٢٦‏/٢‏/٢٠٠٧

أصل التفاوت بين الناس

جان جاك روسو مُستعادا


(قراءة في أصل التفاوت بين الناس منقولا الى العربية)


 


حكمت الحاج


 


 


كان الشاعر  الراحل محمد الماغوط*، الذي يلقب بالأب الشرعي لقصيدة النثر العربية، هو الذي قال بصريح العبارة في آخر لقاء تلفزي له مع قناة الجزيرة الإخبارية، قبل يومين من وفاته، وكان الماغوط قد توفي الاثنين (3/3/2006) عن عمر يناهز 72 عاماً، ان الشاعر الحقيقي هو الذي يرفض أية تسوية مع السلطة. وكما راح طوال الوقت الماركسيون العرب واللينينيون منهم بصفة خاصة ينظرون بعين الريبة الى الماغوط وشعره النثري، بل والى جيل شعري ثوري بأكمله، بحجة انه انتاج البورجوازية الصغيرة، معرقلين بذلك حركة الفكر العربي المعاصر الحقيقية الى الثورة الشاملة، راحوا كذلك يهملون ما أمكنهم الاهمال، وبنفس الحجة تقريبا، تراثا طبقيا ثوريا حقيقيا يمثله فيلسوف السياسة وابن الشعب البار، جان جاك روسو، الذي قال عنه كارل ماركس تلك الكلمة الساطعة:( لقد رفض روسو دائما كل تسوية مع السلطة القائمة)


Rousseau s' est toujours refusé à tout compromis


même apparent avec les pouvoirs établis.


Karl MARX( Lettre à Schweitzer 25 Janvier 1865)


 


ويقول أحد أهم دارسي روسو في الفرنسية انه يمكن ان نملأ مكتبات كاملة بكل ما كتب عن روسو ولكن من الغريب إننا لا نجد ببليوغرافيا كاملة عن أعماله. هناك نقد كثير وجه إلى روسو معتمدا بالخصوص على الحجج التي كتبها روسو نفسه في كتابه الشهير المثير (الاعترافات) فأظهرت هذه الكتابات روسو طفلا مدللا مهووسا متناسية العظمة التاريخية لعمله. وهنا انضاف سبب واه آخر كي تحجم الانتلجنسيا العربية في فترات المد اليساري عن روسو وافكاره العظيمة.


 


ولكن، لماذا الان نستعيد  روسو؟


عن هذا التساؤل غير البرئ سوف يجيبنا د. نور الدين العلوي ذلك الباحث الاكاديمي التونسي الذي قدم لنا مؤخرا ترجمة عربية جديدة لكتاب جان جاك روسو ذائع الصيت: (أصل التفاوت بين الناس) قائلا انه إذا لم يكن الإعجاب  بنص روسو كافيا لترجمته فان التعلم منه يظل باستمرار ضروريا للعودة إليه باللغة المتاحة، ولان لغة روسو الأم لم تعد متاحة للكثير من مريدي العلوم الإنسانية نتيجة مشاريع الترجمة العشوائية للعلوم الإنسانية والاجتماعية ، ولان نصوص روسو  في ظل تراجع القراءة توشك ان تختفي من الرفوف إلا ان تكون تحفا خاصة ، فان التنقيب عن روسو وتقريبه إلى قراء العربية يصير مطلبا ملحا دون ان ينفي ذلك ان قيمة روسو تظل فوق الاعتبارات الظرفية للقراءة وهو ما يجعل نصه فوق الزمن.


 


 لقد تداول الناس لجان جاك روسو بشكل  واسع كتابه في العقد  الاجتماعي واقتطفوا منه ما يروق لكل خطاب ولكل ظرفية غير ان بقية نصوص روسو لم يتم تداولها بنفس القدر رغم أنها تقع موقعا مركزيا في فكره الاجتماعي ،ولعل كتابه اصل التفاوت بين الناس يحتل مكانة لا تقل أهمية عن العقد الاجتماعي في عقد أعمال روسو لكنه لا يبدو متداولا بنفس القدر ، ويعود ذلك في تقدير المترجم إلى أسباب عديدة منها ضعف الترجمة المتاحة  وتأخرها وسيطرة الفكر الماركسي والترجمات الماركسية السوفيتية بالخصوص للفكر الماركسي وتطبيقاته التي أغنت قراء العربية عن العودة إلى غيرها ممن لم يطرح خططا عملية لإنهاء التفاوت بين الناس،  فضلا على ان الديموقراطية السياسية التي تأسست على فكر روسو لم تصل قراء العربية بعد لذلك لم تصر  الحاجة إلى روسو ضرورية للفهم والتحليل ثم بناء العمل الديموقراطي .


 


ان نص روسو مجملا مادة أساسية للطلبة المتدرجين في الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية يقربهم إلى الفلسفة السياسية والى الفكر الاجتماعي  لكي لا ينحصروا في شعبة ن شعبه أو مذهب من مذاهبه التي تعلم الرؤية الضيقة والأفق المحدود  ونص روسو مادة أساسية كذلك للمختصين في العلوم الاجتماعية يبنون عليه التفكير في نشأة التفاوت الاجتماعي والصراعات المترتبة عنه منذ "تجرا أحدهم وسيج أرضا وقال هذا لي" إلى حين عولمة راس المال المتوحش الذي يعيد توزيع الفقر على صعيد عالمي ... وروسو كذلك مجملا أو مفصلا للسياسي الذي يزعم رعاية العقد الاجتماعي ويتحيّز لفئة دون أخرى ليستمر قائما يتمتع بالجغرافيا و ينسى التاريخ . وغير هؤلاء كثير فروسو لمن يبحث عن بداية سليمة منذ قرنين أو يزيد ويدور حول نفسه ولا يجد مخرجا في تراثه ولا في تراث الإنسانية الواسع الخصيب ...حتى يفقد عواصمه واحدة تلو الأخرى .


 


لا غرو ان يعلق الدكتور العلوي مترجم الكتاب وهو الروائي الفنان ايضا، بهذه الكلمات المضمخة باللغة الأدبية الجزلة، ولكن قد يكون روسو أكثر من ذلك أو اقل لكنه اسم في العلوم الإنسانية لا يمكن  المرور  فوقه والادعاء بسلامة التكوين ... وعسى ان تقرب هذه الترجمة نصا من أهم   نصوص روسو إلى أهل العربية  فلهم إلى روسو حاجة لا تؤجل، كما يؤكد مترجم الكتاب.


 


ومفيد أن نذكر القارئ بعيدا عن هذه الترجمة انه ثمة ترجمتين أخريين لأصل التفاوت بين الناس، أما أولاهما فقد قام بها عادل زعيتر ونشرت سنة 1954 ببيروت أما الثانية فقد نشرت سنة 1991 بموفم للنشر بالجزائر وقد قام بالترجمة بولس غانم وقدم لها ربيع عبد الكريم الشيخ ولم يرد في ثنايا الترجمة أي تعريف للمترجم والمقدم. وإذا خطر لأي قارئ ان يسأل لماذا ترجمة ثالثة لنفس النص فان د. نور الدين العلوي يقول بكل ثقة انه يدعوه إلى ان يجري مقارنة فعلية لا سطحية للترجمات الثلاث وسيكفيه ذلك للإجابة.


 


لكن القارئ سيجد ايضا أنّ المترجم الثالث، د. العلوي، قد تداول الترجمة بعنوان هو "اصل التفاوت بين الناس" في حين أن المتن يتضمن لفظ اللامساواة وقليلا ما تم استعمال لفظ التفاوت ويبدو انه قد اضطر إلى ذلك لان العنوان الأول قد تم تداوله وشاع بين الناس فصار عنوانا وحيدا قد يوحي استبداله بوجود كتاب ثان فضلا على أن لفظ اللامساواة لم يدخل العربية إلا حديثا وهو من الاشتقاقات التي لا تحظى بالإجماع المعجمي رغم سعة التداول ، على حد زعم المترجم، ورغم انه أدل على اختلاف المكانة الاجتماعية من لفظ التفاوت. ويأمل مترجم الكتاب ان تثير الترجمة الجديدة نقاشا حقيقيا حول هذه المفاهيم  والاصطلاحات مثلما نتمنى ان تثير النقاش حول الترجمة الأقرب للفظ (Discours) هل هو الخطاب أم المقال أم المقالة أم الرسالة أم هي معان تتغير في سياق تطور اللغة. 


 


يقول جان جاك روسو في معرض حديثه عن أصل التفاوت بين الناس بأن جميع أسباب رقي الإنسان لا تفتأ تبعده عن حاله الأصلية، وأنه، كلما حشدنا معارف جديدة، زدنا تخلياً عن الوسائل التي بها نكتسب أكثرها أهمية، وأنه قد أصبحنا، هكذا، نبتعد عن الحال التي تمكن من معرفة الإنسان ابتعاداً يقاس بنسبة انصرافنا إلى دراسته من هذا المنطلق كان لا بد لروسو وفي محاولته لاستكناه أصل التفاوت بين الناس، وكان لا بد له من النظر في هذه التغييرات المتتابعة التي طرأت على تكوين الإنسان عند توليه البحث عن الأصل الأول للفروق التي تميز بين الناس، وكان لا بد له من النظر في هذه التغييرات المتتابعة التي طرأت على تكوين الإنسان عند توليه البحث عن الأصل الأول للفروق التي تميز بين الناس، لأنهم، بإجماع آراء البحّاث، كانوا متساوين تساوياً طبيعياً، ما كان عليه كل نوع من أنواع الحيوان، قبل أن تحدث فيه العلل الفيزيوية المختلفة بعض الفروق المميزة التي نراها اليوم. ذلك وبالنسبة لروسو كان لا يمكن القول بأن جميع هذه التحولات الأولى، أياً كانت الأسباب التي سببتها والعوارض عن كل ما يشوهها.


 


وقد بدأ روسو في محاولته هذه أولاً بسوق بعض البراهين مقدماً بعض الافتراضات، لا أملاً بحل المسألة، بل قصد إيضاحها وحصرها في نطاق حالها الراهنة. وهذا الأمر ليس بالسهل إذ أنه يمثل بحوثاً بالغة حد الصعوبة، والتي لم يفكر فيها إلا قليلاً حتى الآن، وهي وحدها مع ذلك ما بقي للإنسان من الوسائل لإزالة الكثير من العقبات التي تحجب عنه معرفة أسس المجتمع الإنساني الحقيقية، وجهل طبيعة الإنسان هو الذي تعريف الحق الطبيعي غير معيّن ومحوطاً بالغموض. ويقول روسو بأن هذه الدراسة نفسها، دراسة الإنسان الأصلي وحاجاته الحقيقية ومبادئ واجباته التي طرأت عليها، قد غيّرت، دفعة واحدة وعلى نمط واحد، جميع أفراد النوع، ولكن ربما أن بعضهم قد كمل أو فسد واكتسب صفات حسنة أو سيئة لم تكن ملازمة لطبيعته قط، فإن الأفراد الآخرين ظلّوا على حالهم الطبيعية زمناً أطول: ذلك كان مصدر التفاوت الأول بين الناس وهو الذي يسهل إثباته هكذا إجمالاً أكثر مما يسهل تعيين علله الحقيقية تعييناً دقيقاً. ذلك يلخص فلسفة روسو في هذا المجال. انها فلسفة بقدر ما تحمل من الوعي والتمرس في طبيعة الأشياء هي تحمل تأملات الإنسان التي تستلهم من فطرته السليمة النظرة المتجردة الأساسية، هي أيضاً الوسيلة الصالحة التي يمكن التذرع بها لإزالة تلك الصعوبات الجمة التي تحيط بأصل التفاوت الخلقي الأدبي، وبالأسس الحقيقية للهيئة السياسية، وبحقوق أعضائها المتبادلة ما بينهم، وآلاف من المسائل الأخرى المماثلة التي لا تقل أهميتها عما يحوطها من غموض.


 


جان جاك روسو (28 يونيو 1712-2 يوليو 1788) فيلسوف و كاتب و محلل سياسي سويسري أثرت أفكاره السياسية في الثورة الفرنسية و في تطوير الاشتراكية و نمو القومية. و تعبر مقولتة الشهيرة "يولد الإنسان حرا و لكننا محاطون بالقيود في كل مكان" و التي كتبها في أهم مولفاتة "العقد الاجتماعي" تعتبر أفضل تعبير عن أفكارة الثورية و ربما المتطرفة. كتب روسو الذي يحلو لبعض شارحيه أن يلقبه بابن الشعب عمله الأول  رسالة في العلوم والفنون  سنة 1750  في الوقت الذي كانت فيه قوى الشعب ( من غير النبلاء والاكلرويوس ) تجمّع قواها استعدادا للهجوم الشامل على النظام القديم  وكانت هذه الفترة خصبة بالأعمال العظيمة في مجالات الفكر المختلفة كالفلسفة والعلوم والطبيعة والتاريخ والأخلاق والحقوق الخ ... وكانت تضع تصورا جديدا للعالم  وتقضي على النظام الإقطاعي  والاستبداد والذي كانت الكنيسة الكاثوليكية تعمل وحدها على دعمه إيديولوجيا.


 


صارت الآداب في منعرج القرن بشكل رئيسي آدابا ملتزمة  أو مناضلة  على الأقل في عنوانيها الأكثر بروزا . وقد عبرت عن مجملها عن  مطالب الشعب المحروم من كل حقوقه السياسية  والقائم ضد النظام الإقطاعي الذي كان يسمح لأقلية من الطفيليين بالعيش من بؤس الشعب و تعطيل نمو قوى الإنتاج واكتمال الوحدة الوطنية . 


 


 لقد توحد الشعب ضد الحكم الملكي المطلق  وضد النبلاء الإقطاعيين  وضد الكنيسة  التي كانت مركز تجمع كل الأفكار المناهضة للأفكار الجديدة  نحو  سنة 1750  تجمعت كل القوى الشعبية لتكون جبهة موحدة وتقود المعركة الأخيرة نحو الثورة الفرنسية.


 


 غير ان الشعب لم يكن طبقة اجتماعية منسجمة ، كانت الغالبية الواسعة منه تتكون من المزارعين الريفيين الصغار  الذين كانوا يحتملون كل حقوق الإقطاع  وضرائب الملك  في حين ان البرجوازية  المكونة من كبار الملاك يستفيدون من النظام الضريبي القائم ومن الاستبداد وكانوا هم بدورهم يستغلون الشعب البائس .  أما في القرى فقد كان المزارعون الفقراء الملزمون  بالقوانين التقليدية  للمجموعات الريفية   يقومون  ضد المزارعين الكبار الذين يستغلون الأراضي طبقا للأساليب  الرأسمالية الجديدة  وفيما بين مواسم الزراعة كانوا يخضعون لاستغلال التجار الذين يشغلونهم في المنازل مقابل القوت اليومي  فقط . أما في المدن فكان الحرفيون  الصغار يعانون من المنافسة القوية للصناعات التحويلية  وفي سنوات المحل كان أفواج من ضعاف الحال يموتون جوعا فيما يغتني المضاربون على الحبوب .. وقبل أن تتجلى هذا المواقف المتناقضة تحت راية الثورة فإنها تجلت في النظريات. كان البرلماني الكبير والنبيل الإقطاعي منتسكيو  المرتبط بالنظام القديم يحاول في أعماله المصالحة بين النظام الإقطاعي والتطلعات البرجوازية أما فولتير والموسوعيون الأكثر جرأة منه فكانوا يقومون بوضوح ضد النظام القديم  ويمثلون مطالب البرجوازية التقدمية وفولتير نفسه  وهو ليتيس  ودي هولدباخ فكانوا من المصرفيين  وأصحاب الأموال وكان برنامج هؤلاء يسير باتجاه التاريخ وينحو إلى تقوية القوى المنتجة .  وفي المجال الفلسفي فان البعض منهم يذهب إلى حد الدعوة المادية  ويعتقدون أن الإنسان قادر بالعلم وحده  على الوصول إلى ماهية الأشياء  وتنمية الحضارة  وتأمين السعادة على الأرض  كانوا يؤمنون بالتقدم  أما في السياسة وإذا اتفقوا على أن ساندوا اطروحات  ديموقراطية  في مواجهة الاستبداد  فانه لا يمكن أن نعتبرهم ديموقراطيين  لقد كانوا كرماء ويريدون تامين سعادة الشعب ...  ولكن لم يكن من رأيهم  أن هذه السعادة تكون من عمل الشعب بنفسه  أي من الدهماء الفاقدة للأنوار وللحس السليم  كما يقول دي هولباخ  ولأنهم برجوازيون  فقد كانوا يحذرون من الدهماء المضطربة ويرون أن إقامة حكم العقل هي من مهام قلة من الرجال المستنيرين..


 


 لكن حكم العقل كما يقول انجلز ليس إلا حكم البرجوازية وقد صار مثاليا  فبعد الأرستقراطية  بالميلاد  تقوم الأرستقراطية بالمال  فلا يقوم الحكم إلا باستغلال  الطبقات الشعبية  ، والبرجوازية الصغيرة المتوافقة مع البرجوازية الكبرى  ضد النظام القديم ليس لديها أي داع للقبول بتطور الرأسمالية الذي يدفع بها إلى الخسران  والحرمان من الملكية  وهي لا تربح شيئا من الإقطاع  وهي تعاني من النظام القديم ولكن هل كانت فعلا متفتحة على الأفكار الديموقراطية ؟  لم يكن  لهذه الطبقة من برنامج اقتصادي فعال فهي تتمسك بلا أمل بملكيتها الصغرى المحكوم عليها بالفناء تاريخيا وليس لديها أمل  إيجابي يأتيها من النظام القديم .  ان طموحاتها تتحول إلى أحلام طوباوية: نظام من المساواة  الاجتماعية يصير فيه كل المواطنين ملاكا صغارا، ولان هذا الحلم يتناقض مع التطور الاقتصادي الذي لا مرد له فانه لا يمكنها إلا ان ترثي مسيرة التقدم التي ترى فيها تراجعا أي تراجعها الذاتي لذلك نظرت هذه الطبقة نظرة حذرة إلى التقدم العلمي  وسيلة التقدم ولم يمكنها ان تثق في العقل دون ان تحفّظ.


 


 في هذا الإطار يجب وضع أعمال روسو كما يقول المبرز الجامعي الفرنسي ج.ل.لوسركل (J.L.LECERCLE)  المختص بروسو وفكره والذي قدم لهذه الطبعة التي بين ايدينا في أصلها الفرنسي، وعلق على النص الأصلي لروسو، الذي أعطى لمجموع الطبقة البرجوازية الصغيرة إيديولوجيا، لقد كان روسو في نفس الوقت متقدما اكثر من الموسوعيين واكثر منهم ورعا، كما يقول لوسركل، وكان أكثرهم حزما وعمقا في التفكير السياسي وهذا هو التناقض العميق في أعماله والناتج لا عن ضعف في عبقريته بل عن الوضع المتناقض للبرجوازية الصغيرة التي كان ينطق باسمها.


 


ولد روسو بجنيف سنة 1712  وسيكون من قبيل الغمط لكل أثره الفكري  ان ننظر إليه كمواطن من جنيف  كتب فقط لأهل جنيف ومن اليقين انه عندما كان يكتب العقد الاجتماعي كان يجهل كل شيء عن دستور جنيف.ان روسو ينتمي إلى فرنسا ليس لأنه متحدر من أسرة بروتستانتية التجأت إلى جنيف من فرنسا في القرن السادس عشر فقط بل لان ثقافته فرنسية بالكامل وقد ساهم بدور فعال في الثقافة الفرنسية والحياة السياسية بفرنسا .. غير ان انتماؤه إلى جنيف قد لعب دورا مؤثرا على بعض أعماله ، لقد ولد على مذهب كالفن  أي على دين فرداني اكثر عقلانية واكثر صرامة وتقشفا من الكاثوليكية ( ان الإصلاح الديني حسب ماركس كان هو المرحلة الأولى من الثورة البرجوازية ) خاصة وان جنيف كانت جمهورية  وكان روسو يفخر طيلة حياته انه من بين رعايا ملك فرنسا الذين ولدوا في جمهورية واللقب الوحيد الذي يحمله أبدا هو "مواطن من جنيف" . كان أبوه ساعاتيا و  أسرته تنتمي إلى البرجوازية الصغيرة ولا يعتبر روسو نفسه متحدرا من الطبقات الفقيرة جدا ، وقد ولد كما يقول في الاعترافات في عائلة تتميز عن الشعب بأخلاقها ولكنه وجد نفسه بسرعة  متروكا لحاله فانتمى إلى الشعب. لم يكن أبوه رجلا مستقرا وكان وهو يصلح الساعات يجبر ابنه على ان يقرا له روايات عاطفية ولكن يجبره كذلك على قراءة كتب من قبيل الرجال العظماء. وقد غادر الأب جنيف دون ان يهتم مطلقا بجان جاك والذي كان قد فقد أمه قبل ذلك .., أودع الطفل لدى القس (Lambercier) لمدة عامين وعنده بدأ يتعلم اللاتينية وكانت تلك تقريبا هي الدراسة الوحيدة المنتظمة التي خضع لها تحت إشراف شخص آخر  ثم بدا يتعلم مهنا مختلفة فمكث حولين عند خطاط وكانت شروط التعلم المهنية من أقسى الشروط المهنية في ذلك العصر  وكان جان جاك يمتحن ويضرب ويتعرض للمنغصات ويدافع عن نفسه بوسائل طفل ،فكان يكذب ويختلس وذات يوم هرب ليقضي ثلاثة عشر سنة من عمره متسكعا   عرف خلالها كل المهن وكل أشكال البؤس حتى انتهى في حماية سيدة شابة ( Mme de Warens)  ثم صار عشيقا لها . كانت السيدة بدورها امرأة مغامرة وبلا مبادئ . ثم اعتنق الشاب الكاثوليكية بنية انتهازية فيما يبدو وصار تابعا يعلم الموسيقى بدون سابق معرفة بها  ويعيش بصحبة  السيدة  ( Mme de Warens) في  ( Annecy) ثم في (Chambery) وكان يقرا كثيرا وتعلم ان يكون نفسه بنفسه بشكل منهجي .


 


 سنة 1740  انتقل إلى مدينة ليون ليصير مربيا للاطفال ثم قدم إلى باريس حاملا معه مشروع   كتابات موسيقية نوى ان يكّون منها ثروة ولكنه قدمها  إلى أكاديمية العلوم بدون طائل . وارتبط بكاتب صغير وغير معروف حتى ذلك الحين هو ديدرو الذي كان مندمجا في الصالونات الأدبية وخاصة صالون السيدة   (Mme Dupin )ابنة المصرفي (Samuel Bernard)  ولكثرة ما علّم الموسيقى فقد حفظها فكتب أوبرا  ( les Muses galentes) ولكن كل ذلك لم ييسر له العيش  فعاد إلى الفقر من جديد فقبل بعمل كاتب شخصي لدى سفير في البندقية  فبقى في خدمته ثمانية عشر شهرا ثم اختصما فافترقا ، في هذه الفترة بالذات بدا الاهتمام بالمسائل السياسية وبدا في تشكيل أول الأفكار من كتاب عن "المؤسسات  السياسية" لم يكتب منه سوى المقدمة وهي العقد الاجتماعي ثم عاد يقيم في باريس بشكل دائم هذه المرة. وبدا يعرف بين الناس بأنه موسيقي وكاتب مسرحي  وقدم عرضا لمسرحيته المذكورة أعلاه وتعاون مع فولتير في أوبرا   (les fetes de Ramire)  وعمل في نفس الوقت كاتبا للسيد (M. de Francueil)  وهو صهر السيدة (Mme Dupin ) وفي هذه الفترة عاشر عاملة بنزل وهي (Therese Levasseur)   وكانت امرأة أمية تماما وقد انجب منها خمسة أطفال أودعاهما جميعا بالتتابع في بيوت الأيتام .


 


وسع روسو علاقته بين الفلاسفة فإلى جانب ديدرو وكوندياك اللذين صار من خلصائه تعرف على السيدة (Mme d Epinay) وهي من بنات المصرفين المعروفين ثم صادق الفيلسوف غريم (Grimm) .في صيف 1749 سجن ديدرو في حصن فانسان  (Vincennes) وفيما كان روسو ذات عشية يزور صديقه في سجنه وقع على نشرية   (Le mercure de France) حيث قرا المسالة المطروحة من قبل أكاديمية ديجون "هل ساهم  تقدم العلوم  والفنون في  تلويث الأخلاق أم في تطهيرها ؟ وكتب لاحقا في الاعترافات "في لحظة قراءة ذلك السؤال انفتحت أمامي عوالم أخرى وصرت أنسانا آخر " . وكان ذلك مدخل روسو إلى الشهرة والمجد.


 


وكما يقول ج.ل.لوسركل، في مقدمه القيمة جدا لهذا الكتاب، فقد ركز النقد الرجعي على كل أشكال الاضطراب في سلوك روسو وعلى طبعه المتقلب (كاعتناقه الكاثوليكية بعد البروتستانتية ثم عودته إلى البروتستانتية  بعد الكاثوليكية ) ووضعه غير الأخلاقي مع السيدة (Mme  de Warens)  والتي رعته والتي كان يناديها أحيانا بأمه ثم يقبل ان يتقاسمها جسديا مع عامل الحديقة وكذلك إهمال أطفاله وهو الذي يزعم  وضع مدونة تربوية  هي أميل . والنقاد الأكثر تسامحا أو الأكثر خبثا كانوا يرجعون  كل هذه الاضطرابات إلى أمراض روسو العصبية  لقد كانوا يصمونه بالجنون وكانت تلك الوسيلة الأنجع للطعن في أفكاره وإفقادها مصداقيتها .


ولم تكن هذه الانتقادات مخطئة تماما فقد كان روسو مضطربا فعلا وكان مصابا طيلة حياته بمرض يؤثر على جهازه العصبي ولكن لم تظهر عليه اضطرابات عصبية إلا في مرحلة الشيخوخة وبفترات متباعدة ونتيجة للاضطهاد الذي تعرض له وستكون فرية غبية ان ينعت بالجنون المفكر الذي وضع "العقد الاجتماعي"" واصل التفاوت" "و اميل"  .


 


 لقد كان روسو في أول حياته يترك حوله انطباعا بأنه معذب ومنبوذ وغير ودود وغير قادر على التحكم في نزواته ولكن ذلك يعود بالأساس إلى الطفولة التي عاشها حيث ترك لشأنه بلا رعاية وتعرض منذ الطفولة الأولى إلى ضغوط المجتمع  ولقد وقع بين أحضان امرأة مغامرة والغريب ان هذا الطفل والذي كان مؤهلا ليصير منحرفا وساقطا من المجتمع بنى رغم ما تعرض له شخصية قوية وكون نفسه بنفسه ولا يمكن ان نحكم على سلوك روسو من خلال القيم المسيطرة الآن أو من خلال الإمكانات المتاحة الآن في التربية ولكن من خلال الواقع الحقيقي في لحظة روسو الاجتماعية التي عاشها بنفسه  فلقد كان من الممارسات الشائعة في القرن الثامن عشر ان يتخلى الآباء عن أولادهم لبيوت الرعاية دون تأنيب ضمير وكانت تلك إحدى ممارسات الطبقة الأرستقراطية  .ولقد كان روسو دائما يفتقد المال ولقد كان روسو مثل الآخرين ولكن الأخطر من ذلك انه حاول لاحقا ان يفرض نظرية في التربية مضادة لطريقة الأرستقراطيين ولكن أيام تخلى عن أطفاله لم تكن نظريته قد نضجت بعد ويبدو انه تعذب كثير في شيخوخته مما فعل بأولاده في بداية حياته ويبدو انه هنا كان ضحية اكثر مما كان راغبا .


 


أما مسالة الاضطراب التي يتهم بها فتبدو مسألة ترفع من قدره اكثر مما تحط منه على حد تعبير (لوسركل) فهذا الرجل الحساس يبدو غير قادر على احتمال هذا النير ويبدو انه يتألم اكثر من الآخرين من الحياة المتشردة  التي عاشها وعندما كانت حريته تتعرض للمساس بها كان يغادر ويبدو انه فضل دائما الحياة الحرة المتشردة على حياة العبودية الرخوة المنعمة . فلم يكن شيئا احب إلى قلبه من الحرية لقد كان يريد ان يكون مخلصا لنفسه حرا في ما يفعل  فلم ينشغل بكسب الثروة أو المجد أو حتى  تامين  وجوده  نفسه ولا أحد كان قادرا على ان يغلق فمه عندما كان يريد  ان يتكلم ليدافع عن فكرة يؤمن بها ولو اقتضى الأمر ان يظل وحده وقد دافع دائما عن أفكاره التي آمن بها  . 


 


لقد كانت حياته المتشردة تجربة استثنائية بين كتاب عصره وقد عرف خلال تنقلاته بؤس الشعب وقد عرف بنفسه الإهانة التي يعيشها من يخضع في تحصيل قوته إلى نزوات الآخرين . وقد تعلم ان يحب الشعب والذي أحس دائما بالراحة وهو يعيش بينه . وفي نفس الوقت فان هذا الرجل الذي تربى في مدرسة الشارع القاسية  تعلم ان يبني لنفسه  تكوينا ثقافيا  سليما  ولم تكن بلا شك في مثل ثقافة ديدرو الواسعة الذي تعمق اكثر في دراسة العلوم ولكن روسو رغم ذلك يعتبر شخصا موسوعيا ويشهد على ذلك اتساع المواضيع التي كتب فيها  والتي عاد إليها عند الكتابة من موسيقى ومسرح وشعر وكيمياء وعلوم النبات واللغات والاقتصاد والسياسة والحقوق وعلوم التربية والرواية الخ ... وهذه الثقافة لم تستوعب داخل المدرسة لقد كانت  عمل شخص عصامي يسيطر على ما يعرف وتعود ان يخضع كل الأفكار إلى لهيب النقد .


 


 هذه هي صورة الشخص الذي ظهر في الصالونات الباريسية في سنة 1741 كما يصفها ببراعة ادبية ج.ل.لوسركل، ولقد كان روسو مدفوعا بحماس الشباب فقد كانت باريس عاصمة الثقافة في عصره وفي الصالونات الباريسية كانت تكتسب الشهرة وبالنسبة لمثقف قادم من أعماق الشعب فانه لا أحد كان قادرا على إعطائه الفرصة مثل الصالونات ففي الصالونات كان يلتقي رعاة الأدب من الأغنياء الذين يعيلون الكتاب الموهوبين وتعيش النساء النافذات اللاتي يفتحن كل الأبواب  وروسو لم تكن لديه وقتها أية أحكام مسبقة ضد أرستقراطية الصالونات الباريسية  ونحن لا نجد في أعماله وهو شاب أية علامة من عداء للكبار من حوله .


ولكن عداوته لهم بدأت من الاختلاط بهم وسيتطور كرهه لهم و"حذره المرضي" نتيجة أسباب تعود إلى طبيعته فلكي يشتهر المرء في الصالونات عليه ان يكون أريحيا أما هو فكان خجولا منطويا  وكان يجب ان يكون المرء حاضر البديهة أما هو كان بطيئا وكان لا يفكر ولا يبدع إلا متفردا وكان يجب على المرء ان يكون قادرا على مناقشة كل القضايا العميقة  بخفة وبعمق في ان واحد أما هو فكان جديا وكان يبذل كل ما عنده في صراع الأفكار  وبكلمة كان يجب ان يكون  امرئ مثل فولتير ولكنه كان روسو لا غيره . ولكن السبب العميق الذي حدد موقفه كان موقفا طبقيا  ففي الصالونات الأرستقراطية كان البرجوازيون يعيشون من بؤس الشعب وكان يجد نفسه من الشعب البائس  . وقد سأله يوما البارون (d' Holbach)  لماذا هو بارد تجاهه فأجابه " لأنك غني جدا "هؤلاء الأغنياء بلا قلوب ، إنهم  مصطنعون . يقول روسو في الاعترافات  "  في أوساط الشعب حيث الرغبات لا تعبر عن نفسها إلا قليلا فان المشاعر الطبيعية تسمع باستمرار أما في الطبقات الأعلى فان المشاعر الطبيعية تخنق بالقوة فلا تتكلم  تحت قناع الأحاسيس إلا المصلحة والغرور " .


 


 كان يمكن لشخص آخر غير روسو   أن ينحني ويتأقلم أما عبقرية روسو فكانت أن يظل واقفا منتصبا و في مقابل  أن  يكون رجل صالونات  أي نسخة أخرى مصغرة  من فولتير  كما أريد له فانه أصر على أن يكون جان جاك روسو مواطن من جنيف وسيفضح أكاذيب مجتمع يعيش بعضه التخمة ويعيش اغلبه  اشد أنواع البؤس .


 


وقد حاول أعداء روسو كما يبين لنا ج.ل.لوسركل ان يحقروا من جهده فزعموا ان ديدرو هو الذي أوحى له بتلك الأطروحة فقد زعموا ان روسو عرض على ديدرو فكرة ان تقدم العلوم والفنون قد ساهم في تطهير القيم وقد وجد ديدرو ان الأطروحة ليست هينة وأنها قابلة للتطوير وانه أوحى لروسو ببقية الحجج التي عليه اعتمادها وقد طور روسو تلك الأفكار بناء على النصيحة . ولم تصمد هذه الترهات للوقائع فقد كانت ترهات تهين كلا المفكّرين إذا تظهرهما دعيّين شرهين يلويان عنق الوقائع  من اجل النجاح والشهرة وقد بذل الرجلان تضحيات كبيرة من اجل محبة الحقيقة لذلك كانا يستحقان تقديرا آخر غير ما وصما به . ولم يقبل ديدرو أبدا ذلك بل بالعكس فقد قال بصريح اللفظ في كتابه " حول الإنسان "  لقد فعل روسو ما كان  يجب عليه فعله لانه روسو ، وما كنت لأقوم بنفس الشيء وربما  فعلت شيئا مختلفا كليا  لأني انا ".


 


 عندما ينحاز روسو إلى الفكرة القائلة  ان التطور العلمي والفني قد افسد القيم فانه يقوم ضد كل الأفكار السائدة والمتداولة بين الفلاسفة . و لقد كانت النشرة  التمهيدية لدائرة المعارف ( الموسوعة )  في نفس الوقت تترد كلحن موحد بين الناس يدعو إلى ان تطور العلوم يسمح بإعادة بناء المجتمع على أسس علمية جاء روسو ليؤكد ان هذا المجتمع مبني على التفاوت وان الثقافة تخدم الأرستقراطية الفاسدة التي تقوم رفاهتها على بؤس الشعب . والتجديد الحقيقي في هذه المقالة كان : تجاوز فكرة وضع الطبيعة الطيبة في مواجهة المجتمع الفاسد فقد سبقه غيره إلى هذا الأمر ( فقد كانت موضوعة أو صورة المتوحش الطيب متداولة على نطاق واسع في القرن الثامن عشر)  . ولكنه كان الأول الذين قالوا بكل حماس ان غني البعض و  رفاههم يكون بتفقير الغالبية . وهذه الفكرة التي كانت كامنة في المقالة تجلت شيئا فشيئا في النقاشات التي لحقت بها خاصة في الرسالة التي وجهها إلى ملك بولونيا .فنقد روسو لم يشمل المجتمع الإقطاعي فحسب بل امتد إلى كل مجتمع يقوم على التفاوت في الثروة . لقد وجد روسو بذلك طريقه الخاص  ، حتى ذلك الحين لم يقطع مع جماعة دائرة المعارف لان الخلاف معهم كان لا يزال كامنا وقد ساهم في تحرير دائرة المعارف فكتب مقالة حول الموسيقى وكتب سنة 1755 مقالة في الاقتصاد السياسي  والتي عمق بها أطروحته ومر بها من الخطاب الأخلاقي إلى الخطاب السياسي . وقد ظل على  علاقة قوية مع ديدرو فقد كان صديقه الحميم . فديدرو مثله يبدو برجوازيا صغيرا عاش طويلا في تسكع أدبي .


 


 في الأثناء كان روسو يبتعد شيئا فشيئا عن الصالونات وشرع في "إصلاح أخلاقه" وقرر ان يعيش مستقلا كحرفي صغير . هذا الكاتب المشهور سيعيش ناسخا للمقطوعات الموسيقية مقابل 10 سنتات للصفحة الواحدة . وقدم مثالا للحياة المتقشفة وغير المهتمة بالمادة وهذا التقشف في حياته الخاصة هو الذي جعله محبوبا بين الطبقة البرجوازية الصغيرة .  وهي الطبقة التي إلى جانب أعمال روسو أوحت لليعاقبة الكبار من أمثال  ( Marat) و( Robespierre)   روبسبيير.


 


* في سنة 1755 تقدم مرة ثانية للمناظرة حول مسالة طرحتها أكاديمية ديجون ومنها خرجت مقالة "في اصل التفاوت" وبعدها قام برحلة إلى جنيف حيث عاد فاعتنق الكالفنية ،وتحت تأثير الإرهاق من الحياة الباريسية قبل روسو اقتراح السيدة (Mme d Epinay) التي وضعت تحت تصرفه منزلا صغيرا بحديقة قصرها فكان بمثابة محراب تخلى فيه عما يحيطه من شؤون الناس ليكتب وهناك ازدادت خلافاته مع جماعة دائرة المعارف.   والنقد البرجوازي الذي وجه إلى روسو في هذا الخلاف ابرز خاصة الخلافات الشخصية بينهم كحذر روسو وشكوكه الكثيرة ورغبته في تعذيب ذاته وطبع ديدرو المنفتح  وغيرها من الأسباب ربما تكون قد عمقت خلافات قائمة لكن الخلاف الحقيقي كان خلافا طبقيا فالموسوعيون يستوي في ذلك الجناح المتقدم كديدرو  ودي هو لباك أو الجناح المعتدل  مثل فولتير كانوا يطورون أفكارا تقدمية للبرجوازية الرأسمالية بينما كان روسو يمثل مصالح الطبقات الديموقراطية الثورية ولكنها الطبقات  التي لا تستطيع ان تضع برنامجا اقتصاديا إيجابيا وتلتجئ  إلى الآلام و اليوطوبيا  .


* سنة 1758 قطع روسو مع السيدة (Mme d Epinay )  وعاد ليستقر في مونت مرنسي في منزل السيد (Mont-Louis)  وكانت تلك الفترة الأخصب في حياته الفكرية .


 


 هناك كتب رسالة  إلى دالمبار حول الفرجة Lettre a d Alembert sur les spectacles  وهي الرسالة التي أجهزت على العلاقة مع جماعة دائرة المعارف. بيّن روسو انه لا يعارض الفن عامة بل انه يتحمس لكل أنواع المسرح بدون تمييز وقد بيّن في مواضع مختلفة انه يؤمن بفضائل الفن في نظام لا يقوم على التفاوت ، فالفن عنده يجب ان يقوم على محتوى أخلاقي وحضاري وإذا كان يقوم ضد المسرح الكلاسيكي فلأنه كان يرى فيه فنا أرستقراطيا وهو رأي خاطئ  لكنه كان قاعدة للمطالبة بفن شعبي  وقد دعا في آخر الرسالة إلى وضع برنامج حفلات شعبية ذات مضمون حضاري وقد تبنت الثورة هذا البرنامج وقد كانت الحفلات الشعبية الكبرى التي دعا إليها دافيد تعتمد على ما نظّر إليه روسو .


 


* في سنة 1761 و1762 اصدر روسو كتبه الثلاثة الأهم وهي:


  (La nouvelle Heloise  (Le contrat Social  ( Emile)وكان للكتب الثلاثة طابع تعليمي  فقد كان روسو حتى ذلك الحين يفضح المجتمع القائم على التفاوت في الثروات بسبب نهم الإنسان في زمنه وقد بين في أعماله تلك لمعاصريه صورة الإنسان الجديد أو المتجدد،  وهذه الأعمال الثلاثة تتكامل ضمن مخطط اكبر كان يريده روسو:


* في العقد الاجتماعي وضع مبادئ مجتمع ديموقراطي قائم على المساواة حيث يمكن للناس ان يكونوا مواطنين تحركهم الفضيلة أي ان يكونوا وطنيين.


* في كتابه هيليويز الجديدة (La nouvelle Heloise) اقترح روسو في مقابل فساد الطبقة الأرستقراطية مثالا أخلاقيا يقوم على العفاف الأسري واقترح في مقابل النبالة والشهامة والايروسية حياة عاطفية نظيفة 


* لكن تفكير روسو في زمنه دفعه ومن اجل بناء مجتمع سليم إلى إعادة تكوين الفرد وهو الدور الذي يحتله كتاب (Emile) في مخطط روسو التربوي المتوافق مع قوانين الطبيعة.


 


أدى نشر كتاب (ايميل) إلى مطاردة روسو ، فقد منع البرلمان الكتاب من الصدور   وأعلن مؤلفه مطلوبا للعدالة وكان على روسو ان يهرب باستمرار  و أطلق ارشيدوق باريس ضده  " فتوى"  ولم يكن  البروتستانت اكثر ودا له  من غيرهم  فحكم عليه في جنيف  فهرب إلى ( Motiers)  في منطقة (Neuchatel) فأثار القساوسة العامة ضده فالتجأ إلى جزيرة سان بيار (Saint -Pierre) في منطقة بارن (Berne)  فلم يتأخر مجلس شيوخها ان اطرده فعبر الالزاس إلى إنجلترا حيث دعاه الفيلسوف   (David  Hume)   دافيد هيوم ولكن سرعان ما اختلف الرجلان  فعاد روسو إلى  فرنسا  وظل يعيش شريدا إلى ان استقر أخيرا بباريس سنة 1770 عندما عفي عنه من قبل السلطة القائمة. وإلى حين وفاته سنة 1778 في  (Ermeonville)   فرض على نفسه عزلة فلم يقبل إلا زيارة عدد قليل من الأصدقاء وزاد حذره من الجميع فقد كانت الكنائس ضده وكان البرلمان ضده والسلطة الملكية والفلاسفة  ، لقد كان في ظاهر الأمر رجلا معزولا لكن لم يكن لاحد من تأثير ومن  أنصار  متحمسين  مثل ما له  فقد كانت تأتيه من أصقاع كثيرة ( بولونيا ، كورسيكا ) مطالب ليحرر لشعوبها دساتير  ولم يتوقف اتباعه على اقتحام عزلته ،  لقد كان الرجل المطارد المعزول يمارس على الناس سلطة لم تكن لمعذبيه مثلها  ولقد كتب كثيرا غير ان طبيعة عمله تغيرت فقد كان يدعو الناس  إلى التأمل في نموذج حياته لكي لا ينحنوا أمام الظلم وأمام الترهات وان ينحنوا فقط للفضيلة وللمجد الحقيقي  وقد خرج من كتابات تلك المرحلة كتابه "الاعترافات"( Les confessions)  ثم تبعه (Reveries  d un promeneur solitaire)   الذي لم يسعفه الموت ليكمله .


 


يقول محقق هذا الكتاب ج.ل.لوسركل: لقد كان كتاب "الاعترافات" سيرة لروحه ولمشاعره اكثر مما كان سيرة لحياته  وهو  عمل خارق من وجهة نظر التحليل النفسي وهو مرافعة قيمة عما كان يجده ولم يكن دائما عادلا مع أعدائه  وهو في نفس الوقت غنائية إبداعية  بل هو إحدى أروع القصائد الغنائية العالمية. ان روسو هو سيد الأدب العاطفي الغنائي والذي سيزدهر في الحقبة الرومانسية لقد كان لفر دانيته طابع إيجابي ففي الوقت الذي كان الفرد الشعبي سجينا في الأطر الإقطاعية ومهانا ومحروما من حقوقه خرج الفرد روسو ليثبت مكانته غير القابلة للتعويض ويكتشف في نفسه غني الروح غير المحدود ويكشف للعالم كنوز الحياة الداخلية للإنسان وكل القوى الكامنةفي  الشخصية الإنسانية.


 


أفلم يكن إذن شاعرنا الراحل الكبير، ابن الشعب البار ايضا، والخارج من اتون الطبقات، محمد الماغوط، ينهل من معين روسو، ربما تأثرا بسيرته في "الاعترافات"، أو تأثرا بمواقفه وأفكاره، وهو يقول في آخر كلمات له على شاشة التلفزيون، ان الشاعر الحقيقي هو الذي يرفض كل تسوية مع السلطة القائمة؟


 


ملاحظات:


- صدرت ترجمة هذا الكتاب  أصل التفاوت بين الناس سنة 2005 بتونس عن دار المعرفة المرحة Le Gai Savoir  لصاحبها الناشر بدر الدبوسي. وهو  ترجمة لكتاب جان جاك روسو


  (Discours sur l origine et les fondements de L'inégalité parmi les hommes)


وقد تمت الترجمة باعتماد طبعة صادرة سنة 1971 عن دار النشر الفرنسية بباريس    editions sociales  Les.


 


- المترجم د. نور الدين العلوي روائي تونسي يعمل استاذا لعلم الاجتماع بالجامعة التونسية، يكتب الرواية والقصة القصيرة ويعمل خبيرا في الضمان الاجتماعي ويهتم بروسو  ضمن اهتمام أوسع بالمسالة الاجتماعية وبالترجمة لمفكري عصر النهضة نشر الى حد الان ثلاث روايات هي ريح الايام العادية سيراس 1998 ومخلاة السراب المركز الثقافي العربي 2001 والمستلبس دار الجنوب  2005 .


 


- في لفتة تعبر عن مدى الاهتمام الذي باتت تبديه الولايات المتحدة بالشؤون السورية، عبرت واشنطن عن "حزنها" لرحيل محمد الماغوط ووصفت الخارجية الماغوط بأنه كان مدافعاً عن الحرية والعدالة. وكان الماغوط قد توفي بعد صراع مع المرض وعقود من الإهمال الرسمي، رغم تنبه الحكومة إليه عام 2002 حين منح وساماً من الرئيس السوري بشار الأسد. لكن من المعروف أن كتاباً أقل شأناً منه لقوا رعاية ودعماً من جانب الحكومة، بل إن كثيراً من الذين شاركوا معه في أعماله المسرحية والفنية (من ممثلين وغيرهم) كان حظهم من الاهتمام والمكاسب ما يفوق ما حصل عليه الماغوط. كما عانى الماغوط خلال حياته الأدبية من السجن السياسي، وفي أواخر حياته أضيفت إليها المعاناة من الوحدة.


وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية آدم ايريلي: ان "الماغوط كان حقاً فريداً، كان مثقفاً يرفض المساومة وصوتاً مستقلاً من اجل الحرية والعدالة في العالم العربي". وتابع المتحدث في بيان: ان "إنتاجه وحياته يشهدان على قدرة الفرد والروح الخلاقة". وختم بيانه بقوله: "نتقدم بأصدق التعازي الى عائلته ومحبيه الكثر".


وكانت ذكرت صحيفة "الحياة" اللندنية ان الماغوط توفي "على اريكته في الصالون وكان في يده اليمنى عقب سيجارة وفي اليسرى سماعة الهاتف" اثر اصابته بنوبة قلبية.

ليست هناك تعليقات: