٢٣‏/٣‏/٢٠٠٧

الرسول الكريم.. خلود المعجزة

نــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزار حيدر


NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM


   في ذكرى رحلة رسول الاسلام، محمد بن عبد الله (ص) في الثامن والعشرين من شهر صفر المظفر، استضافني مشكورا، يوم أمس، مركز الامام علي (ع) في العاصمة الاميركية واشنطن، لألقي محاضرة عن الذكرى، فاخترت موضوع الحديث عن سر خلود معجزة الرسول الأكرم، الا وهي القرآن المجيد.
   وبرأيي، فان سر خلود معجزة الرسول (ص) هو ارتباطها بعقل الانسان، وهو المخلوق الاعظم الذي خلقه الله تعالى من نور، كما ورد ذلك عن الرسول الكريم، وهو الذي قال عنه رب العزة في حديث قدسي{بك اثيب وبك اعاقب} ولان عقل الانسان لا حد له، وهو قابل للتطور في كل زمان ومكان، لذلك فان معجزة الرسول الاكرم (القرآن الكريم) التي تتحدث الى العقل، خالدة لا حد لها، وستظل تتحدى الانسان في اسرارها وعلومها ومعانيها ومضامينها الى يوم يبعثون.
   وبقليل من التمعن والتدبر في آيات القرآن الكريم، يتبين لنا بان الهدف الاسمى لمعجزة الرسول الكريم(ص) هو ان يعمل الناس (احسن) العمل وليس مجرد العمل فقط، ولذلك نحن نقرا في العديد من آيات القرآن الكريم هذا المعنى بشكل واضح، كقوله تعالى{وهو الذي خلق السماوات والارض في ستة ايام وكان عرشه على الماء ليبلوكم ايكم احسن عملا} وفي قوله عز وجل{انا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم ايهم احسن عملا} وفي قوله تعالى{ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات انا لا نضيع اجر من احسن عملا} وفي قوله عز من قائل{الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم ايكم احسن عملا وهو العزيز الغفور} والعشرات من الايات بهذا المعنى، وهذه دعوة قرآنية واضحة وصريحة للانسان، لأن يجتهد ويبذل قصارى جهده من اجل انجاز احسن الاعمال، من خلال الاخذ بالاسباب والادوات والعوامل التي تعينه على ذلك.
   لقد خلق الله تعالى الانسان على احسن صورة، كما في قوله تعالى{لقد خلقنا الانسان في احسن تقويم} وفي قوله تعالى{خلق السماوات والارض بالحق وصوركم فاحسن صوركم واليه المصير} وفي قوله عز وجل{الله الذي جعل لكم الارض قرارا والسماء بناء وصوركم فاحسن صوركم} وفي قوله عز من قائل{الذي احسن كل شئ خلقه وبدا خلق الانسان من طين} كما انه تعالى فطرالانسان على احسن فطرة، كما في قوله تعالى {فاقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون} وفي قوله تعالى{صبغة الله ومن احسن من الله صبغة ونحن له عابدون} كما انه تعالى بعث للانسان احسن الدين واتم المناهج، كما في قوله تعالى {ان هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم} وفي قوله تعالى{ومن احسن دينا ممن اسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا} وفي قوله عز وجل{افحكم الجاهلية يبغون ومن احسن من الله حكما لقوم يوقنون} وفي قوله تعالى {الله نزل احسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم في ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد} وفي قوله تعالى{ولا ياتونك بمثل الا جئناك بالحق واحسن تفسيرا} كما انه تعالى قص على الانسان احسن القصص والعبر الانسانية، كما في قوله تعالى{نحن نقص عليك احسن القصص بما اوحينا اليك هذا القرآن وان كنت من قبله لمن الغافلين} وعندما يكون للانسان احسن خالق كما في قوله تعالى{اتدعون بعلا وتذرون احسن الخالقين} وفي قوله تعالى{ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم انشاناه خلقا آخر فتبارك الله احسن الخالقين} وعندما يكون له احسن رسول كما في قوله تعالى يصف رسول الاسلام{وانك لعلى خلق عظيم} وفي قوله تعالى{لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر وذكر الله كثيرا} عندما يكون كل ذلك واكثر لهذا الانسان، فلماذا لا يحقق الهدف الاسمى من الخلق الا وهو{احسن عملا} كما هو المطلوب منه؟ اما اذا اخفق في ذلك، افلا يعني ان المشكلة في الانسان نفسه وليس في الخالق او الخلق او المنهج؟ بالضبط كالابن الذي يهئ له ابوه كل اسباب التفوق والنجاح من خلال تسجيله في احسن المدارس ذات المناهج الدراسية والتربوية النموذجية ويهئ له افضل الاساتذة والمعلمين وافضلهم خبرة في التدريس والتعليم، ثم يهئ له افضل اللباس والطعام واسباب الراحة، ومع كل هذا لا يتفوق هذا الطالب في المدرسة ولا يحقق النتائج المرجوة منه وهو يتمتع بكل اسباب التفوق، افلا يعني ان المشكلة فيه، اما بسبب عدم قدرته على الاستيعاب او اهماله لواجباته المدرسية او عدم اعتنائه بدروسه او تقصيره في قراءة المناهج، او ربما بسبب تسيبه ولا اباليته؟ من دون ان نحمل اي واحد آخر سبب عدم تفوقه والحال هذه.
   الانسان كذلك، فعندما يكون له احسن خالق وقد صوره في احسن هيأة وخلق وبعث له احسن رسول وامام وباحسن منهج ومدرسة، ثم يفشل في انجاز احسن الاعمال فهذا يعني ان هنالك خلل في هذا الانسان وليس في خالقه او دينه او نبيه.
   هنا يرد السؤال التالي، الا وهو:
   كيف يمكن للانسان ان ينجز احسن الاعمال باعتماد معجزة الرسول الكريم الخالدة الا وهي القرآن الكريم؟ وبعبارة اخرى، كيف يمكن ان يكون القرآن الكريم معجزتنا الخالدة؟.
   الجواب، من خلال الاخذ بالاسباب التي تعينه على ذلك وهي كما يلي:
   اولا؛ اتباع احسن القول، كما في قول الله عزوجل{الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه اولئك الذين هداهم الله واولئك هو اولوا الالباب}.
   ثانيا؛ الاخذ باحسن ما انزل الله تعالى، من خلال اعتماد افضل التفسير والتاويل، كما في قوله تعالى{واتبعوا احسن ما انزل اليكم من ربكم من قبل ان ياتيكم العذاب بغتة وانتم لا تشعرون} او في قوله تعالى{وكتبنا له في الالواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ فخذها بقوة وامر قومك ياخذوا باحسنها ساريكم دار الفاسقين}.
   ثالثا؛ الدعوة بالحسنى، والجدال بالتي هي احسن، من خلال انتهاج طريق المنطق والدليل والحكمة واللين، كما في قوله تعالى{ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين}او في قوله تعالى{وقل لعبادي يقولوا التي هي احسن ان الشيطان ينزغ بينهم ان الشيطان كان للانسان عدوا مبينا} او في قوله تعالى{ولا تجادلوا اهل الكتاب الا بالتي هي احسن} او في قوله عز من قائل{ومن احسن قولا ممن دعا الى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين}.
   رابعا؛ التدافع بالتي هي احسن عندما تصل مراحل الجدال الى طريق مسدود مع الاخر، وعدم استخدام العنف كنهاية لاي حوار، كما في قول الله تعالى{ادفع بالتي هي احسن السيئة نحن اعلم بما يصفون} او في قوله عز وجل{ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي احسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كانه ولي حميم}.
   اذن، فان طريق تحقيق {احسن عملا} هو الاصغاء الاحسن والاختيار الاحسن والحوار والجدال الاحسن وبالتالي الدفع بالتي هي احسن، فاذا تحقق كل ذلك، تحقق {احسن عملا} وعندها سنكون المصداق العملي والواقعي الواضح لقول الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام الذي اوصى شيعته بقوله {كونوا لنا دعاة صامتين} او {كونوا لنا دعاة بغير السنتكم} ومعنى ذلك ان تكون داعية بعملك الحسن وليس بالقيل والقال او بالادعاء الفارغ الذي يناقض في احيان كثيرة اعمال الانسان وانجازاته، اذ، وكما هو معروف، فان اختبار دين الناس بعملهم وليس بما يدعون او يقولون، والى هذا المعنى اشار قول الرسول الكريم (ص) {الدين المعاملة} اذ ليس المهم ما يقوله الانسان، وانما ما يعمله، فكثيرون هم الذين يقولون القول الحسن ويرفعون اعظم الشعارات، الا ان القليل منهم هم الذين يصدقون اقوالهم الحسنة المحببة بافعالهم الحسنة، وشعاراتهم الخلابة والساحرة بانجازات انسانية تنفع الصالح العام.
   اذا تحقق كل ذلك، فستكون الخاتمة لهذا الانسان، احسن خاتمة، وسيجزى احسن جزاء، كما في قول الله تعالى{ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا الا كتب لهم ليجزيهم الله احسن ما كانوا يعملون} وفي قوله عز من قائل{ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا اجرهم باحسن ما كانوا يعملون} وفي قوله تعالى{من عمل صالحا من ذكر او انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم باحسن ما كانوا يعملون} وفي قوله عز وجل{ليجزيهم الله احسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب} وفي قوله تعالى{اصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا واحسن مقيلا} و{الذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم احسن الذي كانوا يعملون}و{ليكفر الله عنهم اسوا الذي عملوا ويجزيهم اجرهم باحسن الذي كانوا يعملون}و{رسولا يتلو عليهم آيات الله مبينات ليخرج الذين امنوا وعملوا الصالحات من الظلمات الى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ابدا قد احسن الله له رزقا} وفي قوله تعالى{اولئك الذين نتقبل عنهم احسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في اصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون}.
   السؤال الآخر الذي يقفز هنا، هو؛
   كيف يمكن ان ناخذ بكل هذه الاسباب التي تعيننا على انجاز العمل الاحسن؟.
   الجواب، من خلال تغيير الذات اولا، كما قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم{له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من امر الله ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم} او في قوله تعالى{ذلك بان الله لم يك مغيرا نعمة انعمها على قوم حتى يغيروا ما بانفسهم وان الله سميع عليم}.
   وان تغيير الذات يبدا من تغيير العقلية الى الاحسن والافضل، وذلك بمقومين اساسيين، هما المعرفة والتدبر او التعقل، وان طريق المعرفة هو القراءة وطلب العلم، ولذلك الح القرآن الكريم على طلب العلم والقراءة، وان اول ما امر به الرسول الكريم (ص) هو ان يقرأ كما في قول الله تعالى مخاطبا الرسول الكريم (ص){اقرا باسم ربك الذي خلق} كما اشارت العديد من احاديث رسول الله (ص) الى طلب العلم والمعرفة، كما في قوله (ص){طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة} و{اطلبوا العلم ولو بالصين}و{العلم نور والجهل ظلام} وغيرها الكثير من الاحاديث الشريفة والاقوال الماثورة الواردة عن المعصومين من اهل بيت العترة الطاهرة عليهم السلام.
   اما المقوم الثاني، فهو التدبر والتفكر والتعقل، كما في قوله عز وجل{افلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} وفي قوله تعالى{افلا يتدبرون القرآن ام على قلوب اقفالها} و{الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} و{كذلك نفصل الايات لقوم يتفكرون} و{ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} و{انزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما انزل اليهم ولعلهم يتفكرون} و{لو انزلنا هذا القرآن على جبل لرايته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}و{كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون}و{انا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}و{كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون} وفي الحديث الشريف{تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة} وفي آخر يصف عبادة الصحابي الجليل ابا ذر الغفاري رضي الله عنه{وكان اكثر عبادته التفكر} والتدبر هنا لا يعني في آيات القرآن الكريم فحسب، بل في كل آيات الله عز وجل، وفي كل خلق وظاهرة.
   اذن، بالقراءة والتفكر يتغير العقل نحو الافضل والاحسن، فيكون مستعدا للاخذ بالاسباب التي تمكنه من تحقيق{احسن عملا} وبذلك تتحقق معجزة الرسول الكريم الخالدة (القرآن الكريم) في كل آن ومكان.
   السؤال الآخر المهم الذي يقفز في الذهن هنا، هو، ماذا نقرأ؟ وأية ثقافة نحتاج اليوم؟.
   برأيي، فان الذي نحتاج لقراءته هو امران، الاول الذات والثاني الآخر، الناجح لنتعلم منه كتجربة انسانية، والفاشل لنتعلم منه اسباب الفشل فنتجنبها.
   في مجال قراءة الذات، علينا ان نضع جدولا زمنيا وخطط دائمة من اجل اعادة قراءة تاريخنا وسيرة الرسول الكريم وائمة اهل البيت الاطهار، ففي سيرهم جميعا تجارب ثرة وقيم انسانية عظيمة، تعلمنا كيف ناخذ باسباب التقدم والتطور والتنمية، وقبل ذلك علينا ان نقرأ القرآن الكريم برؤية جديدة ووعي متجدد.
   مشكلتنا اننا نقرا المعصومين كعواطف فقط، وهذا خطأ فادح وتقصير بحقهم وبحق انفسنا، فالحسين بن علي الشهيد سبط رسول الله(ص) مثلا، ليس عواطف فقط، وليس دموعا وبكاءا ونحيبا فحسب، بالرغم من اهمية كل ذلك، ولكن الى جانب الدمعة، علينا ان نقرا الحسين ــ الرسالة والقيم والفلسفة والمبادئ التي ضحى من اجلها والاسباب والادوات والوسائل التي ثار بها طلبا للاصلاح، وكذا الحال بالنسبة الى بقية المعصومين، وكذا الحال عندما نقرا احاديثهم واقوالهم ورسائلهم، وما تركوه لنا من اسفار عظيمة، كنهج البلاغة للامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام والصحيفة السجادية للامام السجاد زين العابدين علي بن الحسين عليهم السلام، فان في كل دعاء من ادعية هذه الصحيفة التي سماها المعصومون بزبور آل محمد، الكثير من الكنوز والكثير من العلوم والقيم والمناقبيات والفلسفة.
   وبهذه المناسبة، فانا اقترح ان يضع كل واحد منا جدولا زمنيا لنفسه ولمن يعنيه امره من اولاده واهل بيته، ويقرر ان يقرا كتابا عن كل معصوم تمر علينا ذكرى ولادته او شهادته، او على الاقل نقرر ان نقرا ما لا يقل عن عشرة اقوال من اقواله او من خطبه ورسائله، لنكون قد قرأنا، وعلى مدار كل سنة، شيئا عن الرسول الكريم وائمة اهل البيت والعظماء من تاريخنا المجيد.
   بشأن قراءة الاخر، علينا ان نقرا كل تجربة انسانية مر بها شعب من الشعوب، فلا نتعصب لثقافتنا، بل يجب ان ننفتح على ثقافات الاخرين وتجاربهم الانسانية الثرة، ففيها الكثير من التجارب والعبر واسباب النجاح والتقدم والتطور، ولهذا السبب نقرا في القرآن الكريم الكثير من تجارب وقصص الامم السالفة بحسنها وسيئها، من اجل العبرة والاعتبار، ولقد قص علينا ربنا عز وجل في كتابه الكريم احسن القصص من اجل تنبيهنا مسبقا، ونحن نهم بالمرور بقنطرة الحياة التي مر بها الاولون، كما اشارت


الى ذلك الآية المباركة {نحن نقص عليك احسن القصص بما اوحينا اليك هذا القران} ومن اجل ان نعتبر ممن سبقنا، كما في قوله تعالى{ان في ذلك لعبرة لمن يخشى}.
   لنقرا تجارب العظماء، ولنقرا تجارب الشعوب الناجحة في هذا العالم، كالشعب الياباني والهندي والالماني، وكذلك تجربة الحضارة والمدنية في الولايات المتحدة الاميركية، لنكتشف حقائق الدستور الذي كتب منذ اكثر من قرنين ولا زال حيا طريا يشق طريقه في الحياة اليومية الاميركية بلا هوادة، ولنتعرف على نوعية الثقافة التي لا تدع الرئيس الاميركي، وهو زعيم لاكبر واعظم دولة في هذا العالم، يتشبث بالسلطة لمجرد انتهاء مهام عمله الدستورية، ليعود مواطنا عاديا يكمل بقية عمره بعيدا عن البيت الابيض، فيما نرى الاخر عندنا يرفض ترك السلطة الا بالموت او بالانقلاب العسكري او بالتآمر عليه، فهو مستعد لفعل كل حرام واستباحة الدماء الطاهرة واراقتها انهارا والاعتداء على كل مقدس، وتدمير البلاد وخيراتها، كل ذلك من اجل أن يبقى في السلطة ولا يتركها، اما اذا كان الزعيم قد ورث السلطة، فالعياذ بالله من حظ ذاك الشعب الذي يبتلى بمثل هذا الحاكم، الذي يعين عليه حاكما حتى قبل ان يعقد ابوه نطفته في بطن امه.
   اما في العراق، قضيتنا المركزية اليوم، فالمشكلة اننا لا زلنا نحمل نفس الثقافة التي ورثناها من النظام الشمولي البائد، وفي نفس الوقت، نريد ان نبني بها عراقا جديدا قائما على اساس الحرية والعدالة والمساواة والتداول السلمي للسلطة، وهل يعقل ذلك؟


اذا كانت هذه الثقافة قادرة على ان تبني مثل هذا العراق الجديد لبناه النظام السابق، ولذلك علينا ان نتثقف بثقافة جديدة قائمة على اساس الحوار والتعايش واللاعنف والقبول بالآخر مهما اختلفنا معه، لا زال لم يحمل السيف كاداة للحوار والجدال والنقاش والتنافس السياسي.
   ثقافة قائمة على اساس الحرية والكرامة والمواطنة الحقيقية وتكافؤ الفرص وعدم التمييز على اساس العرق او الدين او المذهب او المنطقة او الانتماء الحزبي او التوجه السياسي والثقافي والفكري، ونبذ الفكر الشمولي والاحادي، دينيا كان ام ليبراليا، لا فرق.
   وان من اكثر ما يجب ان نهتم بحسن ثقافته هي المرأة التي لا زالت، وللاسف الشديد، الضحية الاول والاكبر لسياسات العنف والاقصاء والتهميش، ولا اقصد بالعنف هنا الارهاب فقط، لا، وانما اقصد به كل انواع العنف، كالعنف الاسري، كما ان الطفل لا زال مقموع في الاسرة لا يحق له ان يعبر عن نفسه، ولا زال العنف هو الوسيلة المفضلة لدى المعلم في المدرسة، فالعنف هو الاداة الغالبة من بين كل ادوات التعليم الاخرى، وان كل ذلك يترك اثرا سيئا كبيرا على الانسان وهو طفل صغير لتلازمه وهو ينمو ويشب ويكبر، لتظهر في الكبر على شكل ممارسات عنفية وعاطفية غير محسوبة.
   لذلك، يجب علينا ان نمنح المرأة والطفل على وجه التحديد، الفرصة تلو الاخرى من اجل القراءة والتعليم وطلب المعرفة، فالام الجاهلة لا يمكن ان تربي جيلا متعلما، وان الام التي لا تقرأ ولا تكتب، من غير الممكن ان ننتظر منها صناعة جيل جديد يعرف كيف يعيش وكيف يتعامل مع نفسه ومع الاخرين، وصدق الشاعر الذي قال:
             الام مدرسة ان اعددتها             اعددت جيلا طيب الاعراق
   ان ما يؤسف له حقا، هو ان الكثير من الناس الذين شاءت الظروف ان يهاجروا الى بلاد الفرص الجديدة كاوربا واميركا وغيرها، لا زال الكثير منهم ينظرون الى المرأة على انها تلك العورة التي يجب ان تلازم المنزل ولا تخرج منه، فيحرمونها من طلب العلم والمعرفة في الجامعة، وفي كثير من الاحيان يحرمونها حتى من نعم وفوائد الشبكة العالمية للمعلوماتية (الانترنيت) فيحرمون عليها الاطلاع على المعارف والمعلومة والاخبار وقراءة الكتب بحجة انها مفسدة، من دون ان يحملوا انفسهم عناء المراقبة والمساعدة للاستفادة منها بالشكل الصحيح.
   دعوا المرأة تتعلم لنضمن مستقبلنا الزاهر، وساعدوا المراة على طلب العلم وامنحوها الفرصة لتتسلق المراتب العليا للعلم والمعرفة، من اجل غد افضل لاجيالنا الصاعدة.
   كما ان علينا ان نمنح الصغار فرصة التعبير عن انفسهم، وفرصة السؤال، فلا نقمعهم او نبعدهم عن مجالس العلم والمعرفة لاي سبب كان، ليتعلم الطفل الصغير كيف يعبر عن نفسه وكيف يسال وعن ماذا يسال ولماذا، ومن ثم يتعلم كيف يتحدث؟ ولنتذكر بان الطفل كجهاز الحاسوب (الكومبيوتر) له القابلية العجيبة والغريبة على تسجيل وحفظ كل ما يسمعه او يراه، ولذلك يجب ان نكون حذرين عندما نتكلم مع امه او اهل بيته او اقاربه او مع الاخرين امامه، لانه سيتعلم ما يسمعه، وان لم تكن له القابلية على التعبير عنه في مثل هذا العمر، الا انه سيعبر عنه في يوم من الايام، فان خيرا فخيرا، وان شرا فشرا.

ليست هناك تعليقات: