٥‏/١١‏/٢٠٠٦

تجميل التعذيب

خميسيّات \ آدم فتحي (الشروق التونسيّة \ 2-11-2006)
تجميلُ التعذيب
في 28 سبتمبر 2006 صوّت الكونغرس الأمريكيّ على مشروع القانون الخاصّ بظروف التحقيق..وفي 17 أكتوبر 2006 وقّع دابليو بوش على نصّ هذا القانون الذي رأى فيه الكثيرون «تناقضًا مع اتفاقيّات جنيف»..وفي 24 أكتوبر تحدّث ديك شيني في إحدى الإذاعات عن التغطيس (وهو طريقة تعذيب تُسمّى waterboarding وتتمثّل في إغراق المتّهم حدّ الاختناق) قائلاً إنّ هذه الطريقة أعطت نتائج جيّدة، وإنّها ليست تعذيبًا.
هكذا وخلال أسابيع..غفرت الإدارة الأمريكيّة لنفسها غوانتانامو و«أبو غريب» بمفعول رجعيّ..وحصل التعذيب على صكّ الغفران..وعادت البشريّة إلى القرون الوسطى تحت مسمّيات وبمبرّرات مختلفة..وصحّت نبوءة سيوران حين قال «إنّ الغرب يبحث عن طريقة للاحتضار لائقة بماضيه. »
في الفترة نفسها، أي بين سبتمبر وأكتوبر 2006، كان الفنّان الكولومبيّ فرناندو بوتيرو يبحث لأعماله عن قاعة عرض أمريكيّة..دون جدوى..والسبب أنّها أعمال تمّ إنتاجها بين سنتي 2004-2005 وتدور كلّها حول الانتهاكات التي مارسها مجنّدون أمريكيّون ضدّ عراقيّين في سجن «أبو غريب»..رفضت المتاحف الأمريكيّة عرض هذه الأعمال باستثناء  رواق  في مانهاتن..وقال الناقد الفنيّ دافيد دارسي إنّ المتاحف الامريكيّة رفضت عرضها كي لا تثير غضب الحكومة..فهل يعني هذا أنّ الجميع يعرفون جيّدًا الحقيقة المرّة:
أنّ التعذيب عارٌ لا يمكن غسلُهُ بقانون؟
الغريب أنّ كلّ هذا يمرّ بأغلب مثقّفي العالم (وبأغلب مثقّفينا العرب تحديدًا) وكأنّ أحدًا لا يكترث أو لاينتبه إلى أنّ كارثة حقيقيّة تحلّ بالمجموعة البشريّة وتهدّد نضالات قرون طويلة من أجل حريّة الإنسان وكرامته وحقوقه.
حتّى يوم 17 أكتوبر 2006 كان التعذيب «عادة سريّة»..وكانت إسرائيل الدولة الوحيدة التي سمحت لنفسها بتبنّيه صراحةً عن طريق محكمتها العليا..أمّا اليوم فنحن أمام نقلة نوعيّة بمبادرة من أكبر دولة في العالم..وهي نقلة تحدث في سياق تصنيع رأي عامّ أقلّ فأقلّ رفضًا للفكرة نفسها، بدعوى الحرب على الإرهاب، ممّا ينذر بأكبر انتصار لطغاة العالم وإرهابيّيه.
قد لا نستغرب الأمر لو أنّه حدث في بلاد عربيّة..وإذا كان من المفرح أن نرى عددًا من المثقّفين والنشطاء المدنيّين العرب يتصدّون لهذا الداء عربيًّا، كلّ بطريقته، على الرغم من صعوبة ظروفهم..فإنّ من غير المفهوم أن نراهم يصمتون عن «ماما أمريكا» وهي تتحوّل إلى غرفة تعذيب، مثلما كان زملاؤهم يصمتون عن «بابا الاتّحاد السوفييتي» وهو يتحوّل إلى قولاق.
يوجد أكثر من «أبو غريب» في أكثر من بلد عربيّ..ومن البديهيّ القول إنّ لوحات بوتيرو مثلاً ما كانت لتُعرضَ في أيٍّ من هذه البلاد العربيّة لو أنّها تناولت ما يُمارس فيها من تعذيب..ولكنّ الفارق واضح..أن يحدث هذا الأمر في بلد عربيّ هو كارثة وطنيّة..أمّا أن يحدث في أمريكا فهو كارثة كونيّة..ولعلّ بوتيرو على حقّ حين قال إنّ ما أرعبه أكثر «هو أن يصدر هذا التعذيب عن الدولة الأغنى والأقوى في العالم، والتي تطرح نفسها كنموذج للتحضّر. »
نحن اليوم أمام انقلاب اليمين الأمريكيّ والغربيّ عمومًا على المبدأ الذي ظننّا أنّه أصبح قيمة كونيّة: مبدأ رفض التعذيب مهما كانت طريقته ومهما كانت مبرّراته..ومن شأن هذا الانقلاب أن يطيل عمر التعذيب في سائر بلاد العالم.
أيّام الرومان كان التعذيب أقلّ وقاحة..كان التعذيب يهدف إلى انتزاع الحقيقة أو إعلان التوبة وليس كما هو اليوم وسيلة للابتزاز وكسر الإرادة ومنع المقاومة وإذلال الروح استباقيًّا..كان التعذيب مهمّة قذرة لا يتشرّف بها مواطنو روما العاديّون فضلاً عن نبلائها..بل  يُكلّف بها عبد مخصّص للغرض..أمّا اليوم فها نحن نرى الأمريكان من خلال هذا القانون، يتشرّفون بهذه المهمّة، ويجعلون منها وظيفة من الوظائف السامية لابدّ لها من كرّاس شروط ودليل استعمال.
ليس دابليو بوش أوّل من اخترع دليلاً للتعذيب، فقد عجّت قرون محاكم التفتيش بكتيّبات قام بتأليفها كبارُ المفتّشين..نذكر من بينهم Bernard Gui (1307 و1324) و Nicolas Eymeric (1320-1399) الذي تميّز على زميله الأمريكيّ الحديث بأنّه فهم عبثيّة التعذيب، كاتبًا في لحظة صفاء: «إنّ التعذيب يمكن أن يقتل القويّ دون أن يعترف بشيء..ويمكن أن يدفع الضعيف إلى الاعتراف بغير الحقيقة. »
وليس دابليو بوش أوّل من ابتكر فكرة إخراج المتّهم من إنسانيّته للتعامل معه بعيدًا عن أيّ قانون أو أخلاق..فقد سبقه الرومان إلى ذلك..وكان مفتّشو الكنيسة القدامى لا يعترفون بحقّ المتّهم في الاطّلاع على لائحة الاتّهام ولا يواجهونه بمتّهميه..لكنّ دابليو بوش تفوّق عليهم جميعًا في قانونه الجديد لأنّه حرم المتّهم من حقّ الدفاع عن نفسه..مطيحًا بما سمّاه فوكو قواعد اللعبة البرهانيّة.
أباح الرومان تعذيب العبد على أساس أنّه مجرّد بضاعة..وأباحت الكنيسة تعذيب الزنديق على أساس أنّه ليس إنسانًا..وأباحت النازيّة تعذيب اليهوديّ على أساس أنّه جنس سافل..وأباح الطغاة تعذيب المعارض على أساس أنّه غير وطنيّ..وها هي أمريكا تتفوّق على الجميع، فتبيح تعذيب كلّ من هو غير أمريكيّ على أساس أنّه غريب أو أجنبيّ أو إرهابيّ..وكأنّ على الإنسان أن يكون أمريكيًّا وإلاّ فهو كائنٌ لا حرمة له ومن ثمّ يجوز تعذيبه.
أيّام الرومان كان العبد «بضاعة» يتمّ التعامل معها ككائن غير عاقل..ومن ثمّ كان من الطبيعيّ أن يمرّ دائمًا بامتحان الألم..كان صمود العبد أو عدم صموده أمام الألم طريقته الوحيدة في الإفصاح أو عدم الإفصاح عن الحقيقة..شأنه في ذلك شأن الحيوان..أمّا اليوم فإنّ الجلاّد هو الذي يتحوّل إلى حيوان من خلال تصرُّفه الحيوانيّ..وهذا ما أبرزه بوتيرو في أعماله.
نحن اليوم أمام محاولة تجميل للتعذيب من جهة، ومحاولة لفضح هذا التجميل من الجهة الأخرى.
يحاول الجلاّد توظيف الجميع في حربه اللاأخلاقيّة..يحاول تضليل الجميع كي يتنصّل من حقيقته البشعة..لكنّ الفنّان المثقّف المبدع الحرّ، يُفلح في إجبار الجلاّد على مواجهة حقيقته في المرآة..مرآة الفنّ..حيث لاشيء يفضح عمليّات التجميل المزيّف مثل الجمال الحقيقيّ.
من ثمّ نفهم جدوى أن يقول الجميع لا للتعذيب..لا لهذه الكارثة التي يُعاد إنتاجها بشتّى المبرّرات..ولا نتيجة لها إلاّ الإطاحة بإنسانيّة الإنسان.

ليست هناك تعليقات: