٣٠‏/١‏/٢٠٠٦

فيلسوف تونسي يكتب عن مستقبل الثقافة وتحديات الانترنت




مستقبل الثّقافة في تونس:

محمّد محجوب

أستاذ التأويلية والفلسفة المعاصرة - جامعة تونس المنار

مهما قلّبنا سجلاّت تعريف الثّقافة ومرجعياتها، فإنّ هذه تبدو لنا نسقا متفاوت الائتلاف من التّصورات والاعتقادات والرّؤى والتعابير والتقويمات الخلقية والجمالية والمعارف العمليّة والتّقنية، التي تنتظم العالم، في معنى الوجود الخارجي، وتنتظم علاقتنا معه بما نحن مجموعة بشرية ما كما تنتظم العلاقات الرمزية بين الأفراد، بصرف النّظر عن مدى تحضّر أو عدم تحضّر تلك التصوّرات. ولعلّ ما يجمع بين هذه العناصر ضرب من وحدة الأسلوب هي التي تميز ثقافة عن ثقافة، وتعطيها ما بتنا نسمّيه اليوم الخصوصيّة الثقافية.

ولكنّ هذه الخصوصيّة لم تعد اليوم ممكنة، رغم الصّمود البطولي الذي تشهده بعض الثّقافات. وليس من إمكان اليوم لأيّ ثقافة من الثقافات أن تظلّ على غير علاقة بنسق التّبادل الذي بات يوفّره "السايبرسبيس" ( cyberspace ).

ولعلّ المشكل يكمن في طبيعة هذه العلاقة التي لا مفرّ منها. فالمضمون الثّقافي، بل المضامين الثّقافية المبحرة أو "السّارفة" ( surfing ) عبر السّايبرسبيس، أو الأنترنت، ليس مضمونا متجانسا ولا متناسبا مع جميع ثقافات العالم. فلا الديانة التي يفترضها ديانة مشتركة، ولا التّصورات القيمية التي تجري من تحتها، تصوراتٌ ممثّلة لأنساق قيم جميع الثّقافات، ولا منزلة الإنسان ضمنها منزلة

لذلك تطالب هذه الثّقافات لنفسها بحقّ في السايبرسبيس. وقد يكون من المفيد لنا أن ننظر في طبيعة هذا الحقّ المنشود وحدوده وافتراضاته، وبخاصة في ما يفترضه أو ما يتضمنه من تصور عن الشبكة العالمية للأنترنت نفسها. فإننا نتظنن على هذه الثقافات أنها في عين مطالبتها بالحق في الدخول إلى السايبرسبيس، أي إلى مجتمع المعلومات، إنما تنطلق من ضمني تحفظ به لنفسها خصوصية تمنعها من دخوله بحق أي من الإقامة به كإنسانية ممكنة.

وسأضرب على ذلك مثالا محدّدا هو مناداة الثقافات الإفريقية "بتعددية الألسنة من أجل التنوّع الثقافي ومشاركة الجميع في السايبرسبيس". وإني هاهنا أتحدث عن مسألة محددة مثلت موضوع الندوة التحضيرية لمؤتمر القمة العالمي حول مجتمع المعلومات التي التأمت بباماكو يومي 6 و 7 ماي 2005 .

ما الدّاعي إلى هذا النّداء ؟ إنّه الشّعور بأنّ الأنترنت أداة يؤدّي الوضع الحالي لاستعمالها والتردّد عليها إلى إقصاء ثقافات محلّية عديدة جدّا. إنّ الدّخول إلى السّايْبَرسبَيْس يمرّ اليوم أساسا باللغة الأنجليزية ولكن كذلك بلغات عالمية عديدة أخرى. ومع ذلك فإنّ ثقافات أخرى تكاد لا تحصى تظلّ على الأبواب. فالمشكل الرئيسي هنا هو مشكل الصياغة ضمن دليل رقمي ( code numérique ) مقروء. لذلك يمثّل تطوير التّعدد اللّساني على الواب هاجسا ثقافيا رئيسيا ولاسيما لدى مؤسّسات معنية عالميا بالشأن الثقافي أعني مثلا منظّمة اليونسكو التي جاء في إحدى منشوراتها التحضيرية بالقمة العالمية حول مجتمع المعلومات :

« Depuis la fin des années 1990, la nécessité de développer le multilinguisme sur le Web occupe tous les esprits. Aujourd'hui, la priorité semble être la création de passerelles entre les communautés linguistiques pour favoriser la circulation des écrits dans d'autres langues. Les technologies numériques facilitant grandement le passage d'une langue à l'autre, il reste à créer ou renforcer la volonté politique et culturelle d'offrir aux utilisateurs d'Internet un plus grand choix de langues » (Unesco, 2003).

ولاشك أنّ المجهود التّقني الذي يجسمه تيسير نظام صياغة دليلية رقمية ( encodage numérique ) تتسع لأنظمة لغوية مختلفة هو مجهود هائل. فالدليل الرقمي ابتدأ في بداية الإعلامية دليلا بسيطا يحتوي على 128 بنطا أو صورة حرفية، وضعه المعهد القومي الأمريكي للمواصفات ضمن ما يسمى ASCII ، ( American standard code for information interchange )، ولكنه لم يكن يقدر على الإيفاء بأكثر من اللغة الإنجليزية، ثم اتّسع ليشمل اللّغات الأوروبّية الأخرى، ثم ليشمل مزيدا من اللّغات غير الأوروبية. ورغم تأسيس l'unicode consortium الذي بلغ إمكانات هائلة تصل إلى 65000 صورة حرفية، مما جعله بمثابة المجمِّع الهائل لحروف العالم، فإن معالجة النص ضمنه تطرح مشاكل عديدة كلما تعلق الأمر بحروف يابانية مثلا أو صينية. إن التعدد الكبير لأنظمة الكتابة العالمية تعوق حل المشكل العالمي لتواصل اللغات والثقافات.

ولكن النّظر إلى هذا التّوجه الذي تتّخذه إشكالية تموضع التعدد اللساني والثقافي على صفحات الواب، يطرح أسئلة نقدية مقلقة :

فلنفترض أنّ جميع مشاكل الصياغة الدليلية الرقمية قد حُلّت وأنّه أصبح للوحة الحروف ( clavier ) من الإمكانيات ما يجعلها قادرة على الكتابة والمخاطبة والترجمة من وإلى جميع اللغات، فهل يمكن أن نعتبر بذلك أننا قد دخلنا زمن التواصل بين الثقافات. ألا تكون كل ثقافات العالم ساعتها قد آلت إلى وضع لا تقدر فيه على التواصل إلا بقبول قواعد اللعبة ؟ وهل نحن نعبر فعلا عن لغة بمجرد استنباط ترقيمية ما لحروفها ؟

إن الثّقافات الإفريقية أو الأسترالية أو الأمريكية المحلية هي في كثير من الأحيان ثقافات شفوية، كيفية وجودها شفوية، علاقتها مع العالم شفوية، تصوّرها للعالم لا يتوسط بصيغة كتابية، لا لأنه يفتقدها، ولكنّ الثقافة الشفوية قد اعتمدت صورة للعالم تقصي تسجيل الحرف. إنني أريد هاهنا أن أبقى في مستوى مفهوم الثقافة الذي لا يفترض أبدا بلوغ مستوى من التحضر ولا يقيس، على كل، الثقافات بحسب تحضّرها. إنّ دعوة هذه الثقافات إلى المرور إلى هذه الترقيمية العالمية هو ضمنيا يفترض موقفا بل ضربا من الرّسالة الحضارية الجديدة ( Une nouvelle mission civilisatrice ). إن المشاركة في التواصل العالمي للثقافات يفترض تحضرا للثقافات، أي قبولا للعبة عالمية جديدة تسلم بتراتبية للثقافات.

إنّ وضع هذه الثّقافات المحلية من هذه الناحية هو وضع أقصى بالطبع، ولكني عن قصد اتّخذته مثالا أقصى، حتى يظهر بذلك الرهان الحقيقي.

لاشك أن قمّة تونس العالمية ستطرح قضية التحكم في الانترنت ( la gouvernance d'internet ) بالإضافة إلى قضايا التمويل. ولكنّ قضية التحكم والنفوذ على أنترنت هي القضية الحقيقية التي لقمة تونس شرف طرحها على المجتمع الدولي. من يتحكم في مجتمع المعلومات ؟ إن المشروع الأصلي للأنترنت قد انطلق على أساس تبادل وجريان للمعلومة لا يمكن التحكم فيه متى أطلق. ولكنّ قضية التّحكم في أنترنت تعيد اليوم طرح عالميتها في إطار سؤال جديد : هل يجب على مجتمع المعلومات أن يعاود إيقاظ الشيطان النائم للرسالة الحضارية التي أدت إلى استعمار العالم منذ القرن التاسع عشر ؟

ما الذي يجب علينا هاهنا أن نحذره ؟ لا بد لنا من الانتباه إلى أنّ مجتمع المعلومات جدير بأن تسن له التشريعات التي تحميه من يصبح أداة سيطرة. السايبرسبيس ليس أداة سيطرة. إنّه فضاؤنا الذي بات ممكنا لنا اليوم أن نكون إنسانية ضمنه. وإنّ كل توهّم بأنه أداة يمكن استعمالها في مأمن على هوية جامدة خطأ قد يفوّت علينا القطار مرة ثانية، تماما مثلما توهمنا من قبل بأن الحداثة أداة وآلة يمكن أن نستخدمها في مأمن على هويّة جامدة. ففقدنا الهوية والأداة.

لم يعد لنا من عالم خارج العالم الجديد الذي يبسطه ويسطر حدوده مجتمع المعلومات.

لابد لنا من تجاوز فهم الانترنات على أنها "أداة"، والاستقرار نهائيا على أنها عالم جديد، هو العالم الذي بات متاحا لنا أن نكون إنسانية ضمنه.

ويطرح هذا الوضع الجديد على الثّقافة في تونس أن تكون سندا لبناء هذه الإنسانية، بإعادة ترتيب واعية لعناصر ومقوّمات أساسيّة ذات صلة باللّغة مثلا، أو بمضامين حضارية ظلّت بديهية لحدّ اليوم، وأضحى يتعيّن عليها أن تعيد صياغة نفسها تواصليا، أو بقيم لم يعد بإمكانها أن تتحكّم من عليائها في المعايير. فإنّ على كل مضمون من هذه المضامين أن يدرك أنّه لا يكون إلا بالإضافة إلى مضامين مخالفة له ومغايرة، وأن اعتبار تلك المغايرة إذا لم يكن مدخلا إلى الريبية، فإنه مدخل إلى وثوقية أقل، واستبداد بالرأي أقل.

فإذا كان شأنُ الثّقافة إنشاء النّماذج وترويجها، فقد يكون أنموذج الإنسان القادر في كلّ لحظة على إعادة تنزيل نفسه، وتحديد موقعه بالنّظر إلى إحداثيات متحرّكة، هو الأنموذج الذي ينبغي عليها خلقه وإعادة خلقه. إنّ هذه "الكفاءة" الجديدة ليست اصطناعا أداتيا نستعمله، ولكنّها هويّة حواريّة، إنها "المستقرّ" الوحيد الممكن لنا في ظلّ مجتمع المعلومات. لن يكون ممكنا في المستقبل أن نكون الإنسان التونسي بتمكينه من جميع المعارف، وإنما ينبغي تكوينه على أساس القدرة على استنباطها بحسب الظرف.

إنّ قائمة موضوعات الفعل الثقافي المستقبلي في تونس لا يمكنها ألاّ تتضمّن عناصر القيم، والزّمن، والهويّة، كعناصر لم يعد الفصل القديم بين الإرادة والأداة يحميها من شيء. ولاشك أن العمل التربوي الذي يمثل جوهر هذا الفعل لابد له أن يفتش في أعماق أعماقه عن موارد تُسند ذلك الفعل، وتُعقِّله في آن.

 


 

ليست هناك تعليقات: