١٤‏/٣‏/٢٠٠٦

دراسة نقدية عن تجربة موسى حوامدة الشعرية

قصائد تجر بضحكها الواقع من قميصه الهزلي
خالد زغريت *
مازالت الحداثة الشعرية العربية تتغذى وتتقوى على جمالية بناء الإشكال الفني أو الفكري في القصيدة، وتلك سمة ضرورية للتحديث في تأكيد قدرته المستمرة على تخطي المنجز واكتشاف ربيعه، وفي ديوانه (أسفار موسى العهد الأخير) المصبوغ بالأشكال، يسعى الشاعر موسى حوامدة لتأسيس عبور شعري حداثي، رغم وهن الحداثة من اصطدامها بجدار طروحاتها، فكثيرا ما ارتطمت بما كانت تراه هواء للتحليق جدارا صما، نتيجة إسرافها في تعاليها على الواقع بجنوحها إلى ذهنية مثالية سوريالية، لقد راهن موسى حوامدة في تجربته الشعرية الجديدة على بناء ومضة شعرية تكون ضفافا مفتوحة لغناء صدمة الروح التي تعرج بقدم مدماة على شوك خريطة وطن لايأتي، فيسري نحو خصوبة القهر في محيطه ينكأ ذاكرتها الأسطورية مستثمرا لذة عبق عراقة طقوسها البكائية عندما تلوح له غبارا ذهبياً، تدفعه حرارة حلمه نحو التراث كونه الشكل الأخير الضارب جذره في أتربة الهوية الذي يتألق عبر إعادة التشكيل وفق أفق التحديث المرغوب في التجربة الشعرية المعاصرة:
(النوافذ؛
اخترعها أحد الخلفاء ‏
ليتجسس على جواريه ‏
لكن الفقراء ‏
ظنوا أنها ‏
من ضرورات البناء) ‏
يتجلى استلهام موسى حوامدة للتراث الفكري الديني على بناء انحراف النسق عن مجاري نص الخطابية السالفة وإفراغها من طاقتها الدلالية قصد شحنها وتعبئتها بطاقة جديدة مفارقة وممايزة بما في ذلك البدهيات الكونية قصد بناء كوميديا سوداء تجرّ الواقع من قميصه الهزلي فتحوز هذه الآلية على حالات شعرية متحدثة تكون عوضا عن البلاغة القديمة من حيث الأسلوب فلم تعد البلاغة لديه مجرد صورة فنية وجمالية للغة لأن الشاعر في قصيدته المعاصرة يعيد تشكيلها الجمالي الخاص وبالتالي ينقلب على تركة نصها القدسية لتكون صورة يومية من بنات العصر عابقة بنصاعة روحية تحكي يوميات كائنها المصعلك. ‏
) هبيني أكلت التفاحة ‏
وأوهمت زوجك بالإيمان ‏
هل سيغضب السلطان ‏
ويأمر بقطع جميع أشجار التفاح ‏
أم سيأخذك مني ‏
لأظل وزوجك صنوي خسارة) ‏
إذاً الشعرية الجديدة في كتابة حوامدة تقوم على بناء معادل موضوعي جديد للمأثور الفكري والروحي، تعيد فيه البعد التاريخي والروح الجديدة وفق منظوماتها الفكرية الحديثة واللغة بوصفها إناء مخيلة كائناتها وصورهم الحضارية والإشكالية. ‏
)أدباً ‏
يهرول... بانتظام ‏
أم رهباً ‏
من جنود سليمان يصور لي النظام ‏
لكنه يزين لي الفوضى ‏
وظيفة رصينة ‏
لأجل حياة تحت الأقدام ‏
أستطيع أن أقتل كل يوم ‏
ألف نملة ‏
يستطيع كيميائي أن يبيد ‏
مليون نملة ‏
ولكن ‏
من يعبأ بهذه التفاهات؟) ‏
هكذا يستحلم موسى حوامدة المأثور ويستأرخها شعرياً، شاحناً فيه إشراقة قهره الجياشة فتنجز نبوءتها المعرفية في الفن الشعري الجديد، الذي يوقفه على محيط انتمائه الوجودي وقضاياه الانسانية الذاتية والموضوعية المحايثة شعرياً لآنية الفعل الجمالي الذي لايفتعل انفصاما بنيوياً في حدثه الصانع جسداً يحتكم إلى عضوية جدلية في حدّيه/ الصورة والمادة مما ينتهك المعنى القطبي (للجمال والمنفعة) وتوفر الشاعر في نتاجه الشعري على هذه الميزة المتقدمة في هدم النظرة التقليدية التي تقوم على تبديد حيوية الفعل بتشريحه كمن يشرح الوردة إلى لون وعطر ، دفعه الى أفق تراجيدي كوميدي مركب توجهه مسالكه الشعرية التي تجاور آنها وكأنها تكتفي بأن تكون صورته وحسب مما يجعل زمن الشعرية مخلوقا أي أنه منته (ميت) وتمويت الزمن... هنا ينشأ من البناء العلائقي للشعرية مع خاصة الذات والمكان القائم بزمن غائب وآخر مقموع مقصور على الحلم مما يولد وميض السخرية الواخزة الموجعة: ‏
(لم أحضر عرس أبي ‏
ولذا ‏
تركت المهزلة ‏
تبدأ فصلها ‏ الأول،
في 25شباط
جئت إلى الدنيا ‏
فوجدت ذنوبي ‏
قبلي) ‏
تفور أسفار موسى حوامدة بهمّ رؤية الذات شعريا في ضوء حالات قلق الشاعر العربي المعاصر ورغباته اللاهبة في اجتراح فضاء شعري عابر لنكوصه في عتمات القهر والهزائم المتشابة والتنمذج بالنمط الخامل انسانيا ولايملك الشاعر إزاء هذه العلة الوجودية المهيمنة على واقع الانسان إلا أن يفيض مزيج قلق الإبداع والذات لغة تناضل بكل اتجاه لتتصل بصياغة تضيء جانباً من صورتها الممعنة في التجسد على الورق، على شكل كاريكاتور ممسوخ مبك مضحك: ‏
(عندما وزعت العقول ‏
اختار أبي النزق ‏
وعندما قسمت الأرزاق ‏
اختار النزر ‏
وعندما جاء الرضا ‏
أشاح بوجهه ‏
وخلفني) ‏
هكذا يصير الأفق الشعري عنده مطية للتهكم الذي يرسم خريطة أسئلته القلقة، تبني تجليات التحام ذاته بحساسية العصر ومفارقاته مما يضاعف جهد الشاعر في تأسيس كتابة تستوي سياق هذا القلق الذي يستبد بروح لم تنسجم تماماً مع قوالب الحضارة التي هزمت قضيته، إذ كانت الحضارة هازمة لقضيته منحازة لضده وبانية له، هكذا تنفجر الذات في جهات وهجها الحر فتحل في انفجار اللغة وانزياحها عن صورته الانسانية وكأن اللغة الشعرية في صورتها المنجزة عدوة الشاعر وقاهرته، فيسري في إيغال مبهم عبر دهاليز النفس وايماضات اسئلتها الغامضة التي تحل محل الغناء الساخن: ‏
(لو كانت الروح امرأة ‏
لقلنا خائنة ‏
لو كانت رجلاً ‏
لقلنا خسيساً ‏
لكنها تنسلُّ ‏
مثل لص خفي ‏
لايترك آثاراً ‏
... ‏
لو كانت لصاً ‏
لأمسكته الشرطة ‏
لو كانت شبحاً ‏
لكشفته الوطاويط ‏
لو كانت خيالاً ‏
لصاحبنا ‏
لكنها أسئلة ‏
ترفض الوقوف على أبواب العرافين) ‏
يتكون الإشراق الشعري في مخاض أزمة الروح المتقدة ليخرج عن كونه ليس اجتراح قناع وجداني لعبور غابة الظلامية وضباب الزمن المحدد لمدى الشاعر إنه تلبس الإحساس البديل المضاد، حراسة لكينونة الوجود المؤقت، لاريب أن للحلم المحسوس والمحدس بالنسبة للشاعر قدراته الفذّة على ابتكار معان أخرى للحياة تستوطن السؤال بلا خيام ولاسلاطين إلا سقف المخيلة العالية جداً جداً حتى تبلغ السمو في وطن الشعر الذي تبقى للاجئ: ‏
(ولدت من بطن غيمة ‏
هبطت الى الأرض خفيفاً ‏
كأني لاأبصر ‏
الريح تصفعني ‏
الشمس تنزعني ‏
الوديان تجذبني ‏
تثاقلت كي لاأطير ‏
تساميت كي لاأذوب ‏
تماسكت كي لاأسقط ‏
الرعد أنكر أبوتي ‏
السماوات تخلّت عني ‏
الأرض عدوتي ‏
كيف إذاً.. كيف أعود الى رحم غيمتي) ‏
تثير أسئلة موسى حوامدة وجعها في اللغة نور الاستكشاف المعرفي فتمنح نصها دفئه الخاص وإشراقاته الشعرية في حوار شفاف مع أسئلة الذات الوجدانية وتجليها في النص دون أن تحذر الاختلاطات مع ما هو منجز على مستوى الخطاب الشعري كون الشعر لدى حوامدة أمومة الغريب الذي يتزمل قميصه في عرائه الوجودي فيشارك الوجود والطبيعة والزمان والمكان لغاتهم في النص، يتبادل معهم قمصان الرؤية وجلد الوجع وروح الحب فقط على خارطة الأنثى التي تأتيه في صورة وطن نام ياسمينه في سر الريح المأجورة، فشرخ الشاعر بين الأمل والألم ضحكة عريضة جداً ومرة جداً ترسم كاريكاتور عالمه المغبون: ‏
(وكي أبكي على ‏
بطنها بحريتي ‏
وأدفع لها الأجرة ‏
فأنا منذ طردت من وطني ‏
صرت أدفع للهواء ‏
وللماء ‏
وللأشقاء ‏
أجرتهم) ‏
تتأسس الصورة الشعرية عند موسى حوامدة على بؤرة إبداعية هي ضفاف لذة الأم التي تأخذ مجالها الحيوي في بناء جمالية الشعر وذلك من خلال منهجه الشعري في البناء والتجلي، هذا المنهج الذي يخترق نفسه كونه متحولاً متجدداً ومستمراً فالصورة الشعرية هي وميض جمالي مثير مبني من داخله على تشكيل درامي للصورة الشعرية التي تهيمن على ما سواها في البنية الشعرية، يخيل لقارئ (أسفار موسى) بوحي عنوانه أن هناك مرجعية ماضوية ذاتية أو موضوعية تؤطر الصورة إلا أن هذا العنوان ليس إلا مفتاحاً بهيجاً لماهية الشغل الشعري الصوري في الديوان، يعني فيما يعنيه الارتباط العضوي الانتمائي لرؤية الشاعر التي تتجلى بأبعادها المعرفية مرجعية خاصة للتكوين الشعري: ‏
(البحر الميت ‏
دموع مريم ‏
ضحايا يوشع ‏
عرق راحيل ‏
ومحاح العابرين ‏
البحر الميت ‏
لم يمت مقتولاً بالسم ‏
تلقى طعنة نجلاء ‏
في خاصرته الشرقية ‏
فهوى مقتولاً ‏
في غور الأردن) ‏
تتجلى الصورة في قصيدة موسى حوامدة جسداً جمالياً تنبضه روح الذاكرة التي تعني ثالثواً زمنياً (الماضي ـ الحاضر ـ المستقبل) أي الذاكرة هي مخزن الرؤية التخيلية التي تتردد بين الحلم والذاكرة والواقع إلا أن منهج وجودها هو الذاكرة أي الذات الفنية والمعرفية والرؤيوية للشاعر وفق ارتباطات ثقافية واعية تحرر الهوية الإبداعية لفضائها الحياتي بالمعنى الشمولي، وهكذا تتشكل قصيدة حوامدة بالتئام ذاتي وفني عبر لوحة شعرية درامية، تداخل الحكائية بالشعرية التشكيلية، متجلية بظلال اللون والمقابلة المعنوية والتفاصيل المحيطة بالعوالم النفسية والمناخية للوحة لتؤلفها في شعرية ناصعة، تصدر عن شاعر معجون بالمأساة والحلم، تتخامر فيه هذه الدراما لتتجلى بالنهاية من صدأ المأساة ويبقى الحلم وتبقى معالم وجه شاعر مرت دموعه من هنا.
*‏ناقد سوري



ليست هناك تعليقات: