١٧‏/٣‏/٢٠٠٦

أنور إبراهيم بين التمسك بالتراث والانفتاح على الثقافات الأخرى

| www.dw-world.de | © Deutsche Welle.


موسيقي أنور إبراهيم بين التمسك بالتراث والانفتاح على الثقافات الأخرى


الموسيقار التونسي أنور إبراهيمالموسيقار التونسي أنور ابراهم



تبدو ابتسامة أنور إبراهم متعددة المعاني وهو يقول أنه لا يعرف سبب اعتقاد الكثيرين بأنّه يعيش في باريس، فهو يقيم في تونس منذ ولادته. لكن لهذا الأمر جوانب إيجابية، فهكذا ينجو الموسيقار التونسي من التبعات المرهقة لنجاحه.




إبراهم يحب الخلوة إلى النفس، فهي أحد شروط إبداعه الفني، إذ تحتاج موسيقاه للنفسٍ الطويل حتى تختمر وتنضج. لذا تصمد أنغامه في وجه وساوس الحاضر المتسارع لصالح مقدرة داخلية تلهم الشعور بالقوة والانفتاح. كل الناس سفراء في هذه الأيام. إنه عصر الخبراء الحقيقيين أو المُدّعين، حيث الفضائيات وشاشات التلفزة تحمل آراءهم إلى حجرات الجلوس في هذا العالم. لا يرضى أنور إبراهيم بهذا الشكل السطحي، لاسيما عندما يعتمد الفن مرجعاً له. يقول إبراهيم: "لا يُلِمُّ أحدٌ بالموسيقى العربية في الغرب"، ويسارع ليضيف: "وبالكاد تجد من يُلِمُّ بها عندنا أيضاً".

الموسيقى نبتة تنمو ببطء



ومن ثم ينتقل إبراهيم ليتحدث عن الصيغ النمطية والأحكام المسبقة، وعن الظواهر الكثيرة التي يتم تناولها دون تباين أو تمييز فيما بينها، وعن حقيقة احتياج المرء لحياة بأكملها للتوصل إلى تصور تقريبي عن غنى تراث النغم العربي. تنطوي هذه الرؤية على صورة تصنيفية بالطبع، لكنها ذات مغزى عميق بالنسبة لإبراهيم. فالموسيقى بحاجة إلى وقت. هي نبتة نفيسة تنمو ببطء وهو البستاني القادر على رعايتها كي تنمو وتزهر يوماً ما. يقتضي هذا الرويّة والحكمة. حيث تمر فترات زمنية لا يلمس فيها إبراهيم عوده لأسابيع عديدة وأحياناً لأشهر. فهو بحاجةٍ لهذه الاستراحات كي يستعيد أنفاسه بعد الحفلات الموسيقية الكثيرة التي يقدمها، هذا الموسيقار المتمكن من آلته، المرموق في كل أنحاء العالم. ترتسم على وجهه تعابير متعددة المعاني من جديد عندما يشرح الأمر: "لا أود أن أُفهم بشكل خطئ، لكنني أكون سعيداً عندما لا يتوجب عليَّ الوقوف على خشبة المسرح"، ويؤكد ثانيةً على الملاذ الذي يمنحه إياه الانطواء. وبالمناسبة ليس هناك وصفة تنضج وفقها تأليفاته الموسيقية. فعلى سبيل المثال وضع ألبوم Chat Noir Le Pas Du  بدايةً على البيانو، كانعكاسٍ للفترة الزمنية الكثيفة، المفعمة بالانطباعات الجديدة المؤثرة، خلال الجولة الموسيقية التي قام بها مع ديف هولاند عازف الكونترباص وجون سورمان عازف الكلارينيت، والتي تبعت نشر البوم “Thimar” (1998).


 


 


موسيقيون جدد في كل مشروع جديد

ألبوم Le Voyage de Sahar للفنان التونسي أنور إبراهيمBildunterschrift: Großansicht des Bildes mit der Bildunterschrift: ألبوم Le Voyage de Sahar للفنان التونسي أنور إبراهيم لم يدخل العود المشروعَ إلا في مرحلة متأخرة، وكذلك الأكورديون، الذي أضفى على الألبوم لوناً مميزاً. أما في حالة الألبوم “Le Voyage de Sahar” فقد اختار إبراهيم طريقاً مغايراً ويقول بهذا الصدد: "أميل في الواقع إلى اختيار موسيقيين جدد في كل مشروعٍ جديد. عندما ينتهي تسجيل مشروع ما يكون العمل مع هؤلاء الموسيقيين قد انتهى أيضاً. لذلك كتبت القطع الموسيقية لألبوم“Le Voyage de Sahar” لآلة العود بشكل منفرد في البدء، دون أن يكون لدي تصور دقيق عن القوام الموسيقي النهائي. لكن أثناء التمرين مع فرانسوا وجان لويس وتجريبنا لعزف عدة مؤلفاتٍ جديدةٍ مع بعضنا البعض، تبين لنا أن آلتي البيانو والأكورديون لا يزالان يحتفظان بدورهما المثير في القطع الجديدة. وبالتالي خالفت ما عزمت عليه وذهبنا معًا إلى الأستوديو من جديد".

تسامح ثقافي



كان القرار صائبًا. و بإمكان المرء سماع التغييرات الواضحة على البوم“Le Pas Du Chat Noir”. يتواءم إبراهيم في غضون ذلك مع كلا العازفين فرانسوا كوتورير على الكونترباص وجان لويس ماتينيير على الأكورديون بطريقةٍ تضفي على الموسيقى عفويةً غير معهودة وأناةً ملفوفةً بمسحةٍ من الحزن. بينما يستقي البوم “Le Voyage de Sahar” مزاجه بوضوح أكبر من عوالم الخبرات الفردية للموسيقيين المشترِكين من جهة أخرى. تلتحم موسيقى جنوب فرنسا الفلكلورية التي يعزفها "ماتينيير"، وحداثة أنغام بيانو "كلود ديبوسي" التي يعزفها "كوتورير" مع نمط الموسيقى العربية الأندلسية وغنى التنويعات في قطع إبراهيم الموسيقية لتنتج مزيجاً من الأنغام المتوسطية، ينجح في استنباط الأثر الشاعري المشترك الراقي، عبر التساوي النديّ للأصوات المشاركة. هكذا تجمع موسيقى أنور إبراهيم الهدوء والتدفق، التنوع والكثافة، الالتزام بالتقاليد والانفتاح، في نفس الآن. إنها فنٌ يحتذي مثلاً أعلى، لكنها لا تحتاج لتعصبٍ مذهبي، وبذلك تشكل هذه الموسيقى احدى المقاربات الممكنة من مفهوم إبراهيم للتسامح الثقافي.


رالف دومبروفسكي
ترجمة يوسف حجازي
حقوق الطبع قنطرة

حوار مع جان بريكمون

حوار مع جان بريكمون
إمبريالية بروح إنسانية

جان بريكمون، أستاذ الفيزياء النظرية في جامعة لوفان، نشر مؤخرا كتاباً بعنوان: (إمبريالية بروح إنسانية. حقوق الإنسان، حق التدخّل، حق الأقوى) يتناول فيه التحوّل الذي طرأ على فكرة حقوق الإنسان، في التدخلية (نزعة التدخل) الغربية. تحوّل تدريجي انتهى بإضفاء الشرعية على التدخّل العسكري. وهو في حواره هذا مع سيلفيا كاتوري، على ضوء فعاليات مؤتمر محور من أجل السلام 2005، ينتقد النزعة الحربية السائدة، ويقترح حلولا مختلفة لإرساء دعائم السلم والأمن العالميين.
---------------------------------------------------------------

جان بريكمون
خلال مداخلته في مؤتمر «محور من أجل السلام» ببروكسل في شهر نونبر 2005
فضلاً عن كونه جامعيا مثقفا وملتزما، يشغل بريكمون كذلك منصب عضو في (محكمة بروكسل)، وهي محكمة رأي عام تدرس قضايا جرائم الحرب في العراق وتطمح لأن تكون امتدادا للتحرك الدولي ضد الحرب. كما تهدف محكمة بروكسل المؤلفة من مفكرين وقانونيين والمنضوية تحت لواء حركة أوسع، ترمي إلى وضع حد لنظام الإمبريالية العالمية الجديد.

أما سيلفيا كاتوري ،التي أجرت اللقاء مع جان بريكمون، فهي صحفية سويسرية مستقلة. تكتب بالفرنسية. أمضت سنين عديدة في مناطق جنوب شرق آسيا والمحيط الهندي. وكانت على صلة وثيقة بالمنظمات الدولية والأوساط الدبلوماسية. فخرجت من هنالك بنظرة واسعة للعالم وآليّات السلطة ومظالمها.

كانت في فلسطين المحتلة في نيسان 2002 حين أطلق شارون العنان لعساكره فقاموا بأكثر العمليات دموية في الضفة الغربية (اجتياح جنين). وجعلها اهتمامها بآثار الصدمات التي تسببها مثل تلك العمليات للأطفال، تتوجّه إلى الأراضي الفلسطينية لتكون شاهد عيان على حقيقة ما جرى. فكان ما وقع نظرها عليه يتجاوز قدرتها على التخيّل.

ومنذ ذلك الحين وهي تكافح لجذب انتباه وسائل الإعلام في العالم إلى الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال ضد مدنيين عزّل، وإلى المظالم التي تحلّ بالفلسطينيين وأطفالهم.

سيلفيا كاتوري: كتبت في افتتاحية كتابك الأخير «إمبريالية بروح إنسانية» تقول: «هنالك نوعان من المشاعر تدفع للفعل السياسي: الأمل والسخط». ولا يسع أي إنسان ذي ضمير حي، يقرأ كتابك، إلا أن يشعر بالسخط، بعد الانتهاء من قراءته. فهنالك بلدان جرى تدميرها بوحشية، على يد حكومات تصرّفت، كما الولايات المتحدة، خارج نطاق القوانين. وأسوأ ما في الأمر، أن يقع ذلك بالتواطؤ مع ما اصطلح على تسميته ب«الأسرة الدولية». فما الوسائل الواجب استخدامها لإشاعة هذا السخط في أوساط الرأي العام وإحداث هزة فيها؟

جان بريكمون: هذا سؤال معقد! سوف أقتصر على ما أنا قادر على فعله من كتابة وقول. لابد في واقع الأمر من بدائل. لا بد من منظمات سياسية لست بقادر على تشكيلها.فالمنظمات القائمة ليست واعية للأوليات الحقيقية، بما يكفي. وهذا على الأقل رأيي المتواضع. ينبغي إنشاء حركة دولية ضد الحرب في العراق، على نحو ما كان الأمر أيام الحرب في الجزائر والحرب في فييتنام، وأثناء أزمة الصواريخ (في كوبا). وذلك ما ليس له من مثيل في الوقت الحاضر.

سيلفيا كاتوري: هل تعتقد أن التحدي الذي أطلق في العالم من قبل مؤتمر «محور من أجل السلام»، بمبادرة من تييري ميسان رئيس شبكة فولتير، يمكن أن تشكل نقطة انطلاق لحركة كبرى مناهضة للحرب؟

جان بريكمون: إنها لفكرة حسنة أن يتجمع أناس من آفاق شتى: فلسفية وسياسية ودينية، وأن يعملوا معاً لصالح السلام. فأكثرية النزاعات في العالم نزاعات محلية، بين بلدان متجاورة أو داخل البلد نفسه. وليس هنالك سوى بلد بعينه يسمح لنفسه بإرسال جيوشه بعيداً عن أراضيه، للاعتداء على بلد آخر، لم يلحق به أي أذى، متعللاً بذرائع مصطنعة كلها. وهذا البلد أو البلاد، هي الولايات المتحدة الأمريكية. إن في طريقة السلوك هذه تهديداً للسلام العالمي. فلابد من إيقافها. وليست المهمة سهلة. إنها تستوجب تعاونا من المواطنين الأمريكيين. وأنا مقتنع بأن قسماً منهم يدرك أن الرأي العام العالمي لا يقبل بسياسة حكومتهم. فإذا ما رفعنا صوتنا هنا بمناهضة السياسة الأمريكية، ساهمنا في دعم المواطنين الأمريكيين الراغبين في تغيير سياسة بلادهم هناك.

سيلفيا كاتوري: إن كان الناس في أكثريتهم الساحقة يشعرون بالهول من رؤية الصور المنقولة من العراق وأفغانستان وفلسطين، ولا يدركون بوضوح أن تلك البربرية كلها حظيت بدعم من الأحزاب التقدمية. فكيف أمكن لتلك الأحزاب أن تنحرف إلى حد الاعتقاد بأن بوش وبلير يخوضان حرباً ذات دوافع خيرة. في حين أنها كانت اعتداء على حرية الشعوب وكرامتها؟

جان بريكمون: لابد من إظهار الفروق. فنحن هنا حيال عدة مظاهر. فسياسة بوش نفسه لم تكن شعبية، داخل الأوساط التي يمكن وصفها باليسارية، حتى ضمن التبعية المؤيدة للتدخل الإنساني. أما السياسة الشعبية حقاً فكانت سياسة كلينتون. لقد فرض أثناء ولايته كلها حصاراً على العراق، تسبّب دون شك بعدد من الموتى يفوق عدد من سقط بسبب الحرب. وأنا شهدت القليل من الاحتجاجات على ذلك الحصار من قبل أناس كانوا يشيدون بالتدخل الإنساني، في يوغوسلافيا على سبيل المثال. ولئن كان الناس لا يؤيدون سياسة بوش، فلأنه يتقن فن عرض سياسته عرضاً رديئاً جداً، ما يؤدي إلى جعلها غير شعبية. فضلاً عن أنه شديد الصلف،وهذا يزيد في عدم شعبيته، لاسيما في الخارج. لكن كلينتون لم يكن كذلك. ومن ناحية أخرى فإن دعم اليسار للتدخلية أعاق معارضة الحروب، حتى حرب بوش، وجعل تلك المعارضة أمراً سطحياً. فالناس لا يعارضون الهيمنة والحرب على العراق بدافع مبدئي، بل لأن بوش رئيس أخرق. فالكتاب يهدف إلى إحداث هزة داخل هذا اليسار المكوّن في الغالب من أناس صادقين جداً، لكنهم لا يتمتعون بما يكفي من رؤية شمولية للوضع، كي يحتل السلام واحترام السيادة الوطنية في بلدان العالم الثالث، مكانة أولية لديهم. لقد ترقق هذا النوع من الأفكار تحت تأثير إيديولوجية التدخل بروح إنسانية، والتي نشأت بعد الحرب في فييتنام.

سيلفيا كاتوري: ما هي البلدان التي تعرضت للحروب، باسم «حق التدخل» هذا؟

جان بريكمون: تجذّرت لدينا في الغرب، منذ بداية العصر الاستعماري، إيديولوجية تجيز لنا، لأننا البلدان المتحضرة، الأكثر احتراماً للديمقراطية وحقوق الإنسان، والأكثر تطوراً وعقلانية وإيماناً بالعلم الخ...، أن نرتكب أفعالاً مرعبة بحق بلدان نعتبرها أقل تمدنا. فالمسيحية، والرسالة التحضيرية للجمهورية، وعبء الرجل الأبيض لدى الإنكليز، استخدمت تدريجياً كمبرر إيديولوجي لاقتراف جرائم شنيعة. أما الآن، فالإيديولوجية التي ترمي إلى احتلال ذلك المكان كله، هي إيديولوجية حقوق الإنسان والديمقراطية. وليس لهذا الأمر أن يصل حد الحرب إلزاماً، لكنه يأخد أشكالا أخرى، مثل الحصار على العراق أو على كوبا، وعقوبات أخرى تغدو مقبولة لأنها موجهة ضد أنظمة رهيبة أو هكذا يقال عليها. فعلى اليسار أن يأخذ بعين الاعتبار ما تقول قمم بلدان الجنوب أو البلدان غير المنحازة، التي تعارض تلك العقوبات كلها فتقول ذلك علناً. فليس لعقوبة، حسبما ترى تلك البلدان، أن تكون وحيدة الجانب، ولكل شيء أن يمر عبر الأمم المتحدة. ولا ترغب بلدان الجنوب، وهي التي تمثل الغالبية العظمى للجنس البشري، بأي حال من الأحوال بتلك السياسة القائمة على التدخل.

سيلفيا كاتوري: لقد كتبت تقول: «أما بشأن كل ما يتعلق بإضفاء الشرعية على الحرب، في إيديولوجية زماننا، فلم تعد المسيحية، ولا الجمهورية «ورسالتها الحضارية»، هما المسوّغ، بل هو خطاب عن حقوق الإنسان وعن الديمقراطية. وإذا كنا نبتغي بناء معارضة راديكالية خالية من عقدة الحروب الراهنة والمستقبلية، فمن واجبنا مهاجمة ذلك الخطاب وتلك الطريقة في عرضه». ولكن من أين خرجت تلك النظرية عن حق التدخل بصبغة إنسانية؟

جان بريكمون: الفكرة تعود أساساً إلى إدارة كارتر التي شكلت منعطفاً. إذ سادت هنالك، قبل حرب فييتنام وأثناءها، سياسة دعم للأنظمة المعادية للشيوعية، باسم الصراع ضد الشيوعية، سواء كانت تلك الأنظمة تحترم حقوق الإنسان أم لا. أما بعد انتهاء حرب فييتنام، فقد سعى كارتر إلى تلميع صورة الولايات المتحدة قائلاً إن حقوق الإنسان هي روح سياستها الخارجية. وإذا كان في الأمر تناقض مع الممارسة السياسية في تيمور أو في أفغانستان،فقد نجم عن تلك الإيديولوجية، وتلك الصدمة التي أحدثها «الفلاسفة الجدد» في فرنسا، حصول ضغط هائل داخل صفوف اليسار أدى إلى الابتعاد عن الحركات الثورية وحركات التحرر في العالم الثالث.

وشكلت الأزمة اليوغوسلافية قمة إضفاء الشرعية على التدخل.لأن اليسار أخذ يردد شعارات من نوع: «لا يسعنا أن ندع ذلك يحدث»، أو «الأمر كما مع هتلر قبل الحرب» إلخ. واكتمل تغيير العقلية في حرب كوسوفو. واستسلم اليسار استسلاماً تاماً، وفي الغرب تحديداً، حيال مسألة الدفاع عن السيادة الوطنية والقانون الدولي. ما جعل معارضة الحرب على العراق هزيلة جداً، من الناحية الإيديولوجية، خصوصاً في قيادات المنظمات التي كانت تقوى على بناء تلك المعارضة.

فقد صرنا نقبل بمسوّغات من نوع: «أجل، لكن لا مناص أولاً من نزع سلاح العراق...». كانت كافة مسوغات الحرب تقريباً مقبولة، حتى لدى الذين كانوا يعلنون معارضتهم للحرب. ويبدو اليوم أن أولئك الأشخاص أنفسهم يقبلون بفكرة أن يظل الأمريكيون في العراق إلى أمد غير محدود. والفكرة العامة أننا نشهد في العراق مرحلة انتقالية نحو الديمقراطية: لا تمضي الأمور كلها على ما يرام لكنها أفضل إجمالا، أو إنها سوف تتحسّن في نهاية الأمر. يوم سقوط بغداد، كان غالبية الناس من حولي يعتقدون بأن كل شيء قد انتهى وانه لن تقوم هنالك مقاومة. ولا يزال كثيرون يظنون أن أمرها سيؤول إلى الاستسلام. أما أنا فأشك في ذلك كثيراً.

سيلفيا كاتوري: ألم يعمد الإيديولوجيون، الذين طالبوا بضرورة فرض الديمقراطية لمحاربة «الإرهاب»، إلى عملية عكس للمسألة كي تلائمهم؟ ألم يكن ينبغي لهم مهاجمة الأسباب العميقة، وفي إسرائيل تحديداً، التي تتسبّب في كافة النزاعات المحلية؟

جان بريكمون: لن أقول إنها تتسبّب في كافة النزاعات الأخرى، لكن لا ريب في أنها تؤدي دوراً هائلاً في العديد من النزاعات الأخرى. فالغربيون لا يدركون أن طبيعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تتجاوز بكثير حدود إسرائيل أو فلسطين، لسبب بسيط جداً: إن ما فعله الأوربيون، هو أنهم جعلوا العرب يدفعون ثمن الجرائم التي ارتكبها الأوربيون أنفسهم بحق اليهود. فيمكن تلخيص المشكلة على النحو التالي: لم يتم إنشاء دولة يهودية في أوربا، تعويضاً عن المصائب التي حلت باليهود في أوربا، ولا لأن الحركة الصهيونية كانت تريد دولة في فلسطين، بل لأن فلسطين كان يقطنها العرب، وقد اعتبروا هؤلاء آنذاك قيمة مهملة. ولم يجر قط، منذ ذلك الحين، الاعتراف بأصل الصراع. ثم جاءت نزاعات أخرى لتضاف إلى الصراع الأول. فجرى احتلال أراض أخرى، الخ. لقد ازدادت الأمور تفاقماً، في الواقع، وهنالك تعام من قبل الغربيين عن جذور الصراع وعمقه. إن أي طفل يكبر في الرباط يعرف، حتى وهو بعيد جداً عن فلسطين، أن إسرائيل، إن كانت قد أنشئت حيث أنشئت، فذلك لأن الأوروبيين فعلوا ذلك، يهوداً كانوا أم غير يهود، لاعتقادهم بأنهم أكثر تمدنا من أمثالهم العرب، وذلك ما لا يمكن القبول به. إنه بعد من أبعاد الصراع، وهو أعمق بكثير مما هو مفهوم في الغرب بشكل عام.

سيلفيا كاتوري: كتبت بشأن النقد الموجه إلى إسرائيل والصهيونية: «حين يجرؤ بعض اليهود من أمثال نورمان فنكلشتاين ونعوم تشومسكي على توجيه النقد لسياسة الحركة الصهيونية، يجري السعي إلى إسكاتهم عن طريق اتهامهم بمرض نفساني عجيب هو « كراهية الذات». أما إن كانوا غير يهود، فحسبهم كلمة واحدة: معاداة السامية. فما الذي يمكن فعله لاستعادة حق الحرية في التعبير، وهو الحق المخنوق حالياً خصوصاً في فرنسا بفعل تلك الاتهامات التي لا أساس لها؟

جان بريكمون: هنالك نمطان من المسائل: التهويل والترهيب من جهة، ورفع الدعاوى أمام القضاء من جهة أخرى، (كما الحال مع ديودونيه مبالا مبالا وإدغار موران وإسرائيل شامير وآخرين). وعلينا، حيال ذلك، أن ندافع عن حرية التعبير. إنها غلطة أخرى وقع فيها اليسار، والمهزلة أنه تحديداً، يسار يعارض الفاشية والستالينية، فيلتزم بنظرية مشتركة بين الفاشية والستالينية، وهي نظرية ترى أن للدولة الحق في تحديد ما يستطيع المرء قوله في مجال التاريخ أو في مجالات أخرى. فالقوانين التي تقمع حرية التعبير تنطلق من أفكار مضادة للعنصرية، قد تكون خيرة لكن يساء فهمها. هذه القوانين، ومن ضمنها قانون فابيوس غيسّو المضاد للإنكارية، حظيت بشكل عام بدعم من اليسار ومن أقصى اليسار (غيسّو شيوعي). وأعتقد أن ذلك الخطأ فادح. لأن الجواب على خطابات توصف بالكراهية، إنما يكون بمزيد من الخطابات، لا بعدمها. فهنالك وسيلة ناجعة لمحاربة العداء للسامية، مع الإبقاء على حرية التعبير. فلسنا نعاني من وسائل إعلام نعبر فيها عن وجهات نظر تنتقد اللاسامية. لكن لا يسعنا القيام بذلك بطريقة مجدية، ما لم نميز تمييزاً جذرياً بين العداء للصهيونية، المتمثل في عدد من المواقف السياسية، وبين اللاسامية، وهي شكل من أشكال العنصرية. فالناس الذين يتعمدون الخلط بين الاثنين، يظنون أنهم سيتخلصون من العداء للصهيونية بجعله مشيناً، عن طريق قرنه بالعداء للسامية. والإشكالية أننا نستطيع قراءة المعادلة: معاداة الصهيونية = معاداة السامية، قراءة معكوسة، أي جعل معاداة السامية أمراً مشروعاً عن طريق قرنها بمعاداة الصهيونية. يظن الذين يطبقون ذلك التماثل أنه سوف يمحو أفكاراً لا تروقهم، لكنهم لا يضعون في الحسبان دوما أن من شأنه إضفاء شرعية على أفكار تسوءهم أكثر.

سيلفيا كاتوري: إن الحركات التي كانت تزعم أنها تعادي الاستعمار قد ساندت التدخلية الغربية. وهنالك شخصيات سياسية من أمثال برنار كوشنر وكوهن بنديت ويوشكا فيشر قد استخدموا حقوق الإنسان والديمقراطية استخداما وقحا في سبيل أهداف انتهازية. أليست مسؤولية دعاة الحرب هؤلاء أكبر، لاسيما أن وسائل الإعلام قد هيّأت لهم المناخ الملائم للقيام بعمليات غسل للأدمغة؟

جان بريكمون: لا أرغب كثيراً في مهاجمة الأشخاص. صحيح أنني أتيت في الكتاب أحياناً، على ذكر أناس يمثلون تلك التبعية، مثل كوشنر أو هافل. إنما المسألة الهامة هي انحراف حركة أنصار البيئة. فحين قامت تلك الحركة، كانت معادية للعنف، معارضة لكل نزعة عسكرية. وها هي الآن تدعم سياسة تدخل خارجي إنساني الصبغة، ما يتطلب وجود جيوش جرّارة. إن اعتماد سياسة تدخل بصفة إنسانية، يفترض توفر الوسائل وجيشاً قوياً، والقدرة على نقل الجيوش إلى آلاف الكيلومترات. وهذا التحول في حركة أنصار البيئة أمر خارق! كان أيام الحرب الباردة تهديدا حقيقيا بالحرب، ربما كان مبالغاً فيه. كان الاتحاد السوفييتي دولة عظمى وجيشه يناصبنا العداء من ناحية المبدأ. ومع ذلك كان أنصار البيئة آنذاك يدعون إلى سياسة دفاع مدني، تعارض العنف، حتى في حال وقوع اعتداء سوفييتي. لقد أحدثت إيديولوجية التدخل إذن تحولات عميقة، لا تقبل التوفيق مع المنظور البيئي أيام انطلاقة الحركة، وذلك بسبب عسكرة الوضع السياسي الجديد لأنصارها.

طرأ ذلك التغيّر في تسعينيات القرن المنصرم، وأضحت هذه الحركات تبدي مقاومة ضئيلة جداً للحرب في العراق. بل قلما تعرضت لهذا الموضوع. فهي لا تقول على سبيل المثال: إن من أولوياتنا المطالبة بسحب الجيوش الأمريكية من العراق. والمفارقة أن في الولايات المتحدة الآن معارضة للحرب قوية جداً ضمن بعض فئات اليمين، وليس يمين المحافظين الجدد، بل اليمين التقليدي، كما بين صفوف العسكريين وعائلاتهم، الذين يدفعون ثمن الحرب أرواحا بشرية. فتشكل تلك المعارضة تناقضاً مع موقف الديمقراطيين، أو موقف اليسار «المعتدل». فهؤلاء يقولون: «ينبغي مواصلة الاحتلال، فلا يسعنا أن نترك العراقيين وشأنهم، الخ». فليست حكومة بوش وحدها التي تضعف حركة السلام!

سيلفيا كاتوري: حصل إجماع من القوى السياسية على كنس المبادئ التي تنظم القانون الدولي. وأدى عدم إدانة الدول التي تخرق تلك المبادئ إلى جعل مراكز الضغط الدولية تفقد أيضاً كل رصيد لها. لقد صادق مجلس الأمن الدولي على أسوأ العقوبات. أفما آن الأوان لرفع حواجز تمنع الولايات المتحدة، القوة العظمى، من المضي أبعد؟ أليس الأوان قد فات أكثر مما ينبغي؟

جان بريكمون: ما فات الأوان كثيراً. أما بشأن الأمم المتحدة فينبغي إظهار الفوارق. صحيح ما تقولين عن مجلس الأمن. فقد أسبغوا صفة الشرعية على العدوان وعلى العقوبات، الخ. لكن علينا مع ذلك أن نرى في الأمم المتحدة تقدماً كبيراً، قياساً على ما كان قبل 1945 لأنها دعمت القانون الدولي، وقدمت الوسيلة لتسوية النزاعات بطريقة سلمية من قبل أن تنفجر. وعمليات التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لها فوائدها أيضاً: فهي تعبر، في العديد من المسائل، عن وجهة نظر الرأي العام العالمي. أما مشكلة مجلس الأمن فتتمثل في حق النقض (الفيتو)، وفي سلطة الولايات المتحدة الفاحشة. فهي التي تتمتع بوسائل ضغط هائلة على الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن. فكل إصلاح للأمم المتحدة لابد من أن يمر بمجلس الأمن. أي أن ينال أولاً موافقة الدول التي تتمتع بحق الفيتو. ولست أدري كيف ستوافق تلك الدول على إجراء إصلاحات إيجابية، أي على فرض قيود تحد من صلاحياتها هي. وأعتقد بأن مشاريع من مناطق بعينها، مثل المشروع البوليفاري الذي يضم عدداً من دول أمريكا الجنوبية، أو مشروع شانغهاي الذي يضم الصين وروسيا وبلدان أخرى، والتي تسعى كلها لوضع حد ما للهيمنة الأمريكية، إنما هي بوادر حسنة. هنالك بعض الزعماء الأمريكيين الذين باتوا يدركون أن تلك المبادرات ليست سوى ردود فعل على سياسة بوش. فهم راغبون إذن في سياسة أكثر لطفاً. وذلك ما من شأنه أن يحدث دونما شك، إذا عاد الديمقراطيون إلى السلطة، حيث ستكون عودة إلى سياسة كلينتون.

أما إذا تفاقمت الأمور بالنسبة لهم في العراق وأضحى الوضع كارثياً، فقد تنجم عن ذلك صدمة من نوع ما، مثل حركة تمرد شعبي. أما في الوقت الراهن فيبدو المواطنون غير معنيين كثيراً، وعلى شيء من اللامبالاة. لكن سياسة ذات طابع انعزالي، قد تحظى بتأييد سريع جداً من المواطنين الأمريكيين بأكثريتهم الساحقة. ولن يكون ذلك بالحل الأسوأ بالنسبة لباقي العالم.

ترجمة: عبود كاسوحة