١٥‏/٣‏/٢٠٠٦

عز الدين المناصرة : قصيدة النثر

عز الدين المناصرة : قصيدة النثر.. نص مفتوح بايدلوجيا العولمة


T19

لعل مصطلحاً أو شكلاً أو جنساً كتابياً لم يمثل اشكالية ثقافية ولغوية وعصرية كما هو الحال في قصيدة النثر، التي كلما اتسع الزمن اتسعت دائرة البحث عن المصطلح وعن البداية واحتدام التنظير المقارب والمبتكر، وتزايدت الترجمات المصاحبة لكل ذلك التنظير.. ولقد ظهرت العديد من البحوث والدراسات التي انطلقت من اشكالية هذا الجنس الابداعي معلنة الاشكال بشكل يوضح ان ما سيكتب مجرد مقاربة تناقش آراء ومعطيات سابقة.
قصيدة النثر.. نص مفتوح   عابر للانواع كما يصفها عز الدين المناصرة في كتابه الجديد: اشكاليات قصيدة النثر.. ولعله الكتاب الاول الذي يتعاطى هذه المسألة من جوانب نظرية وتطبيقية ومحاكماتية.. وقد صدر الكتاب مؤخراً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
كان الفصل الاول في الكتاب: قصيدة النثر اشكاليات التسمية والتجنيس والتاريخ افتتح الفصل بعبارة للمؤلف: "الديمقراطية هي ان تقهر نفسك، عندما تكون قادراً على قهر الآخرين" وعبارة لمحمد الماغوط: "أنا اكتب نصوصاً ولن أغضب إذا قيل انني لست شاعراً، وانما كاتب نصوص".
وعبارة لياكبسون: "القصيدية" ليست اجبارية للفعل الابداعي، يكفي ان نتذكر المرات الكثيرة التي كان فيها الدادائيون والسورياليون يتركون صناعة الأشعار للصدفة.
بحث المناصرة اول الأمر وكمقدمة ظاهرة الشبيه بقصيدة النثر.. معدداً بعض المصطلحات التي اطلقت على هذا الجنس في فترات تنظيرية مختلفة مثل: الشعر المنثور، النثر الغني، الخاطرة الشعرية، النص المفتوح، الشعر بالنثر، النثر بالشعر النثيرة، النثر الشعري.. وغيرها.
ثم اخذ يتتبع البداية من خلال اول مجموعة عربية صدرت من نوع الشعر المنثور إذ يعد (هتاف الاودية) لامين الريحاني اول ما صدر من ذلك النوع، وتتبع العناصر الفنية التي اشتملت عليها تلك الكتابات وبخاصة في نص "إلى جبران"، وبعد جبران بدأت بعض الكتابات التنظيرية حول هذا الجنس السائد من ذلك ما كتبه رشيد الشعرباق العام 1928م ومقدمة لويس عوض في كتابه: بلوتو لاند وقصائد اخرى الصادر في عام 1947م ومن هنا يظهر ان الشعر المنثور وانطلاقا من المتحقق النصّي.. انتج بشكل السطر الشعري واستخدم بعض القوافي أحياناً وهو في نفس قدّم ما يشبه قصيدة النثر أي كتب بلا وزن ولا قافية..
اما المرجعية غير العربية فقد ساهمت في تعميق اشكالية المصطلح من خلال ما حدث من نقل حرفي للمصطلحات والمفاهيم غير العربية إلى العربية حتى ان شاكر لعيبي كان يقول: بقبول قصيدة النثر بوصفها شكلا اوروبيا! إذ لا يوجد شبيه لها في التراث العربي.. وهذا ما دعا بعض المدافعين عن قصيدة النثر إلى العودة إلى التراث واستخراج نصوص ونماذج لشعراء.. على ان شبيهة بقصيدة النثر انطلاقاً من المتحقق النصي لا من القصدية.. فأوردوا نماذج لسطيح الكاهن، وقس بن ساعدة الايادي وابوزيد البسطامي، وجلال الدين الرومي والنفري وغيرهم..
ويعلل المناصرة عودة الجدل حول التسمية إلى ان كتاب قصيدة هم الذين يعاودون الطرح دائماً في هذه القضية وكذلك ما إذا كان هذا الجنس مرحلة تطوريةة للقصيدة العربية وبحث البداية ومكانها والشكل الذي تكتب به قصيدة النثر..
وتحدد سوزان برنار قصيدة النثر بالآتي: ان النثر الموقع الذي تستخدمه قصيدة النثر متميز عن الشعر الحر وذو طبيعة مختلفة.. قصيدة النثر المكتوبة بالنثر الايقاعي تتميز من النثر الايقاعي تمايز القطعة الموسيقية من الكآبة الطباقية لأنها تفرض على النثر الايقاعي تنظيماً شكلياً وبناءً عاماً ليكون من ذلك وحدة واحدة وكياناً فنياً.
ولعل مقالة ادونيس سنة 1960م عن قصيدة النثر أول مقالة نقدية واضحة المعالم عن خصائص قصيدة النثر على انه الخصائص التي طرحها أدونيس هي نفس الخصائص التي طرحتها سوزان بزنارو بعد أدونيس تظهر مقدمة أنسي الحاج في مجموعته "لن" العام 1960م وفيها تماثل كبير مع ما طرحه ادونيس في مقالته السابقة ويتبعهما في ذلك بول شاوول الذي يرى ان مسألة قصيدة النثر قد حسمت منذ ان كتبها  توفيق صايغ عام 1947م.
ودعم كل ذلك بظهور مجلة فراديس والتي تضمن العدد المزدوج منها  6-  7انطولوجيا عربية واجنبية لقصيدة النثر، وحوت كذلك بعض المقالات النقدية والتنظيرية وإلى العام 1996م حين اصدر الباحث اللبناني أحمد بزون كتابه "قصيدة النثر العربية الاطار النظري".
لقد أصبحت قصيدة النثر جنساً شرعياً في الوطن العربي بحكم وجودها الواقعي وبالنظر إلى كمية المجموعات الصادرة منذ العام 1985م إلى يومنا الحالي نجدها تعد بالمئات خاصة بالنظر إلى اولئك الذين أصبحت عندهم قصيدة النثر شكلاً ثالثاً بين الشعري والسردي.
ولقد سجل العديد من الشعراء والنقاد مواقف متباينة من قصيدة النثر كما لدى شربل داغر، وجودت فخر الدين ومحمود درويش وأحمد عبدالمعطي حجازي وسميح القاسم وعباس بيضون وعبده وازن وبسام قطوس وغيرهم..
وبالاجمال فقد رسخت موجة الروّاد وموجةالستينات والسبعينيات قصيدة النثر بأشكالها المختلفة لتواصل موجة الثمانينات اشباع حركة قصيدة النثر لكن الانفجار الكبير حدث منذ أوائل التسعينات فتحولت قصيدة النثر نحو السيطرة شبه التامة على وسائل الاعلام في ظل ثقافة العولمة والتشظي الكبير فبعد ان كانت مركزية قصيدة النثر تدور في لبنان، فلسطين، سوريا، العراق اخذت تنتشر مع بداية التسعينيات لتشمل الخليج العربي، مصر، المغرب العربي.
ان قصيدة النثر منذ منتصف الثمانينات هي (قصيدة العولمة) وهي تعبير طبيعي عن حالة التشظي العربية منذ نهاية الحرب الباردة وهي أيضاً تعبير عن (حالة التجريد) و(تبريد اللغة الشعرية) الذي يلتقي مع مفهوم محو الهوية.. الذي تريده العولمة والفصل الثاني من الكتاب: قصيدة النثر تبريد اللغة الشعرية - قراءة النصوص وفيه نصوص واسماء تكاد تمتد على مدى ثلاثين سنة من  1970- 2001م.
وجاءت النماذج كالتالي: لُفظ في البر لعباس بيضون، غيوم لانسي الحاج، قبر سياحي لفاضل العزاوي، نص الكتلة ونص البياض لبول شادول، مرئيات سردية لسركون بولص، المثاقيل لسليم بركات، تخت شرقي لشربل داغر، تاميراس لرياض فاخوري، تأويل المكان لمؤيد الراوي، صوفية مسيحية لسمير الصايغ، في صحة مريم لمحمد العبدالله، العابر في منظر ليلي لبسّام حجّار، المجموعة الثانية من الاسماء والنماذج وضمت: (تحت شمس الجسد الباطن) لعقل العويط، (كيف) لشاكر لعيبي، (مرتقى الأنفاس) لامجد ناصر، (هذيان الجبال والسحرة) لسيف الرحبي، (أفعال مضارعة) لوليد خازندار، (أشغال يدوية) لزكريا محمد، (الجزر) لغسان رقطان، (حالات) لخالد درويش، (منذ  نبات آوى) لقاسم حداد، (الواح اورفيوس) لنوري الجراح، (طائر الرذاذ) لحلمي سالم، (هكذا قلت للهاوية) لرفعت سلام، (موت الاشياء من حولك) لمنذر عامر، (اشراقات) لمحمد حسين القاضي، (بصل أخضر) لباسم النبريص، (التوقيعة) لزياد العناني، (زير لغات) لنجوان درويش (توجد الفاظ أوحش من هذه) لحسين البرغوثي وغيرهم، وتجارب ونماذج اخرى لمن يسميهم المناصرة.. نساء قصيدة النثر من امثال: ندى الحاج، وفاء العمراني، دنيا الأمل اسماعيل، مرام مصري، عائ
شة ارناؤوط، ندى خوري، سلوى الثعيمي، هالا محمد، روز شوملي، رانة نزال، غادة الشافعي.. وهذه النصوص تمثل الاطار العام لقصيدة النثر في الثلاثين سنة الاخيرة ( 1971- 2001م) تمثيلا صادقا فهي توضح الخطوط الرئيسية في الأساليب التركيبية المستخدمة في واقع قصيدة النثر مثلما توضح تعددية المنظور إلى العالم وترصد محطات التحول في الاساليب..
كذلك فمن خلال النصوص يظهر ان شعارات مثل: المغايرة، الاختلاف، الانشقاق وغيرها من مبادرات القطيعة.. انما يعلنها غالباً من هم ضعاف ومقلدون، اما ابرز ظاهرة من خلال تلك النماذج فهي ما يسميه المناصرة: تبريد اللغة الشعرية، من خلال ما يظهر في النصوص من تأمل هادئ للاشياء واهتمام باللغة السردية، كذلك فهناك ظاهرة الانفصال عن الاشياء فالمرئيات المتناثرة يعاد تركيبها في تشكيلات قد تكون تقليدية وقد تكون جديدة..
ومما تتميز به تلك النماذج طغيان السردية مما يجعل بعض النصوص أقرب إلى القصة القصيرة جداً، ولعل ابرز ما يلحظ في تلك التجارب:
- ظهور تطورات جديدة مثل الكثافة الشعرية مما يولد الصفاء الشعري مع وجود نصوص لا علاقة لها بتلك الكثافة وانما هي انسيابية مترهلة.
- النصوص تمتلك درجات متفاوتة من الشاعرية فهناك درجات عالية وهناك اخرى هابطة.
- ظاهرة التكرار الاسلوبي واضحة في كثير من النصوص وهنا يقوم الايقاع بلعب ادوار متعددة كاشباع الايقاع ومنح الصور شيئاً من الشعرية.
- لا تزال نصوص البياض تجريبية حيث يتم الخلط بين بنية المكان في الصفحة بما يتعلق بشكل الصفحة.
- تظهر في النصوص ما يمكن تسميته باللافتة الشعرية وهي غالباً سطر شعري مكثف له ملامح الحكمة أو الخلاصة بعد تأمل عصارة تجربة ما.
- تسيطر على كثير من النصوص أساليب الدفاع عن الذات النرجسية في مقابل قطيعية الجماعة.
- هناك نصوص لا تستخدم الاستعارات الشعرية أو حتى اللغة الشعرية الموروثة.
- في بعض النصوص صوفية اسلامية ومسيحية لكن الكثير منها يعبر بلغة مصطنعة أو يعيد انتاج صوفية موروثة.
- في نصوص التسعينات اهتمام اكبر بالتعبير عن الجسد بتجلياته السطحية والعميقة.
- في النصوص ما يمكن تسميته بالنص - اللقطة السينمائية.. وهناك نص التوقيعة المكثف جداً..
- في بعض النصوص سخرية سوداء سوريالية عبثية تعبر عن الاسترخاء العبثي تجاه العالم.
- هناك اهتمام بلغة الحياة اليومية ورسم الصور التفاصيلية.
- ايقاعات قصيدة النثر.. لا يمكن ان تقاس وهي غير منتظمة وبالتالي لا يمكن احصاؤها أو مقارنتها بالايقاع الشعري الموروث أو الحديث.
والفصل الثالث والاخير من الكتاب:
اشكاليات قصيدة النثر، اسئلة القراء، أسئلة الواقع واسألتي (استفتاء ميداني - آذار، حزيران، 2001م) هل هي جنس مستقل عابر للانواع؟!!
وهذا الفصل عبارة عن اجابات وتداخلات على اسئلة بعث بها المؤلف وكتب له حولها كل من: احسان عباس، عبدالملك مرتاض، نجيب العوفي، محمد المريسي الحارثي، محمد السرغيني، عبدالرحمن يانمي، محمد صالح الشنطي، شاكر لعيبي، محمد بودويك، إبراهيم ابوهشهش، غسان عبدالخالق، محمد عبيدالله، سليمان الازرعي، حكمت النوايسة، عبدالمجيد زراقط، غازي الذيبة، إبراهيم الخطيب، نادر هدى، أحمد بلحاج آية وارهام، زهير ابو شايب، عبدالكريم الناعم، محمد الباردي، ضياء خضير، محمد صابر عبيد، بشرى موسى صالح، ذياب شاهين، رائد جرادات، حبيب مونسي، زياد ابولبن، عادل الاسطة، ناسان اسبر، ناصر شبانة، ريمي ابوعلي، شاهر خضرة، محمد سليم الزبعي، رسول عدنان، حاتم النقاطي، محمد علاء الدين عبدالموالى، لارا الحمود، المهدي عثمان، رزاق الحكيم، عبدالسلام المساوي، بوجمعة العوفي، شربل داغر.
ولعل ابرز ما يمكن استخلاصه مما طرحه المؤلف ثم لخصه:
- ان الشعر المنثور والنثر الشعر هما ما مهدا لقصيدة النثر منذ اوائل الخمسينات حين صدرت مجموعة (ثلاثون قصيدة) لتوفيق صايغ.
- ولقد بدأت قصيدة النثر من وحدة السطر ووحدة الفقرة، حتى وصلت إلى التدوير الكامل كما بدأت من اللغة الرومانتيكية واليومية بتكثيف السطر الشعري والفقرة الشعرية ولكنها وصلت إلى درجة الصفاء اللغوي الشعري.
وبالنسبة لمسألة التجنيس.. فهناك من يرى ان قصيدة النثر شعر خالص وهناك من يرى انها نثر خالص وهناك رأي ثالث يرى انها جنس أدبي ثالث مستقل بما تحمله من درجات الشعرية ودرجات النثرية.
- وعلى امتداد خمسين سنة من قصيدة النثر العربية إلا انها لم تحصل على شرعيتها من التنظير النقدي لان التنظير كان شعاراتياً متناقضاً وكذلك بسبب وجود فجوة بين التنظير والنصوص.. لكن قصيدة النثر اكتسبت شرعيتها من كمية المنجز النصّي المتنوع ومن النوعي في النصوص أحياناً.
- وخلاصة.. فإن قصيدة النثر جنس مستقل ونص مفتوح على الانواع وعلى الآخر (هجين) اما ايدلوجيا قصيدة النثر فهي اديولوجيا العولمة بجمالياتها الشكلية ووحشيتها المرعبة فهي تعبير عن الحوار مع الآخر بشروط غير مثالية.. إذ تنطلق من التلذذ الوجودي المتعالي بالتبعية مع ملامح دونية واضحة خصوصاً إذا كان التوحيد القهري هو البديل لتنوّع الهويات.

يحيى الأمير

ليست هناك تعليقات: