٢٧‏/٧‏/٢٠٠٥

حول رواية جراح الروح والجسد


تراجيديا الضياع بين تسلط الأب و فقدان الأم
بقلم محمد ايت لعميم
جريدة رؤى العدد الرابع يونيو 2005
ابتداء من لحظة التأسيس التي هيمنت فيها الحبكة الموباسانية و خيم فيها موضوع الصراع مع الآخر و البحث عن البطل المخلص من الاستعمار المباشر و مرورا بلحظة التسيس التي بصمت بالصراع بين الطبقات و الفئات الاجتماعية وظهور البطل الهامشي الى مسرح الأحداث، ووصولا الى لحظة التجريب التي ساد فيها التخريب: تخريب الحبكة وتدمير الحكاية استجابة لسديمية الواقع وفوضاه، وغياب انسجامه و تناثر عراه، عرفت القصة القصيرة بالمغرب تطورا ملحوظا على مستوى الشكل و المحتوى، و انخرطت في تجارب متنوعة المشارب واجترحت تقنيات ومذاهب0
يلاحظ المتتبع للمتن السردي القصصي أن هذا الجنس الأدبي له جاذبية خاصة و لديه قدرة على طرح أسئلة جريئة في المشهد المجتمعي الراهن، و ذلك أن مجموعة من القصاصين و القاصات استطاعت ان تنفذ الى جوهر الخلل في المجتمع من خلال رصد دقيق و تشخيص عميق لمظاهر اللاتوازن الاجتماعي و ما يترتب عنه من معضلات تصيب الذات في مقتل.
و في سياق البحث في العلاقة بين الكتابة و اليومي، هذه العلاقة التي أضحت اليوم مثار اهتمام النقد، لا سيما و ان الكتابة اليوم اصبحت تحتفي باليومي احتفاء خاصا، وذلك لاسباب عديدة منها البحث عن خصوصية الذات في علاقتها بما يجري حولها، ناهيك عن سقوط الايديولوجيا الكبرى و الانساق، مما فسح المجال للكتابة ان تسائل الذات في أشيائها الصغيرة وافشاء الحميميات، اخترت المجموعة القصصية ترانت سيس للقاصة المغربية مليكة مستظرف، كمتن لرصد العلاقة بين الكتابة و اليومي.فما هي طبيعة هذه العلاقة من خلال هذه المجموعة؟ كيف تمثلت القاصة جانبا من المجتمع الذي تعيش فيه؟ كيف عالجته جماليا؟ لماذا اختارت الطبقة المسحوقة اجتماعيا و رصدت من خلالها جنون المجتمع و فوضاه؟ ما هي طبيعة المعالجة التخييلية لهذه المعضلات الاجتماعية؟ لماذا هذه العودة الى بناء الحكاية بدل تدميرها ؟ و لماذا العودة الى كتابة الواقع؟
ساحاول الاجابة عن هذه الاسئلة من خلال تحليل المتن الحكائي للمجموعة القصصية و تتبع الموضوعات المتواترة في ثناياه.
تتكون المجموعة القصصية ترنت سيس من عشر قصص هي كالتالي: مجرد اختلاف، ترانت سيس، امراة جلباب و علبة حليب، امرأة عاشقة امرأة مهزومة، الهذيان ، الوهم، اختناق، مأذبة الدم ، الخدعة، يوم من حياة رجل متزوج.
اختارت القاصة عنوان المجموعة من عنوان القصة الثانية هادفة من وراء ذلك الى تبئير العمل برمته في تداعيات الجنون والمرض العقلي، وكل الامراض النفسية التي تنتج عن خلل في الذات و المجتمع. فترانت سيس حوفظ على كتابتها كما تنطق بالدارجة المفرنسة، حيث تحول تحول هذا الرقم 36 الى مكان و هو مستشفى الامراض العقلية بالدار البيضاء و من خلال هذا المجاز المرسل الذي يقتضي التجاوز بلاغيا ، شكلت الحقبة الاولى للنص فهي عبرت بالمحل وارادت الحال فيه، و من خلال الاستعمال الشعبي لهذا المحل تشكل انزياح دلالي جديد حيث اصبح هذا العدد 36 يلصق بكل تصرف اخرق مجنون. ففي القصة التي تحمل هذا العنوان أصبح العدد 36 هو شخصية الاب الذي يعاني من انفصام في الشخصية.
فهو شخص غير متوازن، يقضي كل مساء سبت مع امراة غريبة في غرفته وابتنه الصغيرة ترى و تسمع كل ما يدور بين الاب و المومس بعد انتهائه من عربدته و فعله الداعر يتوجه للصلاة! انها قمة الانفصام وازدواجية الشخصية.
مكونات العالم القصصي في المجموعة:
يتشكل العلم القصصي عند مليكة مستظرف من خلال رصد الحياة الاجتماعية للطبقة المسحوقة والفقيرة و غير المتعلمة . هذه القصص و الشخصيات منتقاة من قاع المجتمع . وقد تمكنت القاصة من رصد هذه الحياة بتفاصيلها ويخيل للقارئ أن كل قصة من قصص المجموعة قد استوفت تفاصيل الموضوع المعالج فيها، بلغة تنم عن شراسة وعنف في المتخيل الذي يستمد كل مكوناته في الحياة الواقعية ، بعيدا عن التأملات و الخيالات الجامحة ، لقد أنزلت مستظرف كل شخصياتها الى معترك الحياة اليومية و راحت تنسج خيوط قصصها عبر وصف دقيق يتسم بالتركيز على العنصر البشع وعلى كل ما يثير التقزز والغثيان وكأننا نقرأ أناشيد مالدرور للنوتريامون، أو كأننا نقرأ رواية اميل زولا عصارة الخمر. التي رصدت هي الاخرى بشاعة الحياة في باريس القرن 19، حيث القذارة و الأوساخ و الامراض و التعفنات و سوء التغذية ، و التفكك الأسري ، و المومسات الصغيرات ، وهموم الطبقة العمالية التي تتجمع في الخمارة التي ترمز للموت البطيء. فالشخصية الرئيسية جرفيز كانت تعيش حياة طبيعية مع الفقر الا انها ستجد ضالتها في الخمر لتدخل في متاهة احتضارها.
لقد كان اميل زولا يسعىمن وراء هذا العمل القوي الى ابراز ان عامل الوراثة و الحتمية يؤديان الى الخراب و الضياع، اضافة الى انه كان يجرب بعض الافكار العلمية السائدة في عصره من خلال عمل تخييلي.
لقد عالجت مليكة مستظرف مجموعة من القضايا الشائكة في المجتمع المغربي تخص الطبقة المسحوقة و الفقيرة داخل فضاء مدينة الدار البيضاء التي وصفتها احدى الشخصيات بانها مدينة عاهرة تفتح فخذيها لكل القادمين. ص24.
كل قصة من قصص المجموعة ترصد عالما مستقلا و موضوعا خاصا رغم تواثر بعض التيمات المركزية الناظمة لعالم هذه القصص كتيمة الاب المتسلط العامي الذي يعيش طيلة حياته بأحكام جاهزة وقيم بالية و عقلية متهالكة تلقاها بعيدا عن المعرفة و التعلم، فقط هي أفكار منهكة ورثة تعشش في ذهنية ذكورية مريضة و متحجرة عاشت على التقاليد المغلوطة و على الوهم و تيمة الأم المفقودة أو العاجزة ، هي الاخرى غير المتعلمة تعيش في ظلمات الجهل و الأمية . ان الرجل و المرأة في عالم هذه المجموعة كلاهما ضحية للفقر و غياب التربية السليمة التي تؤهل الى توريت تربية سليمة للأبناء.
فالأب في قصة ترانت سيس يبعث بطفلته الصغيرة عند البقال بابراهيم الذي يبيع في حانوته كل شيء : مواد غذائية و خمور رديئة ناهيك على أنه يعالج مرضى الحي بوصفات عجيبة. لتقتني له كل مساء سبت قنينتين من صنف عايشة الطويلة الذي ظلت الطفلة تعتقد أنها امرأة طويلة لتكتشف أخيرا انها اسم لصنف رديئ من الخمور . فماذا سيورت هذا الصنف من الاباء الداعرين العربيدين اطفالهم سوى الرذيلة الهابطة و اللاتوازن النفسي.
لقد عالجت في القصة الاولى : مجرد اختلاف، قضية الخنثى ، واذا كانت هذه المشكلة قد عالجها مجموعة من الكتاب الذين اتخذوا فكر الاختلاف منهجا في الكتابة والحياة كالخطيبي ، فانهم قد عالجوها في اطار فلسفي تأ ملي باعتبار الخنثى حقلا خصبا لتجريب مفاهيم الاختلاف, فان اقاصة مليكة مستظرف أنزلت عالم الخنثى من عالم التامل لتزج به في الواقع اليومي ورصد معاناته الناتجة عن عدم تفهم الاخر لاختلافه الجسدي.
تبدأ القصة بمشهد دال، شارع في اخر الليل ، صامت و فارغ و كئيب، لا وجود الا لبعض القطط الضالة تموء بطريقة مخيفة كبكاء طفل رضيع، كلبة وكلب يلتحمان وينتشيان، يحس السارد/ الشخصية الخنثى بخذر لذيذ يسري في جسده. يدخل في مونولوغ : كم هما محظوظان يفعلان ذلك الشيء امام الملأ: ربي يشوف و العبد يشوف. لايخافان من لارافل او من كلام الناس. سرعان ما يتوقف مشهد الانطلاق ليظهر في مسرح الأحداث بوشتى حامي المومسات الذي افسد على السارد الشخصية لذته في مشاهدة عملية الالتحام الكلبي صارخا بكلام عامي بذيء ينم عن عدوانية مجانية، رماهما بحجر فافترقا و قد صدر عنهما انين كالبكاء.
ان هذه الجملة المفتتح تهيء القارئ لما سيأتي من احداث فالقصة برمتها تحكي معاناة هذا الشخص المختلف جسديا و قد بدأت هذه المعاناة من خلال ابتزاز بوشتى لهذا الخنثى فهو يأخذ نصيبه عن كل عملية مقدما ص10 ومن مضايقة الملتحين له الذين يريدون تنظيف المجتمع، فقد تعرض من طرفهم الى حلق شعر رأسه , وقد ظلت هذه العملية تحز في نفسه لان شعره كان طويلا و اشقر كشعر الخيل ثم من خلال تعنيف أبيه له وقد فاجأ امه و هي تسرح شعره و تضع احمر الشفاه على خده و تعقص شعره على شكل اسفنجة ، ذلك اليوم ضرب الام حتى تغوطت وقال لها: هاد الولد غادي تخرجي عليه سيصبح خنثى!. وعلى اثر هذا الحدث فرض عليه ابوه ان يقرأ القرآن ليترجل أي يصير رجلا . وعقوبة كتلك التي يعاقب بها الاطفال من طرف معلمين يجدو لذة في عقوبة الاطفال و هي ان يكتب الف مرة : انا رجل . لكن الطفل المختلف جسديا يظل يتراوح بين رغبة الاب ان يكون رجلا و رغبة الجسد ان يكون امراة. و حتى المهنة التي كان يتمناها هذا الطفل تتضمن في جزء منها اشارة الى الرغبة الجنسية الشاذة. سأله ابوه آش بغيتي تكون في المستقبل؟ اجاب الطفل بيلوط أي ربان طائرة ان جزءا من الكلمة يشير الى لوط و الى تداعيات اللواطية. و في المؤسسة التعليمية يعاني من قسوة استاذ اللغة العربية الذي ضبطه يتحسس مؤخرته لما سمع في درس النحو ان المفعول به يكون منصوبا بالفتحة الظاهرة في آخره، ومن استاذ التربية الاسلامية الذي يقول: ان الفاعل و المفعول به في نار جهنم. ومن المفارقات ان هذا المدرس يتحرش به ويلمس وجهه برفق ولطف . اصدقاؤه في الفصل يسخرون منه. يدخل حمام النساء فيلفظ لفظ النواة. يدخل حمام الرجال فيطرد ايضا ويقال له: انت امراة سيري لحمام النساء. ان المجتمع يتعامل بخشونة و احيانا بلا مبالاة قاسية بلا سبب يشتمونه في الشارع.
و اخيرا وامام هذا الضياع وهذا التضييق و رفض المختلف يبقى الحل هو الاقتناع بان الجسد لا يختاره صاحبه هو خليقة الله حتة الطبيب الذي يجسد المؤسسة العلمية تعامل معه بمنطق الربح وبلغة لا يفهمها، حدثه عن الهرمونات و الجينات و الكروموزومات، وقد انتهى معه في الاخير الى دفعه الى تقبل جسده.صديقته نعيمة المومس قالت له نفس ما قاله الطبيب لكن بلغتها الخاصة.
و يبقى السؤال المشكلة هو كيف يقنع الاخرين باختلافه؟
طرحت القصة مشكلة الخنثى من منظور واقعي اجتماعي، ورصدت بدقة رد فعل المجتمع بمستوياته و بمؤسساته المتعددة، وكان رد الفعل هو الرفض، وفي احيان قليلة كانت هناك دعوة للتعايش مع هذا الجسد المختلف وقد كان خطاب القصة يسعى الى تركيز نقطة لدى المتلقي : وهي انه لا حل لهذه المعضلة الا في اطار الاختلاف. وقد نجحت القاصة في خلق نوع من التعاطف اتجاه الشخصية الضحية السارد. و قد عولج الموضوع في اطارين دائري يوحي بان المعضلة مستحكمة، وان هذا البطل الهامشي يكابد مصيره وحده لا احد يتفهم اختلافه ولا احد يقتسمه الامه لان الالم فردي.
ان الخطاب التخييلي السردي يكون اكثر تبليغا من الخطابات الاخرى و يهدف بالخصوص الى تنسيب القيم التي ينطر لها المجتمع في اطلاقيتها.
سبق الذكر ان كل قصة في المجموعة تتحدث عن معضلة اجتماعية او نفسية ، ويمكن تقديم تشخيص لمجمل هذه القضايا كالتالي:
في القصة الاولى ترانت سيس، يقدم نموذج الاب المتسلط الداعر المزدوج الشخصية. يقدم نموذجا سلبيا لمفهوم الابوة امام طفلة فاقدة امها.
و في قصة امراة ..جلباب و علبة حليب، تقدم القاصة نموذج المراة التي تخلى عنها زوجها و اضطرت الى العودة الى بيت ابيها المتسلط و الذي لم يتفهم وضعها الشيء الذي ادى الى ضياع هذه المراة التي لا ترغب سوى في بيت وطعام لطفل. هذا الوضع الخانق لامراة غير متعلمة و ليس لديها استقلال مادي ادى في النهاية الى حتمية البحث عن الرزق من خلال امتهان بيع الجسد لمن هب ودب.
وفي فصة امراة عاشقة امراة مهزومة تحكي عن معاناة امراة زوجها ابوها غصبا عنها و هي لازالت طفلة فتخلى عنها زوجها. بعد هذا الحاد ث الاليم احبت شخصا اخر تصفه بانه كان يشبه دبا صغيرا ، اصلع بكرش مرتخية تخفي اعضاءه التناسلية و مؤخرة ضخمة ووجه مدور. متسائلة كيف احبت هذا الصنف من البشر.هو هكذا الحب دائما ياتي بلا موعد، الحب كالموت. ص 30 هذا الشخص الكاريكاتوري هوالاخر تخلى عنها. و تعلق الساردة/ الشخصية عن هذا الوضع: كلهم يهربون عندما تصبح الامور جادة ص32. امام هذا التخلي المتكرر تدخل البطلة المنهكة في متاهة الشعوذة تلجأ الى العرافة التي تعدها بان حبيبها سيعود شريطة ان تقدم ذبيحة كبيرة و ليلة كناوية. وفي هذا المستوى من القصة تفضح الساردة الابتزاز الذي تعرضت له من طرف عرافة كانت لها سوابق فالعرافة كانت شيخة أي مغنيى شعبية، وعندما جار عليها الزمن اصبحت عرافة ص32. ان عالم هذه القصة مليء بالمفارقات و بالسخرية السوداء و بالضحك حد البكاء.
و في قصة الهذيان تحكي الساردة و هي ملقاة على سرير في مستشفى شخص يقبلها في شفتيها المشققتين و يقول : قبلة ابوية . تذكر ان اباها لم يقبلها قط. تذكر فقط حينما كان ينحني بقامته الفارغة و يضع يده حول خصر امها و تختفي الصورة كما كانت تختفي الصورة من تلفازهم المتهالك. تذكر حينما كان يقبلها صلاح كانت قبلاته بمذاق السجائر الرخيصة و الخمر الرديئة. تلمس نهديها التي بدت كفلفلة مقلية مرتخية بشكل مقزز ص37. تذكر زوجها الذي كان يعاملها بطريقة قاسية و عقلية ذكورية. اما في القصة اختناق فان الاحداث كلها تدور في الحافلة و من خلال هذه الحافلة التي وصفتها بان الداخل اليها مخنوق والخارج منها مسروق ، تصف مجتمعا باكمله بلصوصه و بؤسائه و شواذه و فقرائه بشاعته.
و في قصة مأدبة الدم ، تحكي عن معاناة رجل مصاب بالفشل الكلوي المزمن ، ومن خلال هذه المعاناة تصفي حسابها مع الحكومة و تفضح سلوكها الثعلبي اتجاه هؤلاء المرضى ، الذين تزيدهم الوعود الكاذبة و فضاءات المستشفى المرعبة معاناة مضاعفة تنتهي بهم الموت القاتم في ردهات المستشفى المزبلة. وفي قصة الخدعة تحكي عن خدعة الزوج ليلة العرس ، وذلك عن طريق اعادة البكارة الاصطناعية. اما القصة الاخيرة : يوم من حياة رجل متزوج فانها قصة تحكي عن مشكلة اللاتواصل بين الزوجين و عن الملل الدائم بينهما.
من خلال تتبعنا للتيمات الرئيسية داخل المجموعة الجريئة ، نلاحظ ان القاصة لديها جرأة في اقتحام موضوعات كانت حكرا على الرجال، كما اننا نلمح حضورا بارزا للسير ذاتي داخل ثنايا هذه النصوص، و كأن مليكة مستظرف تسعى الى رسم صورتها الشخصية التي وزعتها على شخصيات المجموعة القصصية، مراوحة في ذلك بين السير ذاتي و التخييل. اضافة الى المزاوجة بين اليومي والحميمي.و من خلال الانحياز الواضح لليومي و الواقعي ندرك ان الكاتبة تنظر الى ان كتابة الواقع اعقد من الخيال.