٢٤‏/٤‏/٢٠٠٦

الخاكية





الخاكية لعباس خضر: المسكوت عنه في الثقافة العراقية والعربية

2006/02/28

m14














سلوي البياتي
منذ سنين لم يقع في يدي كتاب بهذا الحجم من الصدق. إنه كتاب الخاكية، من أوراق الجريمة العراقية في العراق لعباس خضر الصادر مؤخرا عن دار الجمل. وربما يذكرنا بكتاب ثقافة العنف في العراق لسلام عبود الذي صدر أيضا قبل سنوات من نفس الدار، وإن اختلف الأسلوب وطريقة البحث في الكتاب الجديد. فبينما يحاول سلام عبود أن يحلل ثقافة العنف مع استشهادات من هنا وهناك، يضعنا عباس خضر في وسط المعمعة وهو يكتب كتابة بطريقة أقرب للتحقيق الصحافي يسرقه التحليل حيناً ولكنه يبقي يضعنا بالاستشهاد تلو الآخر حتي يظن المرء أن هذا الكتاب توثيقي كما صرح الكاتب نفسه وهو يقول في مقدمته إنه أقرب للتوثيقي منه للتحليلي .
لكنه خطاب أخلاقي مهم يفتح الأسئلة علي كل ما يتعلق بدور الثقافة في الحياة. إن الكتاب قراءة صادقة في عالم مشوه. يتناول فيه الشاعر نصوصاً شعرية عراقية وعربية وقفت خلف سلطة البعض وصدام حسين في العراق وحجم البارود الذي شحنت فيه القوافي يومها ماراً علي الحاضر ومتتبعاً بعض فصول المأساة التي تتكرر حالياً في عراق الاحتلال الامريكي، حيث عاد البعض إلي ذات الطريقة السابقة في العمل الكتابي وهو مدح من يملك السلطة من أمريكا إلي أحزاب وعلي أساس من يملك السلطة يحدد ما يُكتب. كتاب الخاكية هو من الكتابة الجديدة للأجيال الجديدة التي وجدت نفسها في وسط كوارث كثيرة من السياسية إلي الثقافة ربما هذا هو سر هذه الأجيال الجديدة في العراق والعالم العربي. إنها أجيال غير خائفة، أجيال مشاكسة بشكل يدعو للدهشة.
لا يعرف المرء كيف يبدأ مع هذا الكتاب. فهو عن زمن قاس حقاً. إنه زمن الثمانينات ومرورا عابرا بالتسعينات في العراق. يحاول فيه الكاتب أن يعرض دور المثقف العراقي والعربي في مشاركته السياسية في الخراب عبر النص الشعري الذي كتبوه. مهمة صعبة ووعرة الدروب ونصوص غريبة وعجيبة تسمي شعراً وهي من الوقع الصاروخي في أغلبها. أدباء لا يخطر علي عقل بشر أنهم بهذه القباحة الانسانية والشعرية. وبعضهم كما جاء في الباب الثالث شهادات الزمن الخاكي يوقعون بيانات في مهرجانات المربد يضعون أنفسم خلف هذه السلطة وما جذرت من خراب ومنهم ألف شاعر وكاتب عربي وعراقي، من يقرأ أسماء بعضهم لا يصدق أن هؤلاء هم أنفسهم الذين يكتبون عن الحب والسلام! قد يؤخذ علي الكاتب سيطرة العاطفة علي بعض الصفحات والآراء ولكن في العموم نستطيع القول إن الكتاب يعتبر من ناحية تاريخية صخرة بداية مهمة للأجيال الجديدة في مساءلة الماضي والحاضر الثقافي دون اعتبارات لاسماء أو مجاملات انهكت الثقافة العراقية والعربية منذ عقود. كلما أتصفح هذا الكتاب أتساءل كيف استطاع هذا الكاتب أن يقرأ هذه النصوص الدموية ويوثق بعضها دون الشعور بالتقيؤ. فكل شيء يبدأ من الصفر في زمن الخراب الصدامي، يبدأه عبد الرزاق عبد الواحد بالضوء الأول، ضوء العسكر:
نتبعكم لحزّ الرأس
نحمل ضوءكم ونسير .
ويمر من الطفل إلي الشيخ. فالطفل يصنع له من الرصاص قلائد ودمي يلعب بها كما يكتب كمال العجيلي:
أحمل الرصاص في حقيبتي
حتي أعود
أحمل الأيام
في حقيبتي
أصوغ منه لابنتي قلادة
لابني وساما. دمية
لكل طفل سوف يأتي
أجمع الرصاص .
وبهذا تكون الحياة كما يغرد لها في ليل القناصين عدنان الصائغ:
سأعلمهم. أن القناصة. لا تقبل حلا
إن القناصة. لا يسكتها الحالوب
ويختمه سامي مهدي بالغاء كل شيء:
لا وقت يا قمر
لا وقت للحوار
لا وقت للتأمل
فالخنزير في الدغل
والكمأة في الكمائن
والساعة أزفت .
وتوسس له سعاد الصباح قائلة:
الشاعر الذي نريد، عليه أن يكون كالجندي في جبهات القتال. وكذلك القصائد إذا غابت عنها رائحة البارود والدم فهي عفنة، وكذلك فإن الشاعر المساوم هو جندي هارب من الجبهة وعلينا أن نلاحقه ونحرق كل قصائده .
والنتيجة هي ما كتبه شاعر مصري يدعي مختار النادي يخاطب فيه صدام حسين قائلاً:
إقطع رقاب خوارج المنفي
وأرجعهم لسادتهم بأكياس البريد .
أهمية مثل هذه الكتب التي تتوخي الجرأة في نقد الماضي الثقافي والمسكوت عنه في الثقافة العربية طولا بعرض، هي في الدرجة الأولي تؤسس لأخلاق قادمة، فهي تحدد للكتاب العرب الذين قضوا أعمارهم في مدح السلطة أن الزمن قابل للتغير وأن الأجيال الجديدة ستبحث في أوراق الماضي وتضعكم في قفص الاتهام أيضا. وهنا هي الأهمية، انها تؤسس ضميرا أخلاقيا للكاتب بأن هنالك من يقرأ ولا تترك فرط الحماسة مجرد حماس مضي في غفلة من القارئ. وكتاب الخاكية من هذا النوع، فالكاتب يعرض النص تلو الآخر دون الوغول كثيرا في التحليل وكأنه يريد أن يضعنا في وسط المشكلة بأن يترك النصوص تتحدث. قد نختلف مع آراء الكاتب في أسباب هذه الظاهرة ظاهرة أتباع المثقف لخطاب السلطة لكننا لن نختلف معه بأن هذه الظاهرة لا بد أن تصل إلي نهايتها.
صحافية من العراق

ليست هناك تعليقات: