١‏/٢‏/٢٠٠٦

سوسيولوجيا الاقصاء

استقـصاء الإقـصاء

الدكتور : نور الدين العلوي
أستاذ علم الاجتماع: الجامعة التونسية

مدخل : في أبدية تقاليد الإقصاء

بقي[1] لنا من نجوى الفتى الجاهلي قوله بعد ان افرط فيما لا تريد الجماعة القبلية المتماسكة حول نظام أخلاقي صارم ” إلى ان تحامتني العشيرة كلها و أفردت إفراد البعير المعبد “ ( طرفة / من المعلقة ) هذا التشبيه البليغ لحالة الفتى المفرط في التمتع بمباهج الفتوة وممارستاها التي أنتجتها القبيلة نفسها عبر تاريخها الطويل يسمح لنا باستقاء لفظ الإفراد: وهي العملية التي يتم بمقتضاها إبعاد البعير المصاب بالجرب والمطلي بالقطران كدواء وحيد متاح ، حيث وحفاظا على باقي القطيع من العدوى القاتلة يتم عزل و إبعاد المصاب ومثل إبعاد الأجرب كإبعاد الشاذ حيث تصير الفتوة مضرة اجتماعية على جسد القبيلة المحافظ ومنه يمكن ولو بصفة مؤقتة استعارة لفظ الإبعاد بصفته عملية اجتماعية واعية / غائية الهدف منها حماية الجسد الاجتماعي و إبعاد العنصر المضر غير ان هذه العملية الواعية والمخططة بصفة مسبقة من الجسد الاجتماعي( القبيلة ذات الوزائع الأخلاقية كالخوف على الشرف والسمعة ) لا تعطينا كل البعد الكامن في الإبعاد إذ انه بصيغة معاصرة يحتمل معنى العملية المخططة بغير وعي بقدر أو هي تتم بشكل صامت وملتبس ومتلبس بأهداف أخرى لا يتم وصفها بدقة وان كانت تتفق مع إبعاد العضو الأجرب حفاظا على الجسد الاجتماعي.
تحيلنا الشكوى من الإفراد / الإبعاد عن الجسد الاجتماعي إلى رؤية مكونات هذا الجسد نفسه حيث يتمسك غير المبعدين بنظام للقيم والسلوك يسامح ويعاقب بقدر انطلاقا من هذا النظام الأخلاقي نفسه بقطع النظر عن منشئ السلوك الخاطئ والمخطئ في الآن نفسه ، فمن منطلق هذا النظام تقوم الجماعة الاجتماعية( القبيلة ) بوصف / تحديد عللها وتتخذ أسباب المداواة الاجتماعية من اجل هدف لا يكون مكتوبا غالبا ولكنه محل اتفاق لدى هذه الجماعة ودور الاتفاق أن لا يعكر صفو الهدوء ( السلام الاجتماعي ) المفرطون في المتعة أو في اللهو على طريقة فتيان الجاهلية مثل قد تبعد الفتيان المبالغين في التمرد على النظام ( دفع شديدي سواد البشرة / المحقرون ) والذين يصيرون صعاليك قبل أن يسموا خارجين (الخوارج : قبل النعت بالخروج كانوا في الداخل ضمن الجماعة المرضي عنها= أهل السنة والجماعة ) عن القانون عندما وضعت لاحقا قوانين تعمل على الحفاظ على البناء الاجتماعي .
والأديان قبل الفتى الجاهلي والصعاليك وبعده لم تزد على أن تممت مكارم الأخلاق التي كانت تمسك الجسد الاجتماعي نفسه في كل مراحل تطوره السابقة على الرأسمالية حيث ظلت قيم الشرف الرفيع وقيم الولاء للكبير( في السن ظاهرا وفي المال غالبا ) سارية المفعول لغاية حماية الدين نفسه [2].
إن عودة القول بالجسد الاجتماعي ( البناء الاجتماعي ) تحيلنا إلى لحظة راهنة من تاريخ فهم وتحليل ممارسات الإبعاد الاجتماعي حيث نقع على أميل دوركايم وتصنيفه لأنواع التضامن الاجتماعي التي منها ينحدر الميز بين المقبول اجتماعيا والمرفوض من الجماعة الاجتماعية ولكن ضمن معطيات جديدة في التحليل والقراءة لم يطورها ابن خلدون إلا بقدر لأنها لم تقع في مسار تحليله للمجتمع. وكل الذين يعودون راهنا إلى فهم العلاقات الاجتماعية مثل ما نحاول أن نفعل في هذا العمل يقعون على التصنيف الذي صار مدرسة ومرجعا بين التضامن الآلي والتضامن العضوي كما وضعهما دوركايم ، حيث يسود التضامن الآلي المجتمعات التقليدية أو السابقة على الرأسمالية ( الأسرة الممتدة والقبيلة و إلى حد ما المدينة في مواجهة ما يقع خارج أسوارها وينظر بعين التقديس لرباط الدم ) بينما يسود التضامن العضوي المجتمعات المعاصرة التي تفككت بناها التقليدية بفعل الرأسمالية التي أنشأت نظاما جديدا يقوم بالأساس على علاقات غير الدم وغير الولاء للأشخاص والزعماء من القبيلة أو المدينة ، وحيث يبرز أيضا نظام من الإفراد الاجتماعي يقوم بدوره على حماية الجسد الاجتماعي من العناصر الضارة وغير ذات الجدوى الاجتماعية( يمكن الرجوع باستمرار لمفهوم الأنوميا لكن من شان ذلك أن يبعدنا عن مراد هذا المقال ) ، أما من يحدد الجدوى والفاعلية فهو النظام الجديد من القيم التي تشكل اللحمة الجديدة في المجتمع الرأسمالي المتضامن عضويا حيث يؤدي عدم الإحساس بالجدوى داخل الجماعة إلى إنهاء الوجود الاجتماعي للفرد ”تلقائيا “تحت تأثير الإحساس بعدم الفائدة أي بفقدان المكانة داخل الجماعة نفسها [3]. ستنتهي بلا شك صورة البعير المعبد والمبعد عمدا خشية العدوى ولكن سيظل مبدأ الإبعاد يعمل ولكن هذه المرة بدون التخطيط الظاهر والمقصود والمتعمد من القبيلة بل ستنشأ آليات جديدة تقوم بصمت بعملها الإبعادي ( غير مصرح بها لأسباب أخلاقية من صلب التفكير السياسي للقائمين بالإبعاد المتسربل بتعاليم الكنيسة ) بحيث يجد الفرد نفسه في وضع البعير المعبد دون ان يشار إليه بالبنان ككائن أجرب بل ربما طور الإنشاء والبلاغة للتضامن معه حيث هو، دون السعي إلى أن يستعيد وضعه” الطبيعي“ داخل الجماعة . في هذا الإنشاء الجديد سيصير مصطلح الإبعاد نفسه مصطلحا مرذولا وسيبذل جهد كبير لوضع حد له ، وسيتخذ الجهد شكل الثورة أحيانا وسينتهي غالبا في شكل مؤسسات ادماج اجتماعي وهو الاصطلاح السحري الجديد المضاد للإبعاد ، وستوزع هذه المؤسسات منافع من المال والدواء يتخذ اسم الضمان الاجتماعي وستنشأ الجمعيات والهيئات الوطنية والدولية لوضع حد له. ولكن هل صارت هذه المؤسسات والآليات ضمانة لإنهاء الإبعاد أم أن القول بالمساواة الكونية لا يتجاوز التبشير القديم المتجدد بالاخوة الإنسانية غير القابلة للفصم[4].
الإبعاد في الراهن المعولم .
إذا كان إبعاد الفتى الجاهلي سهل التحليل و الفهم باستعادة المنظومة الأخلاقية التي اتخذت كمرجع والنظر إلى جملة المنافع / المراكز المحمية ، فإن التمتع بالفتوة في نظام قيم لا يرفض المتعة باعتبارها عيبا بل يحفزها باعتبارها طريقا للاستهلاك واستنفاذ الخيرات الاجتماعية التي يؤدي استهلاكها إلى المزيد من الاندماج ( حيث الاستهلاك يحفز الإنتاج الذي يحفز الاندماج أي حيث يندمج الفرد بقدر ما يستهلك) لا يبدو على نفس القدر من السهولة.مما يترك السؤال مفتوحا بشكل دائم كيف يمكن قراءة عملية إبعاد الأفراد عن البناء / الجسد الاجتماعي في الوقت الراهن وهل يمكن الوصول إلى تعريف ثابت لهذه العملية بالرغم من تغيرات المجتمع بحيث نحدد له معنى قابلا للثبات ( الاستعمال الدائم ) مثلما حدد دوركايم معنى للتضامن .
وللإجابة عن هذا التساؤل لا بد أن نحدد ما نعنيه بالوقت الراهن حيث نجد العولمة تعمل كسياق استبعاد اجتماعي و كوني .

هل تحتاج العولمة بعد إلى تعريف وهل أن ما كتب فيها إلى حد الآن أقل مما تظهر من معان ودلالات ؟ ليس الأمر من قبيل إعادة اكتشاف العجلة ، لكن تعريف العولمة كما نراه ، لا بد ان يأخذ بعين الاعتبار الموقع التاريخي داخلها فاحتمالات الإبعاد من العولمة تتعلق بالموقع التاريخي لحظة دخولها [5]، فما يراه اقتصادي مرتبط بالبورصات العالمية من العولمة ليس هو نفس ما يراه مزارع في بلد نام يحتاج بعد ودائما إلى ما لم يملك من المعرفة ومن الأدوات و الوسائل ليطور إنتاج حقله المحدود للوصول إلى إنتاج كفايته من الغذاء الضروري.وهي أيضا ليست نفس الرؤية التي يعطيها إياها المهاجر ”الحارق“ [6] في زورق صغير في البحر المتوسط بحثا عن شبه فرصة حياة في هامش اقتصاد أوروبي مزدهر بعد بالفائض الاستعماري الذي جناه من قرنين من الاستعمار أو بثمرة التبادل غير المتكافئ طيلة النصف الثاني من القرن العشرين خاصة . لذلك فان القول بتعريف العولمة يحدده الموقع داخل هذه السياق الاقتصادي والاجتماعي الذي نسميه العولمة الاقتصادية والمتميز أساسا بتفاوت سرعة نمو المتواجدين داخله . [7]
إن العولمة مسار تنمية اقتصادية رأسمالية تقوم على التبادل الكثيف والسريع للخيرات بين مختلف الدول والجماعات الاقتصادية و بهدف الربح الأقصى متجاوزة الأطر التقليدية والمتعارف عليها للأوطان وللمؤسسات السياسية والقانونية .
وبالنظر إلى التفاوت التاريخي بين هذه الكيانات قبل بداية العولمة فان التفاوت عمل بشكل طبيعي على تأبيد نفسه بين هذه الكيانات (العوالم) وهي تدخل العولمة مما أبّد وضع التفاوت بين الدول (غير ذات الحدود الاقتصادية الدقيقة في زمن العولمة) وجعل التبادل دخل العولمة يتم بشكل غير متساو، وحتى إذا كان البعض يرى الأمر مجرد استبدال مفاهيمي ( سمير أمين ) فان الوضع التاريخي لا يمكن أن يتغير بمجرد تغيير المصطلحات المعبرة عنه في مرحلة من تتطور اللغة .لذلك فان حصر المفهوم تقتضي العودة إلى الأدبيات الكثيرة المتراكمة حوله وان كانت أكثر من أن تأتي تحت الحصر .

الإقصاء الاجتماعي : محاولة في حصر المفهوم
هل يمكن حصر مضامين مفهوم يتعلق بالفعل الإنساني في واقع متحرك ؟ و هل إن العولمة مسؤولة عن الفوارق الاقتصادية والاجتماعية ؟ التي يقر الآن وبشكل متأخر بأنها تنتج الإقصاء على صعيد كوني.[8] لقد ترجمنا في هذا العمل اصطلاح (exclusion) بالإقصاء وقد استسلمنا في الترجمة إلى المتداول من اللفظ رغم أن لفظة الإقصاء تبدو مغالية فالإقصاء تطرف في الإبعاد ( المغرب الأقصى هو الأبعد عن المركز الإسلامي والشرق الأقصى هو الأبعد عن المركز الأوروبي الغربي ) ونحن عندما نتأمل المضامين التي توضع داخل هذا المفهوم – الإقصاء- كما سيأتي بيان ذلك نجد أن العملية لا تتم في المكان الأقصى بل داخل المكان المشترك كالضاحية إلى المدينة أو "الغيتو "داخل المدينة مما يقربنا أكثر إلى معنى العزل . لقد عبر الإبعاد أو الاستبعاد من المكان المشترك عن تقليد قديم يكون إما للعقاب المؤقت أو للنفي الأبدي أو للبراءة، ليعني الوضع جانبا وليس القطيعة داخل المكان المشترك ، فحيث الجماعة ( الأصل ) لا يكون العقاب وهو المبدأ الذي طبق عن الخارجين عن دين القبيلة القرشية حيث استبعدوا إلى شعب الجبال حيث لا حياة ولا جماعة وحيث حرصت الجماعة المبعدة ( بفتح العين ) على العودة إلى الجماعة المبعدة ( بكسر العين ) رغم الاختلاف في العقيدة ( منظومة القيم المعلنة ) ويمكن النظر من نفس الزاوية إلى النفي السياسي الذي كان يمارس حتى النصف الأول من القرن العشرين من قبل السلطات الاستعمارية في مستعمراتها المختلفة بل على مواطنيها أنفسهم مثل إبعاد فرنسا لنابليون المهزوم ( ولا داعي للإشارة إلى جماعة مرج الزهور ).
لكن الاختلاف حول الترجمة لا ينسينا أن تطور حقل العلوم الإنسانية خارج مجال العربية هو الذي يجعل المترجم متابعا لا مبتدعا وهو الذي يسهل له الاستسلام لما يسود من اللفظ خشية الاستقلال المعرفي الذي يعني إنهاء الإقصاء الذاتي ( الذي يعبر عن نفسه بالتسليم بفكر الآخر واصطلاحاته ولا نرى حاجة هنا للرجوع إلى مالك بن نبي، ففهم الإقصاء لا يؤدي بالضرورة إلى الخروج من وضع المقصي). ولقد جمعنا لغاية هذا العمل أدبيات كثيرة ولقد كان حصرها وفرزها وتصنيفها عملا فوق طاقة أي بحث، غير أنها في غالبها دفعت إلى الاستنتاج بأنها أدبيات تنتمي إلى حقل انتاج معرفي واحد ومتجانس لا ينظر رغم العولمة المميعة للحدود الجغرافية دائما ( وللسيادة الوطنية غالبا ) إلى ابعد من حدوده التقليدية، إلا في بعض المواضع المحدودة ( من المهم في هذا الموضع استذكار كتابي ادوارد سعيد : الاستشراق و الثقافة و الإمبريالية ) .
لقد تمت العودة في هذا العمل وعلى سبيل التدليل لا الحصر إلى معجمين من معاجم علم الاجتماع ، حيث تبين ان اختلاف تعريفهما للإقصاء لا يختلف إلا في تقنية حصر المفهوم زمنيا وربطه بالمفاهيم المماثلة أو المطابقة له ، ولكن كلاهما يسمح بالإطلاع على أهمية الاصطلاح .
”إن مصطلح الإقصاء يقع الآن في قلب النقاش حول الاجتماعي وهو يتخذ نفس المكانة التي اتخذها مصطلح العوز في القرن التاسع عشر (Le paupérisme) لقد ظهر الاصطلاح في الستينات ضمن حقل العلوم الاجتماعية وعرف استعمالا موسعا في السبعينات وقد شكل هذا الاصطلاح مخرجا نظريا ومنهجيا للمأزق الذي وجدت فيه الدراسات حول الفقر نفسها خصوصا عندما أرادت قياس الفقر في المجال الأوروبي ، فقد تمكنت به من العبور من مقاربة وتعريف جامد للفقر يعتمد القياس النقدي[9] إلى مقاربة ديناميكية ومتعددة الأبعاد للسكان غير المحظوظين / المقصيين وهو ما وسع الأبحاث المتعددة المراحل في هذا الحقل على المستوى المنهجي ونظرا لما اتسم به استعمال المصطلح من سهولة وعمومية فإنه صار مصطلحا أفقا “[10].
و لم يكن لهذا المفهوم أن يتخذ مكان الصدارة في السبعينات عندما كان مصطلح اللامساواة يحتل صدارة الخطاب الاجتماعي والسياسي [11] غير أن قصور مفهوم اللامساواة عن التعبير عن ظاهرة القطائع و أزمات الهوية التي تميز مسار الإقصاء قد فرض الالتجاء إلى المفهوم الجديد ، فهشاشة وضع الأجراء مثلا لا تنتج عن علاقة الهيمنة في العمل بقدر ما تنتج عن أوضاع غير يقينية تترجم عبر القلق الفردي في مواجهة خطر البطالة المحتملة وعدم الاندماج في حياة المؤسسة الاقتصادية والضياع التدريجي للهوية المهنية . لقد كان العمل في السابق يعطي هوية للأفراد أما مسارات العمل الحالية فتلغيها فتنتج الإقصاء . وهذا التداعي بين مضمون الهوية مع مضمون الإقصاء كان سببا في سيطرة استعمال مفهوم الإقصاء إذ بين قدرته على تسليط الضوء ولو بصفة ضمنية على أزمة الرابط الاجتماعي دون أن يقطع بالضرورة مع مفهوم اللامساواة .
كما نجد ” ان أهم ما يسهل الالتجاء السريع والمتكرر لمفهوم الإقصاء هو هذا الطابع الرجراج وغير الدقيق وتعدد المفاهيم المقاربة له والتي تتطابق معه أحيانا مثل الفقر المتعدد الأبعاد ، والحرمان وفقدان الأهلية والحرمان من الانخراط ، وهذا التردد يبرز بالخصوص لا يقينية علماء الاجتماع أمام حقيقة يصعب حصرها ، ان الإقصاء الاجتماعي يمكن ان يفهم من زاويتي نظر مختلفتين ولكن متكاملتين اكثر مما هما متضادتين فالإقصاء يمكن ان يفهم على انه صعوبة في الاندماج ويبحث عن أسباب ذلك لدى الفرد ، ولكن يمكن معالجته من زاوية إجمالية إذ هو خطا في القدرة على الادماج ، ويبحث عن أسبابه في المجتمع نفسه وإذا كانت المقاربة الأولى قد سيطرت في سنوات الرفاه فان تعدد أشكال الفقر الجديدة قد دفع إلى استعمال المقاربة الثانية .
ذلك انه في سنوات الثمانين ظهرت للوجود أشكال جديدة للفقر فلم يعد الإقصاء يعني الفئات الفقيرة تقليديا أو المنحرفين أو المنبتين عن كل ارتباط و إنما وفي سياق من تدهور أوضاع التشغيل صار الإقصاء يتسع ليشمل عددا أوسع من الناس الذين لم يعتادوا على الفقر وأمام الخوف من خطر انقسام المجتمع إلى قسمين يرمى أحدهما خارج دائرة النشاط المنتج وداخل دائرة المساعدة وسع استعمال مفهوم الإقصاء ووضع في قلب النقاش في المسالة الاجتماعية“ [12]. لكن هل أن توسيع المفهوم بتكثيف التضمينات يكفي وحده ليعبر المفهوم بالدقة الكافية عما يمكن أن يكونه الإقصاء فعلا. إن هذا التوسيع والتأكيد على الجوار المفاهيمي يدعو إلى المزيد من توضيح المفهوم في علاقته بالرباط الاجتماعي حيث يعود أهل المعاجم دائما إلى نقطة الانطلاق إلى دوركهايم .
الإقصاء ككسر للرابط الاجتماعي :
كانت فكرة الرابط الاجتماعي فكرة مركزية في أعمال دوركايم لان انحلالها أو اضمحلالها يعني : إضعاف الوفاق الاجتماعي وتآكل الهوية الاجتماعية و تفسخ نظام العلاقات . لذلك يعاد إليه اليوم كمدخل لدراسة الإقصاء وإذا كان دوركايم يتحمس للأسرة ولتنظيم جماعات العمل ( النقابات ) فلأنه كان يرى فيها مؤسسات للتنشئة الاجتماعية التي تتفكك بدونها آليات الادماج الاجتماعي أي ينهار الرباط /البناء الاجتماعي.
وفي زمن القول بالإقصاء فان انحلال الرابط الاجتماعي [13]يظهر في مجالات مختلفة منها العمل والعائلة والحي والمدرسة . وهذا الانحلال لا يفهم فقط من خلال توقف التضامنات التقليدية الأولية أو الأساسية بل هو أعمق من ذلك . إذ أن فشل الاندماج في سيرورة التنشئة الاجتماعية يؤدي إلى التساؤل حول الهوية الاجتماعية مثل ذلك :
- البطالة( الدائمة منها خاصة ) تحطم الهوية المهنية ،
- غياب الأفق المهني لبعض الاختصاصات الدراسية لا ينتج هوية طالبية ،
- تقطع الرابط العائلي يضعف الهوية العائلية .
- ابتعاد الأطفال عن الأسرة يؤدي إلى محو الهوية الأسرية .
لقد أدت الديموقراطية والإحساس بان الدولة الاجتماعية( حيث توفرت شروطها فعلا لا استعارة ) قد عومت الفوارق الاجتماعية إلى إضعاف القدرة على تحديد هذه الفوارق أي تمييع الهوية ، فالمجموعات الاجتماعية صارت غير محددة بدقة أو بوضوح لكن ذلك من ناحية أخرى جعل الهوية تتحدد في إطار فردي لا داخل المجموعة الاجتماعية . في مجتمع الأفراد القائم على الاستحقاق Méritocratie تصير فيه الفوارق بين المدمج والمقصى متخيلة اكثر مما هي مرئية ليس لانه لم يعد هناك محرومون ( ممن يراكمون الإعاقات ) بل لان التهديد بفقد المكانة يظل مخيما دائما وهو ما يعني انكسار الرابط الهش الذي يربط الفرد بالآخرين [14].;والمسالة من هذه الزاوية ليست في وجود شريحة من السكان يمكن ان تقوم في وجه شريحة أخرى لكن في الشك في مسار تكون الهوية ذلك المسار الذي سمح للمجموعات الاجتماعية بحماية نفسها والانتظام في صراع جماعي من اجل مستقبل منظور ومقتسم أو مشترك ، وهو ما كان علماء الاجتماع يسمونه المجموعات المصيرية أو القدر (Communauté de destin) و الطبقة العاملة منها بالخصوص .
يمكن القول أن التحولات القاسية للهويّات الاجتماعية التي ترافق مسار عقلنة المجتمعات المعاصرة ظهرت اكثر إيلاما للفئات الضعيفة والتي لا يعمل ضعف تكوينها على سهولة تلاؤمها مع التطورات التقنية والثقافية وكذلك مع الفوارق الموضوعية في مجال الاستهلاك وفي مستوى الحياة والتربية وكذلك مع اللامساواة الذاتية التي تحس من خلال فقدان مراجع الهويّات التقليدية فنجد على سبيل المثال :
· إن التقسيم المعماري للفضاء إلى أحياء تنظم حسب القدرة على الاقتناء ينتهي بإحالة فئات محددة إلى الزوايا الحضرية خارج المركز( بأقل الخدمات الممكنة أو بدون خدمات) فتصير عملية تفتيت للفضاء وتفتيت للعلاقات الاجتماعية و الهويّات الاجتماعية التي يعطيها الفضاء المشترك / المتساوي .
· إن الفضاء العمومي لم يعد فضاء هوية لانه لم يعد فضاء عموميا والأفراد والأسر يحاولون إنقاذ أنفسهم بصيغ فردية لتنظيم الفضاء ( نهاية مفهوم الجوار ) .
· ان أزمة الشغل في ظل غياب التنظيم النقابي ( بما هي عملية بحث عن حل جماعي ) تؤدي إلى انهيار العلاقات داخل محيط الشغل التي تؤدي بدورها إلى فقدان الهوية المهنية ضمن جماعة العمل والحلول الفردية لأزمة الشغل لا تؤدي إلى استرجاع الهوية المهنية حتى إذا أوجدت الشغل للباحث عنه .مما يجعل مفهوم الإقصاء يعني تلك النهاية أو المصير الذي ينتهي إليه انحلال الروابط الاجتماعية والذي يكرس في الواقع السلوك غير الموحد للأفراد للتأقلم مع التحولات المتسارعة في مواجهة الكل ضد الكل .

الإقصاء : نهاية الدولة الاجتماعية ؟

هل إن القول بالإقصاء يعني القول بنهاية الدولة الاجتماعية أو دولة الرفاه الاجتماعي [15] التي قامت على قاعدة ادماج لكل الأفراد و تشريكهم في العملية الإنتاجية وتمكينهم من التمتع بخيرات الاستهلاك ؟ لقد أفلحت المجتمعات الأوروبية( حيث تتوفر الخاصيات المثالية للدولة الكافلة أو الدولة الاجتماعية ) التي قاومت الإقصاء بالتحويلات الاجتماعية في شكلها الضريبي (الكوني) أو في شكل المساهمات على العمل (المهني ) في ادماج الجميع بل إنها أدمجت ولحاجتها الذاتية من خارج حدودها الوطنية ولم يعقها ذلك عن انتاج الرفاه ولكن عندما طرحت أزمة الدولة الكافلة لعجزها عن الاستمرار في التحويلات الاجتماعية إلى ما لانهاية [16] عاد الإقصاء إلى الوعي الجماعي كتهديد شامل يخيم على قطاعات متعددة من الفئات التي كانت محمية بشكل سيئ أو هي بصدد فقدان كل أشكال الحماية.[17]. وعاد مفهوم الإقصاء للتعبير عن الخلل البنيوي في المجتمع الصناعي الراهن[18] ويمكن النظر إليه من هذه الزاوية كباراديقم مجتمعي في مقابل براديقم العوز ( Le paupérisme ) الذي كان سائدا في القرن 19 و كان العلامة على الدخول في المجتمع الصناعي ، و الآن وفي ظل تواصل النقاش حول موضوعة الإقصاء بوصفها خللا وظيفيا فان المفهوم يسمح منهجيا بروية :
· اختلال الوضعيات أو اتجاهها للتدهور،
· المسارات التي تتأسس عليها اللامساواة وتتجدد [19] .
لذلك نجد :
· الإقصاء يتجلى فعليا أمام المدرسة العصرية (احد مفاخر الدولة الاجتماعية ) فزيادة أعداد التلاميذ وطول المدة المقضاة في المدرسة والرفع العام من مستوى التكوين تعمل كآليات إقصاء فهناك اختصاصات تراتبية بالقوة تسمح للنخب بالوصول إلى المدارس العليا وبالتالي المواقع الاجتماعية الأرفع ( الطب والهندسة )فيما تترك لغيرهم من الفقراء التكوين أو التشغيل غير المتوافق مع سوق الشغل وتؤدي غالبا للبطالة إلى جانب ممارسات تقوم بها الطبقة العليا والوسطى لاجتناب المؤسسة المزدحمة بأطفال الفقراء حيث توجد الشعب غير المغرية وحيث إمكانيات التعليم متدنية ( تطوير التعليم العالي الخاص ذي الكلفة ).
· ازدياد الرفاه العام لم يمح تماما انحطاط بعض الوضعيات الاجتماعية مثل تبعية الأسر ذات العائدات الضعيفة للخدمات الاجتماعية و الإحساس بفقدان المكانة الاجتماعية أي إعادة إنتاج الأشكال التقليدية للحرمان وبذلك فان مفهوم الإقصاء يكشف باستمرار وجود آلية بنيوية للإقصاء في المجتمعات المعاصرة بقطع النظر عن مدى تطورها ، وبقطع النظر عن المثال الديموقراطي المساواتي الذي تنتمي إليه ، ذلك أنها من داخل نماذجها نفسها تبني تراتبا وتنتج الإقصاء بما يقود أفرادا ومجموعات توصف بأنها الأقل حظا والأقل قدرة إلى الحرمان من المكانة الاجتماعية والاحترام .
إن توسيع مفهوم الإقصاء على حدود الدولة الاجتماعية المتراجعة قد أعاد استيعاب مفهوم اللامساواة القديم إذ لا يقوم بتحليل اللامساواة بطريقة جامدة عبر تعريف المجموعات المحرومة والسؤال لماذا هي كذلك ؟ أو لماذا لم ولا تتطور في وضعها بل بالعكس يقوم بحصر وتحديد مسارات مختلفة بحيث يكشف ” لماذا يجمع بعض الأفراد كل المعيقات ويراكم آخرون الامتيازات“. وبذلك أضاف إليه بعدا جديدا يقوم من ناحية على التضاد بين اهتمامات المجموعات الاجتماعية التي تقاوم من اجل الحصول على التقدير الاجتماعي ( النقابات مثلا ) وبين ضعف أو غياب الاحتجاجات المنظمة والحركات الاجتماعية القادرة على تعميق هويات السكان المحرومين .و لقد دفع الحديث في الإقصاء إلى تعريف وتحديد نوعية الأفراد المؤهلين للإقصاء وهو ما انتج في المستوى العملي ( كرد فعل أو محاولة حل ) إلى ظهور الجمعيات والمؤسسات التي تعمل على مساعدة المقصيين أي العمل التطوعي والعطايا /الهبات ( أعمال مختلفة تصنف تحت مسمى المجتمع المدني الذي كان مفهوما يغلب عليه الاستعمال السياسي زمن القول باللامساواة )[20] .
لقد سمح المسار المعرفي في تحديد الإقصاء وتعريفه بالخروج من التعريف الجامد للفقر ( التعريف المالي للسبعينات ) و الوصول إلى تعريف متحرك دينامي متعدد الأبعاد حول السكان المحرومين كما سمح المفهوم كذلك بتجاوز مفاهيم من قبل البروليتارية الرثة (Sous prolétariat) ومن قبل عدم التأقلم الاجتماعي (inadaptation sociale) فلم يعد الأمر يتعلق بفئات مقصية بالفعل ، ولكن بوجود مسارات يمكن ان تقود إلى وضعيات اقصائية وللوصول إلى هذه المقاربة كان يجب المرور عبر تحليل الوضعيات المأزومة أو الرثة ( précaires) والبحث عن مصدر الإقصاء أو أسبابه حيث لم يعد بالإمكان استدرار إمكانيات الدولة الاجتماعية للمعالجة بالتحويلات الاجتماعية التي أدمجت في السوق ولم تدمج في الثقافة مثلما تنتهي إلى ذلك الآن التحليلات المنتمية إلى القول بالفعل الاجتماعي .
نقد مفهوم الإقصاء

يوجه إلى القول بالإقصاء نقدان من خلفية متقاربة منهجيا أولهما المرجعيات الماركسية التي ترى ان مصطلحات العلوم الاجتماعية من قبيل اللامساواة أو الإقصاء أو تفاقم الإقصاء هي مصطلحات بدائل عن مصطلح الصراع الطبقي وتتساءل هل أن تغيير المصطلح هو تغيير للواقع الذي يعنيه المصطلح . كما ترى ان القول بالإقصاء لا ينفي القول بالصراع الطبقي لكنه يستطيب القول بالصراع الاجتماعي دون طبقات وهو ما يبدو من قبيل تمييع مقولة الصراع وإفقادها وضوحها المنهجي من منطلق إيديولوجي لا يقبل بالتضاد الطبقي ولا يستطيع نفيه من الواقع و لقد اجتهد الفكر غير الماركسي دوما لتقديم صيغ أخرى للتعبير عن الصراع كالقول بالحراك الاجتماعي العام وهي صيغة وردية تولد منها القول بالانحباس الاجتماعي أو اللامساواة وكالقول الصراعية العامة وهي مقولة تلقي عبء التفاوت على الفردانية كصفة وحيدة للسلوك الاجتماعي لاعقلانية بل فوضوية و مضادة للتضامن ولمعنى المسؤولية الاجتماعية .وهكذا يصير القول بالصراع بدون طبقات قولا بأنه ليس هناك وحدات سوسيولوجية مشكلة خارج الظرفية أي خارج الحركات الاجتماعية[21].
ينطوي القول بالحركات الاجتماعية على القول بالاحتجاج الاجتماعي أي بالمؤسسات التي لا تكتفي بالبقاء داخل ما يسمى بالمجتمع المدني دون تغييره ان القول بالاحتجاج قول يحتوي بالضرورة على البعد السياسي إذ ان الحركات الاجتماعية غير قابلة للانفصال عن التمثيل السياسي وهو ما يعني التدخل والتطوير ثم التغيير الحتمي لعمل المؤسسات أي العودة في الأخير إلى التقسيم الاجتماعي وصولا إلى المجتمع الثنائي .
”ان اصطلاحات من قبيل الاستقطاب الاجتماعي أو خط الفقر أو القول بوجود مؤسسات مسؤولة عن التصرف في الصراع الاجتماعي وهي الدولة الكافلة أو الدولة الوطنية الاجتماعية لا يمكن ان تخفي ان اللامساواة ليست خطا انحداريا مسترسلا يمكن تعديل مساره بل هي انكسارات “.[22]
· إن السؤال السياسي لمن لا يرى بالصراع الاجتماعي ويكتفي بالقول باللامساواة هو أين يقع الإقصاء داخل اللامساواة وهل يمكن التأثير عليه حيث هو وهل يمكن تحويله أي في الفضاء الذي يتم فيه التصرف في اللامساواة البناءة أين يمكن حصر الإقصاء بما لا يسمح له بإعادة طرح السؤال عن أسس اللامساواة . غير ان القول بالحراك الاجتماعي أو الحوافز في إطار من اللامساواة تظل مفاهيم غير دقيقة لانه لا يمكن ان تحدد أي حراك ولمن ... لذلك فان القول باللامساواة يطرح مسالة التوافق الاجتماعي ويعدد الطبخات الاجتماعية التي تتخذ أحيانا طابع الطبخة الثقافية دون ان يصل إلى استبعاد الإقصاء بل تقع في النهاية في ممارسات الردع رغم القول بالإدماج.
· "إن مفهوم اللامساواة هو مفهوم اقتصادي بالأساس والمعني الاقتصادي يتضمن بالضرورة المعني السياسي إذ ان القول باللامساواة يتم في مجتمع يسيطر فيه الاقتصادي سياسيا.
· إن مفهوم الإقصاء مفهوم سلبي حيث يستعمل بمضامين سلبية لتصنيف الأفراد الحاملين لمواصفات الإقصاء كما لو انهم يستبطنون إقصاءهم أي يساهمون في إقصاء أنفسهم .
· إن مفهوم الإقصاء ونتيجة لهذا الاستعمال "الإداري" المتواتر قد صير المقصيين أشخاصا بدون إيجابية وقد أقصوا لانهم كذلك دون السعي من قبل القائمين بالإقصاء لمعرفة ما إذا ما كان للمقصيين قدرات إيجابية من أي نوع كالثقافة والكفاءة والأفكار والمبادرات وعليه يجب أن يبقوا خارج أي حوار خشية أن يؤدي ذلك إلى اندماجهم فيصبح لهم حق سياسي ويشاركون في تقاسم السلطة لان ذلك يعني لا أن يخرجوا من وضع الموجود بالآخر إلى الموجود بذاته وينتهي وضع المكوث في حفرة المساعدة أي أن يشارك المقصي في التصرف السياسي في المسالة الاجتماعية “(...) مهما تعددت تضمينات الإقصاء من قبل المختصين في الدراسات الاجتماعية فإنها لا تخرج عن الإقصاء من السوق الذي يؤدي إلى الإقصاء من المواطنة فالعاطلون مقصيون من السوق لان لا أحد يشتري قوة عملهم والفقراء مقصيون من الاستهلاك لانهم بلا أرصدة لا أحد يمكن ان يكون خارج السوق لان السوق صار تشكيلة اجتماعية ليس لها خارج بل هي تستوعب هوامشها فلا إقصاء إلا داخلها فإذا كان في العصور الوسطي يمكن الهروب إلى المدن الحدودية فانه الآن لا يمكن الهروب من المدينة العالمية ليس هناك حدود وأطراف في السوق إلا في الوهم أو الموت [23].
أما النقد الثاني الذي يوجه عادة إلى مفهوم الإقصاء فهو المستند إلى علم اجتماع الفعل حيث نجد أحد أهم أعلامه آلان توران ينطلق مما رفع تلاميذ الضواحي الباريسية في تظاهرا تهم من شعارات من قبيل ”نريد ان ندخل “ ”نريد ان تتركوا لنا مكانا بينكم“ كما ينطلق من عودة مفهوم الضواحي بشكل فجئ إلى الاستعمال المكثف مما جعله يطرح السؤال. هل أن كل الضواحي هي أماكن خلل اجتماعي وردا على ذلك فانه يرى إننا ( المجتمع الفرنسي ) نعيش اليوم ( التسعينات ) حالة مرور من مجتمع عمودي اعتدنا على تسميته بالمجتمع الطبقي حيث يوجد قوم في الأعلى وقوم في الأسفل إلى مجتمع أفقي يصير الأهم فيه ان ينظر الفرد ما إذا كان في المركز منها أو في الأطراف في الصورة السابقة العمودية كان الناس مقتنعون بأنهم قادرون على قلب المجتمع بحثا عن نموذج آخر مثلما لا يزال البعض يتمسك بالقول مما يمكن ان نسميهم أصحاب البدائل حيث كان يمكن بالأمس ان يقترح علينا نموذج مجتمع فوضوي أو اشتراكي أو شيوعي فان الأمر اليوم لا يتعلق بان نكون في الأعلى أو في الأسفل بل في ان نكون في الداخل أو في الطرف والذين ليسوا في الداخل يسعون إلى ان يكونوا أي انهم حاليا في فراغ اجتماعي ولم يعد هناك نموذج بديل يطمح إليه أو يوهم به.
و لم يعد الأمر يتعلق بالصعود في الدرجة الاجتماعية بل باللحاق بهذه الطبقة الوسطى التي كان يمكن اللحاق بها بفضل المدرسة ( ألحت العلوم الاجتماعية غالبا على ان اتساع الطبقة الوسطى يعمل كبديل عن الصراع الطبقي والدخول عن طريق المدرسة يغني عن الصراع الطبقي وأعلي القول ان المؤسسة التعليمية تمثل بابا /مدخلا لنموذج مركزي و عام للمشاركة الاجتماعية إذ إنها تكون الجمهور الواسع لكبرى المؤسسات الثقافية [24] .
” في مجتمع ليبرالي كما يقول مرسال غوشيه ردا على ميشال فوكو إن من لا يكون داخل المجتمع الليبرالي لا يمكنه الدخول أو العودة إليه ودخول المجتمع الليبرالي أعسر بكثير من دخول مجتمع متفاوت (طبقي) ولنتذكر حالة المجتمع الأوروبي في القرن 19 حين لم تكن هناك حدود فاصلة بين الطبقة العمالية والطبقة الخطيرة ويكفي ان يقرا المرء فيكتور هيقو أما اليوم فالمرء أما أن يكون في الداخل أو في الخارج إذا كان المرء يعاني من إعاقة أو من البطالة أو من ضعف التكوين أو من فقدان العلاقات (...) وهذه الإعاقات تؤدي إلى انه لا يمكن اللحاق بالكوكبة التي تسير بسرعة ولا أقول هنا ان هناك فقراء اكثر ومتروكين اكثر لان ذلك ليس صحيحا ولكني أقول ان الهوة أو الفجوة بين من في الداخل ومن في الخارج تزداد اتساعا . إنها هوة يزداد القفز فوقها صعوبة كل يوم ان المجتمع الطبقي يحمل في داخله الصراع والمساواة في حين ان المجتمع الليبرالي يحمل في داخله الغيتو لقد كنا في مجتمع تمييز( discrimination) فصرنا إلى مجتمع تفريق (Segregation) “ [25].
إن العودة المكثفة لمفهوم الضاحية مثلا تدعو إلى تفكيك هذا المفهوم ، انه يعني هنا هذه المنطقة الواسعة من اللايقين حيث يمكن بسهولة ان يسقط الفرد إلى الخارج عوض ان يجد نفسه في الداخل فما يدفع التلاميذ إلى الاحتجاج هو الإحساس بكم من فقدان الأمان أو اليقين في حظوظ الاندماج الاجتماعي .مما يسمح بقياس وضع يتميز الآن بوجود قوم منجذبين إلى المركز ( السعي إلى الاندماج ) ولكن يتم رميهم عنه إبعادهم اجتماعيا( الإقصاء)[26] .
لقد قدمت النقابات حلولا للإدماج في وقت ما لكن هل لا تزال تلك الحلول ممكنة أي هل النقابة وسيلة اجتماعية للإدماج لقد كانت النقابة ثمرة مجتمع إنتاجي وقد كان من السائد القول ان نموذج مجتمع بدون أحزاب أو منظمات هو نموذج يفتقد وسائل الادماج فحيث لا صراع لا يوجد ادماج في حين ان هذه هي النظرية تصير كلاسيكية إذا أخذنا بعين الاعتبار ارتكازها على مجتمع الإنتاج . والإقصاء اليوم لا يتم بنفس الصيغ التي كان عليها في المجتمع الإنتاجي مما يستدعي حلولا أخرى غير نقابية تقوم على استعادة المواطنة .
والمواطنة بدورها تحتاج إلى تعريف اكثر دقة فهناك لفظ في الإنجليزية لا تعبر عنه الفرنسية بدقة هو مصطلح (Citizenship) فهو لا يترجم بمصطلح الضواحي بل يمكن ترجمته بالمواطنة (Citoyenneté) رغم أن هذه الترجمة تفقده التمييز الذي يوجد في القانون الإنجليزي بين المواطنة والجنسية أما المواطنة في القانون الفرنسي فتعني الجنسية في حين ان هناك حقوق لا توفرها الجنسية، ولمعالجة الإقصاء( هناك ) كما يرى توران يجب، ” بناء اشتراكية ديموقراطية جديدة تقوم على قاعدة غير مركزية (أولوية الجهة) وليس على قاعدة مهنية أي ان تقدم وسائل جديدة للمشاركة السياسية وهو الدور الذي قامت به النقابات منذ مائة سنة عندما تم خلقها وهذه الطريقة( الحديث عن نهاية دور النقابات لم يأخذ بعين الاعتبار ان الطبقة العاملة في غير المجال الأوروبي لا تستطيع بعد تنظيم صفوفها لتدافع عن الحدود الدنيا أو هي تتراجع وتخسر مكاسبها التي لم تعد ترضي مثيلاتها في أوروبا التي تجاوزت المشاركة في تسيير المؤسسة إلى المشاركة في تسيير المدينة أي أنها لم تعد مؤسسات إدماج بل مؤسسات مشاركة فعالة خاصة في بلدان الديموقراطيات الاجتماعية ) هي الكفيلة باجتناب انتاج الغيتو ان المشكل اليوم ليس الاستغلال بل الإقصاء ان حياة المجتمعات مصنوعة من تداول بين الصراعات الداخلية وبين مشاكل الإدماج و الأمر يتعلق بخلق وسائل سياسية ومنافذ للفعل السياسي حتى لا يتم نقل نموذج انتاج الغيتو بمواصفاته الأمريكية “ [27].
مراجعة مفهوم الإقصاء :
إن تراكم كل هذه الأدبيات حول الإقصاء كواقع اجتماعي وكمفهوم مركزي في العلوم الاجتماعية لا يمكن ان يموه مرجعياته الأوروبية البحتة فكأنما لم تخرج العلوم الاجتماعية من موطن نشأتها لترى غير الواقع الأوروبي في التدليل وفي التحليل كما تجلي بالخصوص عند توران ولتعاين الإقصاء على الصعيد العالمي[28] الذي لم تزده العولمة.
إن التعريف الذي يرى في الإقصاء ”عدم المشاركة في سيرورة إنتاج الخيرات وعدم التمتع بنتائج النمو الحاصل نتيجة عدم وضع تصورات شاملة لعملية تنمية مستديمة توفر في نفس الوقت الحاجات الأساسية الحيوية كالغذاء والمسكن والحاجات الأساسية كالمشاركة السياسية “.يستدل بالحالة الغربية وحدها ، لذلك نرى اليوم من جانب آخر تراكم مفاهيم جديدة وقراءات تنأى بنفسها عن مركزية المفهوم فتتحدث عن التنمية المستديمة وعن الاقتصاد التضامني دون ان تغفل القول ان التضامن المقصود ليس مرتبطا بجغرافيا وطنية محددة بل بالتضامن على الصعيد الكوني بل ينطلق من أدبيات جديدة نسبيا تقول بعولمة التضامن مشكلة بذلك اتجاها سياسيا واجتماعيا تعتمده المنظمات والجمعيات غير الحكومية لتدعو إلى اقتصاد اجتماعي يآلف بين مقتضيات التنمية الاقتصادية ومتطلبات التقدم الاجتماعي جاعلة من الاقتصاد التضامني اقتصادا ذا منظور إنساني تعاوني يخفف وطأة النظام الاقتصاد العالمي الجديد وهو ما تجسد في إعلان ليما سنة 1997 الذي يرى ” الإنسان في مركز اهتمامات التنمية الاقتصادية والاجتماعية لان التضامن في الاقتصاد يقوم على مشروع اقتصادي وسياسي واجتماعي مندمج يؤدي إلى إقامة علاقات إنسانية على قاعدة الوفاق الاجتماعية وفعل المواطنة“ .
إن هذه المفاهيم من الجدة في العلوم الاجتماعية حتى لتبدو غربية عن تقاليد الإقصاء التي مارستها الرأسمالية العالمية منذ نشأتها ، كيف يمكن ان تسمح هذه الرأسمالية من داخلها بدور لغير قيمة الربح بالعمل والتأثير في السوق ، وهل للقوى الاجتماعية ان تملك القدرة الفعلية على التأثير في مجرى عمل السوق ، إننا يمكن ان نعود بمفهوم الاقتصاد الاجتماعي إلى بداية الثورة الصناعية -برغم ما يبدو عليه من جدة- حين كانت مؤسسات المجتمع المدني من التعاضديات والتعاونيات والنقابات تقاوم الرأسمالية المتوحشة وتعارض ان يختزل المجتمع المدني في آليات السوق لكن هذا الرجوع أو التأصيل التاريخي لا يزيدنا إلا قناعة ان آليات السوق هي التي تتغلب في الأخير مهما كانت جزالة الخطاب الاجتماعي[29] . وهو ما ينبهنا إلى أن دراسة الإقصاء في خارج المجال الغربي الأوروبي لا بد ان تأخذ بعين الاعتبار الفرق التاريخي القائم فعلا لا تخيلا بين واقع المجتمعات الغربية وغيرها وبين واقع العلوم الاجتماعية التي تنتجها و التي تشحن مفاهيمها بما بين يديها ولا تذهب بعيدا إلا للتدليل على خصوبة التخيل. ويطرح حاجة غيرهم إلى انتاج علومهم الاجتماعية منطلقين من واقعهم مثلما حددوا خطوط فقر خاصة بهم عندما كان الأمر يتعلق بقياس مستوى التمايز الاجتماعي داخل هذه المجتمعات وبينها وبين غيرها .
لقد شرّعت المنظمات الدولية للشروط الاجتماعية في التبادل حيث نجد أدبيات كثيرة عن ضرورة مراعاة حقوق العمال الأساسية عند نقل المؤسسات الاقتصادية إلى خارج المجال الأوروبي المنظم نقابيا وقطع الطريق على المضاربين على الأجور سواء من الحكومات المحلية ( المستقبلة لراس المال ) أو من الشركات( العابرة ) التي تتربح بالتخفيض من الأجور في سوق العمل العالمية[30] لكن ذلك كان يعلن في الغالب لا لمراعاة حقوق العمال بل للحفاظ على قواعد المنافسة القانونية بين الشركات ، حيث أن ما يسمى بالامتيازات التنافسية بين الدول / الأسواق يجعل المكتسبات الاجتماعية موضوعا للمساومة ،فحيث تقلل الأعباء الاجتماعية على راس المال ينتقل عابرا كل المحددات الجغرافية والقانونية التي كانت تلزمه بالرجوع إلى التشريعات الوطنية التي راكمت عبر النضال الاجتماعي جملة من المكتسبات الاجتماعية لا يسهل التنازل عنها في بلد المنشأ ولكن يستحيل نقلها إلى غيرها [31] فعملية نقل المقر ونقل المعدات (La délocalisation)صارت رياضة محببة عند الكثير ويحدد سعر ساعة العمل وجهة الكثير [32].
إن هذه الرياضة المحببة للكثيرين هي التي تدفع الآن إلى توسيع المفهوم خارج "وطنه الأم" في نوع من الاعتراف يبدو متأخرا مقارنة بقدم تأثير الليبرالية الغربية على البني الاقتصادية والاجتماعية في البلدان النامية. "إن الإقصاء والإدماج الاجتماعي مفاهيم ولدت في حق المعرفة الأوروبي والإقصاء يعني في أوروبا إقصاء المواطن من "العقد الاجتماعي" وبالتحديد من العمل الثابت المنمط وقد تمت توسعة المفهوم إلى بلدان العالم النامي ليدلل به على المصير الذي تلقاه بعض المجموعات خارج التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فيتم تهميشها والتوسعة أدت إلى إعادة التفكير في العمق في هذا المفهوم من خلال السياق الخاص بالدول النامية حيث انه يختلف عن مثيله في الدول الأوروبية . لقد سجلت العديد من الدول الأوروبية في السنوات الأخيرة تراجعا في التشغيل الكامل وتفكك نسبيا للدولة الكافلة ولكن في الأثناء يحافظ أغلب العمال على العمل المؤجر النمطي وأغلب المواطنين يعيشون بشكل جيد في المقابل فان أغلب الدول النامية لم تعرف أبدا التشغيل الكامل ولم تبن أبدا دولة كافلة حقيقية وباستثناء أقلية فان أغلب العملة لا يحصلون على شغل كامل وليس لهم أجور ثابتة وأغلب المواطنين لا يجدون كفايتهم "[33].
ويترافق التبشير باللبرالية عادة بالحديث عن ارتفاع نسق ومعدلات النمو لكن الحقيقية التي تم الانتهاء إليها راهنا هي :
- إن النمو الموجه نحو التصدير قد ضاعف من إدماج العملة في الاقتصاد العالمي لكنه تم بشروط غير مقبولة وغير يقينية على مدى بعيد
- إن الاندماج المذكور لم يطل ذوي المهن الحرة وغير الأجراء فلم يتمتعوا بالفرص التي خلقتها اللبرالية من خلال التجارة والاستثمار.
- إن تحرير التجارة قد قاد إلى اختفاء مؤسسات وطنية وإغلاق مراكز عمل مؤجر واغرق الأسواق بسلع مستوردة ورخصة الثمن وغير من الشروط التقنية والمهنية" [34]
بحيث يصير من الممكن تقنيا وضع تلاخيص من هذا القبيل :
الأطر والمجالات التي يمارس فيها الإقصاء في البلدان النامية[35]
من يقوم بالإقصاء (الفاعلون الرئيسيون)
مكان ممارسة الإقصاء(المجالات )
مما يتم الإقصاء( المنافع)
- الدولة
- القطاع الخاص
- المجتمع المدني
- الجماعات
- الأسر
- المؤسسات المهيمنة
- عمليات السوق
- وحول السوق
- وضع السياسات
- وسن القوانين
- المعايير الاجتماعية
- "قواعد اللعبة "
- الأرض
- السكن
- المنافع الأخرى كالحصول على القروض والتمكن من الادخار
- الشغل الآمن و المنتج
- المداخيل الثابتة
- الحقوق والمنافع المترتبة عن العمل


وهل يمكن وضع تلاخيص؟ هل أن ما قيل أعلاه هو منتهى القول في الإقصاء ؟ و هل يمكن الوصول إلى قول فصل في الإقصاء لا يحتاج المرء إلى الزيادة عليه ؟ إن اللبرالية الاقتصادية تفاجئنا بقدرتها الخارقة على الابتكار والتنويع وسرعة تغيير مفردات الواقع مما يجعل العلوم الإنسانية والاجتماعية في حالة لهاث مستمر وراء المعطيات الجدية لمحاولة حصر المفاهيم وتعريف المفردات الجديدة ، ولذلك يظل كل قول في الإقصاء مثل القول في كثير غيره من المفاهيم حديثا يحتاج إلى تكملة ، ننتهي إلى أن الإقصاء هو لا وظيفية الرباط الاجتماعي و أيضا الحرمان من المشاركة التي تظهر متاحة للجميع ولكنها لا تطال إلا من البعض وهو التعريف يظل صحيحا في المستوى الوطني والمحلي ويمكن تفريعه أو تطبيقه في مستويات عديدة خارج حدود ميلاده ولكن داخل حدود اللبرالية دائما( المصير المحتوم للتاريخ الفوكويامي ) ويمكن كذلك أن نقارنه ولن نتناقض بمفهوم الإبعاد الذي استعرناه في أول المقال من القصيدة العربية ومن القبيلة العربية فالإبعاد أو الإقصاء لا يختلفان في أنهما رديف المنع من المشاركة(أو البقاء في المكان الواحد المشترك) .غير أننا إذا نظرنا إلى المفهوم في مدى أوسع من ذلك( لا يمكن بحال تجاهل فاعلية التحليل التاريخي مهما نافحت الليبرالية عن انتصاراتها ) لا بد أن ننتهي إلى الإقصاء ليس فقط ظاهرة اجتماعية واقتصادية (يمكن معالجتها بتوفير الخبز أو الأرز ) بل هو بالأساس ظاهرة سياسية لأن الأمر يتعلق هنا بالاقتصاد السياسي وبالسياسة الاقتصادية وتعريف الإقصاء في ارتباطه بالاقتصاد السياسي يسمح بمعالجة نقدية تربط الدائرة الاقتصادية بالإيديولوجية على صعيد محلي وكوني لتفهم الإقصاء كنتيجة للتصرف في الحياة الاجتماعية من منظور معين في الاقتصاد السياسي هو خط اقتصاد السوق بشقيه المتحكم والتابع الذي ينحي كل سلطة السياسي عن الاقتصاد ويجعل السياسي نفسه يحجم أدواره الخاصة لينتهي بدوره كامتياز تنافسي وحيث يصير القول بالاجتماعي كأولوية للفعل السياسي نوعا من الجرب الأخلاقي يستدعي الإبعاد ويقتضي قبل ذلك الخرس المنهجي إزاء القول السياسي خشية إزعاج اللبرالية الجديدة المنشغلة بتدبير الخبز لمعالجة الإقصاء .

الإحالات
[1] هل يجب أن نعود إلى جريمة القتل الأولى التي روتها لنا الكتب المقدسة لنرى أول عملية إقصاء من الوجود الاجتماعي ،حيث من لم يفز بتقديم القربان أقصي من الرضا الإلهي (الوجود الرمزي ) فقام برد الفعل الاقصائي على الأرض بقتل الأخ (الإقصاء الاجتماعي ) تبدو المسافة الآن بعيدة جدا لندلل على ذلك بمعطيات الواقع لنكن اقرب إلى التاريخ المكتوب.
[2] لا نجد في تاريخ القبيلة العربية بالخصوص انفصالا بين الغني والسلطة فالأغنى يرتقي شيخا ويورث سلطته عبر الزواج مثلا إذ لا يصهر إلا لكفء في المال أو الجاه أو كليهما( العرق دساس ) والحالة الفارقة الوحيدة فما نعرف هي حالة بني هاشم داخل قريش إذ تمكنوا داخل القبيلة بوظيفة رفادة البيت ( مركز العبادة لكل العرب ) وفي كل الأحوال فان هذا الفرع من القبيلة كان يحتمي بغنى القبيلة الأم ( قريش ) كما ان وظيفة السقاية والرفادة لم تكن غير ذات مردود مادي . تكتسب أحيانا بعض المكانة داخل القبيلة بالسيطرة على فنون القول أي الشعر وهو عملة ثقافية تجلب الاحترام غير انها لم تكن تغني داخل القبيلة عن طلب المال ويكفي ان نتأمل سيرة حياة المتنبي الذي لم يكتف أبدا بمجد الشاعر داخل القبيلة حتى ان الفخر لديه لم يكن يتناقض من الاستجداء السياسي .ان تقدير الجماعة الدموية أو العشيرة و الأهل والتراب أو البلد الذي يصير أحيانا أمة يضخمها الدين أو الدولة الممتدة على رقعة واسعة من الجغرافيا يكتسب دائما بالمال فلا جاه لفقير إلا ان يكون وليا في الدين يعاد إليه في الأزمات العامة ولا يؤثر في سير حياة القبيلة( في تقاليد الحكمة الهندية أن يسمع إلى الراهب البوذي وجوبا و يؤخذ برأيه اختيارا ) . لقد عملت المدينة أحيانا على بناء نظامها الأخلاقي بعيدا عن القبيلة ودعمت أنظمة الحرف والولاء لصاحب الحرفة المعلم أو الأمين على الصناعة غير إنها لم تصل كلها إلى تفتيت أنظمة الإبعاد عن الجسد الاجتماعي في كل الحالات التي يصير فيها العنصر من الجسد غير صالح للمعايشة طبقا للنظام الأخلاقي( الاقتصادي ) الذي يحكم العشيرة أو المدينة أو الإمبراطورية حيث يصير الطرف المتمرد خارجيا أو رافضة أوباغيا أو كافرا وهي حالة الإفراد التي تشرع القتل غالبا . ولم نجد في اللسان ما يفيد بجذر ثلاثي مجرد لاسم الصعلوك بل انا نجد ان مرادفات الصعلوك والذي هو الفقير الذي لا مال له منها تصعلكت الإبل أي فقدت أوبارها و يقال رجل مصعلك الرأس أي صغيره فما العلاقة في اللغة بين فقد المال( الفقر ) وفقد الوبر( العراء ) وصغر حجم الرأس( والرأس مرادف للسيد) .
[3] إن بعض المراجعات الفكرية التي تصدر أحيانا من المنظومة الفكرية الغربية تثير السؤال عن العمق الحقيقي للقول بالمساواة القانونية والأخلاقية داخل المجتمع الأوروبي (في بلدان مختلفة ومتعددة )إذ نجد تعديدا مدعوما بالأرقام لأعمال تمت ممارستها في حق أفراد ومجموعات بشرية متنوعة كالغجر أو المرضى النفسانيين بدواعي طبية وصحية (l'hygiénisme)كالإهمال إلى حد القتل جوعا وبردا أو كالتعقيم الإجباري بدون العودة إلى الشخص المعني ومنها كذلك تهجير مجموعات كاملة من العاطلين واليتامى وغير ذوي الأصول الواضحة ( العريقة ) نحو بلدان حديثة الاكتشاف كاستراليا وأمريكا وقد تم ذلك حتى بدايات القرن العشرين ويورد المرجع فقرة من كتاب الطبيب الفرنسي الحائز على جائزة نوبل للطب سنة 1913 (Charles Richet: La sélection Humaine) " بعد القضاء على الأعراق الدنيا أو المنحطة فان الخطوة الأولى في طريق الفرز هي القضاء على غير الأسوياء ... إني افصل الأطفال الأصحاء على المتخلفين ولا أرى أية ضرورة اجتماعية للإبقاء على الأطفال المتخلفين " لقد كانت تكتب إلى حدود سنة 1920 كتب من قبيل "Les vies qui ne valent pas la peine d'être vécue " وليس علم السلالات(l'eugénisme) الذي ابتدأ في تجويد الخيول الأصيلة وطبق على الإنسان إلا نموذجا للفكر الاقصائي الذي أنتجه الفكر الأوروبي والذي توج بالفكر والممارسات النازية التي تعتر مرحلة متأخرة منه .يعاد في هذا إلى :
Xavier Godinot :Exclusion : de l'aveuglement à la clairvoyance :in revue; Futuribles; N; 242 : Mai 1999.
[4] Wiktor Stoczkowski: La pensée de l' exclusion et la pensée de la différence In:Revue L' HOMME N:150 du 4-6-1999.

[5] " هل إن العولمة مسؤولة عن الفوارق الاقتصادية والاجتماعية ؟ إن هذا السؤال يفتح نقاشا عميقا تبرره الاتجاهات التالية :
- في العشريات الأخيرة تزامنت العولمة مع تعمق الفوارق الداخلية بين البلدان
- إن حركية راس المال قد دفعت البلدان إلى الدخول في منافسة لجلب الاستثمارات مما جعل السياسات العمومية لإعادة التوزيع تظهر كعوائق أمام الاستثمار مما أوهن قدرة السلطات العمومية على مقاومة الفوارق الاجتماعية
- إلى حد الآن لم تفلح العولمة في ردم الهوة بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة بل أنها زادتها عمقا ." يعاد في هذا إلى :
Malte LUBKER: Mondialisation et perceptions des inégalités sociales; in, Revue internationale du travail p, 97 Année 2004.
[6] "الحرق" أو "الحرقان" لفظ محلي دارج من تونس يعني تجاوز الحدود بدون رخصة نحو بلد أجنبي وهو يستعمل عادة في عمليات الإبحار خلسة نحو البلدان الأوروبية وقد ازدهر استعماله في التسعينيات خاصة في بلدان المغرب العربي وإفريقيا جنوب الصحراء التي يتصل رعاياها ببلدان المغرب العربي عبر الحدود الجنوبية لهذا البلدان ويتخذونها بدورهم محطة عبور أو ” حرق“ نحو أوروبا .والمصطلح حديث الاستعمال نسبيا مثل الظاهرة نفسها ( توجد أعمال سينمائية تعالج هذه الظاهرة مثل فيلم ”غدوة نحرق“ للمخرج بن إسماعيل من تونس .ويمكن العودة باللفظ إلى اللغة الدارجة الفرنسية حيث نجد ان تجاوز أضواء الطريق الحمراء دون احترامها يسمى حرق الأضواء وقد يكون اللفظ عرب بهذه الطريقة التي تعني تجاوز الممنوع من التراتيب فالضوء الأحمر والحدود الدولية كلها موانع تقوم بين الساعي وهدفه المطلوب ، وظاهرة نقل بعض الألفاظ وتعريبها من اللغات الأوروبية ليست جديدة في بلدان المغرب العربي فقد كان المهاجر إلى ليبيا بدون جواز سفر في السبعينات مثلا يسمى ماز قري وهي تعريب للفظ (Les Émigrés).
[7] تميل التعريفات المتفائلة للعولمة إلى إبراز المشاركين فيها كما لو كانوا متساوين فعلا في القدرات ويمكنهم إجراء عمليات تبادل متعادلة داخل السوق فيؤكدون على ان : ” العولمة هي ذلك التداخل والترابط والتفاعل ( الاشتراك) (l’interdependence) بين الاقتصاد والوقت والفضاء في العالم، وهي عملية إرادية غير عفوية ولم تأت في سياق تطوّر طبيعي أدّت إليه التكنولوجيا في تطورها الخطّي المنتظم الذي لا يمكن نقضه أو التراجع عنه. إنها صيرورة مقصودة ومحدّدة بفعل سياسي (...) لذلك فإن ما نشهده اليوم من نمو سريع للتبادل النقدي وتحرير الأسواق المالية العالمية ليس ثمرة قوى تقنية مجهولة بل ثمرة السياسات الليبرالية الجديدة المتبعة بشكل واسع من قبل القوى الاقتصادية في إطار ما يسمى بإجماع واشنطن والذي ينبني على مبدأ رئيسي هو أنه في محيط تحرير الأسواق يجد الاقتصاد العالمي أكثر حظوظه للازدهار ويشترط هذا الازدهار إلغاء مراقبة دفق المواد الأولية ورؤوس الأموال وتفكيك أنظمة مراقبة أسواق العمل“. يمكن العودة في هذا الشأن على سبيل المثال لا الحصر إلى :
Werner Otto SENGENBERGER ׃ La mondialisation ׃ une garentie pour le bien - etre ou une menace pour la solidarité ?confèrence de la A.I.S.S ;Bratislava ,Republique Slovaque (14-15/10/1999) publication de l’association internationale de la sécurité sociale ( A.I.S.S ) .
إن هذه الأسئلة تفتح نقاشا عميقا تبرره الاتجاهات التالية:[8]
- "في العشرية الأخيرة تزامنت العولمة مع تعمق الفوارق الداخلية بين البلدان ،
- حركية راس المال دفعت البلدان إلى الدخول في منافسة لجلب الاستثمارات مما جعل السياسات العمومية لإعادة التوزيع تظهر كعوائق أمام الاستثمار مما أوهن قدرة السلطات العمومية على مقاومة الفوارق الاجتماعية ،
- إلى حد الآن لم تفلح العولمة في ردم الهوة بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة بل أنها زادتها عمقا ." يعاد إلى :
Malte LUBKER: Mondialisation et perceptions des inégalités sociales; in, Revue internationale du travail Vol,143,N°1 et 2(Année 2004) p 97.
[9] لقد تبينت صعوبة قياس الفقر باعتماد المقاييس الغذائية الدنيا ( عدد الحريرات الأدنى الضروري لبقاء الفرد على قيد الحياة )وهو المقياس الذي اعتمد لقياس الفقر في تونس مثلا فمثل هذا المقياس بدا غير متوافق مع بلدان توفر موارد من قبيل منح البطالة وعائد الإدماج الأدنى ولا يحتاج الفرد الفقير فيها إلى الخبز فقط ليعيش . لمعرفة المزيد حول سياسة قياس الفقر و معالجته في تونس يمكن الاستفادة من :
Mongi Bédoui et Gouia Ridha: Les politiques de lutte contre l'exclusion sociale en Tunisie: voir ; www.ilo.org/public/french/bureau/inst/papars/1996. dp88/indexhtm: Programme des institutions du travail et du développement; DP/88/1996 ISBN 92-9014-586-2, Première édition, 1996.
[10] Dictionnaire de Sociologie :Raymon Boudon Philippe Bernard, Mohamed Cherkaoui, Bernard-Pierre Lecuyer: 3 eme éd, Larousse 1999.
[11] لعل تراجع خطاب الاحتجاج الاجتماعي ذي المراجع اليسارية وخفوت فكرة الثورة ،بما تحمله من مثاليات تعمل كعناصر هوية للإفراد والجماعات وتعطي الشعور الدائم بالانتماء قد افقد مفهوم اللامساواة زخمه ليبدأ التفكير في / التحليل بالإقصاء الذي يسمح بالتعبير عن فقدان الهوية: ينظر في هذا النقد الموجه للمفهوم الإقصاء من قبل فكر اليسار في هذا المقال .
[12] Dictionnaire de Sociologie : Jean Etienne ,Francoise Bloess,Jean Pierre Noreck,Jean Pierre Roux : 2ed: HATIER
[13] وللرباط الاجتماعي مكونات عديدة هي عبارة عن قيم متمايزة خمسة : عاطفية و إثنية ودينية وسياسية واقتصادية تجعل الفوارق الاجتماعية متوافقة فتجمعها إلى بعضها كما قد تجعل الفوارق ظاهرة ومتضادة مما ينتج التفكك الاجتماعي ويولد الإقصاء لأولئك الذين لم يعودوا فاعلين في حقل العمل . والرباط الاجتماعي في التعريف الأبسط هو ما يمسك ويصون تضامنا بين أعضاء جماعة واحدة وما يسمح لها بالتعايش المشترك ويبعد قوى التفكك الدائمة الوجود داخل الجماعة . وفي المجتمعات الصناعية ينتظم الرباط الاجتماعي حول الإنتاج المنظم ( بيع وشراء الحاجات الاستهلاكية ) و التضامنات الكامنة فيه أو الظاهرة هي التضامنات المرتبطة بالعمل الذي يعمل كقيمة مجمعة ويتأسس الرباط الاجتماعي حول القيم الاقتصادية السلعية ويتركز على قوة المنتجين مجتمعين (...) وإذا كان الفرد يظهر كقيمة مهيمنة فذلك لأنه يكتسب هذه القيمة من كونه سلعة بدوره على سوق العمل أي أن الاقتصادي يغلب الإنساني وان دائرة الإنتاج هي التي تحدد الدائرة السياسية وتنظم العلاقات بين الناس في العمق وتحدد شكل الرباط الاجتماعي لذلك فان هذه المجتمعات في حالها الراهن نخبوية وغير عادلة والحرية الوحيدة المتاحة فيها هي حرية الاندماج في سوق العمل ( جهاز الإنتاج) . وهذا السياق هو الذي أنهى التضامنات التقليدية وطرح السؤال عن قدرة الدورة الاستهلاكية على الإدماج الفعلي عبر العدل في إعادة التوزيع وهو ما يصير حالة من فقدان الرباط الاجتماعي وهو المسار الذي تغلب فيه الانقسامات على الوحدة ( ويحضر فيه الرباط الاجتماعي بالغياب .
[14] يستدعي الحديث عن الإقصاء الحديث عن الفردانية وكثيرا ما يصب كل مفهوم في الآخر ولكن متابعة هذا الترابط بين المفهومين والذي يمكن أن يتخذ عملا مستقلا يحيد بهذا المقال عن خطته الأولية لذلك وللمزيد من القراءة حول الفردانية يمكن العودة إلى:
Pierre BIRNBAUM et Jean LECA: S/d : Sur L'individualisme; (ouvrage collectif) nouvelle éd,Avril 1991, Presse de la Fondation Nationale des Sciences Politiques.
[15] في تعريف الدولة الاجتماعية أو الكافلة تتراكم مراجع لا تسمح لمقال واحد باستيعابها لذلك اكتفينا هنا بالعودة إلى :
Pierre STROBEL : De la pauvreté à l'exclusion société salariale ou société de droit de l' Homme : in Revue Internationale des sciences sociales, N; 148: Juin 1996 .
[16] يعاد في هذا الأمر بالخصوص إلى أعمال المفكر الفرنسي:
Pierre Rosanvallon : Crise de L' Etat providence (éd ,seuil,1981) et La Nouvelle question Sociale (éd, Seuil, Paris 1995).
[17] إن أدبيات كثيرة تقارن في هذا الموضع بين الأشكال الجديدة للإقصاء وبين الأشكال التقليدية لإبعاد المجموعات الاجتماعية المتهمة بتهديد النظام الاجتماعي في بداية الرأسمالية . فأحياء البروليتاريا في القرن التاسع عشر 19 هي بصيغة ما قابلة للمقارنة مع الأحياء المحرومة التي يتكدس فيها العاطلون والمهاجرون والشباب بلا مستقبل .” من قرن إلى آخر فان تقسيم الفضاء يعاد إنتاجه ولو بحدة اقل“ :
Serge PAUGAM: Quel sens faut -il donner à l'exclusion? in ;Encyclopédie: protection sociale quelle refondation? pp,1187-1201.éd Fayard, Paris 2000.
[18] يحيل المفهومان حسب روبرت كاستال إلى وضاعة / تردي / هشاشة سوق الشغل La précarité وغياب التأهيل المهني وارتفاع معدلات البطالة وعدم يقينية المستقبل . وكلاهما أحالا ويحيلان راهنا إلى ظهور شروط جديدة للحرمان المادي والتردي الأخلاقي والتفكك الاجتماعي La désocialisation ان التماثل بين المفهومين رغم ذلك ليس كاملا إذ ان العوز يحيل إلى توحش المجتمع الصناعي فيما يحيل الإقصاء إلى مسار إبعاد خارج دائرة الإنتاج للسكان الأقل قدرة وكفاءة على البقاء داخله لكن كلاهما يظهر خطر الاضطراب على المجتمع في مجمله “ المصدر السابق: ( Serge PAUGAM).
[19] إن مفهوم الإقصاء يستعمل من هذه الزاوية المعطيات على مدى بعيد Longitudinale ، فتسمح دراسة البطالة على مدى بعيد مثلا بمعرفة أن خطر البقاء مدة طويلة في حالة بطالة يختلف حيث تطول المدة للمتقدمين في السن ولدى الأقل مهارة والمهاجرين والنساء . أما بالنسبة لصغار السن فان غير المؤهلين يظلون لفترة أطول في حالة بطالة . فالدراسات على مدى زمني مطول تبين نغير الوضعيات والميزات غير المستقرة والتطورية للواقع ألإقصائي و تمكن من معرفة المسارات الاجتماعية المؤدية إلى الإقصاء وتحليلها ( من الهشاشة إلى الإقصاء ) أي مسار تراكم المعيقات والقطيعة المتزايدة للروابط الاجتماعية .
[20] هذه المجتمعات لم تفلح في منع تعمق الإحساس بالإقصاء لان القول بالإقصاء ظل يستند إلى خلفية الإيمان بالمساواة في الحقوق الأساسية في مجتمع ديموقراطي . ذلك انه عندما يبين الباحثون في العلوم الاجتماعية ان آليات التمايز تترجم في الواقع بأشكال من اللامساواة والميز الدائم فهم في الحقيقة يعودون إلى معيار المساواة التي صارت جزء من الوعي الجماعي العام. ان مفهوم الإقصاء يقود إلى إبراز الخصوصيات الراهنة لللامساواة فيكشف الآليات التي يعيد بها الفقر إنتاج نفسه وكيف تزداد هذه الآليات تعقيدا وتتطلب آليات تحليل أخرى فوضعيات عدم الاستقرار سواء كانت مهنية كسوء التشغيل والبطالة أو عائلية كالتفكك الأسري أو اجتماعية عدم الحصول على سكن لا تزال تنتشر بقوة .المصدر السابق ( Serge PAUGAM).
[21] Etienne BALIBAR: Inégalités, Fractionnement social:Nouvelle formes de l' antagonisme de classe : in, Face à l' exclusion: ouvrage collectif; s/d de: Jacques DANZELOT ,éed ,Esprit; Le seuil Paris 1991.
[22] Etienne BALIBAR المرجع المذكور سابقا
[23] Etienne BALIBAR المرجع المذكور سابقا
[24] Alain Touraine: Face à l' exclusion : In ;Revue Esprit: N; 169, 2/1999 pp 7-22
[25] Alain Touraine:op cit.
[26] يجري توران مقارنة بين أساليب الدمج الاجتماعي في فرنسا وبين تجربة الدمج الأمريكية فيجد ان التجربة الفرنسية كانت مخالفة تماما لعملية الدمج الأمريكية(MELTING-POT) حين كان يتم تشجيع الاندماج الاجتماعي ومنع الاندماج الثقافي أما في فرنسا فالسعي إلى الدمج يمر أولا بالهضم أو الدمج الثقافي الذي لا يتزامن بالضرورة مع الدمج الاجتماعي وهو يطرح السؤال :هل ان عدم الدمج الاجتماعي سينتج عدم الدمج الثقافي ليصار إلى وضع عدم تزاوج الدمج الاجتماعي مع الدمج الثقافي ليحل الغيتو (le ghetto) محل الضاحية مما يطرح سؤلا إضافيا هل توجد إمكانية حلول للدمج الاجتماعي والثقافي متزامنين ؟ ينظر الآن توران المصدر المذكور سابقا . Alain Touraine:op cit
[27] مهما كان الأصل التاريخي لمفهوم الغيتو وسواء ذكرنا بغيتو فينزيا أو فر صوفيا فهو يضم راهنا سكانا ذوي ملامح موحدة على أساس التوافق الديني الثقافي والتنظيم الاجتماعي وهو الآن يعني بعد استعادته معان أوسع من مجمعة أحياء متميزة أو مستقلة عما حولها بل يعني نوعا من السكن المجمع الاجتماعي يقع في الأحواز تتميز بنموها السريع أي انه نسيج عمراني خصوصي يتميز بالحواجز التي تجسد الخطر الذي يضفي ظلالا من الريبة على السكان الذين يقيمون به .
ان استعادة مفهوم الضاحية(Banlieue) يحتمل المعني القديم الذي حمله لفظ (Ban) القديم والذي كان يعني في نفس الوقت المكان الذي يجمع فيه الإقطاعي منظوريه أو أقنانه كما انه يعني المراسيم أو التراتيب التي يفرضها الإقطاعي في مجالات استغلال منتوجات الاقنان كواجب استعمال طواحينه لرحي حبوبهم أو عصر كرومهم كما انه يعني مكان تعيين الإقامة الجبرية للمحكوم عليهم ،كما ان اللفظ الأقرب إليه معجميا هو لفظ بنال(Banal) ومعناه كل ما هو غير أصيل وغير جيد أو تافه كما يعني التمويه والشيء المموه والمغشوش أو الذي تفقد هويته عمدا . ومفهوم الضاحية المستعاد هو كل مناقض للمركز أو الوسط ويقصد به الآن شيئا غير ذي ملامح محددة أي كتلة غير مفصلة ولا تعبر عن نفسها أو لا تسمع إلا إذا عبرت عن نفسها بقوة . ان مفهوم الغيتو وبعد ان كان هاجر إلى ما وراء الأطلنطي زمنا طويلا ...استعيد بكل الخيال الهوليودي للغيتو المتوحش في هارلم والبرونكس ولذلك توسع استعماله بصيغة الجمع ليضم داخله كل أعراض و أمراض كل ما ليس مطابقا في مختلف المجالات الهندسية والتعليمية والسلوكية وقد تمت الاستعادة في خضم التضخم اللفظي السائد حول الهامشية ليتم رمي الآخر في هويته الغريبة الأجنبية .حيث يتم كذلك استعمال مصطلحات من قبيل الاثنية(ethnicité) والاثننة (ethnicisation) وهكذا يتم تصنيف بغاية الإبعاد للسكان الجدد للضواحي إلى أصولهم الأجنبية كما لو الاثنية وحدة تعريف مستقلة ومعرفة بوضوح وذلك أمام احتمال ان يتكلم الغيتو ويعبر عن نفسيه في مناخ من اللامان ومن التجلي الواضح لللامساواة يعاد في هذا إلى :
Herve Baron Vieillard: Le risque du ghetto: in , Revue Esprit N-169 2/1999 pp14-22.
[28] في التعريف الأكثر شمولا للسياسة الاجتماعية نجد ان ليس هناك حصر للمفهوم بمجال جغرافي معين و إنما تتم العودة دائما للإنسان ويمكن إيراد مثال على ذلك التعريف التالي وهو من اكثر المراجع المعتمدة في المراجع الفرنسية على سبيل المثال : ”ان كل سياسة اجتماعية هي عملية الضبط والتنظيم السياسي لإنتاج الإنسان إنتاجا اجتماعيا يتفرع إلى ثلاث شعب :
- إنتاج الإنسان باعتباره كائنا بيولوجيا ،و إنتاج الإنسان كمنتج للخيرات والخدمات و إنتاجه كعضو في جماعة سياسية . “
Bruno JOBERT “ Les politiques sociales et sanitaires” in traité de sciences politiques :Tome IV:Les politiques Publiques de Madeleine GRAWITZ et Jean LECA éed : puf 1985, p, 301.
[29] يمكن العودة إلى المثال الأبرز على عمل العولمة الاقتصادية وهو المثال التايلندي في آخر التسعينات والى الانهيار السريع الذي سببه سحب الرساميل الطيارة بعد ان تم تسريع نسق الاستثمار في التكنولوجيات المتقدمة المخصصة للتصدير وقد تم ذلك بدعوى تقريب التكنولوجيا الخلاقة للتنمية وهو مطلب تنموي في الاقتصاديات الضعيفة ، ينظر في هذا:
Akiro GOTO et Brendan BARKER : Les Deux faces de la mondialisation : in,Revue Internationale des sciences sociales N-160, Juin 1999 .
[30] من الأعمال التي تسوق لعولمة قادرة على الإدماج وإنتاج المساواة نجد :
" من المفيد من وجهة نظر مفاهيمية أن نميز خاصيتين في العولمة :
الأولى: تتعلق بالعوامل التالية : التجارة الدولية والاستثمار والتكنولوجيات وأنظمة الإنتاج العابرة للدول ودفق المعلومات والاتصالات وقد عملت بعض هذه العناصر على تقريب بعض الاقتصاديات والمجتمعات ولكنها همشت أيضا عددا كبيرا من الدول والأفراد والانشغال الآن هو في رؤية المزيد من الأفراد مقصيين من الاقتصاد العالمي القائم على المعرفة خاصة إذا كانت الهوية الرقمية غير قابلة للتجسير بجدية.
الثانية: تتعلق بالتوحد المتزايد للسياسات والمؤسسات مثل تحرير التبادل والأسواق و رؤوس الأموال وتفكيك الدولة الكافلة والاتفاقات الدولية حول حقوق الملكية الفكرية و تعميم السياسات و السلوكيات التي تبجل العولمة كقيمة . والظواهر المرتبطة بالخاصية الأولى هي ظواهر نهائية غير قابلة للنقض في حين أن الظواهر المرتبطة بالخاصية الثانية تتعلق بالاختيارات السياسية للدول حيث إن تأثيرات العولمة على المجتمعات يمكن استيعابها من خلال السياسات المتبعة ومن خلال الاتفاقات الدولية التي يتم التفاوض حولها (مثل تطبيق المعايير الدولية الأساسية في الشغل ) .
إن التعبير "البعد الاجتماعي للعولمة " يأخذ بعين الاعتبار تأثيرات العولمة على العمل وعلى حياة الأفراد وأسرهم وعلى المجتمع في مجمله والانشغالات التي يعبر عنها هؤلاء نتيجة تأثيرات العولمة عليهم وابعد من ظروف العمل فان البعد الاجتماعي يمس الأجور والحماية الاجتماعية والثقافات والهويات وكذلك الاندماج والإقصاء الاجتماعي وتوافق الأسر والجماعات المحلية ."
Bernhard G. GUNTER et Rolph VAN DER HOEVEN: La dimension sociale de la mondialisation :analyse bibliographique;in ;Revue Internationale du Travail Vol,143:N°1 et 2,p7.
[31] ينظر في هذا الأمر على سبيل المثال لا الحصر :
J.M.SERVAIS: La Clause Sociale dans Les Traites De Commerce :in Revue Internationale de Travail: Volume 128, N 4, 1989.
[32] لقد أنشئت اللجنة الدولية الساهرة على البعد الاجتماعي للعولمة من قبل منظمة العمل الدولية في فيفري 2002 وقد ترأسها رئيسا دولتين هما السيدة (Mme Tarja Halonen ) رئيسة جمهورية فنلدا والسيد (Ben Jamin Mkaba) رئيس جمهورية تنزانيا الموحدة وقد كانت مهمتها الانكباب على الوسائل التي تمكن المنظمات والمؤسسات الدولية من جعل الحراك المصاحب للعولمة أكثر قدرة على الإدماج وأكثر عدلا وأكثر قبولا من الجميع . وقد كان جهدها غير مسبوق في إنجاح الحوار الوطني والدولي وحول الوسائل التي تجعل العولمة أكثر قدرة على الإدماج في الوقت الذي كان فيه المحيط العام واقعا تحت هيمنة الكثير من الأفكار المسبقة .(...) وقد نشرت اللجنة المذكورة تقريرها في 24 فيفري تحت عنوان 2004.
"Une mondialisation juste:créer des opportunités pour tous"
Bernhard G. GUNTER et Rolph VAN DER HOEVEN: La dimension sociale de la mondialisation :analyse bibliographique;in ;Revue Internationale du Travail Vol,143:N°1 et 2;p8.
[33] Marilyn CARR et Martha CHEN: Femmes et hommes face à la mondialisation et à l'exclusion sociale ;in Revue internationale du travail Vol,143 N°1-2 (2004) p 142.
[34] ( Marilyn CARR et Martha CHEN) نفس المصدر صفحة 146.
[35] ( Marilyn CARR et Martha CHEN) نفس المصدر صفحة 163.

ليست هناك تعليقات: