٢٦‏/٦‏/٢٠٠٦

الشاعر التونسي آدم فتحي

آدم فتحي في حوار مع صحيفة الأزمنة

   دعنا أوّلاً نتأمّل معك تجربتك الشعريّة من خلال نظرتك أنت إليها. أيّ قدر جعل منك شاعرًا؟

ج: لا أعرف. لكنّي أرجّح أنّ "الشعر" قَدَرٌ مشترك. سقفٌ حتميّ يجتمع تحته البشر وإن اختلفوا في طرق تعاملهم معه. اُنظر إلى أساطير الخلق القديمة وقارن بينها وبين "الأساطير الشخصيّة" لأبطال الحياة اليوميّة العاديّة، وستجد أنّ هذه الأساطير بنوعيها  تُشبه "الدُمى الروسيّة"، الواحدة تحتوي على الأخرى، وأنّها كلّها تشترك في ملمح أساسيّ: كون المرادف الموضوعيّ الوحيد لكلمة الحقيقة هو كلمة النهاية، وكون اللحظة الجوهريّة، أي "الشعريّة"، التي تجعل الإنسان إنسانًا، تولد دائمًا في وعيه بالفجوة الفاصلة بين نهايته المحتومة ونهايته المتخيّلة.  كان آدم يعرف أنّه قد يخرج من الفردوس إذا اقترب من الشجرة، ولكنّه فكّر للحظةٍ ما في أنّه قد لا يخرج، و أنّ ما سيجنيه من الشجرة قد يكون جديرًا بالمغامرة. ولاشكّ أنّه عاش تمزّقًا رهيبًا بين معرفته بالقرار الإلهيّ من جهة (طرده من الفردوس)، وسذاجة أمله في مصير مختلف (النجاة ) من جهة أخرى. قد تكون لحظة التمزّق تلك هي التي جعلته "حيوانًا شاعرًا"، أي جديرًا باسم "إنسان". وبعد آدم كان على أورفيوس أن يهبط إلى العالم السفليّ لينقذ يوريديكي، وكان مشروطًا عليه أن يمشي أمامها دون أن يدير إليها وجهه كي لا تعود إلى الجحيم ثانية، لكنّه لم يتمالك عن النظر إليها أو عن تقبيلها دون انتظار كما جاء في بعض الروايات، ففقدها إلى الأبد. هو أيضًا عاش لحظة التمزّق نفسها. لحظة التمزّق المنتج للشعر، التي يعيشها كلّ إنسان يوميًّا آلاف المرّات: التمزّق بين واقعه وأحلامه، بين كوابحه ورغباته، بين حضوره وغيابه، بين شغفه بالسعادة وعجزه عن الوصول إليها، بين تعلّقه بالأبديّة وكونه مخلوقًا منذورًا للهلاك والزوال. ولعلّ أيّ طفل صغير من أطفال هذا العالم لا يختلف في أسباب "قدره" الشعريّ عن آدم أو أورفيوس. يقف الطفل أمام أوّل لعبةٍ تقع بين يديه، يقلّبها طولاً وعرضًا، يشدّها إليه، يبعدها عنه، يتلفّت يمنة ويسرة، ثمّ يُدنيها من فمه، وفجأة يحسّ بالشرخ يشقّه إلى نصفين، هكذا يعي لحظة تمزّقه الأولى التي ستصاحبه طيلة حياته: كونه يحبّ أن يلهو بلعبته مستمتعًا بما تمنحه من بهجة، لكنّه يرغب أيضًا في أن يكسرها ليفهم كيف تشتغل. لحظتها يولد الشاعر. ومن لحظتها لن يكون "شعره" سوى تكفير طويل عن كَسْر اللعبة.

.        فهل ندمت على "كسر اللعبة"؟ بتعبير آخر وإذا اتّفقنا على أنّ الشعر لا يمكّن من الوصول إلى السعادة، هل تشعر بالندم لكونك شاعرًا؟

ج: لم يستمرّ "التكفير عن كسر اللعبة" إلاّ لأنّ كسرها مستمرّ. وماذا فعل الإنسان طيلة هذه القرون غير تجديد طرائق كسره اللعبة، وتجديد طرائق التكفير عن ذلك، دون أن يسعده الكسر ولا التكفير.  إنّه يدمّر حياته من حيث يريد أن يبنيها، موقنًا بأنّه مطرود نهائيًّا من السعادة. وحدها البهجة ممكنة كلحظة عبور بين حزن سابق وآخر لاحق. وحدها الرغبة في الحياة تجعل الحياة ممكنة ومعقولة. ولاشيء من "الأدوات" التي أثّث بها الإنسان حياته قادر على التعبير الحقيقيّ عن رغبته في الحياة. لا الشيء الاقتصاديّ ولا الشيء السياسيّ ولا الشيء الاجتماعيّ. وحده الفنّ والشعر أساسًا قادر على التعبير عن هذه الرغبة. تذكّر مبدأ غابور: لن توقف الأخلاق العلم عن تطبيق كلّ ما يمكنه تطبيقه"، بما في ذلك تدمير العالم. وها نحن اليوم نشهد تجاوز الصراع بين العلم والأخلاق عددًا من خطوطه الحمراء: أسلحة الدمار، تصنيع الجراثيم، الاستنساخ، التلاعب بالجينات…الملاحظة نفسها تصحّ بخصوص السياسة والاقتصاد. ألم يحوّلا العالم إلى مطحنة لتسليع الروح ومصنع لتعليب الفكر ومدجنة لعولمة القَيْق؟ كلّ هذا ليس سوى سلسلة محطّات لكسر لعبة الحياة. محطّات للموت ستتوالى حتى لحظة الانفجار الأخير. وهَبْ أنّ الحياة في أبهى تجلّياتها ليست سوى الموت نفسه ممتدّا في الزمن، هل يمكن للبشر بغير الشعر أن يقاوم ويتمرّد و يمارس شيئًا من الحريّة الحقيقيّة قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة؟ ومن ثمّ، فهل يمكن للإنسان كحيوان شعريّ أن يندم على قدره الوحيد؟ ميزته الوحيدة؟ ورشته الوحيدة لصنع البهجة من مادّة الخراب؟ الندم حكر على آلهة الأولمب الذين يملكون الوقوف في مفترق الطرق والتقهقر عن هذا الإتّجاه أو ذاك، أمّا البشر فمحكومون بخلايا ما أن تشرع في التفتّح حتّى تشرع في الذبول.  الندم ترفٌ لا يتمتّع به الشعراء. الندمُ ترف المعاقين شعريًّا، فاقدي الروح، الموهومين بإمكانيّة الربح في طُرُقٍ لا تؤدّي إلاّ إلى الخسران. هل يمكن للعصفور أن يندم على كونه عصفورًا حتّى إذا كان قدره أن لا يغنّي إلاّ وهو جريح؟ هل يمكن للشجرة أن تندم على كونها شجرة حتّى إذا كان قدرها أن تترنّح تحت فؤوس الحطّابين؟

.        إذنْ فما جدوى القصيدة عندك؟ لا سيما وأنّك نصّك يبدو وكأنّه يولد تحت تحريض مسبّق كأن تكتب عن العراق أو البوسنة؟ القصيدة عندك تبدو نتاجًا أكثر من كونها فعلاً، ماذا تقول في ذلك؟

ج: الإصرار على "جدوى" للقصيدة يذكّرني بلغة التجّار وأرباب الصناعات والحرف. أعتقد أنّه لابدّ من مصطلحات أخرى للحديث عن الشعر. لا أدري من هو الشاعر الذي قال: "إنّ ما يُحذَف من القصيدة لا يقلّ أهميّة عمّا نقرأه فيها"…لعلّه عزرا باوند…المهمّ هو ما تعنيه هذه العبارة من ضرورة تغيير زاوية النظر إلى علاقة الأفعال بالنتائج حين يتعلّق الأمر بالشعر. الشعر جوهر ليس له أن يكون مجديًا أو غير مجدٍ. إنّه كما هو وكفى. ثمّة في هذا العالم قطبُ جاذبيّة أزليّ الفعل متصاعد الفعاليّة، يحاول شدّ كلّ شيء إلى وضع الحيوان أو الجماد، والشعر هو ما به يحقّق الإنسان إنسانيّته كي يبتعد عن مدار ذلك القطب الرهيب. وهذا التحقّق "غير مجدٍ" إذا نظرنا إليه في ميزان الربح والخسارة. إنّه لن ينجو بالإنسان من الموت. لكنّه سيمكّنه من الذهاب إلى موته مفتوح العينين. بين كلّ محطّةِ خسرانٍ وأخرى تتحوّل حياة البشر إلى ممارسة طويلة لفنّ السلوان. وإذا كان للقصيدة من جدوى فليكن أنّها إحدى الطرق لتحويل السلوان إلى فنّ.  ثمّة أخبار كثيرة تروى عن بشر أُعدِمُوا  وكانوا  يرفضون أن تُغطَّى أعينهم، فيما كان آخرون يرتمون على أقدام جلاّديهم طالبين الرحمة. الجميع مات في النهاية. لا الشجاعة أجدت ولا الجبن أجدى. ومع ذلك فهناك فرق بين أن تسقط قبل أن تموت وأن تظلّ واقفًا تنظر في عيني قاتلك. ذاك أحدُ أهمّ وجوه جدوى الشعر إن كان لابدّ له من جدوى. ولو عدنا إلى "استعارة الطفل" التي تعرّضنا إليها في سؤال سابق، لوجدنا شبهًا بين "فم الطفل" والقصيدة، في تلك المرحلة من عمر الإنسان التي يكون فيها الفم أداته للتعرّف على العالم وامتلاك أشيائه. القصيدة أو النصّ عمومًا هي "فم الطفل" الذي به يتلمّس ويعرف ويمتلك. وتلك أدواته في ما بعد ليقاوم ويدافع عن العدل والحريّة والجمال. وفي هذا السياق يصبح من المضحك الفصل بين ما هو ذاتيّ وما هو موضوعيّ، أو الحديث عن تحريض مسبّق أو لاحق. أنا لا أكتب إلاّ في خصوصيّاتي، سواء تعرّضت إلى القدس أم إلى نارجيلتي، سواءٌ تحدّثت عن بغداد أم عن حبيبة أخلفت الميعاد في زقاق من أزقّة تونس القديمة، سواء أشرتُ إلى البوسنة أم إلى ورقة ذابلة تحت شجرة خرّوب. فذاك أنا. أنا بجميع "أنواتي" المتباعدة والمتقاربة، المتخاصمة والمتصالحة، الظاهرة والكامنة. ولكن ثمّة من يطلب من الشاعر أن يكون أعمى أصمّ أملس تمرّ به الأشياء فلا تعلق بنتوءاته ولا تتسلّل عبر شقوقه. ثمّة من يطلب من الشاعر أن يقيم بينه وبين مجتمعه وتاريخه سورًا عاليًا، بدعوى تخليص القصيدة ممّا يمكن أن يخترقها من الأصوات الخارجيّة. هذا وهم كبير. لا وجود لصوت فرديّ خالص في الفنّ، لا وجود لصوليست مُطلق. لا وجود لباطنٍ مطبق. كلّ صوت وكلّ صوليست وكلّ باطنٍ مهما بدا ذاتيًّا ومنفردًا ومغلقًا هو أوركسترا من الأصوات المتداخلة والمتشابكة والمتناقضة أحيانًا، والمشرعة على كلّ الاتّجاهات في كلّ الأحيان، ولكن بتوازن شخصيّ يسبغه عليها الفنّان، وبقدرة خاصّة على النفاذ إلى ما تحت قشرة اليوميّ والتاريخيّ والمُتداول، ومن ثمّ الفرادةُ والتناغم والجمالُ الإبداع. القصيدة فم الطفل. خطّ التَمَاسِّ بين ما هو برّانيّ وجوّاني. وعن طريقها تصبح كلّ أشياء العالم وأحداثه جزءً من أثاث بيته وشروخه الغميقة وأحداثه الخصوصيّة.

.        حسنًا، فماذا عن هذه الخصوصيّة؟ أنت تكتب قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة والقصيدة العموديّة، فهل يسمح هذا التعدّد بخصوصيّة ما؟

ج: صحيح أنّي أكتب بكلّ ما هو متاح من لُعب الكتابة، ولكنّي أحاول أن أكتب أيضًا بما ليس متاحًا. وليست بحور الخليل أو أجراس التفعيلة أو آفاق النثر الرحبة سوى جزء يسير من هذه اللُعب فالقائمة طويلة ومتعدّدة ولا نهاية لها. ولكنّي لا ألزم نفسي بالوقوف عند حدّ معيّن. ليس لي مقدّس شعريّ غير قابل للتدنيس. أفضّل اللعب بكلّ ذلك. أفضّل الكتابة على الحافة. الكتابة على حافة ما هو مأمون شعريًّا. أي الاقتراب أكثر من اللاأمان والإيغال أكثر في اللايقين. فهل يعني ذلك خصوصيّةً ما؟ هل تلك هي خصوصيّتي؟ ربّما. فلماذا أراها سمةً لامناص لكلّ الشعراء من الاشتراك فيها؟ إذن فثمّة شيء آخر. هل تكمن خصوصيّة أيّ شاعر في مدى اختلاف مضمون وشكل اصطدامه بذاته اللاعبة؟ ربّما. والحقّ أنّ هذا السؤال يذكّرني بالحوار الشهير الذي دار بين شاعرين أسودين، لعلّهما سنغور وسيزار، حين تحدّث الأوّل عن ضرورة تعبير الزنجيّ عن زنوجته، فتساءل الثاني إن كان النمر في حاجة إلى التعبير عن "نِمْرِيَّته". وهبْ أنّ الأمر سهل، فهل هو مهمّ؟ الشاعر يتحمّل الكثير حين يمارس خصوصيّته فهل يزيد على ذلك عبء التحدّث عنها؟ كلّ ما أعرفه أنّي أعيش نصف عمري لأكتب قصائد تشبهني، وأعيش النصف الآخر محاولاً أن لا أشبهها. وهذا يكفي.

.        ولكن كيف نفسّر هذه البراعة التي تكمن في قدرتك على كتابة القصيدة العموديّة، فيما كلّ مجموعاتك تقريبًا هي نمط متقدّم في كتابة القصيدة الحديثة؟ ألا يوجد شيء من التناقض في الأمر؟ هل ترى في القصيدة العموديّة منقذًا لك أحيانًا؟

ج: الحقيقة أنّ هناك سوء تفاهم في الأمر. أنا لا أعيد إنتاج هذه الأشكال بل ألعب بها. أفكّكها وأحاول أن أصنع من شظاياها ومن أشياء أخري لُعَبِي الخاصّة. أعتقد أنّك حين تلعب بهذه الأشكال وتفكّكها وتضيف إليها أشياء أخرى تجعلها تتحوّل: تكفّ القصيدة العموديّة عن أن تظلّ كذلك لأنّها تتحوّل إلى "مفردات" في "تشكيل" آخر مختلف. وكذلك قصيدة التفعيلة. وكذلك قصيدة النثر التي كادت تتحوّل هي أيضًا إلى عمود لدى البعض. من هذا المنطلق أعتقد أنّ تاريخ الشعر العربيّ والعالميّ كان دائمًا تاريخ تعايش بين أشكاله ومنجزاته المختلفة، وانفتاح دائم على كلّ شكل أو منجز يجيء. ليس لأحد الحقّ في أن يقول إنّ هذا الشكل مات أو أنّ هذا الشكل مستقبل الشعر. ثمّة من يريد لأسباب غير شعريّة معروفة، أن يحوّل القصيدة الخليليّة إلى رمز للهويّة، وثمّة من يردّ الفعل فيعتبر قصيدة النثر غاية في حدّ ذاتها. وكلّ هذا خطأ. الشعر نهر جارف لا نعلم من أين ينبع ولا ندري أين يصبّ. وما قصيدة الصدر والعجز وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر وغيرها كثير، إلاّ جداول صغيرة من آلاف الجداول جوف نهر الشعر، يلتمّ عليها مثلما يلتمّ أيّ نهر على تيّاراته الجوفيّة المتنوّعة. الشعر صدر يتّسع لكلّ المغامرات. مِنْ ثَمّ، لا موت لمنجزات الشعر المنتجة للجمال. إنّها دماؤه التي بها يتجدّد والتي إليها تنضاف كلّ دماء مُحدثة. من هذه الناحية يكون الشعر أكبر "مصّاص دماء" في العالم.

             .        هل يمكن أن نعرف مع من ترى نفسك في هذا ؟ بتعبير آخر: هل يمكن أن تحدّثنا عن ملامح الجيل الذي تنتمي إليه، وأهمّ أسمائه؟

ج: قد أرى نفسي مع شعراء مختلفين عنّي أو مختلفين فيما بينهم. وقد أرى نفسي مع فنّانين غير الشعراء، ومن غير هذا العصر أو المكان. الجيل الذي أنتمي إليه مثل الشعر: ممتدّ بين الماقبل والمابعد. غير محصور في دائرة الزمن الحاضر. إنّه تيه وترحال ومنفى واختراق. المجايلة عندي تحتمل تناقضها مثلما يحتمل الانسجام الجمع بين أصغر ذرّات المادّة وأعلى ذُرى الميتافيزيقا. إنّها انتماء إلى ما يعبر الزمن لا إلى ما يرسب فيه. انتماء إلى ما يخترق الأزمنة كما يخترق الأمكنة والأنواع والتسميات. وإذا كنتَ مصرًّا على التسمية، فلأقل لك إنّي أرى نفسي منتميًا إلى جيل المتنبّي، هوميروس، الشابي، دانتي، ابن خلدون، نيرودا، ابن رشد، لوتريامون، السيّاب، هيغل، سركون بولس، نيتشه، جبران، كارلوس فوينتس، لطفي اليوسفي، بورخس، يوسف عبد العزيز، ماركس، أمل دنقل،  شارلي شابلين، أنسي الحاج، سليم دولة، سيّد درويش، فوكو، بيليه ملك كرة القدم، قاسم حدّاد،  داريدا، وليد خزندار، بيجار ساحر الباليه، عبد القادر الجنابي، موزارت، شهرزاد الحكايات القديمة، سيف الرحبي، هابرماس، فيروز، بهاء طاهر، ريتسوس، محمد خضير، جيمس جويس، عابد الجابري، حكمت الحاج، الشيخ إمام، شكسبير، نزيه أبو عفش، محمّد بن صالح، بيكاسو، عزّوز الجمني، بودلير، آليس في بلاد العجائب…  والقائمة أطول من هذا بكثير. وسأعود إليها بالتفصيل في فرصة أخرى:  كلّهم شعراء، وكلّهم أصدقائي، لذلك فكلّهم جيلي. ما رأيك؟

                    .        لنتطرّق إلى مسألة أخرى. اهتمامك المُفرط بكتابة النصّ الغنائيّ هل يلبّي حاجة شعريّة لديك، أم أنّه تلبية لحاجة لدى المؤدّي، ممّا قد يعني التفريط في ذاتيّة شعريّة يُفترض أن تبوح بها القصيدة؟

ج: ثمّة نظرة دونيّة متكلّسة، وأميّة، ينظر بها البعض إلى الغناء. و غالبًا ما يُخفي حديث المثقّفين عن الأغنية نوعًا من الاستخفاف أو الاستهجان. وكأنّ الأغنية "دون" القصيدة أو الشعر أو الرواية. وينسى هؤلاء "المثقّفون" أنّ "الأغنية" اسمٌ من الأسماء الأولى للإبداع البشريّ…ثمّة أسطورة قديمة تقول إنّ الخالق حين أتمّ صنع البشر كتمثال من الطين، أمر الروح أن تبعث فيه الحياة، فامتثلت الروح لكن ضاق بها المكان، وما أن همّت بالخروج حتّى أمر الخالق الإنسان بالغناء فاستقرّت الروح بالجسد وطاب لها المقام. ذاك هو مقام الأغنية في الأسطورة القديمة. وذاك هو مقامها في الواقع حين يتعلّق الأمر بشعراء وفنّانين. إنّها صلة بين الروح والجسد. جسر يجعل الصمت كلامًا ويُخصب الكلام بالصمت. وفي هذا المقام لا يصحّ أن نتحدّث عن "تفريط في الذاتيّة الشعريّة". إنّها الذاتيّة الشعريّة وقد صار من جوهرها أن تقوم على لسان الآخر. تلك خصوصيّة الأغنية. فعل فرديّ لا يمكن تحقيقه إلاّ بصيغة الجمع، لحمة بين شاعر وملحّن\ مطرب تجعل الشاعر يكتب بصوت المغنّي، وتجعل المغنّي يقول بأصابع الشاعر، دون أن يفقد أيّ منهما وعيه الشديد بأنّه يقول ذاته. وإذا كان هذا النوع من الإبداع الغنائيّ قد صار نادرًا في خضمّ الرداءة الزاحفة، فالذنب ليس ذنب الأغنية. أن تصبح الأغنية اليوم سلعة في معظمها، أقرب إلى التجارة منها إلى الفنّ والإبداع، فتلك حال أغلب المنتوجات الثقافيّة والفنيّة، بما في ذلك الشعر. وهو ذنب القائمين عليها إنتاجًا وترويجًا وإعلامًا، وليس ذنب المؤمنين بها كفنّ.

             .        مشروعك في هذا المجال مع الفنّان لطفي بوشناق إلى ماذا يرمي؟ وماذا تحقّق؟ وهل أنتم معنيّون بصناعة ذائقة رفيعة لدى المتلقّي؟

ج: كما قلت لك منذ لحظة، لابدّ من وجود لحمة بين شخصين اثنين على الأقلّ، لإنشاء الأغنية. وأجمل التجارب التي عرفها العالم على امتداد تاريخ الأغنية كانت نتيجة "ضربة حظّ" قيّظ بفضلها لثنائيّ (أو ثلاثيّ) أن يتكوّن وأن يستمرّ، ليكون عمل أحدهما مكمّلاً للآخر، توأمًا روحيًّا له ، وكأنّها ذات واحدة تشتغل برأسين. هذه "الثنائيّات" الذهبيّة هي التي أعطتنا أجمل ما لدينا: سيّد درويش وبيرم، الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم،  فيروز والرحابنة، إلخ…وقد أتيح لي في مجال الأغنية أن ألتقي بالعديد من رفاق الطريق: البحث الموسيقيّ بقابس، محمّد بحر، الحائم البيض، الشيخ إمام، إلخ… عشت مع كلّ منهم تجربة استمرّت لسنوات، وأعطت ثمارها، وامتدّت إلى الحدود التي سمحت بها الظروف… وشاء حظّي أن ألتقي بعد ذلك  بلطفي بوشناق، وقد نضجت تجربة كلّ منّا، وانفجرت الأسئلة، وأرهفت الروح بفعل الخسائر والخيبات. فوجد كلّ منّا في الآخر توأم روحه الذي يستطيع أن يمكّنه من التعبير عن أسئلته وآلامه وأحلامه وخسائره وخيباته. لاغاية لنا من ذلك إلاّ غاية كلّ فنّان: أن يستمتع بممارسة فنّه، وأن يتحقّق في تلك المتعة ضمن حدود التحقّق المتاحة للإنسان، ومع المحاولة اليائسة ولكن الدائمة لاختراق تلك الحدود. أمّا إذا ساهم ذلك في إمتاع الآخرين، أو في الارتفاع بمستوى الذوق العامّ، فهذا شرفٌ لا نلهث وراءه، وإن كان مسؤوليّة لا نتملّص منها.

          .        طيّب. لنتحدّث الآن عن كتابك الذي صدر أخيرًا: "يوميّات بودلير"، الذي ترجمتَه عن الفرنسيّة. يبدو أنّك كمن التقط "لُقًى" لأنّ هذه النصوص مجهولة أصلاً لدى عدد كبير من الفرنسيّين، لذلك تُعَدُّ تحفة بالنسبة إلينا. كيف اهتديت إلى هذه النصوص وماذا يمكن أن نعرف عن هذا الكتاب قبل أن نقرأه؟

ج: هذا الكتاب هو مجموعة نصوص في شكل شذرات ورؤوس أقلام، كان بودلير يفكّر في نشرها، إلاّ أنّه توفّي قبل تحقيق ذلك. وقد صدرت بعد وفاته في أغلب طبعات أعماله الكاملة. والناشرون هم الذين أعطوها اسم اليوميّات. والحقيقة أنّي قرأت هذه النصوص وأحسست بأهميّتها منذ مدّة طويلة. فبالإضافة إلى ما تكشفه من أسرار بودلير وآليّات الكتابة لديه والمناخ النفسانيّ الذي عاش فيه وموقفه من المرجعيّات التاريخيّة والسياسيّة والفكريّة لعصره، وبالإضافة إلى ما تثيره فينا من أصداء لحرائقنا وخساراتنا وأحقادنا على أشرار هذا العالم، فإنّ لهذه النصوص قيمة في حدّ ذاتها كأثر أدبيّ، ارتقى بشكل "الشذرة" إلى درجة من الإبداع لم تبلغها قبله. وقارئ هذه اليوميّات سيكتشف كم أنّها كانت مرجعًا خفيًّا ومسكوتًا عنه، للكثير من كتّاب الغرب والشرق. وقد قُمتُ بترجمة هذه اليوميّات في سياق ترجمتي لأغلب أعمال بودلير، إلاّ أنّه كان لابدّ من الإلتقاء بشاعر وناشر مجنون مثل خالد المعالي، صاحب دار الجمل، كي يرى هذا الكتاب النور.

.     دعنا نتحدّث أكثر عن تجربتك في الترجمة عن الفرنسيّة. إذ يبدو أنّك لا تثير إشكاليّة كونك مترجمًا بقدر ما يشكّل الأمر رافدًا في عمق تجربتك الشعريّة، أليس كذلك؟

ج: ثمّة عبارة تعجبني كثيرًا ذكرتُها في مقدّمة هذا الكتاب، برّر بها بودلير ترجمته لأعمال إدغار ألان بو قائلاً: "هل تعرف لماذا حرصت على ترجمة أعمال إدغار ألان بو بهذا الحماس؟ لأنّه يشبهني"…وهذا الموقف قريب منّي. ثمّ أنّي لم أترجم  نصًّا إلاّ وكانت الترجمة بالنسبة إليّ تعلّة للكتابة. الكتابة بوصفها ترجمة في المطلق. أي قراءة بصوت مكتوب

ليست هناك تعليقات: