١١‏/٤‏/٢٠٠٦

رأي في ميلاد النبي الكريم

ميلاد خاتم الانبياء والرسل ميلاد التاريخ والقيم


بقلم: د. وليد سعيد البياتي
albayatiws@hotmail.com

فلسفة ولادة الانبياء والرسل
    مع حسابات الجوانب الانسانية والبشرية باعتبار ان الانبياء والرسل بشر ولدوا لاب وام (الا في حالتي آدم (ع) الذي خلقه بقدرته من الطين فجعله حمأ مسنون، ثم صلصال نفخ فيه الروح فصار بشرا، وعيسى (ع) الذي خلقه من ام فقط ومن غير اب ينسب اليه فكان معجزة من معاجز الحق) فان التاريخ الانساني والحضاري يخبرنا ان الانبياء والرسل بشر ولدوا لاب وأم، وثمة ملايين يولدون يوميا، وثمة ملايين اخرين يغادرون الحياة لاسباب شتى، واذا كانت حركة التاريخ الاسلامي قد كشفت عن عدد الانبياء والرسل فكانوا من آدم  وحتى الرسول الخاتم مائة واربع وعشرون الف نبي ورسول منهم 330 نبيا مرسلا، فيهم خمسة هم اهل العزم كما جاء على لسان الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله، (راجع الانبياء حياتهم وقصصهم/10)، وعلى الرغم من ان بين الرسول والنبي عموم وخصوص من وجه فكل رسول نبي ولا عكس، الا ان ثمة خصوصية اختص بها الحق سبحانه رسله وانبياءه في ولاداتهم مما لاتتوفر عند احد الا في ولادات الائمة المعصومين عليهم السلام والاولياء في  في بعض حالاتهم.
      لايمكن اعتبار ولادة اي من الانبياء والرسل مجرد ظاهرة طبيعية تتكرر بين حين وآخر، كما لا يمكنا اعتبارها حدثا خارج حدود السببية او السنن الالهية والتاريخية، ولما كان هناك نظام سنني للوجود بجوانبه الكونية والانسانية، فان ولادة الرسول والنبي يعتبر تواصلا طبيعيا وعقلانيا بين الخلق التكويني والخلق التشريعي، فالله تعالى هو الذي خلق الكون وبالتالي هو ايضا الذي شرع قوانينه ونظمه، وخلق الانسان وانزل له شرائع تنظم جزئيات حياته، فكان الانبياء والرسل حاملي هذه الشرائع، والمبلغين عن الله بها، ولما كان النبي والرسول يمثل حلقة وصل بين الكوني والانساني فقد رافقت ولادات الانبياء والرسل حوادث وظواهر وانفعالات ارضية وكونية، كدليل على حالة الترابط بين الكوني والانساني، ولكنها لا تتحقق الا في حالات الكمالات المطلقة التي يتمتع بها بعض البشر وعلى رأسهم الانبياء والرسل والائمة المعصومين ثم الاولياء، وهذه الكمالات تتحقق فقط في مطلق العلاقة بين الارض والسماء، او بين الانسان والعقيدة، فلو لم يكن النبي او الرسول الممثل الكامل لقيم العقيدة لما كانت اي قيمة للظواهر الكونية والارضية التي ترافق ولادة الانسان النبي والانسان الرسول، وإذا كانت كل تلك الرؤى يمكن ان تتحقق في جميع الانبياء والرسل في ولاداتهم، وتكوين حيواتهم، فان ولادة الرسول الخاتم محمد (ص) جاءت لتستوعب كافة العلاقات والظواهر بين الكوني والانساني وفق مفاهيم معرفية واخلاقية خارج النظرة التجزيئية التي لا تربط العقيدة بحركة التاريخ من موقع ارتباط هذه الاخيرة بالله تعالى شانه، فقد ولد الرسول الخاتم ليشكل بولادته استيعابا كليا لحركة التاريخ الرسالي، وليعطي لقيم الرسالات بعدا آخر بإعتباره قائدا لائمة كونية تمتاز بصيرورة تاريخية لا نهاية لها، فولادة الرسول الخاتم جاءت لتشكل ولادة أمة، حملت على عاتقها تغييرا جذريا في حركة التاريخ الانساني، فالامة الاسلامية لم تولد الا بعد ولادة الرسول الاعظم (ص)، ومن هنا قال الحق سبحانه: "كنتم خير امة أخرجت للناس" آل عمران/ 110 مما يعطي خصوصية للامة الاسلامية بإعتبار ان الجنس البشري موجود وقد شهد مراحل من التطور والتحول والنكوص عبر توالي الامم والحضارات، لتاتي الامة الاسلامية مستوعبة كل هذه التجارب عبر حركة التاريخ ولتضع البشرية على المسار الصحيح لكونها الامة التي وقع عليها الاختيار الالهي لتحمل منهج آخر الرسالات السماوية، وليتحقق عبرها التواصل بين الكوني والسماوي متمثلا بشخصية الرسول الاعظم وآله الاطهار صلوات الله وسلامه عليه وعليهم.

ولادة التاريخ والقيم الحضارية
    ان البحث في نشوء التاريخ يتجاوز زمنيا ظهور الجنس البشري على سطح الارض، بل ان يتشكل عند حدود النشاة الاولى للخليقة وفق المعيار الالهي، ولهذا لا يمكن وضع حد زمني لنشأة التاريخ الا بحدود معرفتنا القاصرة، ولكن ولادة الانبياء والرسل شكلت ولادات تاريخية عبر حركة التاريخ الكلية، وهذه الولادات ذات الابعاد الكونية والانسانية قدمت قيما عليا مثلت تفاعلا اسمى للعلاقات وفق المنهج الالهي، فقد جاء الاسلام ليجد بنى متعددة من القيم والمفاهيم والاعراف التي كانت سائدة بين الافراد والجماعات البشرية التي سكنت شبه الجزيرة العربية، والتي كان بعضها ينحو منحا ايجابيا، كالكرم والشجاعة وقري الضيف والايثار، وغيرها من القيم والاعراف التي توارثتها القبائل والبيوتات العربية، اضافة الى بعض المفاهيم ذات الجانب السلبي كوأد البنات، والعبودية، فكانت ولادة الرسول الاعظم لتشكل ولادة للقيم والمفاهيم الرسالية ذات المنشأ الالهي، ومن هنا جاء التعريف الاسلامي للقيم التي نادت بها الرسالة المحمدية على لسان صاحب الرسالة البشير النذير في  مقولته الشهيرة: (إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق).
        لقد ربطت العقيدة الاسلامية علاقة الاسلام بالقيم وفق المسار نحو المثل العليا (الله) وان هذه العلاقة تتحقق كلما كان الارتباط بالله ارتباطا تعبديا فتعبير القرآن الكريم في قوله عزوجل: "إن اكرمكم عند الله اتقاكم" الحجرات/13، تضع معيارا تعبديا للعلاقة القيمية بين الانسان والخالق، واصبحت الولادة قيمة تحقق العلاقات بين القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية بشكل شمولي، او ما يعرف في العلم الحديث بالرؤية الابستمولوجية للموضوع، ومن هنا يمكن الاعتراف بان العقيدة الاسلامية قدمت طفرة نوعية في المفاهيم والقيم الحضارية لما تتصف به من شموليه، ومن جانب آخر فان الفكر الاسلامي يقدم تصورا مستقبليا في النظرة الى الاتي، فالعصر الذهبي اوعصر الخلاص هو المستقبل القادم المتمثل بظهور الامام المهدي عجل الله فرجه الشريف، بإعتباره القيمة النهائية والخلاصة التامة التي اريد لها ان تمثل استيعابا كليا وعميقا للرسالة الاسلامية، فولادة الرسول الاعظم هي في الحقيقة النظرة المستقبلية للوجود الانساني باتجاه الخلاص وفق المنهج الالهي.
       من جهة اخرى يمكن اعتبار ولادة الرسول الخاتم (ص)، ولادة للوعي الجمعي، فالعقيدة الاسلامية عملت على توثيق الاواصر بين افراد المجتمع الاسلامي سعيا الى ازالة الفوارق الاجتماعية وصولا الى المجتمع المثالي والذي سيكون معيارا لكل البنى الاجتماعية الاخرى، فالوعي الحقيقي سيمثل ادراكا عميقا للرسالة ومنهجها، لكن الوعي عملية تراكمية بالنسبة للعقل غير المعصوم، فكان المنهج الرسالي قد سعى الى تطوير الوعي الفردي والجمعي في وقت واحد، وقد ولد هذا التطور بولادة الرسول الخاتم، فكان اهل مكة قد ادهشتهم قدسية هذا الطفل الذي رافقت حياته سلسة من المعاجز الالهية والبشارات السماوية في الكتب القديمة لتشكل كلها اساسا بالوعي بهذه الكيان القدسي، ثم عمل الرسول الاكرم، على تكريس هذا الوعي ليتحول الى وعي بالرسالة الخاتم ومنهجها الالهي.
     وهكذا فيمكن اعتبار ولادة خاتم الانبياء والمرسلين عليه وعليهم افضل الصلاة واكرم التسليم، قد شكلت سلسلة لا متناهية من الولادات التي كونت حلقات غير منقطعة في ترتيب العلاقات بين الانسان والخالق اعتبارا من الشمولية الكونية التي تمثلها الرسالة وصاحبها، لتصبح الولادة عنوانا لمستقبل الانسانية الذي تتحقق فية ارادة الله في الخلافة عبر قيم الجعل الالهي.

الرأي الآخر للدراسات – لندن
  alrayalakhar@yahoo.co.uk
          

ليست هناك تعليقات: