية إلى تحليلها وتفكيكها ونقدها وإعادة تركيبها في ضوء العصر وبالاتفاق مع أصول التراث وأن يجمع بن الإصلاح والتنوير والثورة والتغيير من خلال التضافر بين النضال المسلح والمعارك الفكرية تصديقا لائتمار اللوغوس بالكلام والسيف بالقلم مع نبذ التشاؤم والحث على التفاؤل وذلك بفتح الآفاق ونبذ الانفعالات السلبية والقوى الارتكاسية وتنمية الانفعالات الايجابية وتطوير القوى الفاعلة.
فهل من ضرورة لكي نتفلسف نحن العرب اليوم؟
" يجب أن نفهم ماهو هدف شعب ما أو أمة ما. فإذا كان الهدف يتمثل في أن نعيش فقط بين الأمم لا غير فلا ضرورة هنا إذن للتفلسف بما أننا سنستهلك أفكار غيرنا وعلوم غيرنا وتكنولوجيا غيرنا ونستهلك إن شئنا كل ما نريده مستوردا من غيرنا. أما إذا أردنا أن نكون فاعلين في عالمنا هذا وأن تكون لنا في الآن نفسه إرادة الحياة وإرادة القوة فعلينا أن نتعلم العلوم لنحذقها ونسيطر على التكنولوجيا لنستعملها أحسن استعمال من ناحية ولتكون لنا فيها إضافات من ناحية أخرى. وكل ذلك يستدعي أن نرتقي بالفكر إلى أعلى مستواه أعني التفلسف. ولكن التفلسف يفيد التعقل بيد أن التعقل لا يفيد الاستسلام ولا الاستكانة بل هو نضال يومي ومقاومة مستمرة ضد الاستبداد وضد كل اللامعقول في العالم. إذن التفلسف ضرورة ملحة لنا لأنه مجلي إبداعنا في ميادين العلم والفكر والمعرفة."[12]
من هذا المنطلق تقوم الفلسفة العربية على الفعل والتعقل والنظر والعمل وعلى الإيمان بالواقع والتجربة والنظر إلى التاريخ والإنسان على أنهما مضمون الوحي وغاية الخلق وتؤمن هذه الفلسفة بالعقل وترفض الأسرار والطلسمات المؤدية إلى الفناء والغيبوبة وتستثمر الحدوس الإشراقية والخيال الخلاق في إنشاء النظريات العلمية وتلتزم بنظام الطبيعة وتحترم نواميس الكون وتربط الفكر بالأرض والجهاد بالمقاومة وتسبق الكفاح على النواح لأن:
"السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحدّ بين الجد واللعب".
إن مادة الفلسفة العربية ليس موجودة في كتب الطبقات التراثية الصفراء والفهارس والتفاسير والموسوعات بل حية في النفوس ومبثوثة في العقول ومستخلصة من الواقع ومازالت تحث على العمل وتدعو إلى الجهاد وتمثل سندا أخلاقيا وروحيا للمقاومة والرفض، وفي هذه ينبغي أن نرفض أن تكون الفلسفة العربية مجرد تأمل أو بناء نظري بل هي مقاومة ونظرية في الثورة وهو معنى الإحساس بالرسالة والاستماع إلى الصوت المرسل إلينا وتحمل المسؤولية إزاءها والتضحية من أجلها والاستبسال حتى يقع تطبيقها على أرض الواقع.
لننصت إلى أبي نصر الفارابي ماذا يقول عن ذلك التكليف الذي بعهدة الفيلسوف الحق:
"ليس ينبغي للفاضل أن يستعجل الموت بل ينبغي أن يحتال في البقاء ما أمكنه ليزداد من فعل ما يسعد به ولئلا يفقد أهل المدينة نفعه لهم بفضيلته وإنما ينبغي أن يقدم على الموت إذا كان نفعه لأهل المدينة بموته أعظم من نفعه لهم في مستقبل حياته..."[13]
هكذا يلتقي كل من الأدب والشعر والفلسفة والدين في هذه النقطة أي في تأسيس أرض وشعب جديدين للفكر كأمرين ملازمين للمقاومة والإبداع وهكذا ينادي الكاتب لهذا المستقبل الجديد ولهذا الشعب ولهذه الأرض بالظهور والبروز والقدوم. إن العار قد دخل إلى الفكر في أسوء لحظة عندما سقط في حضيض التقليد وتعرض للغزو الغربي والاستعمار الصهيو-أمريكي فأصبح مولع بتقليد الغالب ومحاذاته حذو النعل بالنعل وضاع بين مسالك إعادة الأقلمة الفاقدة لمعالم توجيهية فأخطأ الشعب والأرض اللذان ينبغي أن ينادي عليهما بالمجيء. إن العرق المنادي به ليس هو العرق الذي يدعي نقائه حتى وإن كان العرق العربي وإنما هو العرق المقموع المضطهد اللاشرعي النمط الفوضوي المترحل والقاصر دون أمل في إصلاحه.
صحيح أن فلسفة المقاومة شأن خاص بالعرب والمسلمين اليوم لأنهم هم وحدهم في الواجهة وهم وحدهم على مرمى حجر من النار ولكنها فلسفة ذات منزع كوني تطمح إلى أن تكون أممية جديدة تعلم العالم قيم الصداقة وحسن الضيافة والجيرة الطيبة والمروءة والكرم ونجدة المظلوم وإغاثة الملهوف ونصرة المحتاج وتنصح الذين ظلموا أنفسهم بضرورة احترام الإنسانية في كل شخص.
إن الساعة قد حانت لنتساءل عما هي الفلسفة العربية الإسلامية ونبين أنها بحاجة إلى توضيحات ومراجعات من قبل شخصيات مفهومية ورموز مجاهدة ونقاط مقاومة تساهم في تحديدها وحسم الخلاف بشأنها وتوضيح معالم رسالتها. من هذه الزاوية يشكل المتوحد الصديق واحد من "إخوان الصفاء وخلان الوفاء" عين مثال على قيام الفيلسوف المرابط عندنا، "فالنابت" هو هذا الشخص الذي يشهد على أصل عربي لحب الحكمة لأنه إذا كانت الحضارات الأخرى تتوفر على حكماء فإن العرب أكدوا موت الحكيم واستعاضوا عنه بالفلاسفة أصدقاء الحكمة المتدربين على الموت والمتفننين في تعقل أمر الوجود. لكن يا ترى هل أن هذا الشيخ المجاهد الذي يفكر عبر القصص وعن طريق الصور ويعيش منتظرا قدوم الآخرة هو حقا صديق الحكمة؟
إن السؤال مهم مادام الصديق لا يعني شخصا خارجيا،ولا مثالا متعاليا أو ظرفا تجريبيا وإنما مقولة حية وتجربة معيشية تنبذ الحضور داخل الفكر كشرط لإمكانية إبداعه، لقد أجبر العرب الصديق مع انبثاق القول الفلسفي على تجاوز العلاقة مع الذات والآخر وإقامة علاقة مع الكوني والكلى والماهوي.لكن ما معنى الصديق حينما يصبح شرطا لممارسة الفكر مع العرب؟ أليست الفلسفة العربية حوارا حرا بين الأصدقاء تحت الشكل المختصر لصراع الأجوبة مع الأسئلة؟
لنر الآن ما إذا كان مقام الإنسان في العالم اليوم هو مقاما إمبراطوريا تحكمه سلطة ليست لها حدود ولا مركز ولا إقليم تنهج نهج الحرب المترحلة وتعتمد سياسة الفوضى البناءة وما اذا كان العربي قادر أن ينحت من كيانه "شخصية الفرد المقاوم Individu Résistant وأن يعزم على إنتاج إمبراطورية مضادةContre-Empire وينشر عولمة انسانية عادلة وبديلة؟"[14]
لكن هل يمكن أو هل يجب اعتبار الفلسفة المستقبلية بالمعنى الواسع للكلمة عربية اسلامية؟ كيف يحلّ القرآن محل اللوغوس الإغريقي ليغير من دلالة الفكر ووجهته ويجعله يفكر بشكل مختلف عبر الصور؟ وكيف تنزع لغة الضاد الحجاب عن كبد الحقيقة وتميط اللثام عن معنى المعنى من اللغات الآمرة الأجنبية الأخرى؟
إن الإسلام قدم صورة جديدة للفكر الفلسفي ورسم مسطح آخر للمحايثة ووهب مادة جديدة للكينونة ولعل كبار الفلاسفة في الإسلام ليسوا تقريبا سوى "رسل" يبتعدون ويقتربون من لغز دوار المحايثة التي غدت سجنا لا يخلصنا منه إلا الإلهي المتعالي. لقد "جاء الإسلام كي يحدث ثورة في حياة العرب ، ثورة المستضعفين، الفقراء والعبيد ضد المستكبرين والأغنياء والسادة. وأسس نظاما يقوم على البيعة العامة واختيار الناس لإمامهم فالإمامة عقد وبيعة واختيار..."[15]
أضف الى ذلك أن اللغة العربية يمكن أن نعترف لها بالقوة في أن تكون أداة لأفكار ذات قيمة شمولية بالقياس إلى الماضي الحضاري التي كانت فضاء التعبير الثقافي عنه. إن الفيلسوف العربي لابد أن يعمل من أجل تقوية وضع اللغة العربية من أجل اكتسابها القوة التي بفضلها تسمح للفلسفة من الإبداع والتكاثر والانتشار والتأثير وتتبادل هذا التأثير مع أفكار فلاسفة آخرين والتواصل معهم.
إن كانت المحايثة في الإسلام هي أرض المولد بما هي وطن الفكر الجديد ألا نكون بذلك قد أوشكنا على الانتقال إلى مسطح جديد مغاير للمسطح الإغريقي والمسطح الغربي الحاضر فنجد أن الصداقة قد أصبحت كالمزاحمة والبغضاء والتنافس غير النزيه شروط توليدية للفلسفة وقد غدا الحب كالعنف هو الذي يكرهنا على التفكير ويحثنا على التوجه نحو الفكر.
وإن حرم الفيلسوف العربي من أن يكون محاميا عن إنسان مهدد في كل مكان فلم لا يسمح له كما كان في الماضي أن يكون قاضيا ملتزما بأحكام العدالة الإلهية دائما وأبدا؟ وهل سلطة الفيلسوف هي سلطة المدعى أم سلطة المشتكي؟
لا تهدف الفلسفة العربية إلى المعرفة فالمسلم يعرف بالفطرة وعن طريق الشرع كل شيء وليست الحقيقة هي التي تستوحيها هذه الفلسفة فالحقيقة موجودة والشيء لا يمكن معرفة حقيقته قبل إنجازه وبنائه بل تسعى هذه الفلسفة إلى مقاومة العار الذي لحق بالإنسانية نتيجة الدمار الذي خلفته وحشية الفرد الغربي الذي أخذته العزة بنفسه فنسي نفسه واستكبر في الأرض ولم يعد يهمه في الأرض أحد. من هنا فإن مقصدها الأسني هو الفعل والعمل والممارسة خصوصا و"إن الكوجيتو الإسلامي ليس "أنظر تجد"[16] بل هو كوجيتو فاعل أي ليس ذات عارفة أو فكر متأمل فحسب بل "إني عامل" أو"قل اعملوا"، يعطي الأولوية للعمل على النظر وللوجود على الفكر"[17].
زيادة على ذلك" كان خلق الأفعال عند المعتزلة أي قدرة الإنسان على الفعل سابقا على العقل والنقل في أصل العدل. الإنسان يفعل أولا ثم يعقل ثانيا."أنا حر فأنا موجود"، الكوجيتو العملي سابق على "أنا أفكر فأنا إذن موجود"، الكوجيتو النظري."[18]
إن الفيلسوف العربي سيغدو بشخصيته الفريدة شيئا آخر وعنصرا غير متوقع يتخذ حجما تراجيديا وساخرا لا يصنعه بمفرده بل يساهم في صنعه الرأي العام انه فارس الإيمان، المراهن الذي يلعب النرد والمشدود بحبل الآخرة إلى المتعالي الذي لا يكف عن إعادة شحن المحايثة بنظام تواصل، انه فيلسوف مقاوم للعولمة الظالمة التي تصدر الحروب والإرهاب المؤسس وتعمم الفقر والتعسف.
المقاومة فعل وممارسة وعمل ولكنه:" ليس العمل الأهوج غير المدروس، العمل العشوائي الارتجالي والذي أدي إلى هزيمة يونيو حريزان 1967 بل هو العمل المخطط المدروس الذي أدى إلى عبور القناة واقتحام خط بارليف عام1973. هو عمل المقاومة في جنوب لبنان والذي استطاع تحرير الجنوب من احتلال دام ما يقرب من العقدين من الزمان. هو عمل المقاومة الفلسطينية والعمليات الاستشهادية التي قضت على نظرية الأمن بالقوة والسلاح في الكيان الصهيوني. هو عمل المقاومة في الجزائر أثناء حرب التحرير الوطني وعمل المقاومة في فيتنام، السراديب والصواريخ ضد أعتى آلات الحرب الفرنسية أولا والأمريكية ثانيا. العمل هو عمل التدبر والروية، العمل الشعوري الواعي الذي يقوم على النية وقدرة العقل على التنظير والتخطيط للمستقبل والإعداد له"[19]
هل بقي مجال للتشكيك في إمكانية قيام فلسفة عربية إسلامية في ثوب الصمود والمقاومة؟
فبأي معنى يمكن أن نعتبر العرب غدا إقليم الفلسفة المقاومة والإسلام ارض الفكر المناضل مستقبلا؟ أليست المقاومة من حيث هي فهم الماضي ونقد الحاضر وبناء المستقبل هي قدر العرب والمسلمين إذا ما أرادوا أن يستأنفوا التقول الفلسفي بشكل عالمي؟

المراجع:
Antonio Negri. Michael Hardt Empire Traduit par D.A.Canal، Paris. Exils Editeur 2000.
Edgar Morin ، la méthode . 2. la vie de la vie. Paris، Ed Seuil 1980.
- أبو نصر الفارابي: فصول منتزعة ، دار المشرق ص. ب: 946 بيروت لبنان.
- جيل دولوز + فيليكس غتاري: ما هي الفلسفة ترجمة مركز الإنماء القومي/ المركز الثقافي العربي طبعة1997.
- روجي غارودي: حفارو القبور، منشورات عويدات بيروت 1993.
- ميشيل فوكو: "جنيالوجيا المعرفة " ترجمة أحمد السطاتي / عبد السلام بنعبد العالي دار توبقال الدار البيضاء 1988.
- فخته: نداء إلى الأمة الألمانية 1808.
- فتحي التريكي: حاوره حكمت الحاج مجلة "ايلاف" 2003.
- طه عبد الرحمان: فقه الفلسفة – القول الفلسفي المركز الثقافي العربي الدار البيضاء 1999.
- حسن حنفي: ثقافة المقاومة مجلة المستقبل العربي 2/2006ص 94/95عدد 324.
- حسن حنفي: من النص إلى الواقع، مركز الكتاب للنشر مصر الجديدة، ط1 القاهرة 2004.
- حسن حنفي وأبو يعرب المرزوقي: النظر والعمل والمأزق الحضاري العربي الراهن دار الفكر المعاصر دمشق سورية 2003.
- حسن حنفي: قضايا معاصرة في فكرنا المعاصر، دار الفكر العربي طبعة ثالثة القاهرة 1987.





[1] فخته نداء إلى الأمة الألمانية 1808 يقول أيضا :"إنني ليست من هؤلاء العلماء المحترفين,إني لا أستطيع أن أعيش على التفكير فحسب بل أريد العمل...إن علي واجب إذن أنا موجود"
ميشيل فوكو "جنيالوجيا المعرفة "ترجمة أحمد السطاتي / عبد السلام بنعبد العالي دار توبقال الدار البيضاء 1988[2]
[3] روجي غارودي، حفارو القبور، منشورات عويدات بيروت 1993 ص69.
[4] Edgar Morin la méthode 2. la vie de la vie Ed Seuil1980 P450
حسن حنفي ثقافة المقاومة مجلة المستقبل العربي ص98 2/ 2006عدد 324[5]
نفس المرجع ص98[6]
نفس المرجع ص99[7]
من خطابات المصلح القومي الكبير جمال عبد الناصر.[8]
[9] دولوز + غتاري. ما هي الفلسفة ،ص122
[10] حسن حنفي. قضايا معاصرة, دار الفكر العربي طبعة ثالثة القاهرة 1987 ص13
حسن حنفي ثقافة المقاومة مجلة المستقبل العربي ص102 2/ 2006عدد 324 [11]
فتحي التريكي حاوره حكمت الحاج مجلة ايلاف2003[12]
[13] أبو نصر الفارابي. فصول منتزعة تحقيق فوزي متري نجار (فصل(77 ص 84
[14] Antonio Negri. Michael Hardt Empire Traduit par D.A.Canal, Paris. Exils Editeur 2000 p20.

حسن حنفي ثقافة المقاومة مجلة المستقبل العربي 2/2006ص 94/95عدد 324[15]
ترجمة طه عبد الرحمان في كتابه فقه الفلسفة للكوجيتو النظري الديكارتي: أنا أفكر إذن أنا موجود ص22.[16]
[17] حسن حنفي: من النص إلى الواقع، مركز الكتاب للنشر مصر الجديدة، ط1 القاهرة 2004 ص22.
أبو يعرب المرزوقي و حسن حنفي النظر والعمل والمأزق الحضاري العربي الراهن دار الفكر المعاصر دمشق سورية 2003ص293[18]
نفس المرجع ص293/294[19]

قيام المقاومة.

AL-MADA Daily Newspaper...جريدة المدى

المدى الثقافي



استعـادات بغــــــداديــة
لا تكتفي هذه الكتابة باستعادة روح المكان، إنها تعيد اكتشاف لحظتنا الراهنة فيه، في المكان الذي بتنا بعيدين عنه، برغم إقامتنا فيه، في غمرة تيهنا في هذه اللحظة الراهنة .
ربما لن تسعفنا الفلسفة، ونحن هنا نجد مقاربة بين المكان بوصفه زمناً ماضياً وبين الراهن بوصفه مكاناً للتيه.
لن تسعفنا الفلسفة كثيراً ، حين نكون في تماس مع أشد المشاعر الإنسانية رهافةً: الإنسان بوصفه روحاً تسعى، والمكان بوصفه ذكرى وحياة تعاش.
هذه الكتابة التي يقدمها قاسم محمد عباس بحرارة جارحة تضعنا في بغداد . ولكنها بغدادتان .. بغداد بمكانين ، وبغداد بزمانين، غير أن امتياز هذه الكتابة هي قدرتها على دمج المكانين والزمانين في جوهر واحد ، ليس هو بالمكان ولا هو بالزمان. انه بغداد التي نحب ، بغداد التي تتسرب من بين أيدينا في دهاليز يومها العنيف، والتي تعود فتلتحم في أرواحنا ، في أشد مواضعها سرّية ووجداً

عبد الزهرة زكي

قاسم محمد عباس
تصوير: نهاد العزاوي

ما كانت عليه الوزيرية
لكي أفهم الحياة العامة في بغداد، وحياة الجموع والنخب البغدادية عامة،ومنها وقائع حياة القادمين اليها، وتقدير جموح هذه المجموعة التي لا يمكن نكران دورها الحقيقي في صنع جانب مهم من شهرة بغداد ثقافياً ومكانياً، يجب أن نحاول تقويم الأهمية المتفاوتة للطبقات التي وفدت لبغداد، لمساهمة هذه الطبقات بإنعاش تاريخ المدينة انسانيا، وتقديم دفقات ابداعية تسببت بظهور زوايا وأمكنة، ومقاه، وملتجآت، وقيم مكانية نادرة، بل حتى إحياء مناطق كانت ميتة قبل ذلك.
ثمة حقيقة عليّ التعرض لها قبل مواصلة الكلام عن المساحة التي تمتد من أول شارع المغرب وحتى الباب المعظم، حيث لا معنى لهذه الاماكن لو جردت من مؤسسيها، او ابعاد علامات شخصية شكلت جوهر المشهد العام الذي استقر عنها في الذاكرة.
فإنها لا تزال أمكنة استثنائية ماثلة في أذهان بقية الأعراب،الذين وفدوا إليها من تونس والمغرب والجزائر والاردن، الأعراب الذين وجدوا فيها مدينة مجنونة تارة، وتارة أخرى مكانا تنتشر فيه القصائد، وغيرهم وجدوا فيها فضاء تمتزج فيه العصور،حيث تستحضر المدينة بجانبيها أزمنة ووجوهاً ونهايات وبلايا ومحناً وأبطالاً وعشاقاً وقتلة، وتستقبل المنبوذين من الشرق والغرب.
وما سعي من يسعى لسلب هيبتها وتغيير سلوكها الا لأنها نور مقذوف من قلوب الملائكة، جسدها الله بدروب ونهر وضفتين حتى تبدت للرائي ليلا كأنها كأس من زمرد، فحجر القتلة لا ينقض جوهرها لوضربت، وحجرهم الخسيس لا يزداد قيمة بهذا الرمي.
قضيت سنوات طويلة في المساحة التي تمتد بين رأس شارع المغرب وبين ساحة الباب المعظم مرورا بكلية الفنون الجميلة وصولا لمقهى الجماهير في الكرنتينة، فما رأيت الرصافة الا بأسرار تلك البقعة، وما نظرت لاحياء دمشق وعمان والاسكندرية والقاهرة وغيرها، الا بعيني هذا المكان، حفظتني زمانا في طينها ومائها.اعود اليها هذه الايام فأجدها عارية، مكسورة، وصفرة الفتنة تجول فوق نوافذها وعلى واجهات بيوتها.
منذ منتصف الثمانينيات خطوت نحو الاشجار المتدلية من أسوار بيوتها، أدمنت مقاهيها، ورائحة اشجارها تطوح عند الغروب تلفح وجوه الغادين والعائدين منها.
وصلت اليها اليوم بعد الظهر وكان المكان خالياً من ساكنيه، ابواب موصدة، ركنت سيارتي قرب مدخل زاوية مكتشف المكان ومؤسسه الشاعر (حكمت الحاج) وسرت نحو عوالم راحت تتطاير روائحها ووجه (حكمت) يلوح في الأفق كروح تطوف في سماء المكان.

حكمت الحاج وشارع المغرب
وقصيدة المماحي
لم تكن هذه فكرتي أساساً وأنا اندفع في التمرد على العمل، وترك البيت منذ أسابيع، صباحا بحجة الذهاب إلى العمل، مستغلا الهدوء الممزوج بالخوف والتوقعات والاحباط الذي غالبا ما يدفعني،للخروج عن مساري، أدور منذ أيام مبتعدا عن فضاء مكتبة الوزيرية نحو بداية شارع المغرب، فما ان انعطف من أمام محطة الوقود التي تقع في الجهة المقابلة لشقة الشاعر (حكمت الحاج)،حتى تتبدى من بعيد صور وجوه تطوف في سماء الشارع، نظارات حكمت الحاج، ضحكة خالد مطلك، نظرات عبد الخالق كيطان، قصيدة المماحي للشاعر (وسام هاشم)،تنتشر كمرايا فوق رؤوس المارة، ونظرات ضياء العبدلي ترصد ما يتجلى في المشهد، اتوقف في مدخل الشاعر باحثاً عن اليافطة الداكنة اللون لكافتيريا (الخضراء)، اتبع خطواتي التي تسرع نحو مدخل الشقة تاركاً بقايا مقهى صغير، وبقية مطاعم ومحلات ورائي.
الهجران هي الكلمة الوحيدة المناسبة التي تنفع لوصف الجمال المباد لهذا الزقاق الذي تتصادى بين جدرانه ونوافذه قصائد ونساء، ومصائر وتحولات، اقف في مواجهة شقة الشاعر (حكمت الحاج)، لأجدها مكاناً بلا ملامح.الشعور بالانقباض الذي تخلفه صورة اطلال الشقة تشير إلى أن الامكنة لن تظل خالدة اطلاقاً، فلماذا تبقى هناك ذكرى جميلة؟ او ذكرى مطبوعة في المخيلة، هل لأنني عاجز الآن عن استعادة المكان كما كان، او كما يتكون في ذاكرتي؟ أم لأنني الوي عنق زمن تائه خال من أي متعة للاكتشاف.
هذه تتمة للوزيرية كما سماها (حكمت) وهي ليست بتتمة لها لأننا بالقرب من مدخل شارع المغرب، تحديدا خلف مبنى (الاتحاد الوطني للطبة) سابقاً. خطواتي الاولى في المكان برفقة الشاعر عبد الخالق كيطان وهو يقدمني للشاعر حكمت الحاج هاجسا وسبباً لا تكفيها هذه الظهيرة من ظهيرات بغداد المسلوبة النسغ والوجود لرثائها.
لا يمكن نسيان دهشتي لحظتها من الزقاق المزدحم، أغصان الاشجار المتدلية تمتزج بحركة المارة، الذين تداخلوا مع الوان واجهات المحلات المجاورة، فسحة من امتزاج الحداثة بالطبيعة ولكن بنوايا جافاها الخيال. بقايا بيوت بغدادية شيدت منذ الخمسينيات،وموائد طلابية، وجنود مستطرقين، وطالبات بملابس جامعية،وأغنيات بغدادية قديمة، خليط يصعب تذكر تفاصيله يحتشد في زقاق بغدادي ينشد بتناقضاته لمخيلة شاعر موصّلي اسمه (حكمت الحاج).
دخلت يومها الزقاق مدفوعا بصورة مسبقة عن علية المجتمع البغدادي، واضعا في نظر الاعتبار أنني سألتقي منظرا من منظري الحداثة الشعرية العراقية، لحظات قصيرة وطل حكمت الحاج الذي بدا كزعيم مذهب ديني اكثر منه شاعرا،خرج من صومعته بملابس فائقة الأناقة، حمالات ظهر، وبلوزة صفراء وبنطلون داكن،ووجه لا تميزه عن سيماء امبرتو ايكو،استقرت فوق أرنبة انفه نظارة صقيلة، يحمل كتابا ملون الغلاف نظر في وجهينا للحظات وقال: " لنجلس في المقهى فالمكان يعج بالكتب والملابس"... لانضم بعد تلك الجلسة في مقهى رأس الشارع لطائفة من المبتدئين كحلقة تطوق شخصية انسان مستوحد عذبه الشعر والحلم والتناقضات،أسس هذا المكان الذي صار لنا ملاذا او زاوية كاملة بشيخها وطريقتها ومريديها.
ارتبط هذا الشارع بحكمت الحاج وحده، ولا يمكن لأحد أن يزاحمه بهذا الحق، ولو قدر لي ان استعيد تلك المرحلة من تلمس الطريق وسط شعراء وكتاب ورسامين وتائهين ومطرودين، فأنني لا اقوى على فصل هؤلاء عن مكان اسمه (مكان حكمت الحاج).
حتى انني عندما دخلت في تجارة وأعمال مع الشاعر الحاج، توفر لي ان اعرفه أكثر من غيري، فلا يمكن لبغداد ان تذكر عند الادباء الا وحكمت الحاج يحضر كمنظر لجيلها الجديد.
فهناك جمع حكمت الحاج حوله جيلا من الباحثين عن سر الكتابة، ولو كتب تاريخ ما عن حركة المتأدبين والشعراء في رصافة بغداد وكيف تم تدريبهم وتعليمهم على فك أسرار الكتابة وتعلم فنونها، فلا بد من ان يخوض المؤرخ في فضل هذا الرجل الذي اسس لما يمكن تسميته بتهديم المركز باقتراحات الهامش، فقد حلل الرجل ظواهر وقيم وحقائق الحركة الادبية منذ أوائل الثمانينيات، وقدم بثقافته العميقة جيلا من المثقفين، استمدوا من قدرته وسلوكه ومعرفته الطرق والدلائل واساليب العيش الأدبي.
كنا نلتقي عصراً في المقهى القريب من شقته، حيث يتوسط احد المقاعد ورأسه يتدلى على صفحة كتاب يقرأ فيه ويدخن،اصل عند السادسة فنشرب الشاي، وانتظر ان يصل بقية الاصدقاء، لانني كنت اجده حاذقا محترفا في ايجاد الوسائل التي من شانها تدمير الوقت تدميرا رومانتيكيا.
علمنا ان المدينة عصية على الذوات الخائفة، وشوارعها لا تكشف عن أسرارها الا لمغامرين كبار، وكتاب تنفطر قلوبهم لصباحاتها الخفية.لا ينقشع الغبار عن متعها الا لصعاليك أباة، صعاليك متأنقين يمشون حفاة على زجاجها ليالي طويلة من أجل قصيدة مفقودة.
اعود بخطوات حزينة نحو المقهى الذي تحول لسوبر ماركت محلي مغلق بقفص حديدي، لا يمكن لحكمت الحاج الذي صرف سنوات طويلة من عمره وهو يؤسس ممكلته هناك ان يتخيل المآل الذي آل إليه شارعه القديم.. وإذا قدر لهذه المدينة أن تحيا وتستعيد عافيتها ذات يوم سيعود حكمت لتكملة كتابة رحلته الشهيرة لبغداد..اقتراح حكمت الريادي لبغداد، انه ليس بمستطاع سكان بغداد تلمس روحها واعادة تشكيلها في يوميات، ولو أكمل حكمت قراءته لبغداد لكان أسس خطاباً جديدا عن المدن العظيمة تاريخياً.
فالوقوف في الأماكن عند حكمت الحاج يشبه المحافظة على عبادة نابعة من اخلاص لمراحل نضج المكان وبلوغه ورشده ومساعدة المكان للانعتاق من أسار هويته الدارجة التي يسجنه فيها أهل بغداد، فحكمت القادم من جذور الدولة العثمانية وبلاد الشام يعي تماما ان رحلته لبغداد ليست رحلة في كتب الشعر والوجوه وحسب، فبوصول حكمت لبغداد في تاريخ غير معلوم للكثير من شعراء بغداد، هو حضور شخصية فذة لأول مرة في واحدة من عواصم الشرق الكبرى، رحلة دخل فيها حكمت الحاج حياة تقوم على حقيقة التيه الانساني والابداعي، وقسوة حياة يتقاسمها التقشف والكتابة وفوبيا مزمنة من بطش نظام يضع الغرباء قبل غيرهم تحت الضوء.
استعيد خريطة المكان هذه الظهيرة واتجول بين بعض المعارف من السكان القدامى، اجلس على كرسي بالقرب من مقهانا حيث اسس حكمت ملتقى جمع فيه كل الأجيال هناك، وأتحدث معهم عن انفجارات اليوم، اتناول وجبة سريعة وقدح شاي، وأعيد النظر في الشارع وتحولاته
، واتحسس كتاب (بغدادات) لمؤسس المكان وسادنه في جيبي، تقطع علي حركة رتل عسكري بصفارته وفوهات بنادقه المندلقة من نوافذ المركبات المظللة. انكمش على نفسي، على المقهى اتجوهر على كل تفصيل احميه من زمن طارئ يخدش ذكرى شقة حكمت، وافكر لو كانت لدي مماحي وسام هاشم لتوفر لي الآن تحديدا ان امحو الصفرة والغبار والخوف الذي يغلف المكان، لا ادري ان كان وسام قد نسي اننا قضينا أول ذلك المساء نقلب الكلام حول قصيدته (المماحي) بينما حكمت يصغي للمكان وضوضائه، ينتظر خلاصة القصيدة، قصيدة الشاعر وسام هاشم، الذي يطوق أوراقها بيدين تتكوم على كنز من الأسرار، لا اتذكر القصيدة كلها لكنني سافرت حينها في فضاء مرآة كانت مركزا للقصيدة، اقول لحكمت: ان المرآة سر القصيدة وجوهرها، هل يمكن لقصيدة ان تنير درب مجموعة تائهة من البشر، بدونا لحظتها تائهين في أول شارع المغرب وسام يعتصم بقصيدته، وحكمت يدور بنظرات العراب حول معانيها.
ترتبط قصيدة (المماحي) للشاعر وسام هاشم بفكرة محو المكان بالنسبة لي، ترى هل كانت نبوءة عن المحو والاخفاء، ارتبطت بالنسبة لي ببداية شارع المغرب، ارتبطت بالطريق المؤدي نحو كلية الفنون، مرورا بالكرنتينة، انتهاء بباب المعظم. قصائد قليلة بالنسبة لي صارت جزءا من ذاكرة مكان ولدت فيه، ربما لا يتذكر الشاعر وسام هاشم ايقاع تلك اللحظات من أمسية عابرة لنا ونحن نقرأ القصيدة، لكنها - أي فكرة المماحي - صارت مستقبل المكان الذي امحت منه ارواح ومسرات وافكار وحيوات.






للاتصال بنا - عن المدى - الصفحة الرئيسة

AL-MADA Daily Newspaper...جريدة المدى.

BBCArabic.com | أخبار العالم | فوز صعب لحزب المعارضة في الانتخابات السويدية

فوز صعب لحزب المعارضة في الانتخابات السويدية

فريدريك رينفيلت

 

 

 



رئيس الوزراء السويدي
برسون وجه اتهامات للمعارضة
أعلن تجمع يمين الوسط المعارض في السويد أنه هزم الحزب الديمقراطي الاشتراكي الحاكم في أصعب انتخابات برلمانية شهدتها البلاد منذ عقود.
فقد أعلن زعيم الحزب المعتدل، فريدريك راينفيلد، بيان النصر إذ أكسبته النتائج شبه المنتهية تقدما بنسبة واحد بالمائة.
ومن جهته أقر رئيس الوزراء السويدي يوران بيرشون - زعيم الحزب الديمقراطي الاشتراكي- بهزيمة حزبه في الانتخابات التي شهدت تنافسا محموما بين الحزبين، مؤكدا أن حكومته ستستقيل.
ومن المعروف أن تحالف يمين الوسط - الحزب الديمقراطي الاشتراكي الحاكم- ظل في السلطة طوال الـ89 سنة الماضية، باستثناء 10 سنوات قضاها خارج السلطة.
ومن القضايا الهامة التي هيمنت على تلك الانتخابات، ما إذا كان من الضروري إدخال تعديلات على نظام الإعانة الاجتماعية لمواكبة اقتصاد العولمة.
وكانت آخر الاستطلاعات التي نشرت قبل بدء التصويت قد أظهرت تقدماً طفيفاً لتحالف يمين الوسط.
جدل اقتصادي
وحث منافس رئيس الوزراء فريدريك رينفيلد من تحالف اليمين مناصريه على التوجه إلى التصويت وعدم تصديق استطلاعات الرأي ودعوة جيرانهم وأصدقائهم للإدلاء بأصواتهم.
وقال قادة المعارضة إن من الضروري إدخال تعديلات على سوق العمل ونظام الإعانة الاجتماعية المكلف، متعهدين بتقليص ضريبة الأعمال وإعانة البطالة، كما يرغبون في تحجيم القطاع العام الذي يوظف 30% من القوى العاملة بالبلاد.
وقد اتهم رينفيلد الحكومة بعدم التنبه لمعدل البطالة العالي وعدم الاهتمام بمقدرة البلاد على التنافس في السوق العالمي.
وبينما تقول الحكومة إن معدل البطالة حوالي 6%، قالت المعارضة إنه يبلغ 10% آخذين في حساباتهم الأشخاص الذين يتلقون تدريباً على العمل أو يتغيبون في إجازة مرضية.
أما رئيس الوزراء فقد اتهم المعارضة بالرغبة في تدمير الأمان الوظيفي وإدخال تعديلات جزافية على نظام الضمان الاجتماعي، مضيفاً أن هذه الإجراءات تضعف النموذج الاجتماعي المتميز لدولة السويد.

BBCArabic.com | أخبار العالم | فوز صعب لحزب المعارضة في الانتخابات السويدية.

الاختلاف ثقافي وليس بيولوجيا بين الرجل والمرأة

GMT 15:15:00 2005 السبت 5 مارس

حكمت الحاج


حوار مع الباحثة التونسية د. رجاء بن سلامة


أجرى الحوار: حكمت الحاج: تدرّس د. رجاء بن سلامة "التّفكيك"  Deconstruction مطبّقا على الدّراسات العربيّة في كلّيّة الآداب والفنون والإنسانيّات بالجامعة التونسية، وتدرّس الخطاب عن المرأة وعن الجندر في العالم العربيّ في نطاق "ماجستير الدّراسات النّسائيّة" بالمعهد العالي للعلوم الإنسانيّة، تونس. تنشر مقالات عن القضايا الدّينيّة وعن وضعيّة المرأة العربيّة في "إيلاف". عضو هيئة تحرير مجلّة Transeuropéennes  التي تصدر بفرنسا. عضو هيئة قراءة مجلّة إيبلا (معهد الآداب العربيّة) بتونس.

 

* في معظم كتاباتك النسوية نجد تلك الفكرة المحورية وهي [إسمحي لي بتلخيصها ولو على شكل قد يخلّ بمعناها] ان المرأة في مجتمعاتنا العربية تولد وهي آثمة بل ومؤثمة، إن صحّ التعبير، فإلى أي حد علينا أن ننظر بتفاؤل الى وضع المرأة ومشاركتها في الحياة العامة؟
- إنّ تطوّر أوضاع المرأة العربيّة نحو المزيد من الحرّيّة والفعل الواعي في الواقع، أي "صنع القرار" أمر تسير المجتمعات العربيّة في اتّجاهه، رغم العوائق ورغم التّفاوت بين مختلف البلدان العربيّة في هذا المجال. إلاّ أنّ المشكل يكمن في بطء هذه السّيرورة في العالم العربيّ عامّة، إذا ما قورنت بالتّدنّي اللاّفت للنّظر لكلّ المؤشّرات التي يمكن أن نقيس بها هذه الحرّيّة المسؤولة التي نسمّيها "صنع القرار". فالبلدان العربيّة مثلا تأتي في المرتبة قبل الأخيرة من حيث مقياس تمكين المرأة، وتأتي في المرتبة الأخيرة من حيث نسبة تمثيل النّساء في البرلمانات العربيّة في البلدان التي توجد فيها هذا الهيكل التّمثيليّ الدّيمقراطيّ (فهي لا تعدو خمسة فاصل سبعة بالمائة). إنّ ما نقيس به تاريخ الشّعوب غير ما نقيس به أعمار الأفراد التي هي قصيرة مهما طالت. وإذا نظرت إلى المسألة من وجهة نظر الأفراد  شعرت بالانقباض. فالكثير ممّا طالبت به النّساء والرّجال منذ ما يزيد عن القرن لم يتحقّق لا سيّما في مجال الأحوال الشّخصية رغم تعاقب عدّة أجيال منذ بذور حركات التّحديث والحركات النّسائيّة الأولى. معنى ذلك أنّ شرائح كبيرة من النّساء العربيّات ستطوى أعمارهنّ دون أن يطالهنّ هذا التّطوّر نحو المزيد من الحرّيّة والمسؤوليّة والمزيد من "صنع القرار"..
وفيما يتعلّق بتجربتي الخاصّة جدّا كامرأة جامعيّة تونسيّة، وكزوجة وأمّ، أقول إنّ الشّروط الموضوعيّة للمساواة من تشريعات وتكافؤ للفرص يمكن أن تتحقّق للمرأة، وتظلّ مع ذلك البنى الفكريّة والعقليّات الذّكوريّة فاعلة بصمت في اتّجاه مخالف للمساواة. فالمرأة الحاملة للشّهائد العليا تظلّ متّهمة بعدم الكفاءة لأنّها امرأة، وعليها دائما وباستمرار أن تثبت العكس، وعليها أن تعمل أضعاف ما يعمل الرّجال، وعليها أن تقاوم باستمرار اختزالها في الأنثى وأن تذكّر دائما بأنّها إنسان متعدّد الأبعاد، فهي الأمّ والزّوجة والمواطنة والكائن البشريّ في نفس الوقت.. وعليها أن تثبت أنّ ما حقّقته من نجاح قد حقّقته بجهدها وعنائها. المرأة في بلداننا، ومهما كان مستواها الاجتماعيّ والعلميّ، تولد آثمة وتظلّ طيلة حياتها تحاول إثبات العكس.

 

* ما موقفك الكامل والواضح من قضيّة "الحجاب" ومعركته، سواء أكان ذلك في فرنسا، أو في العالم العربي والاسلامي؟
- يجب أن أوضّح أوّلا أنّ كلمة "حجاب" قد تطوّرت، فمعناها في القرآن ولدى روّاد النّهضة غير معناها اليوم، ومعركة الحجاب والسّفور في النّصف الأوّل من القرن العشرين غير معركة الحجاب اليوم.
الحجاب بالمعنى القديم هو المؤسّسة الأبويّة التي تقتضي الفصل بين المجال الخاصّ والمجال الذي تلزمه النّساء الحرائر، أي "ربّات الخدور"، والمجال العامّ الذي  يتحرّك فيه الرّجال، باعتبارهم قوّامين على النّساء، أي يكتسبون ويتولّون الولايات العامّة إضافة إلى الخاصّة. ولكنّ المسألة لا تقتصر فحسب على مجرّد "هندسة الفضاء الاجتماعيّ"، إنّها أعمق بكثير : فالمجتمع الأبويّ الذي دعّمته الأديان التّوحيديّة ومنها الإسلام، يقوم على أنواع من التّبادل أحدها تبادل النّساء، والرّجال هم الذين يتبادلون النّساء الحرائر في نطاق مؤسّسة الزّواج، وهذا التّبادل كان بضائعيّا ورمزيّا في الوقت نفسه، أي أنّ الرّجل إذا أراد الزّواج كان يدفع ثمنا لوليّ المرأة هو المهر، ولكنّ المرأة لم تكن مجرّد بضاعة بشريّة، لأنّ الزّواج تبادل ذو طبيعة رمزيّة. فالزّوجة الحرّة هي التي تضمن حفظ الأنساب وتساهم في الرّأسمال الرمّزيّ للرّجل، الذي يسمّى الشّرف أو العرض. فالحجاب باعتباره فصلا بين النّساء والرّجال كان يضمن الحفاظ على الأسرة الأبويّة وكان آليّة من آليّات الفصل والتّمييز بين الذّكور والإناث، ولذلك ارتبطت مؤسّسة الحجاب الفضائيّ بما سمّيته بالحجاب الثّوبيّ، وهو في القرآن الخمار والجلباب، والحجاب الثّوبيّ آليّة أخرى من آليّات التّمييز ومن آليّات مراقبة جسد المرأة والتّحكّم في مقدار ظهوره، وخاصّة عندما تضطرّ المرأة المحجوبة إلى مغادرة الخدر. مؤسّسة الحجاب وما ترتبط به من آليّات مراقبة كانت تخصّ صنفا واحدا من النّساء أي النّساء الحرائر، ولكن وجد في المجتمعات الإسلاميّة القديمة صنف آخر من النّساء هنّ الإماء اللاتي يمثّلن بضاعة بشريّة  يتمّ تبادلها تجاريّا لا رمزيّا، وهؤلاء النّساء  لم يكنّ معنيّات لا بالحجاب ولا بالخمار ولا بالجلباب ولو عدنا إلى كلّ التّفاسير القديمة للآيات التي ذكر فيها الحجاب لوجدنا أنّها تستثني الإماء من هذه الآليّات، فالخمار كان وسيلة للتّمييز بين الحرائر والإماء، حتّى إنّ الخليفة عمر بن الخطّاب كان يضرب بسوطه الإماء اللاّتي يتشبّهن بالحرائر ويحجبن كامل أجسادهنّ، وذهب الكثير من الفقهاء إلى أنّ عورة المرأة الحرّة تختلف عن عورة الأَمَة، فعورة الأَمَة كعورة الرّجل موضعها ما بين السّرّة والرّكبتين، وقد أباح  الفقهاء تعرية الأَمَة بلْ ولمس أعضائها الجنسيّة لمن يريد شراءها. فالأمة لم تكن معنيّة بحفظ الأنساب وبالشّرف، إلاّ إذا تغيّر وضعها من أَمَة إلى "أمّ ولْد". هذه المعطيات التّاريخيّة، وخاصّة اختصاص النّساء الحرائر بالحجاب دون الإماء هي التي يتمّ تغييبها اليوم من قبل الدّاعين إلى الحجاب، فهم يقدّمونه على أنّه أمر إلهيّ لاتاريخيّ ، غير مرتبط بالنّظام الطّبقيّ والأبويّ القديم، ويقدّمونه على أنّه فرض أتى به الإسلام، والحال أنّه موجود قبل الإسلام كما تبيّن الكثير من الدّراسات، إنّما ألحّ عليه الإسلام النّاشئ لأسباب منها ما يتعلّق بحياة النّبيّ الخاصّة جدّا، وبتقلّبات علاقته بالنّساء.
في العصر الحديث كان لا بدّ من خروج المرأة من خدرها، أي من الحجاب الفضائيّ، ولكن كان لا بدّ أيضا من رفع شعار السّفور أي تعرية الوجه، ولذلك قاومت النّساء العربيّات النّقاب وثارت عليه هدى الشّعراويّ وثريّا الحافظ و نظيرة زين الدّين وغيرهنّ، فقد اعتبرن النّقاب رمزا للحجاب ولعدم إمكان مساهمة المرأة في الحياة العامّة.
ثمّ خرجت المرأة إلى العمل وطلب العلم، وتضاءل دور الأحجبة التّقليديّة، وإذا بالحجاب يعود في شكل آخر "معولم"، في شكل الزّيّ الإسلاميّ الذي يقوم خاصّة على الخمار، وظهر نموذج المرأة العاملة والنّاشطة ولكن المحجّبة في الوقت نفسه...

 

* فهل يتناقض هذا الحجاب الأثوابيّ مع حرّيّة المرأة والمساواة رغم أنّه لا يحول دونها والعمل والحركة؟
- جوابي واضح، وهو أنّ الحجاب مهما تجدّد شكله واستعماله يتناقض مع المساواة والمواطنة والكرامة.  إنّه يذكّر بأنّ المرأة كائن من نوع خاصّ يجب التّحكّم في ظهوره وتحرّكه، يذكّر بأنّها موضوع تبادل بين الرّجال، مباح لمن يمتلكه وممنوع على من لم يمتلكه. ثمّ إنّ الحجاب يفترض اختلافا جوهريّا بين الرّجل والمرأة أساسه هو أنّ الرّجل ناظر والمرأة منظور إليها، فلا شيء أكثر اعتباطيّة من الحكم على المرأة وحدها بأنّها مصدر فتنة، ومن تغييب وجهة نظر المرأة التي تجعل الرّجل أيضا مصدر فتنة، إن أردنا أن نساير هذا المنطق الأخلاقيّ الذي يتّهم الأجساد ويعتبر الرّغبة أمرا فاسدا وخطيرا. والحجاب يتناقض مع المواطنة، لأنّ المواطنة انتماء للدّولة لا للدّين، وهو متناقض مع المواطنة أيضا لأنّ المواطنة مشاركة في الحياة العامّة والحجاب يرتبط بكوكبة من السّلوكيّات الهوسيّة التي تتناقض مع هذه المشاركة، أقصد رفض المصافحة ورفض الاختلاط والخلوة...، وكلّها آليّات رقابة قديمة لم يعد من مبرّر لها. والحجاب يتناقض مع مبادئ المسؤوليّة والكرامة، لأنّه يفترض أنّ الرّجل لا يمكن له التّحكّم في غرائزه والمرأة كذلك، ويفترض أنّ المرأة وسيلة لا غاية، وسيلة لحفظ الشّرف وللإنجاب وليست غاية في حدّ ذاتها.

 

* هذا فيما يخصّ الخمار، فماذا تقولين عن "النقاب"؟
- أمّا النّقاب فإنّه ينبغي في رأيي أن يصنّف ضمن "المعاملات المهينة" والمتنافية مع أبسط حقوق الإنسان، فما معنى أن تكون المرأة بلا وجه، وأن تتحرّك في الفضاء العامّ وكأنّها شبح من عالم الجنّ لا يعرف ولا يُرى ولا يَرى؟  وقد سبق أن اقترحت على النّاشطين في مجال حقوق الإنسان أن يتحدّثوا عن حقّ لم ينتبه إليه محرّرو الإعلان العالميّ، وهو الحقّ في الوجه. ويكفي أن نعود إلى كتاب نظيرة زين الدّين عن "الحجاب والسّفور" لكي نكتشف العنف الذي تعيشه امرأة يكمّم وجهها الذي هو "مجتمع الحواسّ" لدى الإنسان، والمميّز بين إنسان وآخر.
 أمّا خطاب الذين ينادون بالحجاب باسم الحرّيّة الشّخصيّة، فإنّه ينبني على نفاق أساسيّ : إنّهم يستغلّون النّموذج الدّيمقراطيّ الحديث للدّفاع عن قيم قديمة منافية للدّيمقراطيّة، ثمّ إنّ هؤلاء المدافعين عن الحجاب أنفسهم يتفنّنون في تجزئة المبادئ الدّيمقراطيّة، فدعاة الحجاب في فرنسا مثلا  لا يقبلون مبدأ حرّيّة المعتقد ولا يقبلون حقّ الإنسان في الخروج من دين آبائه أو تبديله.
وفي خطاب بعض المثقّفين الفرنسيّين المدافعين عن حقّ النّساء المسلمات في الحجاب أيضا  نزعة ثقافويّة عنصريّة تؤول إلى احتقار المسلمين واعتبارهم غير جديرين بحقوق الإنسان والدّيمقراطيّة : إنّ هذا الخطاب يخوّل للآخرين استعباد آخريهم، يخوّل للرّجال المسلمين الحقّ في خصوصيّة استعباد نسائهم.

 

* هل تدافعين عن استصدار قوانين تمنع الحجاب؟ ألا يتنافى هذا  فعلا مع الحرّيّة الشّخصيّة؟
- قلت إنّني لا أرى معنى لحرّيّة المرأة في اختيار قيدها، كما لا أرى معنى في حقّ الإنسان في بيع جسده مثلا. المرأة التي تبيع جسدها لا حرّيّة لها ولا كرامة، ولا يمكن للمثقّف أن يدافع عن حقّها في هذه العبوديّة، والمرأة المحجّبة امرأة تستبطن القيم العتيقة التي تعتبر المرأة آثمة إلى أن تثبت العكس، وتعتبرها حريما ممنوعا، ولذلك فلا أرى معنى للدّفاع عن هذا الحقّ، حقّ المرأة في هذا الاستثناء التّمييزيّ. 
ثمّ إنّني  لا أعتبر الحجاب لباسا، بل شطبا لجسد المرأة، الدّليل على ذلك أنّ أشكاله وأنواعه تتعدّد ولكنّ المهمّ فيه هو وظيفة التّغطية والمنع التي يؤدّيها. أمّا أن تلبس المرأة الحجاب وتكون مع ذلك مزيّنة وتتفنّن في اختيار الألوان الزّاهية على الطّريقة المصريّة خاصّة فذلك لا يغيّر شيئا، بل هو دليل تناقض وعدم تحمّل لمسؤوليّة الحرّيّة وعدم نهوض بعبء الرّغبة، أي بأن يكون الإنسان راغبا ومرغوبا فيه وأن يتحمّل مسؤوليّة اختيار الشّريك ووضع الحدود لنفسه وللآخرين.
 وفيما يخصّ استصدار القوانين، أقول إنّ ما حقّقته المرأة من مكاسب يجب المحافظة عليه، وقد أثبتت التّجربة أنّنا نحتاج إلى قوانين لحماية الفئات المستضعفة، نحتاج مثلا إلى قوانين تحمي الطّفلات من العنف الذي يسلّطه عليهنّ الآباء عندما يفرضون عليهنّ الحجاب ويمنعونهنّ من حرّيّة الحركة واللّعب ويفرضون عليهنّ قبل الأوان ما لا طاقة لهنّ به. نحتاج إلى قوانين تحمي النّساء من عنف إكراههنّ على الحجاب، كما نحتاج إلى قوانين مدنيّة تحمي الكتّاب والمفكّرين من الاتّهام بالرّدّة مثلا. إلاّ أنّ استصدار القوانين لا يكفي، فلا بدّمن فتح منابر الحوار، ولا بدّ من نشر الثقّافة المدنيّة وثقافة حقوق الإنسان، لمواجهة الإيديولوجية الإسلاميّة والقوميّة، فكلتاهما تعتبر المرأة راية الأمّّة، وتماهي بين جسدها وجسد الأمّة الخياليّ ولذلك تكون المرأة أوّل من يدفع ثمنا للأمجاد الوهميّة والطّوباويّات.

 

* كيف ترينَ الى موضوع "الجندر" أو النوع الاجتماعي من زاوية العلاقة مع حقوق الانسان من جهة، والنضال النسوي من جهة اخرى؟
- البحث في الجندر يندرج ضمن اتّجاه عالميّ هامّ في البحث يعود خاصّة إلى السّبعينات من القرن المنصرم، والجندر  مقولة ثقافيّة وسياسيّة تختلف عن الجنس باعتباره معطى بيولوجيّا، وتعني الأدوار والاختلافات التي تقرّرها وتبنيها المجتمعات لكلّ من الرّجل والمرأة. وهذا التّوجّه في البحث مهمّ لأنّه يمكّننا من تعويض الماهويّة البيولوجيّة بالبنائيّة الثّقافيّة، بحيث يتبيّن لنا أنّ الاختلاف بين الرّجل والمرأة مبنيّ ثقافيا وإيديولوجيّا وليس نتيجة حتميّة بيولوجيّة. فالانطلاق من وجهة نظر البنائيّة الثّقافيّة يمكّننا من مواجهة الخطاب السّلفيّ الذي يريد إيهام النّاس بوجود فوارق "فطريّة" وبيولوجيّة أساسيّة بين النّساء والرّجال. حجّة الطّبيعة والفطرة هي التي يخرجها السّلفيّون والتّقليديّون عامّة لتبرير اللاّمساواة، وهذه الحجّة قديمة ولكنّها متجدّدة، قديما كانوا يقولون إنّ المرأة ناقصة عقلا، واليوم يقولون إنّها مختلفة فطريّا عن الرّجل، أو إنّها سلبيّة والرّجل إيجابيّ ، والنّتيجة هي نفسها، فالمرأة كائن له خصوصيّة، ونحن قوم لنا خصوصيّة، وباسم الخصوصيّة الثّقافيّة نتحفّظ على مبدإ الكونيّة، كونيّة الحقّ الإنسانيّ : هذا ما يقوله العرب للعالم اليوم، من خلال تحفّظاتهم الكثيرة والمخجلة على كلّ الاتّفاقيّات الدّوليّة الرّامية إلى إقرار المساواة. ولكن على المنطلقين من وجهة النّظر هذه أن يستفيدوا من النّقد الذي تمّ توجيهه إلى مفهوم الجندر، وهو على نوعين : نقد ينبّه إلى عدم كفاية مفهوم الجندر كمحدّد للهويّة الاجتماعيّة، فلا بدّ من مراعاة محدّدات أخرى كالطّبقة والعنصر والوضعيّة المدنيّة... ونقد آخر يحذّر ممّا قد يؤول إليه اعتماد الجندر من وقوع جديد في فخّ جوهرة الفوارق بين النّساء والرّجال، وهو ما يعوق إبداع أشكال الحياة والرّغبة، فلكلّ شخص أن يبتدع أشكال أنوثته أو ذكورته أو غير ذلك. وهناك من يرى أنّ مفهوم الجندر لا يتلاءم مع متطلّبات الحركات الجديدة التي تطالب بحقوق الأقلّيّات الجنسيّة والأصناف التي تعتبر نفسها خارج التّصنيف الجندريّ، وخارج الأقدار المسطرة سلفا.

 

أعمال د. رجاء بن سلامة:

أصدرت مجموعة من الكتب ونشرت العديد من المقالات والدراسات بالعربيّة والفرنسيّة نذكر منها:
- العشق والكتابة : قراءة في الموروث، كولونيا، منشورات الجمل، 2003.
- صمت البيان، القاهرة، المجلس الأعلى للثّقافة، 1999.
- الموت وطقوسه من خلال صَحيحَيْ البخاريّ ومسلم، تونس، دار الجنوب، 1997.
- الشّعريّة، لتزيفتان تودوروف، ترجمة بالاشتراك مع شكري المبخوت، الدّار البيضاء، دار توبقال، 1987، طبعة ثانية سنة 1990.
-Les Mots du monde : Masculin –féminin : Pour un dialogue entre les cultures, collectif sous la direction de Nadia Tazi, Paris, La  Découverte, 2004.