٢٢‏/١٠‏/٢٠٠٦

جميعنا مع رجاء بن سلامة

فلنقف جميعا في صف الدكتورة رجاء بن سلامة، الكاتبة والمفكرة التونسية العربية الشجاعة، ضد كل انواع العنف والمصادرة والتشويه والرقابة والحسبة الموجهة ضدها هذه الايام بتهمة التفكير الحر وابتكار الاسئلة. ومهما كانت الاختلافات من أي طرف كان، مع فكر د. رجاء بن سلامة، إلا اننا جميها وبلا استثناء مسؤولون عن امنها وسلامتها وحرية التعبير عن فكرها، مسؤولية شاملة لا تتجزأ.

 

Rajaa Ben Slama

شفاف الشرق الأوسط- حرّيّة عدم العبادة ليست اعتداء على العبادة

حرّيّة عدم العبادة ليست اعتداء على العبادة
د. رجاء بن سلامة*



مقال الأستاذ أبو خولة المنشور بإيلاف يوم 15 أكتوبر 2006، تحت عنوان "اجتهادات تونسية للإفطار في رمضان "، فيه الكثير من الوجاهة، ومن الحجج المستقاة من داخل المنظومة الدّينيّة على إمكان تطوير فريضة الصّيام، وإعادة تأويلها وفق مقتضيات العصر. ورغم أنّني أحترم رأيه وأدافع عن حقّه الشّخصيّ في الاجتهاد وإعادة التّأويل، بل وأعتبر مثل هذه الدّعوات دليل حيويّة وسير في اتّجاه خلق تديّن من نوع جديد، فإنّني من موقعي المتواضع كمدافعة عن الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان، أذهب مذهبا آخر في المطالبة بإصلاح سلوك المسلمين في رمضان، لأنّني أعتقد أنّ أمور العبادة في حدّ ذاتها لا يمكن أن تكون مجال مطالبة حقوقيّة، ومجال تدخّل للقانون وللدّولة، إنّما هي مجال اجتهاد شخصيّ داخل المجموعة الدّينيّة نفسها، أو مجال حوار واجتهاد بين القائمين على أمور المقدّس، أو مجال مطالبة من قبل المنتمين للمجموعة العقديّة الواحدة، كما هو الشّأن في مطالبة النّساء المؤمنات بإمامة الصّلاة، فهي مسألة داخليّة موكولة إلى ضمائر النّاس المنتمين إلى الدّين الواحد، والأفضل للدّولة أن لا تتدخّل فيها إلاّ بحماية حرّيّة الرّأي والمعتقد للجميع.
وما يدعونا إلى اتّخاذ هذا الموقف ليس عسر تغيير العبادات لما تحاط به من هالة قدسيّة فحسب، بل الأمران المواليان :
1- يجب أن نحافظ على الفصل الذي طالب به بعض المصلحين بين العبادات والمعاملات، فالعبادات مجال العلاقة الأفقيّة بين الخالق وعبده، وهي موكولة إلى ضمير الإنسان وعقيدته وحياته الخاصّة، والمعاملات مجال العلاقات البشريّة الأفقيّة وهي موكولة، أو يجب أن توكل إلى القوانين المدنيّة الوضعيّة، وكلّ ما نطالب به من مساواة وحرّية ومن تحوير للقوانين المعمول بها يتنزّل في هذا الباب.
أنصار الشّريعة، وأنصار مبدإ "الإسلام دين ودولة" يريدون إسقاط العموديّ على الأفقيّ، أي يريدون تحويل هذا الدّين إلى إيديولوجيا شموليّة تقنّن كلّ مجالات الحياة من عبادة وقانون وسياسة وأخلاق وسلوك يوميّ، فهم يرفضون القيام بهذا الفصل الذي يحرّر النّصّ الدّينيّ من استعمالاته البشريّة المعاملاتيّة. هذا الفصل بين العبادات والمعاملات هو الذي يساعدنا على جعل الدّين تجربة فرديّة مستبطنة وروحانيّة، قد تكون حافزا على احترام المبادئ الأخلاقيّة السّامية التي لم تلغها التّطوّرات الحديثة، ومنها احترام الحياة، وحرمة الجسد الحيّ والجسد الميّت، والتّكافل الاجتماعيّ، والرّحمة، والرّفق بالوالدين، وعدم حبّ المال والجاه حبّا جمّا... هذه القواعد الأخلاقيّة العامّة هي غير الشّريعة التي تفرض نظاما للمعاملات قائما على اللاّمساواة بين المرأة والرّجل، والعبد والحرّ، والمؤمن وغير المؤمن، واللّقيط والصّريح النّسب... وهذه المبادئ الأخلاقيّة العامّة، هي خلافا لأحكام الشّريعة غير متناقضة مع منظومة حقوق الإنسان، بل يمكن أن تكون مصدرا من مصادر تطويرها المستمرّ.

2- العلمانيّة على النّمط الذي أرساه كمال أتاتورك، رغم ما قامت عليه من إيجابيّات، ولّى عصرها ولم تعد ممكنة اليوم، بل ربّما تتناقض مع العلمانيّة الدّيمقراطيّة التي نطمح إليها، وهي ترمي إلى إرساء قواعد للعيش المشترك بين كلّ الأديان، وبين المؤمنين وغير المؤمنين، ولا ترمي إلى فرض قواعد معيّنة في السّلوك الفرديّ. العلمانيّة ولا شكّ تقتضي تغييرا لمجال المعاملات، وهذا ما نجح فيه إلى حدّ كمال أتاتورك وبورقيبة كلاّ في زمانه وفي سياقه، وقد أعطت تجربتهما أكلها في تحرير المرأة والتّحديث الاجتماعيّ. ولكنّ محاولتهما في تغيير معتقدات النّاس وعباداتهم ليست محبّذة وليست ممكنة اليوم.

فالسّياق الرّاهن غير سياق الزّعماء الكاريزميّين الذين يطوّرون مجتمعاتهم، أمثال أتاتورك وبورقيبة، بل هو سياق زعماء من نوع آخر، لا يحملون مشاريع للبناء والتّحوّل الاجتماعيّ، بل يحملون شعارات للتّجييش الدّينيّ والعاطفيّ ولا يهدفون إلى البناء بل يهدفون إلى الصّدام والمواجهة، ويكفي أن يكونوا مجرّد دعاة أو قادة لميليشيات حزبيّة. هؤلاء هم الذين تتماهى معهم الأغلبيّة، بل ويتماهى معهم جزء هامّ من النّخب اليساريّة والقوميّة التي أصبحت تفتخر بعدم إعمال العقل، وتتباهى بعدم الاهتمام بالمشروع المجتمعيّ الذي تخفيه عباءات هؤلاء الزّعماء.
أمام هذا التّراجع الطّفوليّ للنّخب وللشّعوب، وهذا الانحدار في طبيعة الزّعماء الجدد، لا يسعنا اليوم إلاّ أن نتمسّك بتعويض التّعويل على الزّعماء بالتّعويل على الحركيّة الاجتماعيّة والثّقافيّة التي تؤدّي، وإن ببطء، إلى التّأثير في صانعي القرار، والتّأثير في المنظومات التّربويّة والإعلاميّة والثّقافيّة، ولذلك نكتب ونطالب، ونأمل.

ولنعد إلى قضيّة فريضة الصّيام، لنقول إنّ بين العبادات والمعاملات مجال تقاطع، يتمثّل في القواعد المدنيّة التي لا بدّ من فرضها لكي لا تكون عبادة المؤمن سلبا لحرّيّة غير المؤمن، أو غير المتعبّد، وهذا مكمن الدّاء الذي أردت لفت الانتباه إليه، لأنّه مؤشّر آخر من مؤشّرات عدم التّسامح، وعلامة أخرى من علامات التّناقض بين خطاب التّسامح من ناحية والممارسات والقوانين السّائرة في اتّجاه آخر، والتي أصبحت مسلّمات وبديهيّات غير قابلة للنّقاش. هناك فئات من غير الصّائمين تفرض عليهم قواعد الصّيام وتفرض عليهم في بعض البلدان العربيّة عقوبات قانونيّة يعدّ وجودها نفسه إخلالا بالحرّيّات الأساسيّة : المؤمنون غير القادرين على أداء الفريضة، أو المؤمنون الذين أوصلهم اجتهادهم الشّخصيّ إلى إمكان عدم القيام بالفريضة، والمؤمنون الذين اختاروا أن يكونوا مؤمنين دون أن يأدّوا الطّقوس الدّينيّة، وهؤلاء يعبّر عنهم باللّغة الفرنسيّة بـ"غير الممارسين" للشّعائر (وهي عبارة ليس لها مقابل حديث في العربيّة، وللأمر دلالة). نضيف إلى هذه الأصناف : معتنقي الأديان الأخرى من المواطنين والأجانب، واللاّأدريّين واللاّدينيّين والملحدين. هؤلاء جميعا لا مكان لهم في ظلّ الممارسة الحاليّة لفريضة الصّوم في البلدان، بل هم ضحايا للمقاربة الشّموليّة للإسلام، وهي في هذا المجال مقاربة يشترك فيها الإسلام السّياسيّ مع الإسلام الرّسميّ، مع الإسلام الشّعبيّ الذي غذّت فيه الفضائيّات بؤر التّعصّب والنّرجسيّة الجماعيّة. وهو ما جعل رمضان رغم مباهجه وفوانيسه الجميلة وسهراته الحافلة يتحوّل إلى جحيم دنيويّ بالنّسبة إلى غير الممارسين لهذه العبادة. فالمطاعم والمقاهي تغلق في النّهار أو تفتح على نحو يشعر فيه المفطر بالمهانة، إذ توصد عليه الأبواب وكأنّه يقترف جريمة نكراء، ويلاحق بالنّظرات المستنكرة. ويمنع بيع المشروبات الكحوليّة للجميع، ويعتبر أيّ جهر بالإفطار اعتداء على حقوق الصّائمين، والحال أنّ حقوق الصّائمين مكفولة ولا يعتدي عليها أحد.
ما يمارس من عنف على غير الصّائمين في هذا الشّهر يدلّ على أنّ التّعصّب ليس حالة خاصّة أو إيديولوجيا معزولة، بل نمط من العيش ونظام للعلاقات بين النّاس ومناخ فكريّ. ولعلّ النّموذج الذي نجح في بنائه الإسلام المتعصّب بأنواعه هو نموذج المسلم الذي نقدّمه كالتّالي :
· المسلم العاجز عن التّحكّم في غرائزه، والذي يسيل لعابه طوال اليوم، يسيل لعابه كلّما رأى مفطرا في رمضان، كما يسيل لعابه كلّما رأى جزءا من جسد امرأة : شعرا أو وجها أو مجرّد أذن.
· نموذج المسلم "المسلوخ" الذي لا جلد يقيه من الجروح، فكلّ شيء يعدهّ مهينا له جارحا لعواطفه ولعقيدته. ولذلك فهو يقضي يومه وليله في رصد ما يقال وما يكتب عن الإسلام، وفي التّألّم من جراح المشاعر والعواطف.
· نموذج المسلم الذي لا يعبد اللّه لمحبّته إيّاه، بل ليحصل في كلّ لحظة على الثّواب والجزاء، ولذلك فهو يحوّل مأكله وملبسه وكلامه إلى عبادة متواصلة، أو إلى مؤسّسة للرّبح الآخرويّ، ويختزل علاقاته بالنّاس في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
· نموذج المسلم الذي ينتمي إلى عصرين في الوقت نفسه، فيحوّل المؤسّسات الدّيمقراطيّة إلى منابر لإنتاج القرارات المنافية للدّيمقراطيّة، ويحوّل كل مطالبة بالحرّية إلى مطالبة بالحقّ في العبوديّة.

والنّتيجة هي أنّ المسلم أصبح كاريكاتورا للإنسان الحديث، لا لأنّ الإسلام أراد له ذلك، بل لأنّه أراد هذا الإسلام، أو أراد هذا للإسلام.
إذا اقتنعنا بأنّ الإيمان لا يفرض بحدّ السّيف، فيجب أن نسلّم بأنّ الشّعائر الدّينيّة لا تفرض بحدّ القوانين الجزائيّة والتّدابير الإكراهيّة، وبأنّ حرّيّة عدم العبادة ليست اعتداء على الحقّ في العبادة.

rajabenslama@yahoo.fr

للتعليق على الموضوع

"Gmail Account"
Date: Thu, 19 Oct 2006 19:42:53 +1300

الدكتورة رجاء
ألمشكلة أنك تتكلمين عن أعلى قيم ليبرالية وهذا حلم جميل صعب المنال . ألا ترين الانهيار الثقافى والفكرى حتى بمقارنة حالنا اليوم بحالنا منذ أكثر من نصف قرن مضى، حتى وصلنا إلى درجة أننا لا نمارس المسواة بالمواطنة وعدنا إلى العصور الوسطى حيث الانتماء بالدين.
آدم ريان




* جامعيّة من تونس

شفاف الشرق الأوسط- حرّيّة عدم العبادة ليست اعتداء على العبادة.

شفاف الشرق الأوسط- حرّيّة عدم العبادة ليست اعتداء على العبادة

حرّيّة عدم العبادة ليست اعتداء على العبادة
د. رجاء بن سلامة*



مقال الأستاذ أبو خولة المنشور بإيلاف يوم 15 أكتوبر 2006، تحت عنوان "اجتهادات تونسية للإفطار في رمضان "، فيه الكثير من الوجاهة، ومن الحجج المستقاة من داخل المنظومة الدّينيّة على إمكان تطوير فريضة الصّيام، وإعادة تأويلها وفق مقتضيات العصر. ورغم أنّني أحترم رأيه وأدافع عن حقّه الشّخصيّ في الاجتهاد وإعادة التّأويل، بل وأعتبر مثل هذه الدّعوات دليل حيويّة وسير في اتّجاه خلق تديّن من نوع جديد، فإنّني من موقعي المتواضع كمدافعة عن الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان، أذهب مذهبا آخر في المطالبة بإصلاح سلوك المسلمين في رمضان، لأنّني أعتقد أنّ أمور العبادة في حدّ ذاتها لا يمكن أن تكون مجال مطالبة حقوقيّة، ومجال تدخّل للقانون وللدّولة، إنّما هي مجال اجتهاد شخصيّ داخل المجموعة الدّينيّة نفسها، أو مجال حوار واجتهاد بين القائمين على أمور المقدّس، أو مجال مطالبة من قبل المنتمين للمجموعة العقديّة الواحدة، كما هو الشّأن في مطالبة النّساء المؤمنات بإمامة الصّلاة، فهي مسألة داخليّة موكولة إلى ضمائر النّاس المنتمين إلى الدّين الواحد، والأفضل للدّولة أن لا تتدخّل فيها إلاّ بحماية حرّيّة الرّأي والمعتقد للجميع.
وما يدعونا إلى اتّخاذ هذا الموقف ليس عسر تغيير العبادات لما تحاط به من هالة قدسيّة فحسب، بل الأمران المواليان :
1- يجب أن نحافظ على الفصل الذي طالب به بعض المصلحين بين العبادات والمعاملات، فالعبادات مجال العلاقة الأفقيّة بين الخالق وعبده، وهي موكولة إلى ضمير الإنسان وعقيدته وحياته الخاصّة، والمعاملات مجال العلاقات البشريّة الأفقيّة وهي موكولة، أو يجب أن توكل إلى القوانين المدنيّة الوضعيّة، وكلّ ما نطالب به من مساواة وحرّية ومن تحوير للقوانين المعمول بها يتنزّل في هذا الباب.
أنصار الشّريعة، وأنصار مبدإ "الإسلام دين ودولة" يريدون إسقاط العموديّ على الأفقيّ، أي يريدون تحويل هذا الدّين إلى إيديولوجيا شموليّة تقنّن كلّ مجالات الحياة من عبادة وقانون وسياسة وأخلاق وسلوك يوميّ، فهم يرفضون القيام بهذا الفصل الذي يحرّر النّصّ الدّينيّ من استعمالاته البشريّة المعاملاتيّة. هذا الفصل بين العبادات والمعاملات هو الذي يساعدنا على جعل الدّين تجربة فرديّة مستبطنة وروحانيّة، قد تكون حافزا على احترام المبادئ الأخلاقيّة السّامية التي لم تلغها التّطوّرات الحديثة، ومنها احترام الحياة، وحرمة الجسد الحيّ والجسد الميّت، والتّكافل الاجتماعيّ، والرّحمة، والرّفق بالوالدين، وعدم حبّ المال والجاه حبّا جمّا... هذه القواعد الأخلاقيّة العامّة هي غير الشّريعة التي تفرض نظاما للمعاملات قائما على اللاّمساواة بين المرأة والرّجل، والعبد والحرّ، والمؤمن وغير المؤمن، واللّقيط والصّريح النّسب... وهذه المبادئ الأخلاقيّة العامّة، هي خلافا لأحكام الشّريعة غير متناقضة مع منظومة حقوق الإنسان، بل يمكن أن تكون مصدرا من مصادر تطويرها المستمرّ.

2- العلمانيّة على النّمط الذي أرساه كمال أتاتورك، رغم ما قامت عليه من إيجابيّات، ولّى عصرها ولم تعد ممكنة اليوم، بل ربّما تتناقض مع العلمانيّة الدّيمقراطيّة التي نطمح إليها، وهي ترمي إلى إرساء قواعد للعيش المشترك بين كلّ الأديان، وبين المؤمنين وغير المؤمنين، ولا ترمي إلى فرض قواعد معيّنة في السّلوك الفرديّ. العلمانيّة ولا شكّ تقتضي تغييرا لمجال المعاملات، وهذا ما نجح فيه إلى حدّ كمال أتاتورك وبورقيبة كلاّ في زمانه وفي سياقه، وقد أعطت تجربتهما أكلها في تحرير المرأة والتّحديث الاجتماعيّ. ولكنّ محاولتهما في تغيير معتقدات النّاس وعباداتهم ليست محبّذة وليست ممكنة اليوم.

فالسّياق الرّاهن غير سياق الزّعماء الكاريزميّين الذين يطوّرون مجتمعاتهم، أمثال أتاتورك وبورقيبة، بل هو سياق زعماء من نوع آخر، لا يحملون مشاريع للبناء والتّحوّل الاجتماعيّ، بل يحملون شعارات للتّجييش الدّينيّ والعاطفيّ ولا يهدفون إلى البناء بل يهدفون إلى الصّدام والمواجهة، ويكفي أن يكونوا مجرّد دعاة أو قادة لميليشيات حزبيّة. هؤلاء هم الذين تتماهى معهم الأغلبيّة، بل ويتماهى معهم جزء هامّ من النّخب اليساريّة والقوميّة التي أصبحت تفتخر بعدم إعمال العقل، وتتباهى بعدم الاهتمام بالمشروع المجتمعيّ الذي تخفيه عباءات هؤلاء الزّعماء.
أمام هذا التّراجع الطّفوليّ للنّخب وللشّعوب، وهذا الانحدار في طبيعة الزّعماء الجدد، لا يسعنا اليوم إلاّ أن نتمسّك بتعويض التّعويل على الزّعماء بالتّعويل على الحركيّة الاجتماعيّة والثّقافيّة التي تؤدّي، وإن ببطء، إلى التّأثير في صانعي القرار، والتّأثير في المنظومات التّربويّة والإعلاميّة والثّقافيّة، ولذلك نكتب ونطالب، ونأمل.

ولنعد إلى قضيّة فريضة الصّيام، لنقول إنّ بين العبادات والمعاملات مجال تقاطع، يتمثّل في القواعد المدنيّة التي لا بدّ من فرضها لكي لا تكون عبادة المؤمن سلبا لحرّيّة غير المؤمن، أو غير المتعبّد، وهذا مكمن الدّاء الذي أردت لفت الانتباه إليه، لأنّه مؤشّر آخر من مؤشّرات عدم التّسامح، وعلامة أخرى من علامات التّناقض بين خطاب التّسامح من ناحية والممارسات والقوانين السّائرة في اتّجاه آخر، والتي أصبحت مسلّمات وبديهيّات غير قابلة للنّقاش. هناك فئات من غير الصّائمين تفرض عليهم قواعد الصّيام وتفرض عليهم في بعض البلدان العربيّة عقوبات قانونيّة يعدّ وجودها نفسه إخلالا بالحرّيّات الأساسيّة : المؤمنون غير القادرين على أداء الفريضة، أو المؤمنون الذين أوصلهم اجتهادهم الشّخصيّ إلى إمكان عدم القيام بالفريضة، والمؤمنون الذين اختاروا أن يكونوا مؤمنين دون أن يأدّوا الطّقوس الدّينيّة، وهؤلاء يعبّر عنهم باللّغة الفرنسيّة بـ"غير الممارسين" للشّعائر (وهي عبارة ليس لها مقابل حديث في العربيّة، وللأمر دلالة). نضيف إلى هذه الأصناف : معتنقي الأديان الأخرى من المواطنين والأجانب، واللاّأدريّين واللاّدينيّين والملحدين. هؤلاء جميعا لا مكان لهم في ظلّ الممارسة الحاليّة لفريضة الصّوم في البلدان، بل هم ضحايا للمقاربة الشّموليّة للإسلام، وهي في هذا المجال مقاربة يشترك فيها الإسلام السّياسيّ مع الإسلام الرّسميّ، مع الإسلام الشّعبيّ الذي غذّت فيه الفضائيّات بؤر التّعصّب والنّرجسيّة الجماعيّة. وهو ما جعل رمضان رغم مباهجه وفوانيسه الجميلة وسهراته الحافلة يتحوّل إلى جحيم دنيويّ بالنّسبة إلى غير الممارسين لهذه العبادة. فالمطاعم والمقاهي تغلق في النّهار أو تفتح على نحو يشعر فيه المفطر بالمهانة، إذ توصد عليه الأبواب وكأنّه يقترف جريمة نكراء، ويلاحق بالنّظرات المستنكرة. ويمنع بيع المشروبات الكحوليّة للجميع، ويعتبر أيّ جهر بالإفطار اعتداء على حقوق الصّائمين، والحال أنّ حقوق الصّائمين مكفولة ولا يعتدي عليها أحد.
ما يمارس من عنف على غير الصّائمين في هذا الشّهر يدلّ على أنّ التّعصّب ليس حالة خاصّة أو إيديولوجيا معزولة، بل نمط من العيش ونظام للعلاقات بين النّاس ومناخ فكريّ. ولعلّ النّموذج الذي نجح في بنائه الإسلام المتعصّب بأنواعه هو نموذج المسلم الذي نقدّمه كالتّالي :
· المسلم العاجز عن التّحكّم في غرائزه، والذي يسيل لعابه طوال اليوم، يسيل لعابه كلّما رأى مفطرا في رمضان، كما يسيل لعابه كلّما رأى جزءا من جسد امرأة : شعرا أو وجها أو مجرّد أذن.
· نموذج المسلم "المسلوخ" الذي لا جلد يقيه من الجروح، فكلّ شيء يعدهّ مهينا له جارحا لعواطفه ولعقيدته. ولذلك فهو يقضي يومه وليله في رصد ما يقال وما يكتب عن الإسلام، وفي التّألّم من جراح المشاعر والعواطف.
· نموذج المسلم الذي لا يعبد اللّه لمحبّته إيّاه، بل ليحصل في كلّ لحظة على الثّواب والجزاء، ولذلك فهو يحوّل مأكله وملبسه وكلامه إلى عبادة متواصلة، أو إلى مؤسّسة للرّبح الآخرويّ، ويختزل علاقاته بالنّاس في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
· نموذج المسلم الذي ينتمي إلى عصرين في الوقت نفسه، فيحوّل المؤسّسات الدّيمقراطيّة إلى منابر لإنتاج القرارات المنافية للدّيمقراطيّة، ويحوّل كل مطالبة بالحرّية إلى مطالبة بالحقّ في العبوديّة.

والنّتيجة هي أنّ المسلم أصبح كاريكاتورا للإنسان الحديث، لا لأنّ الإسلام أراد له ذلك، بل لأنّه أراد هذا الإسلام، أو أراد هذا للإسلام.
إذا اقتنعنا بأنّ الإيمان لا يفرض بحدّ السّيف، فيجب أن نسلّم بأنّ الشّعائر الدّينيّة لا تفرض بحدّ القوانين الجزائيّة والتّدابير الإكراهيّة، وبأنّ حرّيّة عدم العبادة ليست اعتداء على الحقّ في العبادة.

rajabenslama@yahoo.fr

للتعليق على الموضوع

"Gmail Account"
Date: Thu, 19 Oct 2006 19:42:53 +1300

الدكتورة رجاء
ألمشكلة أنك تتكلمين عن أعلى قيم ليبرالية وهذا حلم جميل صعب المنال . ألا ترين الانهيار الثقافى والفكرى حتى بمقارنة حالنا اليوم بحالنا منذ أكثر من نصف قرن مضى، حتى وصلنا إلى درجة أننا لا نمارس المسواة بالمواطنة وعدنا إلى العصور الوسطى حيث الانتماء بالدين.
آدم ريان




* جامعيّة من تونس

شفاف الشرق الأوسط- حرّيّة عدم العبادة ليست اعتداء على العبادة.

د. رجاء بن سلامة-مقال-الفحل السياسي

http://www.concours-arabe.paris4.sorbonne.fr/cours/benslama.pdf

صفحة الطباعة | العربية نت


الأربعاء 10 نوفمبر 2004م، 27 رمضان 1425 هـ


 


الهذيان الديني الأصولي.. بعض المداخل النفسية لدراسته






د.رجاء بن سلامة

ما الذي يقع بين المفتي الفضائي والمتفرجين المعجبين به, والذين يتحولون إلى أتباع له في معتقداتهم وعباداتهم وسلوكهم? ما الذي يقع بين كل داعية أصولي ومن يتقبلون دعوته? بين كل "مرشد" وأتباعه من "الإخوان"? بين كل "مقاوم" مجاهد على نحو الزرقاوي وكتائبه التي تبسمل وتكبر وهي تزرع الموت والدمار فيما حولها?
هل توجد فوارق جوهرية بين القرضاوي وأمثاله والزرقاوي وأمثاله?
لا شك أن بين التحريض على القتل, قتل المرتد أو الأميركان المدنيين وبين القتل نفسه بلا أدنى شعور بالإثم فرقا مهما يتمثل في ما يسمى في التحليل النفسي ب¯"المرور إلى الفعل". ولكن ما نلاحظه هو خضوع الأصناف المذكورة من الدعاة, وخضوع نموذجي القرضاوي والزرقاوي بالذات إلى نفس البنية الفكرية المتمثلة في الفكر الأصولي, ونفس البنية العلائقية الرابطة بين الشيخ والمعجبين به, وبين الشيخ والله. هذا ما سنحاول بيانه من خلال ثلاثة محاور أولية, سنحاول بلورتها لاحقا في بحث معمق ومطول.
فالأصولية ليست فكرا فحسب, نحلله بأدوات معرفية, وليست مجرد خطابات تصدر عن سلطة دينية فحسب, بل هي "حالة" وبنية علائقية, يمكن أن نتوسل إلى دراستها بما طورته المعارف التحليلنفسية عن طبيعة التماهي في المجموعة وعن النرجسية والتأثم والنزعة التدميرية الناجمة عن انفصال دوافع الحياة عن دوافع الموت... ويمكن أن نعتبر هذه الحالة هذيانية شريطة أن نضع في حسباننا أن الهذيان ليس بالضرورة شطحا كلاميا لا معنى له ولا رابط, بل إنه قد يكون كلاما منظما منسجما داخليا, ويكون في الوقت نفسه إنتاجا لتأويلات خاطئة عن العالم, وتحريفا للواقع وللمدركات يتنافى مع كل نظر علمي أو تاريخي. فخطابات بن لادن هذيانية رغم انسجامها الداخلي لأنها تحدثنا عن عالم وعن قوى لم تعد موجودة إلا في ذهنه وذهن أتباعه : عالم بسيط بدائي تحكمه ثنائيات الإيمان والكفر, والجنة والنار, والخير والشر, وهي هذيانية لأنها تسقط عالم معارك النبي كما تؤسطرها الأخبار الإسلامية على عالم اليوم بكل ما فيه من تعقيد وبكل ما يفصله عن عالم القرن السابع من تحولات جغرا-سياسية مهولة. وليس العالم الذي يبنيه القرضاوي بخال من هذا الهذيان, رغم كل ما يمكن أن يوصف به من "اعتدال" أو من تقلب تكتيكي إيديولوجي. فالقرضاوي يفتي وهو رافض للتاريخ, مول وجهه شطر مؤسسة الخلافة التي لم تعد موجودة إلا في خياله السياسي, وهو إلى ذلك يحتكم إلى نفس الثنائيات التي يحتكم إليها ابن لادن, وإن بأقل سذاجة وأكثر معرفة بالدقائق الفقهية.
ولكن وصفي لهذه الحالة بالهذيانية لا يعود إلى طبيعة الخطابات الصادرة عن هؤلاء الدعاة فحسب, بل إلى طبيعة العلاقة التي تربطهم بالمعجبين والمريدين : إنها علاقة تقوم على الإيحاء والتنويم والتماهي, وتأجيج الوهم على نحو ما سنبينه.
1- الفتنة والتماهي
فبين دعاة الإسلام الأصولي والمتقبلين لدعوتهم توجد لعبة تنبني على الفتنة من جانب الداعية والتماهي من جانب المتقبلين لدعوته. تتمثل الفتنة في ممارسة الشيخ الداعية للهيمنة عن طريق استدرار الإعجاب, ويتمثل التماهي في محاولة أنا المعجب امتلاك صفات الداعية محل الإعجاب واستبطانها وكأنها صفاته الخاصة.
فالفتنة التي ينسبها الأصوليون للمرأة, ليجعلوها أحد كباش الفداء المفضلة لديهم, هم الذين يمارسونها في الحقيقة, يمارسونها مع أتباعهم عبر تجربة التماهي المذكورة. ينتصب الزعيم الديني أبا روحيا يحاول إخضاع الأتباع إليه وتحويلهم إلى أبناء روحيين, أو لنقل بعبارة أكثر تقنية إنه ينتصب في موقع "مثال الأنا" بالنسبة إلى كل فرد من أفراد المجموعة, فيتخذه كل مفتون بديلا منمذًجا عن الأب, راغبا, من حيث لا يعي, في الحلول محل الابن الروحي للأب الروحي, في انتظار أن يتحول هو بدوره ربما إلى أب تحيطه هالة الاحترام والتقديس.
وأول ما يطالب به الزعيم الروحي, هو التضحية بالعقل, قبل التضحية بالنفس. تتم في إطار الجماعات الدينية المنظمة في الواقع أو الافتراضية (عبر الفضائيات أو وسائل الاتصال الأخرى) عملية غسل دماغ, وتلقيم لليقينيات, وشل للتفكير النقدي, هي التي تفسر علاقة الطاعة والاتباع, وتفسر عسر تبني هذه المجموعات للنموذج الديمقراطي القائم على النقد والحوار. ويستمد الأب الروحي من الله ومن النص المقدس شرعية مباشرة, بما أن الداعية يخفي ذاته, ويتكلم باسم الإسلام أو باسم الله مباشرة, تساعده في ذلك هذه العادة الخطابية المستشرية واللامعقولة المتمثلة في بدء الإنسان المسلم كلامه بالبسملة, وكأن الله يتكلم فيه, أو كأنه يتضاعف كذات متلفظة كما تتضاعف الذات المتلفظة في القرآن : هو يقول والله يقول معه مراوحة أو في الوقت نفسه. وعندما يشل التفكير, تتضخم العواطف, عواطف الانتقام والشفقة والخوف, ويتحول الكلام إلى صراخ نُدبة مطول, إلى "واإسلاماه" مرتلة, تستدر الشفقة من ناحية والانتقام من ناحية أخرى.
عندما يتحول كل الأتباع إلى أبناء روحيين, يصبحون "إخوة" لأب واحد يجعلهم التماهي النرجسي معه أشباها ونظائر ك¯"أسنان المشط", ويجعلهم أمة مصغرة لا مجال فيها للفرادة ولا للفكر الشخصي, بما أن كل فرد لا يعدو أن يكون لبنة من لبنات "البنيان المرصوص."
يقع المريد في قبضة الداعية, وتحت رقابته المستمرة, لأن المريد يستفتي في كل صغيرة وكبيرة, والداعية يُفتي في كل صغيرة وكبيرة, مشغلا آلة التأثيم المستمر, مطالبا بالتضحية والمزيد من التضحية.
2- النرجسية ورفض الإخصاء
إن توق الإنسان إلى تجسيد القيم المثالية أمر طبيعي به تستقيم الثقافة وما تقوم عليه من مؤسسات دنيا. ولكن تحول هذا التوق إلى وهم بإمكان تحقيق الكمال وتحقيق الصفاء هو الانحراف الذي يمكن أن يتعرض إليه الإنسان في تجربة التماهي مع الأب الروحي هذه. التعصب, الذي هو كما يقول فولتير ابن مشوه للدين, هو تجربة الإيغال في الارتباط بالمذهب والعقيدة. هذا بديهي, ولكن التعصب أيضا, حسب التحليل النفسي, رفض نرجسي للإخصاء أي: رفض للحدود التي تفرضها المنزلة البشرية, ورفض للتعقد ولتلاوين الفكر, ورفض لخوض تجربة الغيرية, وإقبال على البساطة والبدائية والتماثل. التعصب بحث مهووس عن الصفاء في عالم لا صفاء فيه, ورغبة في أن يتحول الكل إلى أشباه وأمثال. يأتي كل فرد ضحية للداعية إلى المجموعة الدينية بقصة بؤس وجراح لم تلتئم لعدم حصول النضج الأوديبي (فهذا العامل, عامل عدم النضج النفسي وعدم المناعة أهم من العوامل الاقتصادية التي يلح عليها الخبراء عادة). فيجد هذا الفرد لدى المجموعة تأجيجا للوهم, ووعدا بالجنة وبالخلود, ويستمد من الأب الروحي رضا على النفس وشعورا بعظمة الانتماء إلى حلقة المصطفين. وهنا يتأكد البعد العدائي الأساسي الذي تتسم به حالة التعصب والتماهي, أي يتأكد كره الآخر المختلف قليلا أو كثيرا. فالأصولي في تجربة التماهي هذه, وفي رفضه للإخصاء, لا يريد عيش محنة الاختلاف, بل بالعكس : كلما احتد أمامه اختلاف, اشتد ارتباطه بالأب الروحي وبالمجموعة من الإخوان المتشابهين المتراصين, ولاذ من خطر قبول المختلف بالعقيدة والمذهب والطقوس.
وما يجعل كره الآخر مصدرا للتدمير, تدمير الذات بالانتحار, وتدمير الآخرين بالقتل, أو تدمير الذات والآخر معا, هو انفصال الكره عن الحب وانفصال دوافع الموت عن دوافع الحياة. فتضافر هذه الدوافع على نحو متسق هو مصدر توازن الذات في توقها إلى الآخر وفي حفاظها على نفسها في الوقت نفسه. ولكي نبسط مفاهيم غاية في التعقد, نقول إنه لا بد من حد أدنى من الكره داخل الحب لكي لا يذوب الإنسان في الموضوع (المحبوب), ولا بد من حد أدنى من الحب لكي لا تدمره الغيرة والحقد والرفض. هذه الحدود الدنيا تضمحل وينفصل الحب والكره سائرين في اتجاهين مختلفين تماما : يسير الحب كل الحب نحو الأب الروحي والله والمذهب, ويسير الكره كل الكره نحو الآخرين المختلفين, فتحصل الكارثة التي تمجدها الثقافة العربية السائدة: كارثة العمليات الانتحارية التي تنعت ب¯"الاستشهادية", وتحصل الكوارث التي لا تقل حدة : رمي المختلفين بتهمة الردة, والتكفير والتفسيق واستمداد المتعة من إلحاق الأذى اللفظي أو الجسدي بالآخر وإسقاط الأحقاد على النساء والمختلفين في الدين وطريقة العيش. كل ما يعوق تحقيق الوهم الذي هو الغاية من نمذجة الأنا يجب أن يلغى, ولذلك فإن المشاجب التي تسقط عليها الرغبات والاختلافات المرفوضة يجب أن تلغى. ولهذا السبب لا يشعر المحرض على العنف القداسي أو المرتكب له بالإثم, بل يرتكب أفظع الجرائم وكأنه منوم أو مخدر, يذبح الرهينة, كبش الفداء البشري وكأنه يذبح الكبش الحقيقي في يوم العيد.
وقد تتدخل عوامل أخرى تكتيكية في هذه التركيبة القائمة على التماهي والعداء, تجعل داعية مثل القرضاوي يفتي بضرورة قتل المدنيين الأميركان في العراق, ثم يتراجع عن فتواه, لأنه ليس داعية فحسب, بل إيديولوجي متاجر في سوق المعتقدات, بالإضافة إلى كونه متاجرا في سوق الأموال, حريصا على مصالحه الشخصية البشرية جدا, والتي لا تخفى إلا على ضحاياه من المفتونين به.
3- حضور الله كل الحضور, وحضور "وجه الإله المظلم" على الأخص لا يشعر الأصولي بالإثم إزاء مشاجب كرهه وإسقاطه, ولكنه يشعر بالإثم إزاء الله والأب الروحي. لأن التماهي في الجماعة ينبني على "الرغبة في رغبة الآخر", وهذا الآخر الأكبر, (أي الله أو الأب الروحي) يجعل الإنسان يشتهي إخصاءه الواقعي (موته) نتيجة لرفضه الإخصاء الرمزي العادي, أي رفضه الحدود والنهايات والغيرية.
وهنا نقف على بؤرة أساسية من بؤر الهذيان الأصولي تتمثل في أن الذات الإلهية فيه ليست متعالية ومفارقة بل حاضرة كل الحضور, تدل على ذلك مقررات الأصوليين فيما تعلق بالتأويل وبطبيعة الكلام الإلهي. ويمكن أن نقدم في هذا الصدد مثالا نستقيه من كلام متولي الشعراوي, الذي كان في عهد السادات يظهر على الشاشة المصرية أكثر من السادات نفسه, والذي نشرت فتاواه في شكل أسئلة وأجوبة تضم ستة مجلدات. في إحدى هذه المحاورات, تساءل محاور الشيخ عن الآيات التي تبتدئ ب¯ "ويسألونك عن", فأجاب : "كل سؤال يطرحه الله نجد أن الرسول تلقى الجواب من الله ب¯(قل) : يسألونك عن المحيض قل هو أذى, كأن المسألة ليس فيها اجتهاد لبشر هو الذي قال هكذا... فتسأل أنت كيف? ... وهذا يؤكد المباشرة بين العابد والمعبود, وفيها معنى التقاء الاثنين".
ليس مكمن الخطورة في إلغاء الشعراوي الاجتهاد البشري, وإلغائه وساطة النبي بين الله وعباده, رغم أنه هو المخاطب ب¯"قل", بل في قوله بوجود علاقة "مباشرة" يلتقي فيها الله والناس. ويتأكد هذا الإصرار على حضور الله في فصل آخر بعنوان "هل لغة القرآن العربية لفظا هي عين كلام الله?" يظهر فيه التعارض بين الشعراوي وابن سينا : فالشيخ ابن سينا "يعارض كون كلام القرآن في المصحف عينه كلام الله, وإنا يرى أن لله كلاما لا نعرفه نحن البشر... أما الشعراوي, فيقول إن"القرآن المكتوب في المصحف برسمه وهيئته من الله سبحانه وتعالى بنفس اللغة وأعطاني الدليل الفكري الفلسفي المنطقي... ويعلق محاور الشعراوي : ولقد كنت مقتنعا برأي ابن سينا فيلسوف وحكيم عصره. وبعد أن حدثني الشيخ الشعراوي إمام عصره في هذه المسألة اقتنعت برأيه وأرجحه لأنه أقرب إلى العقل والفكر والوجدان".
يلتحم "العقل والفكر والوجدان" لتأكيد لحمة جنونية غير مسبوقة ربما بين الله وعبده, وللذهاب إلى أبعد حد في الاعتقاد بسلبية دور الإنسان في تلقي الوحي, بحيث أن القرآن كلام الله المباشر, والله ليس مفارقا, ولا داعي إلى التأويل باعتباره عودة إلى الأول, بما أن الأول, أي الأصل حاضر كل الحضور.
هذا الإله الحاضر كل الحضور, أليس هو الذي يسميه فرويد ب¯"الإله المظلم" : أي هذا الأب الغاضب المطالب بالتضحية, والمطالب برغبة العباد في التضحية, والمطالب بالتأثم والمزيد من التأثم إلى حد تدمير العبد ذاته في لهاث مستمر بين الإثم والتكفير عنه, بين الحب المفرط لهذا الآخر الكبير ذي الحضور النابي والكره الشديد لكباش الفداء?
هذه التركيبة النفسية التي نجدها في الحالة الأصولية, وفي علاقة الداعية الأصولي بضحاياه من الأتباع, وفي علاقة كل هؤلاء بالذات الإلهية هي التي تجعلنا نقدر مدى الدمار الذي لحق الثقافة العربية من جراء تحول هؤلاء الدعاة إلى نجوم تمشهدهم وسائل الإعلام بكل طمأنينة, ومن جراء مداهنة الساسة و"المثقفين" العرب لهذه الحالات الهذيانية الخطيرة التي يغدقون عليها ألقاب "الشيخ" و"سماحة الشيخ" و"فضيلة المفتي"...
* نقلا عن جريدة "السياسة" الكويتية



جميع الحقوق محفوظة لقناة العربية © 2004

صفحة الطباعة | العربية نت.

ثعلب تونس يكذب على العمير وجار الله

ثعلب تونس يكذب على العمير وجار الله
GMT 18:30:00 2006 السبت 21 أكتوبر أشرف عبدالقادر




التقيت الأسبوع الماضي بطالب مغربي يحضر رسالة دكتوراه حول المواقع التي يغذيها المتأسلمون بالشائعات والأكاذيب والفتاوى الكاذبة المجهولة المصدر ... ومن بين هذه المواقع أعطاني اسم موقع "صوت العروبة وطلب منى بابتسامة ذات معنى أن أحزر صاحب المقال المنشور فيها بعنوان "خصيان إسرائيل في العالم العربي". ومن السطور الأولي قلت له "السر ذائع" هو ثعلب تونس المتأسلم صاحب الشخصية النفسية المريضة والمؤذية، ومخترع الأكاذيب المذهلة عملاً بقول طيب الذكر غويلس- وزير هتلر للدعاية – "كلما كبرت الكذبة كلما كبر حظها من التصديق". تصدى ثعلب تونس بحقد وسعار لـ"جواسيس الإعلام مروجو البروباغندا الإسرائيلية" " قائلاً:"هل من حقنا أن نسأل هل عثمان العمير عربي أم إسرائيلي؟ ويحق لنا أن نسأل عن السعر الذي أجر "عمير" اليهودي الاسم هذا الموقع "إيلاف" لوزارة الحرب الصهيونية لتضخ منه سمومها الإعلامية". وطبعاً ثعلب تونس كعادته تقمص هذه المرة شخصية متغاضب لبناني عمده على بركة شيطان الكذب الأزرق "خضر عواركه" ويسأل ببراءة تجمع بين الخبث والبلاهة"هاني فحص" عن توقيت نشر مقاله لشق الصف الحديدي لأهل جيل عامل الطيبين"، وبذات البراءة الخبيثة البلهاء يتساءل لماذا وصفت السعودية مغامرة حزب الله بالمغامرة غير المحسوبة ... لكن نصر الله ذاته، أكد ما قالته السعودية عندما صرح في التلفزيون قائلاً:"لو كنت أعلم أن نصف واحد بالمائة من الخسائر التي أوقعها العدو بلبنان ستحصل ، لما قمت بعملية خطف الجنديين" المشئومة على لبنان وعلى حزب الله نفسه الذي فقد مواقعه ومنصات إطلاق صواريخه بعيدة المدى، وفقد جنوبه، وقد يفقد قياداته بمن فيها نصر الله نفسه.
"خطأ" الدبلوماسية السعودية أنها تنبهت للغلطة القاتلة قبل أن يعترف بها حسن نصر الله بعد ذلك بأكثر من شهر !!! ثعلب تونس المتأسلم، والذي هو في الواقع أشد عداوة للإسلام والمسلمين من أشد أعدائهم المتعصبين من الصهاينة والصليبيين، حاقد على حرية الصحافة التي تمارسها إيلاف وغيرها من المواقع والصحف. ويظهر حقده الأسود وعجزه عن تقديم نقد موضوعي للإعلاميين الأحرار من الأخوة الشيعة الذين تصدوا لمغامرة حسن نصر الله المشؤومة على لبنان، فلا نجد في جعبته إلا "الردح"والسباب الزقاقي الذي لا يصدر إلا عن المعقدين والمكبوتين جنسياً قائلاً: "أنت أيها الياس(عميل أل الحريري وصهيون) شقيق في الخصي لنصير الأسعد وأسعد حيدر ويحي جابر وصقر صقر، ولقمان سليم وفادي سليم ... وصبى أمة فارس الأسعد". أرأيتم هذه الحجج الثعلبية – عفواً المنطقية – التي يبرر بها عمالة الإعلام الحر لـ"البروباغندا الإسرائيلية؟!!! بربكم تذوقوا مرة أخرى طعم المنطق الثعلبي في النقد الإعلامي :"خصيان الحريري وأمريكا وإسرائيل أنتم ... يكفي انتقام الله منكم بأن أسماكم عبيد آل الحريري وعبيد البترودولار وعبيد آل صهيون ...".
يواصل ثعلب تونس العواء على الأقلام الحرة فيعوى على الصحفي الكويتي الحر جار الله ويسميه "جار إسرائيل"، ويعوى على قلمي أنا العبد الضعيف أشرف عبد القادر، الذي أعمل في مطعم بيتزا ليل نهار مقابل 50 يورو يومياً، مدعياً بأني عميل لوزارة الحرب الإسرائيلية وتدفع لي بالملايين. وها هو ثعلب تونس المسعور يقدم قائمة لقتلة حزب الله بأسماء كتاب "موقع إيلاف الأسود": مقالات إيلي الحاج وأشرف عبد القادر:نصر الله المجرم، وهدي الحسني الملقبة بشمطاء واشنطن- الشرق الأوسط -، ومقال خضير الياهو طاهر"وعلى نصر الله أن يستسلم"، والصحافي الإسرائيلي – ناشر جريدة السياسة [الكويتية].
الآن يا قتلة حزب الله لقد قدم لكم ثعلب تونس الدموي طبقا شهيا من أصحاب الأقلام الحرة لتغتالوهم في أول مناسبة سانحة.انتم جاهزون للذبح ونحن مستعدون للشهادة من أجل الجهاد من للحق، ألم يقل رسول الله صلي الله عليه وسلم "الجهاد كلمة حق تقال في وجه سلطان جائر". وهل يوجد أشد جوراً من سلاطين الإرهاب الإسلاموي؟ وعلى الباغي تدور الدوائر.

ثعلب تونس يكذب على العمير وجار الله.

حملة شعواء ضد المفكرة الحرة رجاء بن سلامة

حملة شعواء ضد المفكرة الحرة رجاء بن سلامة
GMT 8:00:00 2006 الأحد 22 أكتوبر د أبو خولة




منذ بداية اهتمامي بقراءة إيلاف و أنا استمتع، كغيري من ملايين القراء العرب، بقراءة فكر ثلة من التنويريين و المفكرين الأحرار و في مقدمتهم د. رجاء بن سلامة، التي تمتاز باختيار المواضيع ذات الأهمية القصوى لعالمنا العربي-الإسلامي، و بمنهجيتها العلمية و التحليلية، و بإخلاصها الصوفي للعمل، بالإضافة لطريقتها التربوية الرائعة في عرض أفكارها.و حيث أن جل مشروعها الفكري الرائد منصب على العوائق التي تحول دون تقدمنا على طريق الحداثة، كان رد فعل قوى التخلف و عداء المرأة الدفين قويا منذ البداية، اذكر منه على سبيل المثال لا الحصر، الدعوة الصريحة التي أطلقها راشد الغنوشي، مؤسس الحركة الأصولية التونسية -النهضة- لشنقها في ساحة "الباساج" وسط تونس العاصمة (هكذا!)، مع المفكر العفيف الأخضر.
ما أثار حقد الغنوشي حقيقة هو مواصلة د. رجاء بن سلامة نشر مقالاتها الرائعة التي تفضح "ديمقراطيته الزائفة" على موقع إيلاف، لتتلقفه بعد ذلك عديد المواقع الأخرى، مما أصاب شخصيته النرجسية في الصميم. و بالرغم من التجني و الرسائل البورنوغرافية التي تكللت بفضيحة للمعني يعرف تفاصيلها المذهلة قراء إيلاف، واصلت د. رجاء بن سلامة رسالتها بنشر آرائها الجريئة و العميقة، من بينها مقال بعنوان :"نحن و حزب الله...و الهذيان التبشيري" في الأول من أغسطس الماضي، الذي أدى إلى هياج الإسلاميين و القوميين المحبطين الباحثين عن "مخدر" الانتصار على إسرائيل، و لو كانت تفاصيل هذا "الانتصار" لا تساوي إلا هزيمة في واقع الأمر. ويقود تحالف القومجية و"اليسار" هذا، المبشر بأكثر الشموليات طغيانا و دموية، مجموعة غوغائية متشنجة نذكر منها الطاهر الهمامي، الذي شن هجوما على فكر د. رجاء بن سلامة في صحيفة "الشعب" لسان الاتحاد التونسي للشغل. و الطاهر الهمامي لمن لا يعرفه هو ناقد و باحث و شاعر كمان وهب قلمه للدفاع عن الشهير "جدانوف"، راس جهاز قمع "الرفيق يوسف ستالين" ، وجلاد ألبانيا "أنور خوجة" مخلص الطبقة العاملة و منقذ البشرية.
و جاء مقال الحبيب أبو الوليد، وهو اسم مستعار و بلا شك لذلك الذي حلم و لا زال يحلم بشنق رجاء بن سلامة، في صحيفة الوسط الإلكترونية التونسية:www.tunisalwasat.com) بتاريخ 13-8-2006 ، الذي يخلص فيه إلى أن الأستاذة و رابطة العقلانيين العرب التي تنشط بها ما هم إلا "كفار لا يؤمنون بمبدأ" (انظر المقال الأخير لشاكر النابلسي بعنوان: هل تصبح رجاء بن سلامة شهيدة الحق الليبرالي؟). و من المهم التنويه هنا بان رابطة العقلانيين العرب غير معروفة في تونس و كتبها لا توزع فيها، وان المتاسلمين هم وحدهم الحاقدون على الفكر النقدي-التنويري، وحده القادر على تغذية فكر الشباب العربي الباحث عن ملاذ عقلاني من هذيان المتاسلمين.
كما هو معلوم، تقف حركة النهضة وراء عديد المواقع الإلكترونية التي تعمل بطريقتها المعروفة لتجريم و تكفير حملة لواء الفكر العقلاني و الإسلامي المستنير. و على هذا الأساس جندت الحركة الأصولية أربعة طالبات متاسلمات ليشهدن بان د. رجاء بن سلامة تجاهر بالكفر في دروسها. و القصد الإجرامي من وراء ذلك هو تلفيق تهمة الردة لها و هدر دمها. و هذا ما حصل في عديد المقالات التي نشرت بهذا الصدد على صحيفة تونس نيوز الإلكترونية (www.tunisnews.net).
لقائل أن يقول ما العيب في كل هذا، و ما على الأستاذة بن سلامة إلا أن تدافع عن آرائها و تستعمل حق الرد في الصحافة. لكن الطريقة التي تكال لها بها الاتهامات و خطر بعضها (مثل اتهامها بالكفر) تبعد كل البعد عن ابسط قواعد أدبيات الحوار، الذي من المفروض أن يقارع الحجة بالحجة.
هذه رسالة توضيح شخصية و متواضعة لمحنة جديدة لاحد ابرز ضحايا خفافيش الظلام و محاكم التفتيش جديدة العهد عندنا ، بعد أن تخلصت منها كافة الثقافات الأخرى تقريبا، وهي أيضا رسالة تحية تضامن مني -و من كل الذين يشاركونني الرأي- للشد على يد الكاتبة و المفكرة الشجاعة د. رجاء بن سلامة، وهي في نفس الوقت رسالة إدانة للطرق الإرهابية للقوى المضادة لحرية الفكر، و حرية النقد و الحوار بين الرأي و الرأي المخالف دون تجريم و لا تأثيم و لا تكفير و لا إهدار للدماء.

حملة شعواء ضد المفكرة الحرة رجاء بن سلامة.