١٨‏/٣‏/٢٠٠٦

في المحكمة 61 بلندن مؤلف شيفرة دافنشي يدافع عن نفسه: الانتحال الادبي ظاهرة مثيرة وعصية علي الحل وبالنسبة لدان براون مصدر جديد للاعجاب!

ابراهيم درويش



يسمونه انتحالا او بالانكليزية plagiarism والكلمة كما يعرفها القاموس، تعني استخدام مواد علمية او ادبية لكاتب والتعامل معها كأنها من عمل المنتحل بدون الاشارة من قريب او بعيد للمصدر. الانتحال يحدث يوميا في الاكاديميات العلمية، والطلاب الان يستخدمون الانترنت والمصادر المتوفرة للحصول علي معلومات وابحاث وكل ما يقومون به هو تظليل المواد ونسخها ثم طباعتها وتغليفها وتقديمها للاستاذ، وفي بداية الاسبوع الحالي، اثار احد كبار مسؤولي جامعة اوكسفورد العريقة انتشار ظاهرة الانتحال بين الطلاب والتي تمر بدون ملاحظة وهي منتشرة بشكل كبير بين طلاب الدراسات العليا. والانتحال اضحي مشكلة كبيرة، ففي الوقت الذي تطلب فيه الجامعات من الطلاب الاشارة الي المصدر الالكتروني وتقديم العنوان الكامل له من اجل الرجوع عليه حالة ملاحظة وجود نوع من التناقض في الكتابة الا ان الجميع يعترفون بصعوبة محاصرة المشكلة، الانتحال ـ حتي المسؤول في جامعة اوكسفورد يعترف بالمشكلة وصعوبة حلها. الحديث عن الانتحال في الادب طويل وهناك باحثون يكرسون انفسهم وحياتهم لاقتناص الاعمال التي تنتحل من الاخرين، وهي عملية عبثية في ظل انتشار الكتابة والمعلومات والانترنت التي تحولت الي غرب متوحش قائم بذاته، ولكن الانتحال والحديث عنه يأخذ منحي اخر، عندما يتعلق الامر بعمل جماهيري عالمي كبير، يتهم فيه مؤلفه بالانتحال، فالمسألة لا تتعلق هنا بالحيادية العلمية ولكن بصناعة النشر والكتابة والملايين التي حصل عليها هذا المؤلف او ذاك. فهناك حقوق الكتاب، ثم حقوق الترجمة ومن ثم حق الاقتباس والمعالجة السينمائية وبعد ذلك حقوق الاقتباس من الرواية بالاضافة لرحلات الكاتب واجور المحاضرات وحقوق المقابلات واجورها، تلفزيونية كانت ام صحافية.
الحديث هنا يدور حول صناعة تقوم باستثمار القراء وتحاول الحصول علي المال بكل الطرق، فالكتاب يصدر بطبعة انيقة وبعدها بطبعة شعبية، وبعدها يصدر مقروءا علي شريط، وفي مرحلة لاحقة يصدر بحروف كبيرة لمساعدة الكبار، ملخصا، مصورا الي ما لانهاية.. ولهذا السبب يمكن النظر الي المحكمة التي تدور في لندن، في المحكمة 61 الجنائية التي يحاكم فيها الكاتب الشعبي المعروف دان براون بتهمة انتحال فكرة روايته الاشهر شيفرة دافنشي من عمل اخر يحمل عنوان الدم المقدس الكأس المقدسة من تأليف هنري لينكولن، ريتشارد لي مايكل بيجينت
الذيـــن رفعوا دعوة ضد شــركة راندوم هاوس، الناشرة لرواية دان براون الاشهر.
وتحاول المحكمة تحديد زمن الانتحال وكأن التاريخ يعيدنا عقدا للجدل الذي اثارته الناشطات الانثويات حول زمن الاغتصاب. دان براون يقول في جلسات المحكمة انه لم يطلع علي الكتاب محل الاتهام الا بعد ان اعد ملخص الفكرة وقدمها للناشر، ومن هنا جاء المدعي العام بنسخة قديمة متداعية من الكتاب المذكور مليئة بالتعليقات علي هامش الصفحات. في دفاع دان براون (41 عاما) عن نفسه اكد انه لا يقوم بالبحث وانما زوجته بلايث، الرسامة والمؤرخة، مساعدته في البحث والكتابة، التي كانت ترسل له الكثير من الوثائق والكتب من بيت اهلها القريب، وتتركها علي طاولته، وتحدث دان براون عن البداية المتواضعة له عندما كان ينشر الكتب بنفسه ويبيعها من صندوق سيارته الخلفي للمارة وكيف كان يعتمد علي مقابلات اذاعية للحصول علي اموال اضافية. وفي قفص الشهادة اشار براون الي انه نشأ في حرم اكاديمية فيلبس ايكستر في نيوهامبشير حيث كان والده يدرس الرياضيات، وهي المدرسة التي درس فيها عدد من الكتاب المشهورين مثل غور فيدال. كل هذا قبل ان ينشر روايته التي غيرت مسار حياته واصبحت عملا مقروءاً في كل انحاء العالم. كل هذا يعزز فرضية ان وراء المحكمة التي قد تفيد دان براون او تضره اذا خسرها، المال والشهرة. مع ان فكرة الرواية موجودة في الادبيات الغربية منذ ازمنة طويله والمح الي هذا امبرتو ايكو المهتم اصلا باوروبا القرن السادس والسابع عشر التي تشكلت فيها فكرة الحداثة، واشار الي وجود روايات عديدة عن هذه الفكرة الا ان دان براون اعطاها بعدا جديدا. وفي المحكمة اكد براون علي ان زوجته هي التي كانت تقوم بقراءة الكتب وتحديد المهم له، وكيف انه قام بكتابة مخطط الرواية ولم يذكر في مخططها اسم الكتاب محل الجدل، كما اكد ان زوجته لم تقرأ الكتاب قبل كتابة المخطط الذي اشفعه بقائمة من المراجع لكي يثير اعجاب ناشره. حديث براون عن الدور الذي لعبته زوجته في بناء شهرته ومساعدته في الكتابة اعاد الي الاذهان الدور الذي لعبته نساء في حياة المشاهير، فالمثل المعرف وراء كل عظيم امرأة يصدق في حالات كثيرة، فناباكوف، الكاتب المعروف كان يعتمد علي زوجته فيرا، التي كانت سكرتيرته، وناشرته، ووكيلته، وسائقته، وكانت تقطع له اللحم وتضعه في فمه علي مائدة الطعام، ومع ذلك عندما كان يحين موعد النوم كان يذهب للفراش وحيدا، ولكن ليس كل النساء يرضين بهذا الوضع فزوجة الكاتب المشهور توماس كلارايل جين، شعرت بالمرارة والغضب من الدور الذي فرض عليها مع انها ساعدت زوجها كثيرا. في حالات كثيرة استخدم الكتاب مشاكلهم العاطفية للالهام في اعمالهم الروائية، كما حال ف. سكوت فيتزجيرالد، ودي اتش لورنس، وتيد هيوز، الشاعر المعروف. الشاعر ووردزورث، حالة اخري في هذا الاتجاه، حيث اعتمد علي زوجته واخته، واخت زوجته في كتابة نسخ اشعاره وكتبه، وبعض الباحثين اقترحوا ان اخت الشاعر دوروثي لعبت دورا اكبر من نسخ الاشعار. في حالات كثيرة كان الناقد او الكاتب هو الوجه الاخر للكاتب الحقيقي للعمل كما في حالة الناقد الفرنسي هنري غوتيير ـ فيلارز الذي اشتهر في بداية القرن العشرين، حيث الف سلسلة كلودين التي تبين فيما بعد انها من كتابة زوجته الشابة سيدوني ـ غابرييل كوليت.
رواية دافنشي وشيفرته، صارت معروفة بعد ان ترجمت لأكثر من اربعين لغة في العالم وبيع منها الملايين، موضوعها عن اصول الديانة المسيحية ـ وتأخذ شكل الرواية البوليسية او الاثارة وتدور احداثها في فترة زمنية لا تزيد عن 24 ساعة. والكاتب يلعب لعبة الخديعة منذ البداية عندما حاول ان يموضع القصة في اطار تاريخي حقيقي، وكعادة الروايات التاريخية فانها تتحدث عن العثور علي وثيقة سرية في المكتبة الوطنية في باريس، عام 1975 علي ملف يعرف باسم ملف الاسرار . وهي تتحدث عن اعضاء جمعية سرية (رهبانية سيون)، تضم اسماء معروفة في العالم الادبي، فيكتور هوغو، والرسام المعروف ليوناردو دافنشي، والفيزيائي المعروف اسحق نيوتن. في مجال اخر يقول ان الجمعية الاخري منظمة طريق الرب (اوبس دي) انتهت من انشاء مقرها المركزي في نيويورك بكلفة 47 مليون دولار امريكي. وهي جمعية تأسست في اسبانيا عام 1928 وتدعو للحفاظ علي القيم الكاثوليكية المحافظة والتضحية بالنفس والعفاف. والحديث بصيغة الحقيقة محاولة لخداع القاريء ان احداث القصة حقيقية مع ان محورها معروف هو الصراع بين الخير والشر والظلمة والنور. كما تتخذ الرواية من الرموز في الاعمال الفنية، والمشاهد المعمارية اوصافا حقيقية، تبدأ الرحلة من متحف اللوفر في باريس الي كنيسة روزلين في جنوب ادنبرة، الاسكتلندية مرورا بكنيسة وستمنستر أبي، فلوحة العشاء الاخير تحمل في طياتها سرا يتصل بالديانة المسيحية، وهناك محاولة لبناء خط بين رهبانية سيون وحركة فرسان المعبد (تيمبيلرز) التي ولدت اثناء الحروب الصليبية. ومؤسس الحركة السرية كان غودفرا دي بويون بعد احتلال القدس مباشرة. فما السر في هذه الجمعية؟ السر يكمن في انها عثرت علي الكأس المقدسة التي شرب منها السيد المسيح في العشاء الاخير الذي جمع تلامذته. ويعتقد المسيحيون ان الفرسان احضروها معهم من الارض المقدسة بعد ان عثروا عليها بين انقاض معبد سليمان في فلسطين في القرن الثاني عشر، واخفوها في مكان سري في اوروبا، ومنذ تلك الفترة والبحث جار عن الكأس. تتخذ الرواية من هذا الموضوع او الموضوعات الدينية اطارا لكشف سر الكأس المقدسة ولكن بصورة بوليسية، حيث يتم اغتيال جاك سونيير، مدير متحف اللوفر الذي نكتشف انه عضو في الجمعية السرية سيون ، وسبب اغتياله يعود لأنه كان وصيا علي سر الاسرار.
وتبدأ الشرطة الفرنسية بالتحقيق في الحادث وتستعين بخبرات الاكاديمي الامريكي روبرت لانغدون، نظرا لمعرفته في فك الشيفرات والرموز الدينية، والصدفة وضعته في مركز التحقيق حيث كان في باريس لالقاء محاضرة في المجال الذي يتخصص فيه، وتشارك في التحقيق حفيدة سونييرـ الباحثة هي الاخري في علم الشيفرات ويقوم الثنائي معا بتحليل رموز في لوحات فنية لدافنشي، والتركيز تحديدا علي رمز النجمة الخماسية، التي تظل اقدم الرموز العالمية بحسب لانغدون، وترمز في الطقوس القديمة الي الانثي، ويدخل الكاتب هنا في نقاش حول رمز الانثي وغيابه، فالمرأة ظلت رمزا للشيطان واستبعدت من الطقس الديني. المرأة اذا هي جزء من محاولة سر اغتيال سونيير الذي يكشف المؤلف انه اكتشف سر الخديعة التي مارستها الكنيسة حول المرأة واعتبارها بلا روح، وتمثل لوحة الموناليزا رمزا سريا عن رفض هذا الفهم، فدافنشي كان يري ان الانسانية لا يمكن لها السمو الا بالرجل والمرأة معا.
الرواية تعيد تشكيل وفهم وضع المرأة في التفكير الديني الوسيطي، فمحاكم التفتيش الكاثوليكية قامت بنشر كتاب عن شرور المرأة الساحرة وقامت الكنيسة هذه باحراق الكثيرات منهن. كل هذه التوليفة الروائية لوضع سياق الوثائق في سياقها التاريخي، حيث نعرف بحسب السرد ان الفاتيكان كانت تعرف بسر الكشف الذي حمله معهم فرسان الهيكل من الارض المقدسة وكيف قام البابا اينوسنت بمنح الفرسان سلطات لا حدود لها، مما جعلهم قوة لا يستهان بها في القرن الرابع عشر، مما حدا بالبابا كليمينت الخامس بضربهم وقام بالتعاون مع ملك فرنسا فيليب الرابع، وتم في حيثيات العملية اعدام العديد من اتباع هذه الجماعة. لكن السر الذي يشار اليه احيانا بـ سيدة القصور أو العشاء الاخير ظل محروسا من قلة من اتباع هذه الجمعية.
في الموقع الرسمي للكاتب علي الانترنت لا توجد اشارة الي المحكمة المنعقدة في لندن، ويكتفي الموقع بالحديث عن المناسبات المتعلقة بالكاتب، والتعليقات علي اعماله الاخري مثل ملائكة وشياطين ، نقطة الخديعة ، و القلعة الرقمية . وبالنسبة للمعجبين بدان فقد كانت مناسبة للانتظار امام قاعة المحكمة ولساعات طويلة للحصول علي توقيع او اتوغراف منه. وبراون بالنسبة لمجلة تايم الامريكية واحد من 100 شخص مؤثر في العالم، وشيفرة دافنشي، بيع منها في كل انحاء العالم اكثر من 40 مليون نسخة، واحتلت رواياته قائمة الكتب الاكثر مبيعا في عدد من مدن العالم.
وفي عام واحد 2004 احتلت اربع روايات له المرتبة الاولي في قوائم نيويورك تايمز للكتب الاكثر مبيعا. ودان براون خريج كلية امهرست، واكاديمية فيليبس اكستر، في نيوهامبشير، حيث عمل مدرسا للغة الانكليزية. وفي عام 1996 قاده عمله في تفكيك الشيفرات والعمل مع وكالات الحكومة السرية لكتابة اولي رواياته القلعة الرقمية ، عن الأمن القومي وعلاقته بالخصوصية الشخصية، التي لم تعد موجودة في امريكا بعد احداث ايلول (سبتمبر) 2001. رواية شيفرة دافنشي تدخل ضمن اطار الادب البوليسي والذي يقوم باستلهام احداثه من عالم الكنيسة الوسيطي، ولكن بلغة حديثة، وكان امبرتو ايكو، بارعا في استخدام هذا في روايته الاشهر اسم الوردة التي نشرها في بداية تسعينات القرن الماضي، عن مخطوطة تسممت اوراقها، لمنع الكهنة والقساوسة من الاطلاع علي محتوياتها، التي قد تشير الي البحث عن السعادة، الحب المحرم، وعندما تكثر عمليات الموت الملغزة يحضر محقق، قس من الكنيسة الانكليزية للمساعدة في اكتشاف الفاعل، حيث يقوم الكاهن، القبيح بحرق الدير علي من فيه بعد اكتشاف سر القتل، حيث يكتشف المحقق ان كل الموتي من القساوسة يموتون بنفس الطريقة، اصابعهم ملوثة بالحبر والسنتهم كذلك، مما يقوده الي اكتشاف سر المخطوطة الملوثة.
ولكن ايكو في تصويره لعالم الدير الكئيب يشير لحرص الكاهن الانكليزي علي انقاذ التراث الوسيطي هذا والذي قد يكون عربي الاصول، حيث يحاول حمل ما يستطيع من الكتب والمخطوطات علي ظهر حماره مع مساعده الذي وقع في حب فتاة فقيرة تعيش علي احسان القساوسة القساة. واعتبر كثير من النقاد رواية ايكو ذات طابع بوليسي بنكهة شعبية ولكنها تظل رواية عميقة في مساءلتها لمعني الحب والسعادة، ومعني القداسة والدين.
ناقد من اسرة القدس العربي
0

ليست هناك تعليقات: