٢٤‏/٩‏/٢٠٠٥

لماذا نقرأ الروايات البوليسية؟

الشغف بالرواية البوليسية

*بيار لوباب
Pierre LEPAPE

تدلّ كافة الاستطلاعات على تراجع المطالعة، وخصوصاً مطالعة الكتب الأدبية، حيث تنافسها ألعاب التسلية الالكترونية الجديدة، وذلك منذ 20 عاماً في البلدان الغربية الكبرى. باستثناء واحد: مبيعات الروايات البوليسية ما تزال على ارتفاع ثابت. لماذا؟

قبل أكثر من عشرين عاماً، أطلق "المجلس الوطني للفنون" أو الوكالة الفيديرالية الاميركية للثقافة، تحقيقاً واسعاً حول الممارسات الثقافية في الولايات المتحدة. وقد طُرحت الأسئلة على أكثر من 17 الف شخص على دفعات في الأعوام 1982، 1985، 1992 و2002، وقد تجمّعت الأجوبة لدى مكتب الاحصاء الفيديرالي. تمّ نشر جزء من هذا الاستطلاع في كتاب كبير حمل عنواناً مثيراً للقلق: "المطالعة المهدّدة: دراسة حول المطالعة الأدبية في الولايات المتحدة" [1].

وجاءت النتيجة الأكثر اثارة للانتباه التراجع المُتسارع، خلال عشرين عاماً، لقراءة الأدب: الروايات والقصص القصيرة والشعر والمسرح. ففي العام 1982، كان 56،9 في المئة من الأميركيين، ما فوق سنّ الـ18 الذين طُرح عليهم السؤال، قرأوا على الأقلّ كتاباً أدبياً واحداً في العام السابق. وفي 1992، كانت النسبة ما تزال في حدود 54 في المئة. في الـ2002، هبطت الى 46،7 في المئة، وتسارع تراجع عدد القرّاء فجأة خلال السنوات الاخيرة ليتدنّى بنسبة 13،5 في المئة بين 1992 و2002.

والأكثر اثارة للقلق ازدياد تراجع النسبة لدى الفئات الشابّة، حيث انحسرت بمعدّل 21،9 في المئة لدى الذين تتراوح أعمارهم بين 35 و44، وبمعدّل 23،2 لدى الـ 25 ـ 34، و28،4 في المئة عند من هم بين الـ18 والـ24. وعلى هذا المنوال، يبقى أميركيّ واحد من أصل ثلاثة ليُطالع كتاب أدب واحداً في نهاية العقد. ولدى الرجال الأميركيين من مختلف الاصول، هبطت نسبة الاطّلاع على الكتب الادبية الى ما دون الـ 35 في المئة.

"إنّ تسارع تدنّي القراءة الأدبية، لدى مُجمل الجماعات الديموغرافية من البالغين الأميركيين، يُنبئ بأزمة ثقافية وشيكة". هذا ما يقوله كاتبو التقرير الذي لا يبدو أنه لقيَ صدى إعلامياً واسعاً، حتى في الصحافة المكتوبة المهدّدة بدورها بتراجع القراءة... مع الحرص على الحذر في استكشاف أسباب الانكفاء السريع عن المطالعة، يُشير أصحاب التقرير من جهة الى زيادة كبيرة للنفقات العائلية في مجالات التجهيز السمعيّ البصريّ والوسائط الالكترونية. ومن جهة أخرى، تسجّل عملية اعادة تمركز للنشاطات الترفيهية حول المنزل، والممارسات الفردية على حساب المشاركات الجماعية كالتطوّع والأندية وزيارة المتاحف والمباريات والمسرحيات والكورس الغنائيّ الخ... فتراجع الاقبال على الرواية قد يترافق مع حذر متزايد إزاء العالم الخارجي الذي تبرز تعقيداته من خلال أعمال الخيال الأدبي.

يرجع آخر تحقيق فرنسيّ حول العادات الثقافية الى العام 1997، وتُظهر الاحصائيات السنوية التي تصدرها النقابة الوطنية للناشرين وقاعدة المعلومات "ألكتر بيبليو"، التوجّهات الرئيسية للناشرين في غياب المعلومات حول القراءة والقرّاء. فيلاحظ فيها أنه في هذا الانتاج المزدهر، ما يزال عدد العناوين الأدبية يمثّل في المعدّلات السنوية ثلث المنشورات.

في العام 2004، سُجّل 18 الف اصدار جديد، بما فيه اعادة الاصدار في منشورات الجيب، أي بزيادة 2200 عنوان عن العام السابق. تحت عنوان "الأدب" ـ والذي يتضمّن أيضا الشرائط المصوّرة وكتب الشباب ـ تمثّل الرواية كنوع أدبيّ 6660 عنواناً. حتى ولو سُجّلت شكاوى من أصحاب المكتبات حول تضخّم الاصدارات، والذي يُخفي تراجعاً في معدّل التوزيع لكلّ عنوان على حدة، فإنّ الأدب الروائيّ ما زال يمثّل أحد نقاط القوّة في مجال النشر.

داخل باب "الأدب" نفسه، تتّخذ الرواية البوليسية أهمّية مُتزايدة مُلفتة للإنتباه. ففي 2003، أُحصي اصدار 1800 عنوان بوليسي وبيع 18 مليون كتاب [2]. حتى الستّينات، كانت الروايات البوليسية مُصنَّفة مع "الأدب الشعبي"، وكانت تُوزَّع بشكل أساسيّ في المطارات ومحطّات القطار. لم يبقَ من إصدارات تلك الحقبة إلاّ روايات جيرار دو فيليه التي تمزج الأحداث الدولية (الشبكات الارهابية) مع المشاهد السادية واللقطات الايروتيكية.

واليوم، بات لكبريات دور النشر الأدبية سلاسلها البوليسية، بعد أن أقدمت منشورات "غاليمار" على اصدار سلسلتها "السوداء" الذائعة الصيت، ويحتلّ كتاب الروايات البوليسية المراكز الأولى في أفضل المبيعات لدى هؤلاء الناشرين. ماري هيغنز كلارك، باتريسيا كورنويل، فريد فارغاس، جان كريستوف غرانجه، هينينغ مانكل ومايكل كونللي ما عادوا يكتفون ببيع عشرات الآلاف او مئات الآلاف من النسخ. فالبعض منهم، مثل مانويل فاسكيس مونتولبان في اسبانيا، يُعتَبرون روائيين أدبيين كاملي الصفات، وهم يختارون حبكة بوليسية لبناء عالمهم الروائي.

وكان هذا التحوّل في التصنيف الاجتماعي والجمالي للرواية البوليسية وجدَ لحظته الرمزية مع دخول مؤلّفات جورج سيمنون الى سلسة "لا بلياد" الشهيرة، الى جانب تحف الادب العالمي الكلاسيكي. فمؤلفات سيمنون المقروؤة من ملايين الناس، والمنقولة الى عدد كبير من اللغات ومصدر الوحي الذي لا ينضب للاعمال التلفزيونية والسينمائية، كانت افضل جسر يربط بين الأصول الشعبية لانتاج الرواية البوليسية واستهلاكها وبين البُعد الأدبي الجديد لهذه الرواية.

ومن المؤشّرات الاخرى على دخول الرواية البوليسية الى المؤسّسة الادبية، تكاثُر التظاهرات والجوائز والمهرجانات (21 في العام 2004)، والندوات والمجّلات المخصّصة للرواية السوداء والمكان الذي تحتلّه في الاعلام، ضمن حيّز نقديّ لا يضيق. كما تشهد الرواية البوليسية ازدهاراً في مجال النشر للشباب، حيث المطلوب من المؤلّفين خلق التواصل بين عالم الجريمة والحساسيّة الخاصّة بالصغار والمراهقين.

يطرح تسويق الرواية "السوداء" أسئلة على الأدب الروائي التقليدي. فبعد تحقيق بدأه في 2002، يخلص عالما الاجتماع، آني كولوفالد (جامعة باريس العاشرة) وايريك نوفو (جامعة رين الاولى)، الى أنّ الرواية السوداء أقلّ تعبيراً عن الممنوعات الثقافية من غيرها، وذلك بسبب أصولها وتاريخها [3]. فيشعر القارئ أنها سهلة القراءة ولا تتطلّب جواز مرور مدرسيّ أو ثقافيّ، وأنها تنتهج نمطاً سردياً واضحاً وثابتاً، وتسمح أخيراً بالحصول على قدرة استيعاب حقيقية في مجال يتساوى فيه القرّ!اء. كما تُبرز الدراسة ميل القرّاء الى روايات الحياة اليومية "الحقيقية"، في فرنسا وغيرها، روايات تعكس الحياة الاجتماعية المعاصرة التي ابتعدت عنها الرواية "البيضاء" النخبوية، الباريسية والمنطوية على ذاتها، كما تعكس التعبير المتميّز للبورجوازية الصغيرة المثقّفة.

صحيح أنّ الرواية الفرنسية "السوداء" منذ السبعينات، وخصوصاً بفضل المبادرة الأدبية لجان باتريك مانشيت، خرجتْ من اللّعبة المسلّية لفكّ الأحاجي من أجل تركيز قصصها على الوقائع الاجتماعية والسياسية والثقافية في المجتمع الفرنسي. ويعبّر كتّاب، أمثال ديديه داننكس او جان برنار بوي، عن هذه الجمالية المناضلة، لكنها أشبه بإشارات تشهد على زمن مضى.

لا يمكن في الواقع فصل ازدهار الرواية "السوداء" عن التطبيع الذي طرأ على موضوعاتها واساليب معالجتها لهذه الموضوعات. فلو طالعْنا قائمة الـ 326 عنواناً من "الجيّد والجيّد جداً" بين الروايات البوليسية، والصادرة في فرنسا بين آب/اغسطس 2002 وآب/اغسطس 2003 وفق احصاء "بيليبو"، نلاحظ التفوّق الكبير للأدب البوليسي الأنكلو ـ ساكسوني. والسيطرة هذه أيضاً يشهدها السوق لجهة عدد العناوين وعدد النسخ المُباعة. فالقرّاء الفرنسيون أكثر اطّلاعا على النظام القضائي البريطاني، أو على الأساليب الغامضة في عمل الشركات المتعدّدة الجنسية، من معرفتهم بأنماط انتشار العنف في مناطق الريف الفرنسيّ.

اذا كان التحقيق الجرمي التقليدي ما زال يتمثّل، بوجود أو بدون وجود محقّق، في 239 عنواناً، إلاّ أنّ المُلفت ازدياد حصّة الرواية البوليسية التاريخية مع الجرائم المتصاعدة، من زمن الفراعنة الى "الجنود الضائعين" في حرب الجزائر. لا أمل كبير هنا ايضاً في مقاربة الواقع المعاصر، كما أيضاً في الروايات البوليسية "النفسيّة" التي تُثري الروائيات البريطانيات ودور النشر، أو في الموضة الجامحة من نوع "رمز دافينتشي" حيث تلتهم الأحجية البوليسية الرؤية العُظامية لعالم يحكمه منطق المؤامرة.

لا مكان يُذكر لاستكشاف الحياة الاجتماعية، فإمّا الوقوع في الفولكلور المحلّي، روايات المناطق لحساب السيّاح، أو البقاء ضمن عموميات ديماغوجية لا معنى لها حول بؤس الضواحي. إنّ الرواية "السوداء" المعاصرة تبحث عن عباقرتها أمثال وليم بورنيت وداشيل هامت او غيرهما أمثال هوراس ماك كوي.

اذن تبقى تلك "المُطالعة المُستريحة" التي تسرّ قراء الرواية البوليسية، والتي تعكس ربّما النهج المتزايد لـ"مدارس الكتابة" الهادفة الى التنميط الجماليّ للخلق الأدبيّ. في هذه الحال، تكون الموضة الفرنسية للرواية البوليسية آخر محطّة روائية يحتلّها القرّاء الأكثر ضعفاً. قبل الخروج من عالم القراءة كلّه؟

---------------------------

* * كاتب ومحلّل. لهVoltaire, le conqu鲡nt (1994), Andr頇ide, le messager (1997) et Le Pays de la litt鲡ture (2003), tous parus au Seuil, Paris.

----------------------

[1] Reading at risk : a Survey of literary readind in America. National Endowment for the Arts (www.arts.gov) Research division, n?46. Et Livres Hebdo, n?574, Paris, octobre 2004.

[2] Les crimes de l’ann饬 n?13, 餩t頰ar Bilipo (Biblioth豵e des litt鲡tures polici貥s), groupe de lecture “ romans policiers ” des biblioth飡ires de la ville de Paris.

[3] Annie Collovald et Erik Neveu : Lecteurs et lectures du policier. Biblioth豵e publique d’information/ Direction du Livre au minist貥 de la culture et de la communication, Paris, 2004.

ليست هناك تعليقات: