٥‏/١١‏/٢٠٠٥

شكرا للزرقاوي

عبد الخالق كيطان

وقبلي كتب كثيرون: شكراً لأسامة، خاصة بعد قيادته لما يسميه غزوة مانهاتن، لأن الرجل قد أعلن بوضوح تام مشروعه الذي يعد بلا شك خلاصة ما وصل إليه فكر الإسلام السياسي في الألفية الجديدة، وهو إسلام، كما يبدو، يريد تأسيس إمارة قائمة على البطش والقمع، فلا ذكر فيما بعد لرموز التنوير الإسلامي بدءاً من الرسول الأعظم وليس انتهاءً بأصغر طالب علم عصرنا الراهن.
شكراً لأسامة لأن أفكاره الظلامية أعادت كثيرين إلى الإسلام الحق، ذلك الذي يقف وإسلام أسامة على طرفي نقيض، هكذا كانت غزوة أسامة تمثل، من جهة ثانية، غزوة في دواخلنا لنجيب عن سؤال ملح هو أي إسلام هو إسلامنا؟ لقد حفل التاريخ على الدوام بنماذج تشابه نموذج أسامة، نماذج تدعو الجمهور لصياغة السؤال وترديده بعد ما تدشنه من فضاعات وانتهاكات، وهذا بالضبط ما حصل بعد هجمات 11 سبتمبر الإرهابية حيث صدم العالم الإسلامي بنسب هذه الهجمات إليه فكان لزاماً العودة إلى سؤال أي إسلام هو إسلامنا؟ والشكر متصل لأسامة الذي كشف عن الكثير من الوجوه التي تعيش بيننا ولكنها وللأسف الشديد تفكر بعقلية لا تمت للعصر بصلة، وهي أبعد ما تكون عن فضيلة الأديان المتمثلة بالتسامح والمحبة.
من جهتي أكتب شكراً للزرقاوي على هدية أخرى، وهذه الهدية تتمثل في تعرية المشروع الجهادي المليء بالرؤوس المقطعة والدماء المسلمة المنسكبة على أرض الرافدين... الصورة المنسوبة للزرقاوي في أذهاننا تظهره وهو ممسك برأس عراقي بيد وباليد الأخرى يمسك سكينه استعداداً للذبح، وهي صورة سنرى أنها لا تعني شيئاً لقطاعات ضخمة في العالم العربي، بل تقدم هذه الصورة من على الشاشات العربية باعتبارها رمزاً لكرامة الأمة العربية من المحيط إلى الخليج ما دام الرأس المتوسل بين يدي الزرقاوي هو رأس عراقي.
كان الأخوة في الأردن يمدون الزرقاوي بفتاوى الموت حتى قتل جندي بسيط في العقبة برصاص أتباعه، فكتب الحشد الإعلامي الأردني مستنكراً، وحدث الأمر مرة أخرى في مصر، التي لا يعشق مثقفوها كلمة مثل كلمة المقاومة الزرقاوية ولكنهم انقلبوا على أعقابهم بعد مقتل السفير الشريف ولم يبخل شيخ الأزهر هذه المرة فكانت تصريحاته التي تكفر عصبة الزرقاوي حادة وموجعة ويتكرر السيناريو في لبنان والجزائر ولكن الأشقاء في المغرب العربي ظلوا على ولاءهم للشعار المقاوم الذي يمنحه الزرقاوي بعد كل وجبة من أجساد الأطفال العراقيين فيتراقص المغاربة في الرباط وكازبلانكا و حتى باغتهم نبأ نية أبي مصعب ذبح مواطنين مغربيين عاشا بسلام ووئام طيلة أكثر من ربع قرن في أرض الرافدين ولكن عشاق الدم قبضوا عليهما وهددوا بإعدامهما بلا تهمة، فثار الغضب المغربي ضد هذه المقاومة التي لا توفر سبباً للذبح، وكفروها واعتبروها ضد الإسلام، أي إسلام؟؟؟، ومع العدد الكبير من البيانات التي صدرت في المغرب ضد الزرقاوي ورهطه بهذه المناسبة الأليمة، وخاصة بيان المجلس العلمي الأعلى، إلا أن ثمة من لا يملك غير الحنين للزرقاوي حتى وهو يقتل أبناء جلدته، فهذا السيد سعد الدين القبانجي زعيم حزب العدالة والتنمية الإسلامي يقول إن إعلان تنظيم القاعدة قرب إعدام المغربيين لا يمكن إلا أن يكون مخزياً (بالطبع لم تكن مشاهد ذبح العراقيين مشاهد مخزية بالنسبة للسيد القبانجي) ، ولكنه يردف على الفور بالقول: لا يزال لدينا أمل وسيبقى إلى أن يطلق سراحهما!!! والسؤال الساذج البسيط هنا: من أين جاء للسيد القبانجي هذا الأمل بإن الزرقاوي سيطلق سراح مواطنيه؟؟ أليس الأمل، والتأكيد عليه بسين المستقبل، متأت من ثقة السيد القبانجي وقطاعات واسعة من المواطنين المغاربة بعدالة قضية الزرقاوي في العراق، بل رقة قلبه، هذه العدالة التي ترى في ذبح مواطنين مغربيين أثنين مجرد هفوة وربما قصاص لكل آثم يعيش في العراق بوجود الجنود الأمريكان؟؟؟ لا أملك لجملة زعيم حزب العدالة والتنمية من تفسير غير ذلك، فهو التفسير المقنع الذي يذكرني بمواقف فقهاء إسلاميين آخرين، أبرزهم العم يوسف القرضاوي، الذي أفتى كثيراً بجواز الدم العراقي ما دام أصحاب هذا الدم كانوا خانوا ما ينادي به الشيخ من قبل ونقصد فهم ما يسمى بالمقاومة، ولا ننسى أن الشيخ يعيش على مبعدة أمتار من المركز الرئيس لقيادة القوات الأمريكية في المنطقة، بل ولا ننسى أن بنات الشيخ درسن مكرمات في مدينة الضباب التي أشترك رجالها جنباً إلى جنب مع المارينز الأمريكي في تحرير العراق. ولا ننسى في هذا السياق فزعة العم القرضاوي لنصرة تماثيل بوذا في أفغانستان.
يا الهي... أيفزع لتماثيل من حجر ولا يفزع للأجساد البريئة في المسيب؟
هل من مفسر بالله عليكم؟؟؟
***
فوجئت مرات بمن يكتب مستنكراً تصديقنا لقصة وجود الزرقاوي في العراق وتنظيمه المرتبط بالقاعدة، والعجيب أن من يستكثر علينا أن نؤشر باسم قاتلنا ليس سوى واحد منا فيما يصدق أغلب الأشقاء قصة الزرقاوي وجهاده في وادي الرافدين ولم نسمع من الأشقاء ما يفيد بأن وجود أبي مصعب قصة من نسج الخيال أو من نسج الأمريكان. أما البعض من الكتاب العراقيين فقد جاهر بالقول بأن الزرقاوي مجرد نكتة لا وجود لها على أرض الواقع بل هي الفزاعة التي بناها الأمريكيون لأسباب غير خافية، وكان أول من ردد مثل هذه الأقاويل بعض شيوخ الدين في العراق وتبعهم بعض الكتاب.
ومصدر المفاجأة في ذلك أن الزرقاوي لم يدخر وسيلة إلا وأعلن فيها عن نفسه وجهاده بالصوت والصورة فلماذا ينكره هؤلاء؟ أينكرونه لأن الأمريكان لم يمسكوا حد اللحظة بأسامة بن لادن مثلاً، وهو ما يعني عندهم مؤامرة ضد الإسلام؟ أينكرونه لأن الزرقاوي في العراق ظل صعب المنال أيضاً على الأجهزة الأمريكية والعراقية على السواء؟ أينكرونه لأن الزرقاوي بسيرته المعلنة وعائلته المعلوم مكانها أكبر وأنبل مما ينسب إليه من جرائم؟ أينكرونه لأن العراقيين الذين يسقطون في المدن المختلفة لا قيمة لهم أمام الفعل الجهادي المزعوم والمنسوب له؟ أينكرونه لأنهم لا يريدون أن يشاركهم في كراهية أمريكا؟ أو لأنهم يكرهون أمريكا أكثر منه؟
في الحالات كلها فإن من ينكر وجود أبي مصعب من العراقيين يريد أن يخفي شيئاً عظيماً، فوضوح الرجل لا يقبل الجدال، وأهدافه المعلنة والصريحة لا لبس فيها وهي مبثوثة في الصحف العربية وعلى مواقع الأنترنت ومن على شاشات الفضائيات العربية... هكذا يتوجب شكر الزرقاي مرة أخرى، لأنه الوحيد الذي استطاع أن يكشف لنا عن وجوه هؤلاء العراقيين، الذين يرون قاتلهم بسكينه وفتواه ولكنهم يمنحونه صك البراءة من دمهم لا لشيء إلا لأنهم يكرهون أمريكا، وما أمريكا إلا القوة العظمى التي ألقت لهم بطوق النجاة من عقود المقابر الجماعية والأنفالات!!!
***
أما الأشقاء، فهم يهللون للجهاد في وادي الرافدين ما ظل بعيداً عن ديارهم، بل إنهم يشجعون أبناءهم ويسهلون لهم الوصول إلى العراق رغبة في التخلص منهم في محرقة هذا الأخير. إنهم يعلمون علم اليقين أن بقاء هؤلاء الأولاد بينهم معناه قنبلة ستنفجر في أي لحظة، هكذا يرمون بهذه القنبلة إلى مجالها الناري المتوفر اليوم. لقد فعلها الأشقاء من قبل في حروب الشيشان وأفغانستان وغيرها، وتبدو الفرصة سانحة اليوم في العراق.
التقارير المنشورة عن الطرق التي يسلكها المقاتلون أو الجهاديون العرب، حسب التسميات العربية الرسمية لهم، تظهر أنهم يمرون بدول ومراكز حدودية، ثم يقيمون في بيوت وسط المدن بلا خوف أو قلق وصولاً إلى دخولهم العراق ما يعني أن سفرهم من دولهم إلى العراق ليس صعباً بالمطلق، بل الصحيح أن مخابرات دولهم، ودول مجاورة تسهل عن قصد عمليات تسربهم إلى داخل العراق لهدف أساسي بالإضافة إلى بضعة أهداف ثانوية، والهدف الأساسي هو التخلص من هؤلاء الجهاديين بزجهم في محرقة العراق ولا بأس إذا ما حققت تلك الدول، بعض الفوائد الجانبية من رحلات مقاتليها الجهادية مثل عرقلة مشروع التغيير الكبير في المنطقة الذي تبشر به الولايات المتحدة والثأر من العراق وأهله لأسباب تاريخية ناهيك عن تمثيلية الظهور بمظهر العداء لأمريكا أمام شعوبها المسكينة.
الأشقاء العرب يطلقون تسمياتهم وتعابيرهم الخاصة بصدد الدم العراقي في الثلاثة أعوام الأخيرة، وكانوا قبلها يلزمون صمت القبور أزاء عذابات العراقيين ودماءهم ودموعهم، ولكنهم ينقلبون بغتة إذا ما كان الدم المسفوح في العراق دمهم لا دمنا، ولقد كانت الأمثلة الأردنية والمصرية واللبنانية والمغربية والجزائرية مثالاً صارخاً على ذلك. ففي اليوم الذي يشمر الزرقاوي المجاهد عن ساعديه لذبح رهينة غير عراقي تقوم القيامة في ديار الأشقاء ندباً واستنكاراً ورفضاً أما إذا كانت الضحية عراقية مائة في المائة فالأمر بالنسبة لهؤلاء العرب لا يعدو كونه مقاومة وجهاداً وحرباً ضد الكفار.
أفلا يستحق الزرقاوي بعد ذاك توجيه الشكر إليه لأنه كشف لنا عن الوجوه الحقيقية لأشقاءنا العرب؟
***
سيجيء يوم، وهو ليس ببعيد، ينتهي فيه الزرقاوي وتتبخر جماعته من العراق، ولكن العراقيين لن ينسوا الملاحم التي سطرها في أرضهم، ملاحم تحتاج لمئات السنين كي تذهب آثارها وتندمل جراحاتها.. نحتاج إلى مئات السنين كي نجفف الدم العراقي الذي بارك نزيفه الشيخ الزرقاوي، نحتاج إلى أجيال وأجيال كي نفيق من صدمات العصر الذي يرقص فيه الأشقاء لمقاتلنا وكنا نحسب عكس ذلك. سنقول أنذاك: شكراً للزرقاوي، لأنك وحدك الذي كان يعلن بوضوح ما يريده ولأنك كنت تعبر بصدق وكمال عن الزمن العربي وأزمة ثقافته. شكراً للزرقاوي الذي منحنا فرصة أن نتعرف إلى كم الرداءة الذي يحيط بنا.
****
عبد الخالق كيطان: شاعر من العراق مقيمفي سدني.

ليست هناك تعليقات: