٢‏/١١‏/٢٠٠٥

سي محمد باطما

" سي محمد باطما": النسر الذي رحل وهو مجروح..!

كتب: نور الدين بازين.

إلى روحي الفنانين: محمد باطما - الشريف لمراني.


" أشهد أن سي محمد أزجل مني".
هذا ليس مقطعا من أغنية أداها فنان ما، وليس شعارا يردده البعض منا، بل هي جزء من شهادة الفنان المغربي الكبير الراحل" العربي باطما"، في حق أخيه" لمشاهبي" الراحل سي محمد باطما، عضو مجموعة لمشاهب الغنائية، في لقاء تاريخي جمعهم في برنامج تلفزيوني قدمته القناة الثانية قبل رحيلهما.
تلكم الشهادة التاريخية، ليست مجاملة أخ لأخيه، أو شهادة مدح لفنان اتجاه فنان آخر أمام أعين الجمهور، الذي كان يتتبع تلك السهرة الجميلة، بل هي شهادة فاه بها فنان كبير، له وزنه بين جموع الفنانين، المغاربة والعرب بصفة عامة، شهادة محسوبة عليه تاريخيا اتجاه"هرم"من أهرمات الفن المغربي، وكلمة حق اتجاه فنانا، لم يمنح المكانة اللائقة به في هذا البلد السعيد..
شهادة كانت بمثابة آنذاك، إشارة للمسؤولين على المجال الفني، للإلتفات نحو هذا الإنسان الذي ضحى من أجل سمو الكلمة " الملتزمة" ولم يرضخ لعنف الوقت وغرائبه، مع أنه كان بإمكانه أن يكون مثل الكثيرين من الفنانين الذين استغلوا الفرصة واغتنوا..
فكيف يعقل لهذا الفنان الكبير في آخر أيامه، أن يشعر بالتعب و الضياع، وهو يتأبط أوراق مسرحية"عقبة وحدورة"حينما صار يبحث مع رفيق دربه الفنان محمد السوسدي عن ممول للمسرحية، التي كانت مجموعة " لمشاهب" تنوي تمثيلها، وبعد ما أعلنتها في عدة مناسبات ووعدت بها الجمهور، ولا يجد من يحتضن مشروعه الثقافي، الذي يتجسد في مسرحية لا نعرف أين مصيرها ؟
وكيف يعقل أن يقام له تكريما في حياته، لم يزده سوى حسرة وألما، بحيث فتن عليه الدائنون،
ظنا بهم أن هذا التكريم نال منه مبلغا مهما والعكس صحيح، ولم يشفع له فنه وتاريخه لديهم..؟!
انسلت سيوف التخلي من غمدها، وصارت بسنها تخدش جسم سي محمد باطمامن دون شفقة أو رحمة.. سيوف نهلت من إنسانيته وشهامته المعهودان فيه وهمشته، وألقت به في مقاهي وشوارع مدينة الدار البيضاء، يتحسر على هذا الزمن المغربي..
فسي محمد باطما غنى للحياة بكل معانيها المستفزة، وأحبها بكل تناقضاتها منذ بداياته الفنية، المفعمة بالمغامرات والحكايات الجميلة، التي عشق من خلالها الغربة.
فبدويته أشرت عليه بطابع ميزه عن كل الفنانين، خصوصا بين أعضاء مجموعةلمشاهب، فقد كتب وغنى لكل رموز الحياة التي تأثر بها في البادية، وهو لازال هناك صغيرا، مما انعكس ذلك على حياته الفنية فيما بعد.. فهاهو يكتب عن" الشجرة "التي غنتها مجموعة" مسناوة، بحيث تقول الأغنية " شجرتنا علات.. علات أتفرعات..الخ..."
و"الشجرة" عند سي محمد باطما هي عنوان الارتباط بالأرض والخير، وعشق لبساطة العيش الذي يتجلى في حياة البادية..
وفي رد سريع على ما كتبه عن شجرة مجموعة مسناوة - وهذا ما اعتبر انقلابا جوهريا في شخصيته – ينفي سي محمد مع مجموعة لمشاهب هذا الخير وهذه البساطة في هذه الأرض، التي يدل عليها في صيحته المعبرة و المغناة:" ما بقات شجرة..الخ.."
ويبقى حدس الفنان قوته المستوحاة من هبة الله التي يمنحه إياه، و المجسدة في تنبئه لما سيحصل في المستقبل الآتي.. وهذا ما تنبئ له سي محمد باطما بفرنسا في بداية الثمانينات مع مجموعة لمشاهب في أغنية " فاتوني" التي خاطب فيها الذين يزرعون الشر في طريقه، رغم أنه يبادلهم الخير، ويعتبر أن ظلام القلوب سيبقى ولن يزول مهما طال الزمن، وأن ظلام الليل زائل بقوة ضوء الفجر..
ويؤكد سي محمد باطما في بعض كلمات أغنية " فاتوني":
" ظلام الليل.. الفجر م ورآه..
ظلام الكلوب.. هكذا ل بقاه..
وتظل أغنية " فاتوني"، المفتاح الذي نستطيع به فتح المعاناة التي كانت شخصية سي محمد يتخبط فيها وهو يعيش محنة الغربة التي عشقها بجنون لا يوصف وصفه، من دون أن يفصح عنها لأحد، فكان الغناء هو العزاء الوحيد، والمتنفس الذي لا يداريه مثال بالنسبة له، و الذي من خلاله يبوح عن مكنوناته المكبوتة التي تخالجه في داخله، يقول في أغنية" فاتوني":
"كنت يا حالي تسابق لرياح
واليوم يا حالي آجر لي
تسقط هكذا ف مصايب لجراح
وكيف يا حالي ح تتبقى لي.."
ويضيف سي محمد باطما في نفس الأغنية، ولكن هذه المرة ببحة مملوءة بالبكاء متأسفا على أيامه الجميلة التي هجرته أو بالأحرى هجرها، و لم تعد كما كانت ترضيه في الماضي، لتجعله يستسلم لواقعه الذي صار يعيشه مرغما بمرارة وحسرة.
" كنت يا حالي تحارب لنواح
هجرتي يا حالي كل م يرضيك
سألتك لله إمتى ترتاح
تسعف ليام لباقي ليك.."
حياة سي محمد باطما العائلية، حياة تستوجب الوقوف عندها في أكثر من أغنية، قصد التأمل والإستفسارالمنطقي لها، لانفصاله المفاجئ عن رفيقة دربه الفنانة" سعيدة بيروك" التي عادت – بالمناسبة - من جديد إلى مجموعة " لمشاهب"..
ففي فترة الانفصال كان سي محمد يخاطبها في أغاني كثيرة، معلنا بذلك عن أسفه الشديد لفراقها، مع بعثه رسائل من خلال أغاني تعد من أجمل ما غنى، لحثها على العودة إليه.. فقد ردد أغنية " يوم كنت معايا"في شريطين غنائيين الأول برفقة المجموعة، مع عرضها في القناة الثانية، والثاني شريط كان مع ابنته الفنانة " خنساء" وتقول الأغنية:
" يوم كنت معايا.. م حبستني ريح
لا زواق خذاني ولا بريق
قوس قزح.. ظهرت لوان
ف سمايا و حدا يا..
أرجع مرة رجع
يا لمشيتي بلا رجوع."..
ويعود سي محمد مع ابنته في نفس الشريط الذي جمعهما، ليغني أغنية-رسالة- أخرى حملت عنوان" توبة يا ربي توبة"ويقول فيها:
" توبة يا ربي توبة
وأنا يامي معاه اليوم
رآه سالت
هو يام في كلبي
عاد بدات..."
وتبقى كلمات أغنية " خليلي"، أجمل إبداع صاغه المرحوم سي محمد باطما لزوجته" سعيدة بيروك"، حيث استفسر ها عن عدائها وهجرها له، تاركة كل الرسومات التي خططها بمعيتها، وهي عبارة عن أحلام صارت خالية من معناها التي رسمها في لقائهما، والتي كانت مجموعة لمشاهب قاسمها المشترك
فأي الأشرعة سيختار سي محمد، بعد فراق خليلته له..؟ وأي الطرق سيسلكها في ظل هذه الحياة التي لا ترتكز على طريق واحد وواضح..؟ وأي الرموز سيختار حين يرى مناهج الزمن تتغير في اتجاه يصعب على الفهم والاستيعاب، خصوصا عند نفسية فنان حقيقي من طينة سي محمد باطما..؟ وأي اتجاها سيتجه في سفره إذا كانت البوصلة معطلة ومخربة..؟يقول في أغنية " خليلي":
خليلي
علاش تعاديني
وتهجرني
وتخللي رسامي خالية
غابة أغدير أشعبة
أحيوط باق من خربة
هذيك رسامي
خالية هذيك رسامي..
هي أغاني كثيرة صاغها المرحوم لرفيقته، عبرت عن عمق الوحدة التي كان يكابدها في حياته القاسية.. لكن يبقى السؤال مطروحا على " سعيدة بيروك" لماذا لم تستجب لنداء ته التي جاءت عبر رسائل غنائية متكررة للرجوع إليه، رغم اعترافها الذي أقرت فيه أن" سي محمد باطما، إنسان لن يجود به الزمن مرة أخرى، ويستحيل أن يعوض..!"
بعد رحيل أعز الناس إليه، الوالدين، و تشتت الأصحاب ( أعضاء مجموعة لمشاهب) يقول في أغنية " لصحاب":
أيا سايح في دنيا
أيا من كثير لصحاب
عيش وحدك تنجى
من خلطة لمصايب
وجب عليك حقوق صحبة
في لصحاب
لكذوب زولو
الغش والظن لخيب
وذاك لي تنويه حبيبك
تصيب عدوك
غير دياب
بنياب
لابسة ثياب..
وتأتي وفاة الأخ الأكبر" الفنان لعربي باطما"، حيث تعد بنسبه له صدمة هزت مشاعره، ليعترف ومرة أخرى من خلال الأغاني، وهي التعبير الوحيد الذي يتوفر لديه في مثل هذه الحالات الصعبة، بأن الدنيا فعلا خذلته وهزمته، وجعلت منه إنسانا يحس بالغربة، الضياع والوحدة، بحيث يقول في أغنية "حزينة يا دنيا"صدرها في شريط حمل أغاني جميلة، كأغنية " زن زن يا نحل" و أغنية " كرة يا أرض".
وتقول كلمات " حزينة يا دنيا":
" دنيا أ يا جراحت الكلوب
دنيا
أيا لغالبة.. أكلشي مغلوب
أزين لمثيل أحبابي
لكان معايا إدومو
أزين لمثيل صحابي
لكان ما يمشيو علي
أزين لمثيل مي
أزين لمثيل بويا
أزين لمثيل خويا
أخويا لعزيز عليا
دنيا
أيا لقاسيا فيا..."
للإشارة فمرض سي محمد باطما كان يصاحبه من زمان، وكان يدرك ذلك في داخله، والدليل هو كتابة أغنية" يا شاطني يا شاغل بالي"، التي غنها المرحوم لعربي باطمافي آخر شريط جمعه مع مجموعة" ناس الغيوان" وكان يقصد بها المرض الخبيث، وتقول بعض كلمات هذه الأغنية:
« يا شاطني يا شاغل بالي
جيتيني بين لوقات
جيتيني ولوقت حمات
جيتيني معطل لحضات
يا شاطني يا شاغل بالي.."
وتبقى أخلص صورة تعبر عن حياة هذا الفنان " الهرم"، هي أغنية " النسر"التي كتبها وغنتها مجموعة " مسناوة"، بحيث تعد هذه الأغنية مرجعا ووثيقة توضح حياة التهميش والتخلي، الذي عانى منهما في حياته، التي استعار لها حياة طائر " النسر" كصورة مثيلة وشبيه بحياته..
سيظل سي محمد باطما، أروع ما جادت به الظاهرة الغيوانية، حيث يعد من أهم الركائز التي شيدت هذه الظاهرة منذ بدايتها، حيث كان من الوجوه الأولى التي برزت في مجموعة" جيل جيلالة"، وحين لم يجد ذاته في طريقة أسلوبها الغنائي، أسس مع مجموعة من الفنانين" مجموعة التكدة"، ثم هجرها هي الأخرى، حيث رسى به المطاف في الأخير بمجموعة " لمشاهب" التي منحها عقله وقلبه، بل منحها حياته التي لم يسعد بها.
وللإشارة فآخر ما كتب وغنى الفنان المرحوم سي محمد باطما، أغنية " الفرصة" التي تعتبر إعلانا واضحا أن الوقت قد حان للرحيل، ليستريح من هذه الدنيا التي لا تنصف، و التي لا يمكن للإنسان أن يأمن لها مهما يكن، فهو في هذه الأغنية يسائل قلبه متى سيرسى.. ؟ وفي أي مرسى سيرسى..؟ مخاطبا إياه أن هذه فرصة لا تعوض، وربما كان- وهو المعروف بحدسه القوي كفنان لما سيأتي- يعني بكلمة الفرصة(الموت)الذي هو بمثابة مرسى سيرسى عليها قلبه ( ذاته)، ثم يرتاح إلى الأبد، ويقول في أغنية"الفرصة":
نوصيك يا كلبي
لاتفتحش اليوم بابك
بعدما هجروك صحابك
بعدما هجروك حبابك
أسهال تعذابك..
متى ترسى يا كلبي
توجد مرسى يا كلبي
هذي فرصة
ولا ضيع هاش ثاني ياه..
سيظل المرحوم سي محمد باطما شهابا، أنار سماء الفن المغربي بصوته وكلماته، وسيظل رمزا من رموز الأغنية لمشاهبية، مهما طال ظلام التعتيم على حياته الحافلة بالمغامرات، التي تستحيل على أي كائن إستعابها، وهذه الخاصية تنطبق على أفراد مجموعة " لمشاهب" التي ينتظر الجميع إنصافها" باعتبارها المجموعة الوحيدة التي غنت أمام الملوك، ولم يسمح لها كبريائها أن تمد يدها لهم كما فعل الكثيرون من الفنانين، ساعية إلى كسب امتيازات، مستغلة الموقف والحدث.. ولم يفعلوا.. لا لشيء سوى أنهم فنانون حقيقيين، مرتبطين بهموم الشعب التي غنوا لها بصدق موسوم بالنزاهة والحلم سجلها التاريخ في سجل أفراد مجموعة " لمشاهب" ولا زال يسجل...



هذه المقالة من موقع أوراق
http://www.awrag.com/x

عنوان هذه المقالة هو :
http://www.awrag.com/x/article.php?storyid=258  

ليست هناك تعليقات: