٢٣‏/٧‏/٢٠٠٥

من يريد خنق تونس؟


من يريد خنق تونس؟

بقلم محمد الشقراوي
أستاذ بجامعة تونس

هي البلد العربي والإسلامي الأكثر انفتاحا على أوروبا وعلى الغرب بصورة عامة : وكل شيء تقريبا في حياتها الاجتماعية كما في مؤسساتها السياسية موسوم بالتحديث. إلا أن الأمر لا يتعلق في الواقع بتحديث موسوم كليا من أنماط عيش هذا المجتمع أو ذاك. فالاتجاه الإصلاحي التونسي هو تونسي قلبا وقالبا وهو بالتأكيد متفتح على التأثيرات الخارجية الإيجابية لكنه متجذر في أعماق الموروث الثقافي للبلاد وفي حضارتها العربية الإسلامية .
وهنا ربما يكمن ما يثير غيظ بعضهم. فكيف يمكن لبلد "صغير" مثل هذا أن يتجرأ على تنظيم نفسه بنفسه وتقرير مصيره بنفسه وأن يختار طريقه وأولوياته وفق مصالحه الحيوية دون الرجوع إلى قوة وصية أو إلى راع إيديولوجي ما متواجد في ما وراء البحر الأبيض المتوسط. هذا غير مقبول. ومن هنا تنطلق مظاهر الغيظ كلما تعلق الأمر بتونس .
فبعضهم يعمل انطلاقا من عواصم ما وراء متوسطية على تشويه صورة البلاد بتقديمها كما لم تكن أبدا بينما يحاول البعض الآخر خنقها بعديد الطرق : رقابة مغايرة تمام للأفكار المسبوقة عن تونس، توزيع مناشير من قبل جمعيات مزعومة للدفاع عن الصحافة تدعو السياح لإخلاء الوجهة، أعمال عنف ضد موظفي الديوان التونسي للسياحة ومحاولات تخريب المكان، نداءات إلى المستثمرين الأجانب لمقاطعة البلاد.. والقائمة تطول .
إن تونس، كما تعلمه وتصرح به جميع الهيئات الدولة المختصة، هي البلد الأكثر التزاما في الضفة الجنوبية للمتوسط بصيانة المحيط ومقاومة التلوث مع تحقيق نتائج مرموقة في هذا الميدان. وتأتي بلدان أخرى من المنطقة إلى تونس لتستلهم من هذه البرامج البيئية وتكوين أعوان شركائها في مجال الإنتاج الإيكولوجي. وها أن مبعوثة خاصة لجريدة مجهولة الاختصاص لحد الآن لدى الجمهور العريض في الميدان البيئي تحاول إقناعنا إثر فسحة لبعض الساعات في تونس بان التلوث يشكل أحد المصاعب الكبرى لدى السكان التونسيين .
كما أن التقدم الحاصل في مجال المساواة بين البنات والفتيان والذي تحسد تونس عليه حتى بعض البلدان الأوروبية لم يرق للمبعوثة الخاصة التي ادعت أن هناك مظاهر تمييز بين الفتيان والفتيات في تونس. وهو ادعاء يثير استغراب أكثر من خبير تابع لليونكسو أو لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية، المنظمتين ا لمختصتين في هذه المسائل اللتين تقران بان تونس متقدمة في هذا المجال على أهداف ألفية الأمم المتحدة. إنها ادعاءات تفندها تماما نتائج الدراسة الأخيرة التي نشرتها الأسبوع الماضي منظمة "فريدوم هاوز" (بيت الحرية) الأمريكية. لكن ربما يجب عدم تضخيم هذا النفي للبديهيات لان هناك أدهى من ذلك في المنحى الجديد لنفي البديهيات. فمنذ مدة قدمت نفس وسائل الإعلام إصلاحا يدخل المزيد من المرونة على تعدد الزوجات في أحد بلدان المنطقة ويحث الرجال على عدم اللجوء إلى الطلاق التعسفي لزوجاتهم إلا في بعض الظروف، معتبرة هذا الإصلاح تقدما ثوريا في العالم العربي، في حين ان الطلاق التعسفي وتعد الزوجات ألغيا في تونس منذ نصف قرن .
وكذلك الشأن بالنسبة إلى الرمز الآخر للنجاح التونسي والمتمثل في الطبقة الوسطى الهامة التي تشمل أكثر من ثلاثة أرباع سكان البلاد والتي لا يوجد ما يماثلها في أي مكان آخر من المنطقة ومن القارة. وبالرغم من أن الوقائع لا يمكن إنكارها في هذا المجال لأنها ملموسة فإن المبعوثة الخاصة للجريدة الكبرى "المرجع" تؤكد بشكل قاطع أن تلك الطبقة الوسطى في طريقها إلى الزوال. فما هي براهينها ؟ هل هو تحقيق لمؤسسة مختصة؟ لا. هل هي تقارير لمصالح استخباراتية ؟ لا أيضا. بل إن مجرد "دردشة" مع شخصين أو ثلاثة تم انتقاؤهم لإدراج آرائهم في "سياق المقال" الذي كتب لتشويه الواقع التونسي كان كافيا لكتابة هذه الأكذوبة الكبرى : كل التونسيين من النادل إلى الطبيب مكبلون بديون ضخمة تقض مضجعهم. بأية طريقة التقت الصحافية بكل هؤلاء التونسيين الذين يمثلون 80 بالمائة من سكان البلاد في بضعة أيام استغرقتها مهمة "خاصة"؟ إن قدرات هذه المبعوثة الخاصة هي بالتأكيد لا يمكن تخيلها ويظهر انه لا حدود لها .
التونسيون هم أصحاب شهائد ليكن، لكنهم جميعا في بطالة. هاجسهم "الوحيد والأوحد" هو مغادرة البلاد إلى بلد المبعوثة الخاصة بلا ريب لكونه معروفا بأرض المعجزات التي يعامل فيها المغتربون بكل احترام! إن بإمكان عديد الجمعيات الفرنسية لمقاومة العنصرية وأشكال التمييز إزاء السكان المغاربيين أو الفرنسيين من أصل مغاربي او تقدر صحة هذا الكلام، وهي التي تناضل منذ سنوات طويلة، بإرادة لكن بدون ثقة كبيرة في النتيجة ضد القانون مزدوج المعايير وأعمال العنف بشتى أنواعها التي تستهدف بعض فئات السكان .
إن الشبان التونسيين كشبان جميع البلدان يريدون الترحال ليس لأنهم يختنقون في بلادهم بل لان ذلك هو ببساطة من طبيعة الأشياء. والأمر الأهم والذي لا يبرزه مع ذلك أي كان هو أن معم هؤلاء المغتربين الباحثين سواء عن اكتشافات جديدة أو عن عمل مربح أكثر يعودون إلى البلاد في أول مناسبة ليستثمروا فيها وليعيشوا فيها مع عائلاتهم ولا أدل على ذلك من أفواج التونسيين العائدين إلى الوطن خلال الموسم الصيفي أو المستثمرين في تونس. والإحصائيات حول ذلك كثيرة ومتوفرة لدى ديان التونسيين بالخارج .
وها ان أصحاب المنحى الجديد لنفي البديهيات قد عثروا على حجة جديدة: حقوق الإنسان، وسائل الإعلام، الانترنت. إن الأمر يتعلق بالنسبة إليهم بعدم ترك فرصة منبر القمة العالمية حول مجتمع المعلومات التي تنعقد في تونس في
نوفمبر القادم تمرّ دون أن يبثوا على أوسع نطاق دعايتهم المناهضة لتونس والتي لم تمنع ا لبلاد لحدّ الآن من مواصلة تنميتها الاقتصادية والاجتماعية .
ولا تجرؤ أي من وسائل الإعلام هذه أو من منظمات حقوق الإنسان على الاعتراف بأن الفضل في وجود هذه القمة بالذات يعود إلى تونس التي بادرت سنة 1998 بالدعوة إلى عقدها آملة أن تتضافر جهود المجموعة الدولية حول ضرورة الاتفاق على أعمال من شأنها تأمين الاستفادة أقصى ما يمكن من الفرص التي تتيحها تكنولوجيات المعلومات والاتصال. وبدلا من هذه الأهداف ا لإنسانية المتمثلة في الحدّ من الفجوة ا لرقمية ومن التفاوت في التنمية اللذين يبقيان ثلاثة أرباع البشرية في حالة فقر مدقع، تريد المنظمات المسمّاة بمنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان حصر القمّة العالمية حول مجتمع المعلومات في رؤية تضييقيّة تجعل منها منبرا للديماغوجيين وأمثالهم .
وإذا شكّل بعض الأفراد جماعات لارتكاب اعتداءات إرهابية باستعمال أداة الأنترنات لتمرير رسائلهم والحصول على طرق إعداد المتفجّرات وعندما تتدخّل العدالة لوضع حدّ لأعمالهم الإجرامية ترتفع أصواتهم لتدّعى بأن هناك " قمعا الكترونيا" ضدّ "شبّان يستعملون الإنترنات" ولتطالب ببساطة الدولة التونسية بعدم ردّ الفعل إلاّ عندما تقترف الجريمة الإرهابيّة وعندما يُرتكب الاعتداء وعندما يمكن عدّ الأموات. وغدا ربّما تطالب الحكومة التونسية بأن لا تتحرّك إلاّ إذا تجاوز عدد الموتى هذه الكمية أو تلك وأيضا مع الكثير من الاحترام للإرهابيين باعتبار أن حقوقهم تفوق حقوق ضحاياهم وأن حياتهم أثمن بكثير .
وإذا ضرب محام زميلته ضربا مبرّحا لحملها على الصمت فإنّ هؤلاء النّاس يقفون إلى جانبه ناعتين زميلته الضحية والعدالة التي جبرت الضرر الذي استهدفت له بأسوإ النعوت. ولا ضيْر في أن يكون المعتدي متطرّفا ومتدرّبا على الرياضات القتاليّة وأن تكون ضحيّته البالغة من العمر زهاء الخمسين عاما أمّا لخمسة أطفال. ففي غياب حجّة مقبولة، يفترض إيجاد عذر له بالرجوع إلى التعلّة المعروفة بالنسبة لمغتصبي النساء :"إنها في نهاية الأمر هي التي استفزته ",
وخلال جلسة عادية وقف محام آخر – لشعوره بالتأكيد بأنه فوق الجميع- متوجها بالأمر إلى رئيس المحكمة بالسكوت عندما يتكلم. هل هو ثلب للمحكمة؟ نعم لكن ليس في تونس، حيث أن جريمة المحامي أعيد نعتها ب"تهديدات ضد هيئة المحامين". وإذا تخلّى أغلبية المحامين عن تضامنهم مع مثل هذه الانحرافات من جانب زملائهم ؟ هذا غير مهم. أن أصواتهم ليس لها وزن وسوف لا يسمعها أي كان. ذلك أن المهم بالنسبة لهذه المبعوثة الخاصة إلى تونس هو ممارسة الرقابة على أي رأي لا يندرج في "القوالب" التي وضعت قبل انجاز الريبورتاج .
ويكفي هنا التذكير بالسطور التالية التي كتبها النائب الفرنسي جان بول قارو والتي نشرتها صحيفة "لوفيغارو" في عددها بتاريخ 10 ماي بشأن محام فرنسي له خلاف مع عدالة بلاده : "هل توجد في بلد ديمقراطي أماكن لايمكن أن يطبق فيها القانون؟ هل يمكن أن نتصور أن تقوم في دولة القانون جماعة من مساعدي العدالة للتهجم علنا على القانون والعدالة ؟ هل يمكن أن نقبل أن يشن محامون إضرابا للحصول على حق عرقلة سير هذه العدالة بالذات بدون عقاب؟" وجواب القاضي الفرنسي هو الآتي :" ان الدفاع الحسن هو الدفاع النزيه الذي يحترم القوانين والعدالة". فهل ينبغي أن يكون الحال غير ذلك عندما يتعلق الأمر بتونس؟
من يريد في نهاية الأمر خنق الحرية في تونس أهي الدولة أم المحامون : أهي الأولى التي تحرص على حسن سير العدالة الضامنة لحريات المواطن أم الثانون الذين يريدون عرقلتها لإضعافها وإفساح المجال بذلك إلى جميع المغامرات؟
أخيرا وليس آخرا، واصلت المبعوثة الخاصة تفاهتها مؤكدة أن لا أحد يشاهد التلفزة الوطنية. كيف توصلت إلى دخول كل البيوت لتتثبت من ذلك؟ إنه أمر غريب. فقبل ذلك ببضعة أيام نشرت هيئة لدراسة الاستماع مختصة في الموضوع بكامل منطقة المغرب العربي دراسة استماع تبين من خلالها أن استماع القنوات التلفزية الفضائية في كل من تونس والجزائر في انخفاض وان التلفزتين الوطنيتين هما الأكثر مشاهدة، وتأتي "تونس7" من بين القناة العمومية في الطليعة بنسبة تفوق 48 بالمائة من الاستماع. وهذا نوع من الأخبار التي لا يحبها بعض المبعوثين" الخاصين ".