٢٢‏/١٠‏/٢٠٠٦

صفحة الطباعة | العربية نت


الأربعاء 10 نوفمبر 2004م، 27 رمضان 1425 هـ


 


الهذيان الديني الأصولي.. بعض المداخل النفسية لدراسته






د.رجاء بن سلامة

ما الذي يقع بين المفتي الفضائي والمتفرجين المعجبين به, والذين يتحولون إلى أتباع له في معتقداتهم وعباداتهم وسلوكهم? ما الذي يقع بين كل داعية أصولي ومن يتقبلون دعوته? بين كل "مرشد" وأتباعه من "الإخوان"? بين كل "مقاوم" مجاهد على نحو الزرقاوي وكتائبه التي تبسمل وتكبر وهي تزرع الموت والدمار فيما حولها?
هل توجد فوارق جوهرية بين القرضاوي وأمثاله والزرقاوي وأمثاله?
لا شك أن بين التحريض على القتل, قتل المرتد أو الأميركان المدنيين وبين القتل نفسه بلا أدنى شعور بالإثم فرقا مهما يتمثل في ما يسمى في التحليل النفسي ب¯"المرور إلى الفعل". ولكن ما نلاحظه هو خضوع الأصناف المذكورة من الدعاة, وخضوع نموذجي القرضاوي والزرقاوي بالذات إلى نفس البنية الفكرية المتمثلة في الفكر الأصولي, ونفس البنية العلائقية الرابطة بين الشيخ والمعجبين به, وبين الشيخ والله. هذا ما سنحاول بيانه من خلال ثلاثة محاور أولية, سنحاول بلورتها لاحقا في بحث معمق ومطول.
فالأصولية ليست فكرا فحسب, نحلله بأدوات معرفية, وليست مجرد خطابات تصدر عن سلطة دينية فحسب, بل هي "حالة" وبنية علائقية, يمكن أن نتوسل إلى دراستها بما طورته المعارف التحليلنفسية عن طبيعة التماهي في المجموعة وعن النرجسية والتأثم والنزعة التدميرية الناجمة عن انفصال دوافع الحياة عن دوافع الموت... ويمكن أن نعتبر هذه الحالة هذيانية شريطة أن نضع في حسباننا أن الهذيان ليس بالضرورة شطحا كلاميا لا معنى له ولا رابط, بل إنه قد يكون كلاما منظما منسجما داخليا, ويكون في الوقت نفسه إنتاجا لتأويلات خاطئة عن العالم, وتحريفا للواقع وللمدركات يتنافى مع كل نظر علمي أو تاريخي. فخطابات بن لادن هذيانية رغم انسجامها الداخلي لأنها تحدثنا عن عالم وعن قوى لم تعد موجودة إلا في ذهنه وذهن أتباعه : عالم بسيط بدائي تحكمه ثنائيات الإيمان والكفر, والجنة والنار, والخير والشر, وهي هذيانية لأنها تسقط عالم معارك النبي كما تؤسطرها الأخبار الإسلامية على عالم اليوم بكل ما فيه من تعقيد وبكل ما يفصله عن عالم القرن السابع من تحولات جغرا-سياسية مهولة. وليس العالم الذي يبنيه القرضاوي بخال من هذا الهذيان, رغم كل ما يمكن أن يوصف به من "اعتدال" أو من تقلب تكتيكي إيديولوجي. فالقرضاوي يفتي وهو رافض للتاريخ, مول وجهه شطر مؤسسة الخلافة التي لم تعد موجودة إلا في خياله السياسي, وهو إلى ذلك يحتكم إلى نفس الثنائيات التي يحتكم إليها ابن لادن, وإن بأقل سذاجة وأكثر معرفة بالدقائق الفقهية.
ولكن وصفي لهذه الحالة بالهذيانية لا يعود إلى طبيعة الخطابات الصادرة عن هؤلاء الدعاة فحسب, بل إلى طبيعة العلاقة التي تربطهم بالمعجبين والمريدين : إنها علاقة تقوم على الإيحاء والتنويم والتماهي, وتأجيج الوهم على نحو ما سنبينه.
1- الفتنة والتماهي
فبين دعاة الإسلام الأصولي والمتقبلين لدعوتهم توجد لعبة تنبني على الفتنة من جانب الداعية والتماهي من جانب المتقبلين لدعوته. تتمثل الفتنة في ممارسة الشيخ الداعية للهيمنة عن طريق استدرار الإعجاب, ويتمثل التماهي في محاولة أنا المعجب امتلاك صفات الداعية محل الإعجاب واستبطانها وكأنها صفاته الخاصة.
فالفتنة التي ينسبها الأصوليون للمرأة, ليجعلوها أحد كباش الفداء المفضلة لديهم, هم الذين يمارسونها في الحقيقة, يمارسونها مع أتباعهم عبر تجربة التماهي المذكورة. ينتصب الزعيم الديني أبا روحيا يحاول إخضاع الأتباع إليه وتحويلهم إلى أبناء روحيين, أو لنقل بعبارة أكثر تقنية إنه ينتصب في موقع "مثال الأنا" بالنسبة إلى كل فرد من أفراد المجموعة, فيتخذه كل مفتون بديلا منمذًجا عن الأب, راغبا, من حيث لا يعي, في الحلول محل الابن الروحي للأب الروحي, في انتظار أن يتحول هو بدوره ربما إلى أب تحيطه هالة الاحترام والتقديس.
وأول ما يطالب به الزعيم الروحي, هو التضحية بالعقل, قبل التضحية بالنفس. تتم في إطار الجماعات الدينية المنظمة في الواقع أو الافتراضية (عبر الفضائيات أو وسائل الاتصال الأخرى) عملية غسل دماغ, وتلقيم لليقينيات, وشل للتفكير النقدي, هي التي تفسر علاقة الطاعة والاتباع, وتفسر عسر تبني هذه المجموعات للنموذج الديمقراطي القائم على النقد والحوار. ويستمد الأب الروحي من الله ومن النص المقدس شرعية مباشرة, بما أن الداعية يخفي ذاته, ويتكلم باسم الإسلام أو باسم الله مباشرة, تساعده في ذلك هذه العادة الخطابية المستشرية واللامعقولة المتمثلة في بدء الإنسان المسلم كلامه بالبسملة, وكأن الله يتكلم فيه, أو كأنه يتضاعف كذات متلفظة كما تتضاعف الذات المتلفظة في القرآن : هو يقول والله يقول معه مراوحة أو في الوقت نفسه. وعندما يشل التفكير, تتضخم العواطف, عواطف الانتقام والشفقة والخوف, ويتحول الكلام إلى صراخ نُدبة مطول, إلى "واإسلاماه" مرتلة, تستدر الشفقة من ناحية والانتقام من ناحية أخرى.
عندما يتحول كل الأتباع إلى أبناء روحيين, يصبحون "إخوة" لأب واحد يجعلهم التماهي النرجسي معه أشباها ونظائر ك¯"أسنان المشط", ويجعلهم أمة مصغرة لا مجال فيها للفرادة ولا للفكر الشخصي, بما أن كل فرد لا يعدو أن يكون لبنة من لبنات "البنيان المرصوص."
يقع المريد في قبضة الداعية, وتحت رقابته المستمرة, لأن المريد يستفتي في كل صغيرة وكبيرة, والداعية يُفتي في كل صغيرة وكبيرة, مشغلا آلة التأثيم المستمر, مطالبا بالتضحية والمزيد من التضحية.
2- النرجسية ورفض الإخصاء
إن توق الإنسان إلى تجسيد القيم المثالية أمر طبيعي به تستقيم الثقافة وما تقوم عليه من مؤسسات دنيا. ولكن تحول هذا التوق إلى وهم بإمكان تحقيق الكمال وتحقيق الصفاء هو الانحراف الذي يمكن أن يتعرض إليه الإنسان في تجربة التماهي مع الأب الروحي هذه. التعصب, الذي هو كما يقول فولتير ابن مشوه للدين, هو تجربة الإيغال في الارتباط بالمذهب والعقيدة. هذا بديهي, ولكن التعصب أيضا, حسب التحليل النفسي, رفض نرجسي للإخصاء أي: رفض للحدود التي تفرضها المنزلة البشرية, ورفض للتعقد ولتلاوين الفكر, ورفض لخوض تجربة الغيرية, وإقبال على البساطة والبدائية والتماثل. التعصب بحث مهووس عن الصفاء في عالم لا صفاء فيه, ورغبة في أن يتحول الكل إلى أشباه وأمثال. يأتي كل فرد ضحية للداعية إلى المجموعة الدينية بقصة بؤس وجراح لم تلتئم لعدم حصول النضج الأوديبي (فهذا العامل, عامل عدم النضج النفسي وعدم المناعة أهم من العوامل الاقتصادية التي يلح عليها الخبراء عادة). فيجد هذا الفرد لدى المجموعة تأجيجا للوهم, ووعدا بالجنة وبالخلود, ويستمد من الأب الروحي رضا على النفس وشعورا بعظمة الانتماء إلى حلقة المصطفين. وهنا يتأكد البعد العدائي الأساسي الذي تتسم به حالة التعصب والتماهي, أي يتأكد كره الآخر المختلف قليلا أو كثيرا. فالأصولي في تجربة التماهي هذه, وفي رفضه للإخصاء, لا يريد عيش محنة الاختلاف, بل بالعكس : كلما احتد أمامه اختلاف, اشتد ارتباطه بالأب الروحي وبالمجموعة من الإخوان المتشابهين المتراصين, ولاذ من خطر قبول المختلف بالعقيدة والمذهب والطقوس.
وما يجعل كره الآخر مصدرا للتدمير, تدمير الذات بالانتحار, وتدمير الآخرين بالقتل, أو تدمير الذات والآخر معا, هو انفصال الكره عن الحب وانفصال دوافع الموت عن دوافع الحياة. فتضافر هذه الدوافع على نحو متسق هو مصدر توازن الذات في توقها إلى الآخر وفي حفاظها على نفسها في الوقت نفسه. ولكي نبسط مفاهيم غاية في التعقد, نقول إنه لا بد من حد أدنى من الكره داخل الحب لكي لا يذوب الإنسان في الموضوع (المحبوب), ولا بد من حد أدنى من الحب لكي لا تدمره الغيرة والحقد والرفض. هذه الحدود الدنيا تضمحل وينفصل الحب والكره سائرين في اتجاهين مختلفين تماما : يسير الحب كل الحب نحو الأب الروحي والله والمذهب, ويسير الكره كل الكره نحو الآخرين المختلفين, فتحصل الكارثة التي تمجدها الثقافة العربية السائدة: كارثة العمليات الانتحارية التي تنعت ب¯"الاستشهادية", وتحصل الكوارث التي لا تقل حدة : رمي المختلفين بتهمة الردة, والتكفير والتفسيق واستمداد المتعة من إلحاق الأذى اللفظي أو الجسدي بالآخر وإسقاط الأحقاد على النساء والمختلفين في الدين وطريقة العيش. كل ما يعوق تحقيق الوهم الذي هو الغاية من نمذجة الأنا يجب أن يلغى, ولذلك فإن المشاجب التي تسقط عليها الرغبات والاختلافات المرفوضة يجب أن تلغى. ولهذا السبب لا يشعر المحرض على العنف القداسي أو المرتكب له بالإثم, بل يرتكب أفظع الجرائم وكأنه منوم أو مخدر, يذبح الرهينة, كبش الفداء البشري وكأنه يذبح الكبش الحقيقي في يوم العيد.
وقد تتدخل عوامل أخرى تكتيكية في هذه التركيبة القائمة على التماهي والعداء, تجعل داعية مثل القرضاوي يفتي بضرورة قتل المدنيين الأميركان في العراق, ثم يتراجع عن فتواه, لأنه ليس داعية فحسب, بل إيديولوجي متاجر في سوق المعتقدات, بالإضافة إلى كونه متاجرا في سوق الأموال, حريصا على مصالحه الشخصية البشرية جدا, والتي لا تخفى إلا على ضحاياه من المفتونين به.
3- حضور الله كل الحضور, وحضور "وجه الإله المظلم" على الأخص لا يشعر الأصولي بالإثم إزاء مشاجب كرهه وإسقاطه, ولكنه يشعر بالإثم إزاء الله والأب الروحي. لأن التماهي في الجماعة ينبني على "الرغبة في رغبة الآخر", وهذا الآخر الأكبر, (أي الله أو الأب الروحي) يجعل الإنسان يشتهي إخصاءه الواقعي (موته) نتيجة لرفضه الإخصاء الرمزي العادي, أي رفضه الحدود والنهايات والغيرية.
وهنا نقف على بؤرة أساسية من بؤر الهذيان الأصولي تتمثل في أن الذات الإلهية فيه ليست متعالية ومفارقة بل حاضرة كل الحضور, تدل على ذلك مقررات الأصوليين فيما تعلق بالتأويل وبطبيعة الكلام الإلهي. ويمكن أن نقدم في هذا الصدد مثالا نستقيه من كلام متولي الشعراوي, الذي كان في عهد السادات يظهر على الشاشة المصرية أكثر من السادات نفسه, والذي نشرت فتاواه في شكل أسئلة وأجوبة تضم ستة مجلدات. في إحدى هذه المحاورات, تساءل محاور الشيخ عن الآيات التي تبتدئ ب¯ "ويسألونك عن", فأجاب : "كل سؤال يطرحه الله نجد أن الرسول تلقى الجواب من الله ب¯(قل) : يسألونك عن المحيض قل هو أذى, كأن المسألة ليس فيها اجتهاد لبشر هو الذي قال هكذا... فتسأل أنت كيف? ... وهذا يؤكد المباشرة بين العابد والمعبود, وفيها معنى التقاء الاثنين".
ليس مكمن الخطورة في إلغاء الشعراوي الاجتهاد البشري, وإلغائه وساطة النبي بين الله وعباده, رغم أنه هو المخاطب ب¯"قل", بل في قوله بوجود علاقة "مباشرة" يلتقي فيها الله والناس. ويتأكد هذا الإصرار على حضور الله في فصل آخر بعنوان "هل لغة القرآن العربية لفظا هي عين كلام الله?" يظهر فيه التعارض بين الشعراوي وابن سينا : فالشيخ ابن سينا "يعارض كون كلام القرآن في المصحف عينه كلام الله, وإنا يرى أن لله كلاما لا نعرفه نحن البشر... أما الشعراوي, فيقول إن"القرآن المكتوب في المصحف برسمه وهيئته من الله سبحانه وتعالى بنفس اللغة وأعطاني الدليل الفكري الفلسفي المنطقي... ويعلق محاور الشعراوي : ولقد كنت مقتنعا برأي ابن سينا فيلسوف وحكيم عصره. وبعد أن حدثني الشيخ الشعراوي إمام عصره في هذه المسألة اقتنعت برأيه وأرجحه لأنه أقرب إلى العقل والفكر والوجدان".
يلتحم "العقل والفكر والوجدان" لتأكيد لحمة جنونية غير مسبوقة ربما بين الله وعبده, وللذهاب إلى أبعد حد في الاعتقاد بسلبية دور الإنسان في تلقي الوحي, بحيث أن القرآن كلام الله المباشر, والله ليس مفارقا, ولا داعي إلى التأويل باعتباره عودة إلى الأول, بما أن الأول, أي الأصل حاضر كل الحضور.
هذا الإله الحاضر كل الحضور, أليس هو الذي يسميه فرويد ب¯"الإله المظلم" : أي هذا الأب الغاضب المطالب بالتضحية, والمطالب برغبة العباد في التضحية, والمطالب بالتأثم والمزيد من التأثم إلى حد تدمير العبد ذاته في لهاث مستمر بين الإثم والتكفير عنه, بين الحب المفرط لهذا الآخر الكبير ذي الحضور النابي والكره الشديد لكباش الفداء?
هذه التركيبة النفسية التي نجدها في الحالة الأصولية, وفي علاقة الداعية الأصولي بضحاياه من الأتباع, وفي علاقة كل هؤلاء بالذات الإلهية هي التي تجعلنا نقدر مدى الدمار الذي لحق الثقافة العربية من جراء تحول هؤلاء الدعاة إلى نجوم تمشهدهم وسائل الإعلام بكل طمأنينة, ومن جراء مداهنة الساسة و"المثقفين" العرب لهذه الحالات الهذيانية الخطيرة التي يغدقون عليها ألقاب "الشيخ" و"سماحة الشيخ" و"فضيلة المفتي"...
* نقلا عن جريدة "السياسة" الكويتية



جميع الحقوق محفوظة لقناة العربية © 2004

صفحة الطباعة | العربية نت.

ليست هناك تعليقات: