١٠‏/٢‏/٢٠٠٧

قراءة فلسفية في مجموعة شعرية

بين النظام والفوضى كيف (تمرُّ العاصفة وتبقى الصحراء)..
قصائد ُتُذَكِّرُ بالأصالة في زمن الانبتات وتحملنا المسؤولية في زمن الهشاشة
_______________________________
بقلم الزاهي بلعيد *


 في الوقت الذي يُمَثِّلُ فيه كتاب "تَمُرُّ العاصفة وتبقى الصحراء" نقطة تحوّل هامة في التجربة الشعرية لدى "حكمت الحاج"، فإنه يؤكّد من جهة أخرى صمود الانتماء إلى تجربة شعرية لا تزال بصدد صناعة تاريخها. وإن كان سبق لحكمت الحاج أن أصدر من قبل مجموعات شعرية تندرج في إطار قصيدة النثر مثل " بغدادات" و "الكلام المستعاد" و "الوردة بدون لماذا.."، وكلها صدرت في بغداد، فإن المجموعة الأخيرة الصادرة بالمكسيك، عن منشورات "الحركة الشعرية"، التي يديرها الشاعر قيصر عفيف، تقوم حافزا على أن الإنسان المبدع للكلمات هو في ذات الوقت الإنسان الذي لا ينفكُّ يحتدُّ وعيُه بذاتِه، ولن يتسنى له ذلك إلا من حيث هو كائن اجتماعي، على حد قول الفيلسوف " نيتشه". وإن كنت من جهتي لا أستطيع الاحاطة بكل ما ورد في هذا الكتاب الشعري الذي يحتوي بدوره على أربع وعشرين قصيدة نثر، فانني أفضل الاشتغال على رصد حركة المفاهيم وتطورها واختلافها ورسم حدودها مما يضطرني إلى المقارنة بين الواقع المفاهيمي لدى شعراء التفعيلة وما يقابله من تغيير لدى شعراء قصيدة النثر. وما يهمني هنا ليس الانتصار لفريق دون آخر بقدر ما تستحوذ على فكرة البحث عن طبيعة تطور المفاهيم واختلافها وقدرتها على التأقلم مع الخارطة الشعرية الجديدة. بل لعلّ الأطروحة التي تدافع عنها هذه الورقة تتأسس على أن الانتقال من فضاء شعري إلى آخر يكمن في مراجعة المفاهيم الأساسية له. لأن مهمة إخراج القصائد من صمتها ومخاطبة أفقها التعبيري تكمن أساسا في رصد مفاهيمها، أي تلك الصور الذهنية التي يشير إليها لفظ ما أو حتّى حين يقصيها لأن المفاهيم تطغى على روح القصيدة إلى درجة أنه يصعب استبدالها بمرادف.
وتلتقي كلّ النصوص الشعرية في صناعة مفاهيمها بهذا الشكل. ومن هنا يبدأ الاختلاف، حيث يتشكل المفهوم ويكبر حتّى يتحول إلى قناعة تدافع عنها الجماعة. ولذلك لابد من الإشارة إلى أهمية المفاهيم من ناحية وقدرتها على صنع الاختلاف وفيما إذا كانت قادرة على رسم الخط الفاصل ما بين جيل وجيل أو مدرسة شعرية وأخرى، وان كان ذلك في بعض الأحيان إجرائيا فقط. فمثلا، يختلف مفهوم "الوطن" عند شعراء قصيدة التفعيلة عنه عند شعراء قصيدة النثر. فالوطن عند شعراء التفعيلة هو كتلة مادية تقوم على رسم حدوده الجغرافية تتبنى الماضي وتحافظ على نمط حياة وبالتالي تعمل الذات على تأكيد ذاتها، واثبات وجودها ومعرفة حقيقة إمكانياتها بمواجهة الآخر، فالأنا لا يدرك ذاته من خلال قنوات الاتصال بالعالم وإنما هو فعالية تتألف من نشاطات تحليلية، وانفعالية، فالعين التي ترى العالم واليد التي تكتب القصيدة يقومان على تناسق يفضي إلى "أنا" متمركزة في فكرة الأرض تؤسس للقومية في السياسة والنمطية في الشعر.
ولكن مع شعراء قصيدة النثر، تغير هذا المفهوم وأصبح يعني تمركز الذات في أبعادها الشمولية. فالعالم كله مكان واحد، لأن الحدود والكمارك وجوازات السفر والتأشيرة كلها رسوم وهمية، لأنهم يؤمنون أن قلوبهم حمالة لأوطانهم، يحملون أوطانهم إلى أمكنة غربتهم، فلا يعني الانتماء إلى الوطن البقاء في مدينةٍ ما بداخله، وإنما يكون الانتماء باستمرارية واستحضار همومه ومعاينتها والإقامة داخل أوجاعه، فكسروا بذلك مفهوم الوطن المركزي، والوطن الأرض وأقاموا "تصورا" جديدا يقوم على ما يلي: "حيثما تكون يقف الوطن أمامك شامخا"، يقول الشاعر "سركون بولص" أحد رموز الشعر العراقي الحديث: "نحن نعتبر العالم كله مكانا واحدا، وأن العراق مازال موجودا بالنسبة لنا، نحمله معنا ولا نفكر بالشكل الضيق بمعنى أن نبقى في مدينة ما من العراق لنكون منتمين إلى عراقيتنا". فمن "الوطن" ينبجس "المكان" لينكسر ويخرج هو الآخر عن أبعاده الفيزيائية فيختفي الطول والعرض والعمق ليصبح المكان صدمة للمهووسين بجمع خرائطه ورعبا كونيا تتقاطع فيه الأجناس وتصبح استعارة الأمكنة ممكنة بعد أن كانت عبر تاريخ المدونة الشعرية عارا ومذلة.
يقول "حكمت الحاج" مخاطبا الرسام العراقي "لطيف الخطيب"في قصيدة بعنوان "كنيسة القديسة تيريزا في السنك" ص30 من الكتاب:



"
هل صنعت لنا مكانا /
ننتظر فيه السيارات العابرة للحدود؟ /
قل لي يا خطيب /
من في بغداد يعبأ بك؟
من في بغداد يحمل نفسه ويذهب /
ليرى ظلالك تحت قبة "الحيدرخانه" /
أو عند باب مدرسة "التفيض"؟ /
بالنسبة لي /
كانت أوهامي دائما سدى /
فلما رأيتك /
صارت هباء..."



إلى أن يقول في نفس القصيدة ص 32:



"
وماذا جنيت؟ /
أغلقت المكان وحاولت /
ولكن يا خطيب قل لي: /
من في عَمَّان سيعبأ بك؟ /
من في عمَّان سيحمل نفسه ويذهب بها /
ليرى ظلالك في فناء كنيسة ميتة ؟/
أغلقت المكان وحاولت أن تنساه/
والموت؟/
الموت عرفت أنه لم يكن في المثلث والشاقول/
وعرفت أنه لم يكن في المسطرة والفرجال /
فماذا فعلت؟..."



إن هذا النوع من "الأمكنة" تحركه ثنائية "الملء / الفراغ" Le plein / le vide فيمتلأ المكان حيث لا يوجد بالفعل، ويفرغ المكان الذي نحن في حاجة إلى وجوده. إن مفهوم "المكان" يستعيد حقوقه الصوفية داخل صناعة تقتضيها تقنية القصيدة فيقيم حصنا من التجريد، بمقتضاه يؤثم "حكمت الحاج" المعقول، ويطارد المنقول ويتخلى عن المألوف، وهذه التجربة تؤكد مرة أخرى قيمة الإنسان وحقه في التفكير لا بالمعنى المؤسساتي للكلمة وإنما بمعناها الإبداعي التحرري. إن الإحساس بالحرية شكل أكيد من أشكال التعبير عن الذات ولعله أيضا شكل أكيد من أشكال افتكاك الاعتراف من الآخر.
ولحظة الحرية لا يحققها العقل بمعزل عن الشعر (الوجدان) لأن الشعر بما هو مغامرة تبعدنا عن أسر المعطى الحسي وسلبيات العقل العمومي، يقوم شاهدا على بناء مدينة أفلاطونية جديدة يخجل افلاطون هذه المرة من طرد الشعراء منها. من أجل هذا شَكَّل الشعر محطة من محطات ترقي الوعي الجدلي عند الشعوب مما لا يبرر مجانية الاستبداد على مملكة الشعر وتحويله إلى ثكنة للقمع. إن العمل الشعري كما يراه حكمت الحاج لا يتحقق في ذاته دلالة جاهزة ونهائية وإنما يقوم النص الشعري على قطبين أحدهما "تقني" وهو النص كما أبدعه المؤلف أي كبنية افتراضية وثانيهما "جمالي" وهو تلقي القارئ له أي كبنية متحققة، بمعنى أن بنية النص تحتاج إلى قارئ يحققها. فتكون القراءة هي النص الذي يرى من خلاله الشاعر جمالية القصيدة أي أن القارئ يحقق البنية وليس الضرورة أن ينتصر من خلالها فإذا كان انتصار المتلقي للقصيدة في نظام التفعيلة تستمد من روح الانتصار لدى الشعراء لدى معظم شعراء التفعيلة، فان عالم قصيدة النثر تفتح على صناعة أخرى، صناعة تعمل على خدش كرامة التفكير، وانتصار للسؤال أكثر من حضور الأجوبة مساحة تستجيب لصدمة الإنسان المعاصر، الإنسان الشيء/الرقم/ البضاعة الذي بدأ يتوقف عن إنتاج المرجعية الواحدة والايدولوجيا الواحدة، والذي بدأ يشرع للهشاشة واللامسؤولية، ويتأقلم لاستقبال الاستثناء، ويبرز الشذوذ لكل إشكالية. لم تعد قصيدة "لسان حال القبائل" بما هي قصيدة النظام والإيقاع والوزن ولم تعد قادرة على إحداث التطابق في وجدان الناس لأنه من غير الممكن أن تكون عوامل مثل النظام والإيقاع والأمل تشدّ المنطلقات النظرية للقصيدة وهي غائبة عن واقع الناس فيما يعج الكون بالفوضى.
إن الشعر بهذا المعنى لا يكون إلا "وعيا زائفا" بالمعنى الماركسي للكلمة. إن فضل قصيدة النثر- إن كان لها فضل - يكمن في محاولة الاستعاضة عن مفهوم الإنسان الأنموذج، إنسان الاكتمال والتمركز، بالإنسان الذي يعي تدريجيا الإقرار بهذا الوضع الإنساني الجديد صانع الاختلاف والمؤسس للمعنى الأكثر تعقيدا. هذا الإنسان الذي اثبت مرة أخرى أنه لن يكون خليفة الله على الأرض وفي نفس الوقت غير مطمئن إلى وضعه الأرضي. فشكل هذا التمزق (التشتت) رغبة لديه في الانتقام من ذاته في إطار ما تسمح به أجهزته وأدواته وتقنياته والانتقام من كلّ أشكال الوصاية الفجة. فتساوى عندهم، أي عند شعراء قصيدة النثر، الاهتمام باللغة كإفسادها واحترام التراث كإهماله، ويتساوى الوضوح بالغموض، والمجانية بالمعنى، والصلابة بالهشاشة والذكورة بالأنوثة، وبالتالي أصبح الإنسان يمارس وضعه الناقص دون الاختفاء وراء أقنعة اللاهوت.
يقول حكمت الحاج، في قصيدته الطويلة "الكلام المستعاد" المنشورة في مجلة الحياة الثقافية عدد شباط (فبراير) 1999 الخاص بقصيدة النثر، معبرا عن هذه الدهشة المستمرة، وهذا القلق الجوال، وهذا الوضع الإنساني الناقص:



"
دع الموتى يدفنون موتاهم
وأنزل لوحدك إلى اليابسة
حاملا دفاترك القصب..."



وأيضا، في نفس القصيدة يقول :



"
بلغة البحر أتكلّم
ومن آخر نقطة على اليابسة
كنت أرى الحشود تصيح
ألا فلتسقط الحياة..."



"
إن سقوط الحياة" لا يقف  عند حدود كونها ليست جديرة بأن تعاش، وإنما يتعداها لتقرير أهمية "العدم"، لا من جهة أن الأشياء تحمل بذور فنائها في ذاتها كما صنعتها "الفلسفة الهيجلية" وإنما من جهة رفض منطق الأهمية والدعوة المفتوحة إلى المجانية، والتخلي عن التلبس بجدية الحياة، لأن التجربة تسخر كلّ يوم من الصرامة والتعقيد وتلك التعقيدات التي تقتل معنى الحاضر في قصيدة تنتصر للإنسان على الطبيعة، ذات أفق مستقبلي، كما يذهب إلى ذلك الناقد "محمد الجزائري"
أليس من حقنا الانتصار لنصوص تعبر عن دهشتنا وقلقنا كاحتجاج مهذّب على قصائد تذكرنا بالأصالة في زمن الانبتات وتحمّلنا المسؤولية في زمن الهشاشة وتعلن عن رجولة بلا معنى وأنوثة مهزوزة وقيم فارغة؟
إن قصيدة النظام العروضي تعيد إنتاج الاستبداد.
ألا يستقيم المشهد الشعري العربي إلا في الاستبداد وبالاستبداد؟
إن منطق الجدل لا يسمح لقصيدة التفعيلة أن تستحوذ إلى التنكر لها بتعلة إنها تمثل الماضي "اللاشعري" لتاريخ الشعر، ولا يعني من جهة أخرى أن "قصيدة النثر" هي إعادة بناء لقصيدة التفعيلة، وإنما يعني إن مفهوم الإنسان بما هو مفهوم يتشكل في لحظته ولا يستقيم إلا انطلاقا من كونه إفرازا للوضع الذي يشرع لقصيدته هو، فتصبح علاقتنا بالقصيدة لا من جهة النظام والنمط وإنما من جهة قدرتها على تلمس مواطن الإنسانية المعاشة بقبحها وجمالها، بمعرفتها وجهلها، بثبوتيتها وعرضيتها. إن "قصيدة النثر" دعوة واضحة للتخلي عن "المعلن" و"اللارسمي" والانخراط في "بلاغة الحياة اليومية" أي كلّ ما يعطي الفرصة للشعر لكي يتكلم عن الممنوع والمسكوت عنه فيكفّ الشعر عن أن يكون بوق دعاية للسائد بل ويخوض في تجربة انطولوجية قائمة بذاتها، لا تستقيم إلا من الداخل، أي بممارسة كتابة الشعر نفسه. وهذا ما ذهب إليه حكمت الحاج في إحدى قصائده في "الكلام المستعاد":



"
تلبسين قميصك تحت الجسد
وكل امرئ يلبس قميصه فوق الجسد
إلاّ أنت،
تظلين تلبسين
جسدك فوق القميص..."



إن التأمل في هذا المقطع، لا يتطابق مع ما ذهب إليه المناطقة من أن صحة الحجة المنطقية تستوفي إذا كانت نتيجتها لازمة بالضرورة عن المقدمات وكانت هذه المقدمات صحيحة كأن يقول:



كلّ إنسان يلبس قميصه فوق الجسد ............ مقدمة أولى
أنت إنسان .............. مقدّمة ثانية
إذن تلبسين القميص فوق الجسد ......... النتيجة
 
إن مفهوم الشعر كما تجمع القواميس عليه هو "فن نظم الأبيات وفق قوانين الوزن والعروض" في حين تعمل هذه القصيدة - بما هي قصيدة نثر - على نسف هذا المفهوم وإقصائه. فهي تنطوي على مبدأ فوضوي وهدام إذ نشأت من التمرّد على قوانين الوزن والعروض أحيانا وعلى القوانين العادية للغة. ولعل هذا المعنى هو المقصود في هذا النص لحكمت الحاج والذي يزداد ترسخا وشرعية عندما نقرأه في حوار بين "غوته" و"أيكرمان"، حيث يقول الأوّل : "كلما كان الشعر غير قابل للقياس والتحديد المنطقي وغير قابل للإدراك العقلي كلما كان أفضل وأعمق مستوى وصناعة". في حين يقول "بول فاليري": "خطران يواصلان تهديد العالم، النظام والفوضى..".
ولقد تجسم ذلك في كلّ مجالات الثقافة.
إن العلاقة بين هذا الشعر وذاك الشعر ليست علاقة استبدال مشروع بمشروع.  إن ما نغنمه من قولة "فاليري" هو التقارب بين "النظام" و"الفوضى"، لا من جهة الخطر الذي يهدد العالم، وإنما من جهة أن النظام لا يلغي الفوضى كما إن النجاح لا يلغي الفشل، والانتصار لا يلغي الهزيمة. وإنما يصح للمنطق وللواقع أن يتعايشا معا فتقوم هذه المفاهيم على مساحة واحدة تأكيدا لأهمية الصراع.
إن الظاهرة المميزة للشعر عبر تاريخه هي أنه لا يكاد يخرج من "أزمة" حتّى يقع في "أزمة" أخرى. وأزمة الشعر العربي اليوم لا يجب أن تؤخذ مأخذ الفاجعة وتكون مصدرا للحيرة وانسداد الأفق بقدر ما يجب أن تؤخذ كفاتحة لعهد جديد يبشر بميلاد نص جديد و"إنسان" جديد يثور على ذاته حتّى "تمر العاصفة ويبقى الإنسان" هذا الإنسان الذي لا يختلف عن "الصحراء: في أفقه وصفاته، ولا يختلف عنها في تعقيدها وغموضها.
___________________________________
*
كاتب من تونس

ليست هناك تعليقات: