٩‏/٢‏/٢٠٠٧

نـــــــــــــــــــــــــــزار حيدر

الديمقراطية..ثقافة

   العراق في مخاض.
   انه يشبه الى حد بعيد، مخاض انفلاق الفجر من كبد الظلام، وولادة الانسان من ظلمات بطن امه الثلاث الى نور الحياة.
   فالاغلبية تريد ان تتخلص من آثار الماضي لتبني عراقا جديدا قائما على اساس الشراكة الحقيقية بين مختلف مكونات المجتمع العراقي، خال من الاستبداد والتمييز بكل اشكاله، ومعافى من ظواهر السرقات المسلحة للسلطة (الانقلابات العسكرية).
   عراق يعيش فيه المواطن بحرية وكرامة ومساواة ويتمتع بخيرات بلاده، وتحترم فيه السلطة حقوقه، كما يقدر هو واجباته ازاء بلده وشعبه، ليس للاستئثار فيه من معنى.
   هذه الاغلبية اختارت صندوق الاقتراع ليكون المعبر الوحيد عن ارادة العراقيين، كما اختارت الى جانبه كل وسائل الديمقراطية من التعددية السياسية وحرية التعبير عن الراي والتداول السلمي للسلطة واحترام حقوق الانسان، وغير ذلك.
   اما الاقلية، فلقد اختارت وللاسف الشديد، التعنت للعودة بالعراق الى سابق عهده، تحكمه انظمة استبدادية شمولية، لا ترحم حتى ازلامها، كما كان يفعل من قبل الطاغية الذليل صدام حسين.
   انها تصر على عرقلة البناء الديمقراطي في العراق الجديد، واختارت كل الوسائل غير الشريفة لتحقيق هدفها الدنئ هذا، فكان القتل اسلوبها والسيارات المفخخة والاحزمة الملغومة الناسفة ادواتها، ومساطر العمال والاسواق الشعبية والمراقد المقدسة اهدافها.
   وبكلمة، فان الاغلبية اختارت المستقبل، فيما اختارت الاقلية الماضي.
   في العراق، اذن، صراع ارادتين، الاولى تبذل كل جهدها من اجل بناء العراق الجديد (الديمقراطي) والثانية، تبذل كل جهدها كذلك لعرقلة عملية البناء هذه، فاي الارادتين ستنتصر، وتحقق مشروعها؟ وكيف؟.
   في البدء يلزمنا، كعراقيين، ان نعرف جيدا باننا امام خيار واحد فقط لا غير، فبعد ان جربنا الاستبداد والديكتاتورية والانظمة الشمولية، لا بد لنا ان تنتصر ارادتنا، لان هزيمة الخيار الديمقراطي يعني انتصار الاستبداد من جديد، اذ لا توجد منطقة وسطى بين الاثنين يمكن اختيارها والركون اليها والعيش في ظلها، ابدا.
   ولذلك تعالوا نبحث عن عوامل انتصار الارادة العراقية الجديدة، لتهزم ارادة قوى الظلام والاستبداد والعنف والارهاب والتخلف والتشدد والتطرف.
   واذا كانت الديمقراطية في جوهرها ثقافة اولا، وهي كذلك، لذلك اعتقد بان ثقافة الديمقراطية يلزم ان تقوم على اساس ثلاثة اعترافات استراتيجية، هي في الحقيقة اضلاع المثلث الذي يستقر عليه بناء الديمقراطية.
   الاول؛ هو الاعتراف بالآخر.
   الثاني؛ هو الاعتراف بالخطأ.
   الثالث؛ هو الاعتراف بالفضل.
   في اطار الاعتراف الاول، يجب ان نتأكد ونتيقن من الحقائق التالية التي يجب ان لا تغيب عن بالنا ابدا، فبمجرد اغفالها فضلا عن غيابها، تقع المصيبة.
   الحقيقة الاولى؛ هي ان الله عز وجل خلق، بلطفه، الناس والاشياء والكون وكل شئ، مختلفة ومتنوعة، وعلى كل الاصعدة، فالتنوع في الخلق لطف رباني وحكمة سماوية، قال تعالى؛{ومن آياته خلق السماوات والارض، واختلاف السنتكم والوانكم، ان في ذلك لآيات للعالمين} وقوله تعالى{وهو الذي انشأ جنات معروشات والنخل والزرع مختلفا اكله، والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه} وقوله عز وجل{وما ذرأ لكم في الارض مختلفا الوانه، ان في ذلك لآية لقوم يذكرون} وقوله عز من قائل{الم تر ان الله انزل من السماء ماء فاخرجنا به ثمرات مختلفا الوانها، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف الوانها وغرابيب سود} وقوله تعالى{الم تر ان الله انزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الارض ثم يخرج به زرعا مختلفا الوانه، ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما، ان في ذلك لذكرى لاولي الالباب}وقوله عز وجل{ان في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار، لآيات لأولي الالباب}وقوله{وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار، افلا تعقلون} وقوله تعالى{يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، ان اكرمكم عند الله اتقاكم، ان الله عليم خبير}.
   هذا يعني ان من المستحيل على بني البشر تغيير التنوع للوصول على نوع واحد، ابدا، فلا زالت الارادة الالهية هي التي خلقت هذا التنوع، فمن غير الممكن اختزاله بنوع واحد، وان من يحاول اختصار التنوع بنوع واحد، يصدم رأسه بحجر كبير، من دون نتيجة.
   كما ان محاولات الوصول الى وحدة النوع، هو جهد يبذله الانسان لمعاكسة الارادة الربانية، وهذا امر مستحيل جملة وتفصيلا.
   اذن يجب علينا جميعا ان نتعايش مع هذا التنوع، ولا نسعى لالغائه لان ذلك امر مستحيل.
   لقد حاول الكثير من الطغاة والجبابرة توحيد التنوع، فباؤوا بالفشل الذريع، الم يقل الطاغية المتجبر فرعون مخاطبا بني اسرائيل{يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الارض، فمن ينصرنا من باس الله ان جاءنا، قال فرعون ما اريكم الا ما ارى، وما اهديكم الا سبيل الرشاد} لماذا؟ لانه كان يتصور ان بامكانه ان يوحد التنوع وبالتالي يسهل عليه احكام السيطرة على شعبه، ولكن، ماذا كانت النتيجة يا ترى؟.
   الحقيقة الثانية؛ هي ان الهدف من التنوع، هو التعايش وليس التصادم، فكما ان من الحكمة تعاقب الليل والنهار، كما في قوله تعالى {ان في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لآولي الالباب} كذلك فان من الحكمة ان يتعاقب الخلاف بين بني البشر، ليتعايش وبالتالي ليتكامل، لان التكاملية، كما هو معروف، تتحقق بالتعايش وليس بالتقاطع، والى هذا المعنى اشارت الاية القرانية المباركة{يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}.
   الحقيقة الثالثة؛ هي انه ليس من بين بني البشر اليوم من يمتلك كل الحقيقة، ولذلك لا يحق لاحد ان يسعى لالغاء الاخرين بدعوى ان الحقيقة عنده وتحت جبته، كما يدعي المتصوفة.
   ان الحقيقة شئ نسبي، قد يمتلك بعضها اي انسان في هذا الكون، ولكن ليس كل الحقيقة، ولذلك يلزم ان يتوقع الجميع ان من غير المستبعد ان يمتلك اي واحد منهم بعض هذه الحقيقة، فلماذا اذن، يسعى بعضهم لالغاء البعض الاخر؟ الامر الذي يعني سعي الجميع لالغاء اجزاء من الحقيقة، من غير ان يعرفوا بالضبط، اي جزء هذا الذي يسعون لالغائه، واي جزء يمكن ان يكون هو المكمل للحقيقة التي يبحثون عنها؟.
   تاسيسا على هذه الحقيقة، يجب ان يعترف كل منا بالآخر، على اساس القاعدة القرآنية الكريمة{وانا او اياكم لعلى هدى او في ضلال مبين} اي انه في الوقت الذي امتلك انا بعض الحقيقة، قد يكون الاخر يمتلك مثلها، فلماذا اذن لا اعترف بذلك فاكسب جزئين منها، بدل الجزء الواحد الذي اتصور بانني امتلكه؟.
   ربما اعتقد بانني على حق، ولكن لا بد من ان احتمل الخطا في ذلك، كما ان الاخر قد يكون على خطا، ولكن يجب ان احتمل عنده الصح، وبذلك يعترف كل واحد منا بالآخر من دون السعي لالغائه. 
   وفي اطار الاعتراف الثاني (الاعتراف بالخطأ) لا بد من التسلح بالشجاعة الكافية، التي نقدر بها ان نعترف بالخطا، خاصة اذا كان هذا الخطا يخص الامة، ولم يكن خطا شخصيا يرتبط بذات الانسان.
   فالاعتراف بالخطا هو سلم المجد والنجاح والتقدم، لانه صنو الشعور بالمسؤولية، اما الذي يعاند ولا يقبل الاعتراف باخطائه محاولا تبرير الفشل، فذلك الذي لا يشعر بالمسؤولية لا من قريب ولا من بعيد.
   ان الاعتراف بالخطا فضيلة، والى هذا المعنى يشير قول رسول الله (ص) {كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون} لماذا؟ لان من لا يخطا لا يتعلم ومن لا يتعلم لا يتقدم، بشرط الاستعداد للاعتراف بالخطا في حال وقوعه.
   كذلك، فان الاعتراف بالخطا يعظم صاحبه في اعين الناس، ويزيدهم احتراما له، كما انه يبني مصداقيته على اساس الشجاعة وعدم الهروب من المسؤولية، لان من تاخذه العزة بالاثم ويصر على نفي الخطا عن نفسه دون الاخرين، يسعى جاهدا الى رمي المسؤولية على الاخرين الا نفسه، ما يعني بانه يوحي للناس بانه غير مستعد لتحمل مسؤولية الخطا، في الوقت الذي يبدي استعدادا منقطع النظير الى درجة التهالك لتسجيل النجاحات باسمه فقط، وتلك هي عين الانانية والهروب من المسؤولية، لان الفشل مسؤولية تضامنية بين الجميع، لا بد ان يتحمل مسؤوليته كل من اشترك فيه، كل بمقدار وحجم دوره في الامر، كما ان النجاح جائزة تضامنية هي الاخرى، من المفروض ان تسجل باسم كل من شارك في تحقيق النجاح، كذلك، كل حسب مسؤوليته وموقعه من النجاح، فهذا ما يقتضيه العدل والانصاف، اما ان تصادر النجاحات لنفسك فقط، وترمي بالفشل على الاخرين وتنسحب من المسؤولية، فذلك ما لا يرتضيه عقل او صاحب دين.
   اذا اردنا ان ننجح، لا بد ان نعترف بالخطا، فلا تخوننا الشجاعة في ذلك، فمثلا، كيف يمكن ان نتصور حكومة ناجحة وهي ترفض الاعتراف باخطائها؟.
   ان مثل هذه الحكومة التي لا تمتلك الشجاعة لتعترف باخطائها، هي اقرب الى الفشل منه الى النجاح، لان النجاح لا يعرف الا بعد الاعتراف بالخطا، وقديما قيل(تعرف الاشياء باضدادها).
   لا يكفي ان نتحقق من نجاح الحكومة، اذا لم تصارحنا باخطائها، فتتحدث بانجازاتها فقط، فقد يكون هذا الانجاز او ذاك الذي تتحدث عنه الحكومة، ثمرة لاخطاء متكررة، فعندها يكون مثل هذا النجاح المزعوم، فشل في حقيقة الامر، تحاول الحكومة تسويقه للناس كنجاح، خاصة عندما يكون الثمن المدفوع اضعاف الناتج المتحقق.
   ان الحكومة الناجحة، هي التي تتحدث عن الصعوبات التي تواجهها، والاخطاء التي ترتكبها، والاخفاقات التي تتعرض لها خططها، والا عن اية خطة امنية جديدة، مثلا، تتحدث الحكومة العراقية، وهي التي اعلنت عن انطلاق العشرات منها من دون نتيجة؟ لتتحدث اولا عن فشل تلك الخطط، لنتيقن من انها جادة فعلا في اطلاق الخطط الجديدة.
   لماذا نسمع الرئيس الاميركي جورج بوش يتحدث عن فشل الخطط الامنية السابقة، ولا نسمع مثل هذا الكلام من الحكومة العراقية؟ اولم يكن من الاولى بها ان تتحدث بكل وضوح وشفافية وصراحة عن الفشل قبل ان تحاول اقناعنا بجدوائية الخطط الجديدة؟ كيف تريدنا ان نصدقها اليوم وهي التي كذبت علينا بالامس؟ وكيف تريدنا ان ندعمها بالخطط الجديدة وهي التي لم تصارحنا عن مصير الخطط السابقة؟ ولو كانت قد فعلت ذلك لزادت مصداقيتها عند العراقيين، ولأصغوا لها اليوم وهي تتحدث عن الخطط الجديدة بثقة اكبر واطمئنان اوفر.
   ان الاعتراف بالخطا يتطلب التعامل بشفافية وصراحة ووضوح، اما الغش والخداع والتضليل، فلن يقود الا الى المزيد من الفشل والاخفاقات، وهو السبب المباشر الذي يوسع الفجوة بين الحكومة والناس، واذا كانت السلطة تتصور ان بامكانها اخفاء الفشل عن الناس فانما الى حين وليس الى كل حين.
   نريد ان نسمع الحكومة تتحدث عن أخطائها، وهي في السلطة، وقبل ان تغادرها، كما نود ان نسمع الوزير متحدثا عن اخفاقاته، وهو بعد في موقع المسؤولية، وقبل ان يغادره لأي سبب كان.
   لماذا لا نسمع باخطاء الحكومة او الوزراء او المسؤولين الا بعد ان يغادروا مواقعهم؟ وعندما نسمعهم يتحدثون عن اخطاء ارتكبوها وهم في موقع المسؤولية التي تركوها لغيرهم، نسمعهم يبذلون جهودا انشائية وفلسفية كبيرة من اجل تبرير تلك الاخطاء، لا من اجل الاعتراف بها.
   ما فائدة الاعتراف بالخطا متاخرا؟ ما فائدة ان يعترف المسؤول باخطائه بعد ان يترك الموقع؟ اوليس فلسفة الاعتراف بالخطا من قبل المسؤول وهو بعد في موقع المسؤولية، من اجل محاسبته؟ فما فائدة اعترافه بخطئه بعد مغادرته الموقع، عندما لا تنفع المحاسبة باثر رجعي؟.
   لماذا تعود الناس في البلاد المتحضرة على الاصغاء الى المسؤول وهو يتحدث عن اخطاء ارتكبها، مبديا كامل استعداده لتحمل المسؤولية من دون الهرب منها او تبريرها او تحميل الاخرين مسؤوليتها، معربا عن ايمانه ببذل كل جهد لازم من اجل تصحيح الخطا، فيما يحلم الناس في بلادنا ان يسمعوا يوما شرطيا يتحدث عن خطا ارتكبه؟.
   والادهى من ذلك والامر، هو اننا نضحك على المسؤول في البلاد المتحضرة، عندما نسمعه يتكلم عن اخطائه، فتتحول اعترافاته الى مادة اعلامية دسمة تتصدر نشرات الاخبار واغلفة المجلات وواجهات الصحف.
   في البلاد المتحضرة، اذا لم يعترف المسؤول باخطائه يفضحه الاعلام ويسقط في اعين الناس وتقل شعبيته، بانتظار ان يدفع الثمن غاليا في اول انتخابات جديدة، اما في بلادنا (المحتضرة) فاذا اعترف احد بخطا مسؤول يسحله الناس في الشوارع حيا، واذا قالت صحيفة ما للمسؤول ان على عينيك حاجبا، علقت جثته في ساحة عامة ليعتبر به زملاءه من الصحفيين والاعلاميين، حتى لا يجرؤ احد على تكرار جريمته، اذ كيف يجرؤ صحفيا على نقد المسؤول وهو ظل الله في الارض، وانه الحكومة، شاء المواطن ام ابى؟.
   يقال ان الناس تظاهروا في بلاد الملكة، فاطلت عليهم صاحبة الجلالة من شرفة قصرها تسال عن سبب غضب الناس واحتجاجهم، فقيل لها انهم لا يريدون الحكومة وهم يعترضون على ادائها بسبب كثرة اخطائها وتكرار فشلها في المشاريع والخطط، فقالت على الفور؛
   بدلوا الشعب اذا لم يكن راضيا على الحكومة.
   نعم، في بلادنا يستبدل الشعب اذا اعترض على الحكومة، اما في البلاد المتحضرة فتستبدل الحكومة اذا احتج عليها الشعب وضاق بها ذرعا، وكلنا يتذكر كيف كان نظام الطاغية الذليل صدام حسين يستبدل الشعب العراقي بالاعدامات والمقابر الجماعية والانفال وحلبجة والتهجير القسري، كلما طال لسانه على النظام.
   اتعرفون ما هو سبب هذا الفارق بين البلدان المتحضرة والمحتضرة؟ السبب يكمن في نوعية الثقافة، فبينما تحول الاعتراف بالخطا الى امر عادي في حياة شعوب البلدان المتحضرة، لا زال الاعتراف بالخطا عند شعوب البلاد المحتضرة يعد عيبا كبيرا ونقصا في شهامة المرء وانتقاصا من شخصيته.
   كما ان المسؤول في البلاد المتحضرة ليس اكثر من مؤتمن على موقع ومهام يتصدى لها، ولذلك عليه ان يعترف بخطئه ويرحل حال فشله، يعد المسؤول في البلاد المحتضرة سيد الامة والمتفضل عليها والمالك لناصيتها، اما الشعب فعبيد واما المال العام فارث يتوارثه الزعماء ابا عن جد، ولذلك يحاسب المسؤول عندهم ويجبر على الاعتراف باخطائه، ولا يحاسب المسؤول عندنا ولا يجرؤ احد على اجباره على الاعتراف بالخطا.
   من هنا كان من اللازم ان يتحول مبدا الاعتراف بالخطا الى ثقافة، والى امر عادي يمارسه المسؤول في كل الحالات وفي كل الظروف، وهو في موقع المسؤولية قبل ان يغادره، ربما الى القبر، لا ادري.
   اذا تحول الاعتراف بالخطأ الى ثقافة عند الناس وعادة ملازمة للمرء، فسيتحول الى رقيب ذاتي، كما انه سيكون رقيبا شعبيا عاما له، لان الاعتراف بالخطا بحاجة الى استعداد نفسي اولا.
   ان المتشبثين بالسلطة والمتهالكين عليها هم الذين لا يعترفون بالخطأ، ولذلك، فهم خطر على البلاد والعباد لا يجوز تركهم في مواقع السلطة، لانهم يجرون الناس الى الهلاك، وبسببهم تستفحل الاخطاء لتصل الى مرحلة لا يمكن عندها تصحيح المسار العام، بالضبط كما حصل مع الطاغية الذليل ونظامه الشمولي البائد.
   الناجحون يعتبرون الاعتراف بالخطأ فضيلة، اما الفاشلون المتهالكون على السلطة، فيعتبرونه رذيلة، وشتان بين الاثنين.
   ان الناجحين من المصلحين والزعماء الحقيقيين والقادة التاريخيين، يبدون استعدادا منقطع النظير للاعتراف باي خطا، لانهم مستعدون للتخلي عن السلطة متى ما فشلوا، لان هدفهم من السلطة ليس السطوة والاستئثار، وانما لخدمة الناس وحماية حياتهم ومنجزاتهم ومصالحهم، فماذا تنفع السلطة، في رايهم، اذا لم يكونوا سببا في النجاح وعاملا في تحقيق الاستقرار؟.
   ان الاعتراف بالخطأ دليل احترام عقول الناس وذاكرتهم، كما انه دليل على حرص المرء على الامانة التي يحملها (المسؤولية).
   لذلك نرى القرآن الكريم يزخر باعترافات العظماء، اما الطغاة والجبابرة فلا نقرا لهم الا الاعتزاز الوهمي بالنفس والخطا والاثم طوال حياتهم، وهو الامر ذاته الذي نقراه في حياة العظماء والطغاة على مر التاريخ والى يومنا هذا، ولذلك فان حياة العظماء تزخر بالنجاحات فيما لا تسجل صفحات الطغاة الا الشر والسوء والفشل والهزائم.
   ولهذا لا نسمع من انظمة وحكومات العالم المحتضر اي اعتراف بالخطا بالرغم من مرور نصف قرن او اكثر على وجود بعضها في السلطة، وقد سالت خلالها انهار من الدماء وازهقت ارواح الابرياء وانتهكت اعراض الناس ودمرت البلاد وتبدد المال العام وانتشر الفساد الاداري في كل مرافق الحياة العامة، وفشا المرض والتخلف والامية في اوساط الناس، وبعد كل ذلك يخرج علينا الزعيم في ذكرى الاستقال الموهوم او العيد الوطني الخداع من كل عام ليتحدث لنا عن التقدم والنجاح والانجازات.
   ومن اجل ان اكون منصفا، علي ان اذكر هنا باننا لا نسمع بالخطا الا اذا سقط النظام بانقلاب عسكري فقط، وان اعتراف الانقلابيين باخطاء السلف ليس من اجل سواد عيون الشعب او من اجل تصحيح المسيرة، ابدا، وانما من اجل تبرير سرقتهم المسلحة (الانقلاب العسكري) ليس الا.
   اما في اطار الاعتراف الثالث (الاعتراف بالفضل) فالمقصود به هو ان يستعد كل واحد منا للاعتراف بفضل من له الفضل في تحقيق النجاح، وهذا يتطلب ان نترفع عن الخلافات ونسمو بالنفس لتكون عندنا المصلحة العامة فوق كل المصالح الخاصة، وان الهدف هو النجاح وليس من يحقق هذا النجاح، اما اذا ركبتنا الانانية، فترانا نكيل بمكيالين، فاذا كنت انا من حقق النجاح فسافرض على الجميع ان يعترفوا بفضلي في ذلك، والا اتهمهم بالحسد والغيرة والخيانة في احيان كثيرة، والا لماذا لم يبرقوا لي مهنئين؟ اما اذا كان غيري هو من حقق هذا النجاح، فالفخر للظروف التي خدمته وليس له، ولذلك احاول ان اتجاهل دوره مهما كان عظيما.
   ان عدم الاعتراف بالفضل للاخرين، هو احد الاسباب المدمرة التي تمزق المجتمعات، لانه يدفع باتجاه التباغض والتحاسد والتصادم، ولذلك يتحول النجاح، في احيان كثيرة، الى سبب للفشل والهزيمة، وللتباعد والتباغض حتى بين اقرب الناس.
   اما الاعتراف بالفضل للاخرين، فهو السبب المباشر لتحقيق المحبة والتعاون والتكامل بين العاملين، وبالتالي فهو السبب الاساسي لتوطيد الثقة بين الراعي والرعية.
   ان الاعتراف بالفضل، خلق قرآني، من خلال ما نقرأه في العشرات من الايات الكريمة التي يعترف بها الله تعالى بالفضل، ولذلك يفضل رب العزة بعض الناس على بعض، بل انه عز وجل يفضل الانبياء بعضهم على بعض، لأنه يعترف لهم بالفضل، بغض النظر عن سبب هذا التفضيل.
   لنقرأ، مثلا، باقة الايات القرآنية الكريمة؛
   {وان تعفوا اقرب للتقوى، ولا تنسوا الفضل بينكم، ان الله بما تعملون بصير}{تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، منهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات}{ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض}{لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير اولي الضرر، والمجاهدون في سبيل الله باموالهم وانفسهم، فضل الله المجاهدين باموالهم وانفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين اجرا عظيما}{ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}{ولقد آتينا بني اسرائيل الكتاب والحكم والنبوة، ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين}.  
   من هنا علينا ان نتخلق بخلق القران الكريم، فاذا ابدع امرء بشئ علينا ان نعترف له بذلك، واذا تميز بدور علينا ان نعترف له كذلك.
   لنسع دائما الى احترام وتقدير امتيازات الاخرين، ليعترفوا بدورهم بالامتيازات التي قد اتميز بها عن الاخرين في يوم من الايام، فكما تحب ان يعترف لك الاخرون بالفضل، عليك اولا ان تبادلهم هذا الحب، لتلق منهم ما تحب.
   ان الاعتراف بالفضل للآخرين، يشجع على عمل الخير، وهو افضل الشكر الذي يقول عنه رسول الله (ص) {من لم يشكر المخلوق، لم يشكر الخالق} فالاعتراف بالفضل اول الشكر، اليس كذلك؟.


   5 شباط 2007
      

ليست هناك تعليقات: