١٢‏/٤‏/٢٠٠٦


zaeem





 








مكائد الظلام


-قصة قصيرة-


( زعيم الطائي)


فوق السطوح الواطئة، كانت الريح المتحركة تعبر الليل، والبيوت المسورة المائلة، محدثة صوتا يشبه الأنين في الحشائش الجافة المرتعشة، قرب بساتين حافة النهر المكتظة بالشجر والضباب ،متسللة عبر الفجوات وجذوع النخل التي اطبقت عليها أعواد الحلفاء ودغل المستنقعات مثل مياه ليلية منتشرة،راكضة أثناء طوافها ودوراناتها العديدة كوباء معد يجتاح شحوب المدينة، والأراضي الفسيحة الغارقة في سبات الجفاف. حيث تنحدر مستجمعة قواها في وهدة نافورية مفتوحة واسعة، قبيل ان تتفتت احشاؤها شيئا فشيئا وهي تتسلق جوف السماء.


أذكر انني في ذلك اليوم الذي مازال متعكرا في خيالي الذي تشوبه البرودة ، وأثناء سهادي الليلي


الذي لايعني احدا ، كنت في بداية اختباري للأحزان التي تقتحم رؤوس البشر وقت المساء، رحت أتشمم حركة الهواء الغامضة الناعمة قرب برج الحمام في العلية وأقنان الدجاج الفارغة ، وصفائح التنك الملفوفة بأكياس الجوت والحبا ل وهي تترنح في ظلام الشتاء المرطوب.


هل كنت انا ذلك الطفل، أوأتخيل نفسي مكانه،أوملامسا لتجربته ؟ أأنا في ذلك المكان مرة ثانية؟ أترقب ظهور اللوامس الهائلة العديدة لمخلوقات السرداب التي تثير الوحشة والرعب،


وأرجل العناكب اللزجة المصمغة في الهواء العطن، كانوا يبدون لي بثياب طويلة داكنة وأجساد نحيلة حكم عليها بالحنين . أسمعهم كل ليلة ، في تكرار المشهد نفسه ، قبل ان تسد عليهم العتمة الطرق،أوقات فرائض التأمل والحداد، بعد ان تزحف غيوم السماء خلف الفناءالمقفر ، وتصفر الريح فوق مسارب التراب، فتتناثر حباتها الصغيرة في مخاضة اللون الأزرق


المتألق الباهت لظلال الليل.


يبدؤون باللهاث وهم يعبرون خثارات الجدران الوهمية ، أويلهون قرب البئر بعد أول ذوبان الريح، وكأنني أشعر بالمرض. تناهى الي الصوت المبلل:


-انهم هنا معي يئنون أثناء السير.


-أتسمعينهم انت فقط، مم ؟


-لا أحد يئن دونما سبب، دعهم يتجولون ...


ألمحهم عند رواحهم ومجيئهم دون أن يرونني ، اكافح من اجل ان لا يشعروا بي ، أدثر رأسي بالأغطية الثقيلة بعد أنطفاء نار الغروب، عدا العينين، فتضج مسامات الطابوق والملاط أثناء مرورهم باصوات الجداجد وتأ وهاتهم المنبثقة عبر خرائب الغرف المنفصلة عن غرف النوم. وأعود لتلمس قدمي الباردتين ، لتمضي السلاحف السوداء المصطفة أوالمحتشدة مبحلقة بعيونها الشذرية الى وجهي بغضب، وهي تحتضرفي خواء السقف المنخفض الداخن


لبيت الموت، فأتظاهربعد النجوم ، وأستمع من جديد لدقات قلبي الواجفة .


ستتكاثر النجوم كالأسماك الذهبية في الفراغ، بعد ان أغطي وجهي كله،ربما سيجعل ذلك عدها مستحيلاعلى الطفل الذي سأكونه ، حتى تأخذ بالتطايرالى عدة نواح كسكاكين متشظية تشقق أمعاء الظلمة أثناءتساقطها الصدفي البطيء الصامت،وتسكن شفراتها شعري اوبين شقوق وفجوات الأفرشة وثنيات الملابس.أبات الآن محدقا في أسماك الأعماق تلك دون ان يطرف لي جفن بانتظار طلوع النهار ،فبعد مرور وقت طويل، ستزحف تلك الأشياء عائدة الى جحور الحيطان وباطن الارض وحشوات السقوف ، اوتنسل تدريجيا تحت الحشائش خارج البيت لتنام .


تعلقت رائحة الريش المحترق النتنة بمسامات أنفي الراشح على الدوام، وفي كل مكان، بعد مجزرة الشواء، انقطع عن العد، ارى نفسي ابتعد.


تعشت الحمامات والدجاجات الصغيرة ليلتها حد التخمة ، أطعمناها كل رصيدها من حبوب موسم الشتاء ، قال ابي وقد أنقبضت جفونه وهو يشعل عود الثقاب بتردد واضح ، فأجبرتني كلماته اليائسةعلى مواجهة هزات مفتتح سنوات أدراكي:


-اريد ان تعرف بانني مجبور على فعلتي التي ستمنع السكينة عن روحي لما لا أعلمه من اعوام ، اما انت فلن يلبث غروب اول شمس ان ينسيك كل شيء.


كان علي ان لا اعيش تلك اللحظات، منذ ان أوكل الي أفضع المهام على الاطلاق وأقساها ،جلب صفيحة الزيت وتغطيس الرؤوس الصغيرة التي غرقت في حمى الطاعون لتحرق بين حركات أعناقها القلقة وهذياناتها وقوقآتها المستمرة التي اخترقت هدوء الصباح. ولم يوقفني عن الاستمرار غير تلك الصرخة التي لا يمكن نسيانها والتي تشبه نداء احيوانيا ، وهي ترتطم بتكوينات العقادة القديمة والأعمدة المنتصبة وطين الجدران، فتلتهمها الاشلاء المحترقة ، وتمتصها الولولات، وخفق الاجنحة والمخالب الملتمعة في الضوء المبهر ، قبل ان تنتهي فجأة وتضيع عند مدخل السرداب الداخلي والفناء . أنفصلت (دلال) كأنها تغوص في الخلاء العريض المنبسط ، مع بقايا معطوبة متطايرة من هفهفة ثوب النايلون الذي ترتديه، حتى أخذت تلك الاجزاء تلتصق بجسدها وعلى الحصران ونتوءات الحائط المجصصة والرواق ، وفوق جثث الطيورالمسودة والألم الأخيرللمناقير والاجساد الطائرة وهي تشق سبيلها في الفضاء.


أخذ السطح كله يشتعل ، ولم أعد أراها بعد ذلك، في أي شتاء آخر اوصيف أوربيع، فقد شف جسدها المزجج في آخر لمحة وقعت عليها عيناي، عارية وهي تضيىء، مرسلة أشاراتها الوهمية المتكاثفة المنطلقة مع نداءات روحها النائية ، برأس ملكة متوج بالنور، يقودها حدس فاتر كقرص شمس منجرف نحو الفراغ المسدود.


كانت (دلال) تتمشى أثناء النوم، بعد لوعتها بمفارقة حب خفي مرفوض، ولوعة أحلام مبتسرة مستبدة، وتوقعات مكلومة يائسة، حتى لم يعد جسدها قادرا على احتمال انتظار أكثر لذلك الأمل المفجوع، وفورة جوى الاعماق المستحيل.


كانت تهرع نحوي، وانا جالس في انتظارها مثل خلالة مفلوقة تحت الشمس، حينما تعود بلباسها المدرسي ذي الشراشيب الزهرية فتهمس لي:


-هل تسمع دقات قلبي كيف تخفق تحت الثوب.. طب .. طب .. طب .. مثل ضربات جاون البايرات،


يذوب كلما تناهى اليه صوت طري لعندليب او اغنية ، ألمسه... انت الوحيد الذي اسمح له بلمس لحمي ، هل تثق بي؟


اجبتها:


- نعم .


قالت : - حتى وانا انتظر رجلا آخر ، هل تغارمنه ايها الكافر ؟


قلت وانا أنظرالى نصف وجهها المضاء بالشمس والانعكاس الخاطف لخضرة شجرة التوت المتكئة فوق السور:


- انك تبدين حزينة ....


قالت: - نحزن حينما تعتري قلوبنا وخزة العذاب .. قل لي كم تحبني؟


ثم تعتدل فجأة، تهز رأسها مستعجلة قبل ان أجيبها :


- أنت أيضا تحب.. فها هي دموعك تسقط على ثوبي .. أوه ..لاتزعل مني .. فأنا كذابة كبيرة .. أمي افعى دنيئة قادرة على التهام حصان .. وأبي رفش جوال بقرون من لب غراش.


الآن آوي الى هذه الحجرة الخالية من الآثاث، العابقة برائحة الخشب المحروق،اتذكرها وهي تحدق في وجهي وتقبل ما بين عيني ، فألقي وجهي على صدرها بارتباك وأتمتع بتنفس رأسي بين نهديها الممسوحين، واتذكر رائحة صدرها الحلوة التي تشبه طعم القرنفل البري ، تقول منبهة :- اسمع . اذا لم تعد تحبني كما أنا .. فسأشدك وأرميك في بئر السرداب وستأكل القنافذ والعناكب عصفورك الصغيردون ان تدع له فرصة الطيران.


ظلت متعتي قبل النوم ، الأستماع الى لغوها وحكاياتها المغرية التي غذت أيام الأساطير التي حملتها الى قلبي النيىء روائح مروج بساتينها المستمرة .


بعد تلك الأيام راحت في غيبوبة ، واصبحت تحدق في كل شيء امامها بلامبالاة، وتنظر في فراغ خرائب الحجرات تخشى ان تغفو وتستنزف أحلام يقظتها ، فتوقظنا عدة مرات اثناء الليل .


-هناك دقات على الباب .. دقات بطيئة .. هل هذا محمود جاء في اجازة..؟ انهم لم يعطوه اجازة منذ ارسلوه الى الجيش.


كانت تشعر ان لاجسد لها ،فأحيانا تظن نفسها هائمة او طائرة ،فلا تحركها غير روحها الممتلئة بالأسى من أدناها الى أقصاها ،وتنظر بدهشة مريرة الى الناس الذين يمرون قرب البيت، ثم تطلق تأوها خافتا ، توقفت او منعوها من الذهاب الى المدرسة ، فقضت الخريف بعده تسهر الليالي وتبقى جالسة في ظلام الغرف محدقة عبر الشبابيك المغلقة، متلمسة بطنها المكورة، وما ان يكلمها أحد حتى تنفجر قسماتها بالنحيب، نحلت كثيرا وصار أنفها يبين بارزا من خلال حدة ملامحها الهزيلة ونعاس عينيها الذابلتين، وهما تنظران لما حولهما ببلاهة تخفي رقتهما ، وحينما تهم بتذكر محمود كأنها تهم بتذكر رائحة الندى الذي يخضل الأعشاب المتطاولة التي تتسلق أسوار خلف البيت وقت الشفق ، حتى صارت امي توزع حلاوة التمرمن اجل روحها الحيةمع تعاويذ ليلة الجمعة لكي تخدع عنها أقتراب ملك الموت.


قامت امرأة من البيت بحلق شعرها الفاحم السواد،واعتاد كل واحد مناان يغلقالنوافذ بعد العشاء ،حتى يحول بين الجيران وسماع صوت نشيجهاالمتواصل طوال الليل ،ولم تعد تدللني او تربت علي ،او تضمني ما بين ذراعيها، حتى انها كانت تنسى اسمي مرات عديدة ،بعد ان ضعف بصرها ، كأن الدموع التي سفحتها من اجل حبها الغائب احرقت عينيها وأطفأت لونهما،


بعد ذلك لم اكن معتادا على اختفاءاتها ،وحين اسأل يجيبونني :


- لقد هامت روحها هناك تحت.. لعلها الآن تختفي في جب او بالوعة او دهليز ، تجلو آثار الرمل حول فراغات قلبها الملتهب.


بعد ايام تركت انياب الكارثة آثارها التي تسهل رؤيتها فوق القلوب والملابس وسحنات الوجوه والحوش المتصدع والجدران المتقرحة، وصرت استمع مع أرهاق كل ليلة الى مناداتها عبر طوافي المصيري وحيدا ، خلف البوابات المغلقة للغرف السرية وكآبة السراديب، اهمهم يائسا :


-اين انت؟


فأسمع صوتها منسحقا قرب القعر :


- انزل يا محمود ... أتراني الآن، خطوتان فقط الى الاسفل .. لا يوجد ضوء .


اتوجه منقادا للنداء باتجاه بئر السرداب، ابقى مشدود الأعصاب، مرت الاشياء مثل صورة ممزقةلوجه الذاكرة،وكأن كل شيء موجود في مكان آخر ،وكانت أرضية السرداب المنخفضة غارقة في النزيز ، فاستطعت سماع اصوات الفقاعات وتناثر الدقائق المائية حول البركة الضحلة التي صنعتها أقدامي،تقدمت الخطوات الباقيةمستعينا بالنور الضئيل الذي ترسله الطاقة الوحيدة في الاعلى ، وكانت هناك مثلما كنت اراها معلقة في احلامي كل ليلة ،رأيت الصورة الحقيقية للعنكبوت الضخمة ، وعينيها المشعتين تغطيهما غشاوة كثيفة ،وقد بدت لوامسها السميكة كقوائم جاموسة ملطخة بالبراز، تمدها في كل الأرجاء ، مرتدية نفس الثوب المدرسي المصنوع من النايلون الذي تشرب بلون الرماد المسخم ، بفكين ناتئتين وسيقان طويلة مشعرة تحبسها الكلاليب والخطاطيف المتدلية والمثبتة على السقف، يترنح جسدها في هالة من الهلع بين تلافيف أنسجتها الرخوة المشبكة، وخصلات شعرها الاسود المتداعية في الرؤية الغائمة وحركاتها المتوالية التي لا تقاوم، وهي تشير نحوي بالأقتراب.


www.ziam50@hotmail.com




ليست هناك تعليقات: