٨‏/١٠‏/٢٠٠٦

صباغ أحذية الغزاة / قصيدة الشاعر العراقي العظيم بدر شاكر السياب

بدر شاكر السياب


أنا ما تشاء : أنا الحقيرْ
صبّاغ أحذية الغزاة ، وبائع الدم  والضمير
للظالمين . أنا الغراب
يقتات من جثث الفراخ . أنا الدمار ، أنا الخراب !
شفة البغي أعف من قلبي ، وأجنحة الذباب
أنقى وأدفأ من يديّ . كما تشاء .. أنا الحقير !
 
لكنَّ لي من مقلتيّ ـ إذا تتبَّعتا خطاك
 
وتقرّتا قسمات وجهك وارتعاشك ـ إبرتينِ
ستنسجان لك الشراكْ
وحواشي الكفن الملطخ بالدماء ، وجمرتينِ
تروّعان رؤاك إن لم تحرقاك !
وتحول دونهما ودونك بين كفيّ الجريدة
فتند آهتك المديدة
وتقول : أصبح لا يراني .. بيد أن دمي يراك
إني أحسّك في الهواء وفي عيون القارئين .
لِمَ يقرؤون وينظرون إليّ حيناً بعد حين
كالشامتين ؟
سيعلمون من الذي هو في ضلال
ولأيّنا صدأ القيود .. لأيّنا صدأ القيود ..
لأيّنا ..
نهض الحقير
وسأقتفيه فما يفرّ ، سأقتفيه إلى السعير .
أنا ما تشاء : أنا اللئيم ، أنا الغبيّ ، أنا الحقود
أنا حامل الأغلال في نفسي ، أقيّد من أشاء
بمثلهنّ من الحديد ، وأستبيح من الخدود
ومن الجباه أعزَّهنّ ، أنا المصير ، أنا القضاء .
الحقد كالتنور فيّ : إذا تلهّب بالوقود
ـ الحبر والقرطاس ـ   أطفأ في وجوه الأمّهات
تنورهنّ ، وأوقف الدم عن  ثديّ المرضعات .
في  البدء  كان  يطيف  بي  شبحٌ  يقال  له : الضمير
أنا منه مثل اللص يسمع وقع أقدام الخفير .
شبحٌ تنفس ثمّ مات
واللص عاد هو الخفير .
في البدء لم أكُ في الصراع سوى أجير
كالبائعات حليبهنّ ، كما تؤجّر ـ  للبكاء
ولندب موتى غير موتاهنّ ـ في الهند النساء .
قد أمعن الباكي على مضضٍ ، فعاد هو البكاء !
الخوف والدم والصغّار ، فأي شيء أرتجيه ؟
فعلى يديّ دمٌ وفي أذنيّ وهوهة الدماء
وبمقلتيّ دمٌ ، وللدّم في فمي طعمٌ كريه !
أثقل ضميرك بالآثام فلا يحاسبك الضمير
وانسَ الجريمة بالجريمة والضحية بالضحايا .
لا تمسح الدم عن يديك فلا تراه وتستطير
لفرط رعبك أو لفرط أساك .. واحتضن الخطايا
بأشدّ ما وسع احتضانٌ تنجُ من وخز الخطايا .
قوتي وقوتُ بنيّ لحمٌ آدمي أو عظام
فليحقدنّ علي كالحمم المستعرة ، الأنام
كي لا يكونوا إخوةً لي آنذاك ، ولا أكون
وريث قابيل اللعين سيسألون .
عن القتيل فلا  أقول :
" أأنا الموكل ويلكم بأخي ؟ "  فإن المخبرين
بالآخرين موكلون !
سحقاً لهذا الكون أجمع وليحل به الدمار!
مالي وما للناس ؟  لست أباً لكل الجائعين
وأريد أن أروي وأشبع من طوىً كالآخرين
فلينزلوا بي ما استطاعوا من سباب واحتقار
لي حفنة القمح التي بيدي ودانية السنين
ـ  خمسٌ وأكثر .. أو قلَّ  ـ  هي الربيع من الحياة
فليحلموا هم بالغد الموهوم يبعث في الفلاة
روحَ النماء ، وبالبيادر وانتصار الكادحين
فليحلموا إن كانت الأحلام تشبع من يجوع
إني سأحيا لا رجاء ولا اشتياق ولا نزوع
لا شيء غير الرعب والقلق الممض على المصير
ساء المصير !
رباه إن الموت أهون من ترقُبه المرير
ساء المصير :
لِمَ كنت أحقر ما يكون عليه إنسانٌ حقير ؟
 

ليست هناك تعليقات: