١٥‏/٣‏/٢٠٠٦

حول ترجمة الشعر وتجربة غونار أكيلوف

ترجمة الشعر
أهي محافظة على الأصل أم إعادة صياغة شعرية؟

عبد الستار نورعلي


الشاعر السويدي غونار أكيلوف* 1907-1968 أطلق على تراجمه الشعرية من اللغات الأخرى إلى السويدية مصطلح (أومديتننغ)* بمعنى إعادة الصياغة الشعرية) أي خلق نص جديد من رحم وإيحاء المضامين التعبيرية في الصورة والمعنى لنص ثان بلغة أخرى ، فهو والحالة هذه خلق إبداعي يحتسب للمترجم أيضا ، فالترجمة إذن في رأي أكلوف منتج إبداعي ، ولذا نلمس فرقاً في الجودة والرقي بين ترجمة وأخرى,أحياناً لنص مترجم واحد . لقد انطلق الشاعر في موقفه هذا من كون الشعر ذا ارتباط عضوي عميق متلاحم باللغة التي يُصاغ بها عبر مجموعة من القيم و العلاقات التعبيرية المؤدية إلى الخلق الشعري الإبداعي ، تشمل الإيقاع والقواعد اللغوية التركيبية لفظية وجملية من نحو وصرف وإيقاع صوتي إلى جانب المخزون الثقافي والإرث الإبداعي والمخيلة الخالقة للصور التعبيرية الموحية الناقلة للمضمون والمعنى والأحاسيس الكامنة وراء النص المبدع (بفتح الدال) من أجل نقل إحداث الأثر المطلوب والمأمول في المتلقي . مضافاً إلى كل ذلك أهمية العلاقة الجيوخيالية بين الشاعر والمتخيَّل المخلوق ، أي الاتصال البيئي المعاش بين الإنسان والمحيط الطبيعي الماحول المكوِّن للذاكرة التخيلية للفرد عموماً ، بمعنى نظام خلق وإيصال الصورة التعبيرية المتصلة بالمعاني والأحاسيس والمشاعر من خلال التداعيات المنبثقة عن التجربة الحياتية ومكوناتها في النفس . وهي الصلة الدقيقة غير المرئية العفوية الالتقاط التي تنسج تأثيراتها في تكوين المخيلة والذاكرة الحافظة الخازنة لتجد طريقها الى وسائل التعبير المختلفة ومنها الشعر. وهنا يأتي دور اللغة في النقل من خلال ألفاظها وقواعدها وتأسيساتها وخصائصها الذاتية المرتبطة بالأمة وإرثها الثقافي واللغوي في الصياغة والتربية اللسانية اللفظية والتعبيرية والمخيلة الخاصة المتصلة بكل ما أسلفنا ، الى جانب الميزة الصوتية المنطوقة لكل لغة في إيقاعها ونبرها وتلفظها لخلق التأثير المرتجى في المتلقي وهو ما نطلق عليه اسم الوزن في قاعدة الشعر .

كل هذه العوامل والعلاقات مجتمعة تساهم في عملية الابداع الشعري ، وبما أنها تختلف من أمة الى أخرى ومن لغة الى غيرها ومن فرد إلى فرد باختلاف البيئة والمحيط الجيوخيالي واختلاف التجارب الحاضرة والماضية والموروث الثقافي والذاكرة المختزنة ، فبالضرورة يختلف الخلق والابداع و التأثير المطلوب منهما ، وعليه يتمايز التلقي والمعايشة المهدوفان .

وكمثال فلنتصور تأثيرات ظواهر طبيعية كالليل والثلج والرياح على فردين أحدهما يعيش في قيض الصحراء الحارة اللاهبة وآخر في برد بيئة المناطق القريبة من القطب . ما الذي توحيه في معايشة و تلقي الإثنين . بالتاكيد تثير عند الأول مشاعر من الارتياح في وسط بيئي محرق توحي إليه بالتوق إلى البرد لإطفاء اللهيب المرافق له مع النهار وشمسه الساطعة الملتهبة ، أما الرياح فتأتيه بعواصف الرمال لتضيق وتخنق أنفاسه وتضيع عليه علامات الطريق وتثير في نفسه مخاوف التيه في البيداء وما تجره من موت محتمل . أما الليل ففيه القمر الهادئ المنير الجميل والنجوم اللامعة الصافية التي تبعث في النفس أحاسيس الارتياح والتأمل إضافة الى الاهتداء بها على الطريق ، لذا رأينا مشاعر الشوق والصبابة والتغزل وتشبيه الحبيب تورق وتخضر وتجد تعبيرها فيه . ويكون السير والسفر في آنائه تجنباً لقيض الشمس في النهار ، ولفظة (السُّرى) خير دليل على الايحاء ، مع أن الليل يثير الشجون أيضاً للهدوء والتأمل اللذين يصاحبانه. أماالفرد الثاني نزيل القرب من القطب فتبعث فيه ظواهر الثلج والليل والرياح مشاعر الاحتصار والضجر والاكتئاب والضيق والملل الخانق ، فالليل صاحب طويل قارس فيه سكون مميت قلما يتمتع فيه الفرد بالنجوم والقمر ، والثلج تجمد معه الحياة و النشاط الانساني فيدفع المرء إلى ملازمة مسكنه ومكتبه ومحله ، وهو مثير للخوف والضياع والهلع يرسم في الذاكرة والمخيلة صور الذئاب والدببة والقشعريرة في الجسد ، لذا فإن حوادث الانتحار عالية في مواسم الشتاء والبرد والليل الذي لا ينتهي في هكذا بيئة ، بينما قلما نسمع عن حوادث انتحار في البيئة الأولى . من كل ذلك فإن تداعيات ومعاني ومؤثرات الأحاسيس الشعرية المعبر عنها بالمخيلة التصويرية لهذه الظواهر تختلف في ايحاءاتها وإيماءاتها ومضامينها وتأثيراتها في كل حالة من الحالتين فيكون التلقي والمعايشة الداخلية في النفس مختلفين معهما ، وكذا مجموعة القيم الثقافية والاجتماعية والتجربة الحياتية ، وبالضرورة اللغة أيضاً . فالجغرافية خالقة المخيلة ومؤطرتها ورحمها الأم ومبعث المعاني في الصور المرسومة . والحالة هذه لا تقتصر على المبدع الخلاق فحسب وإنما تنسحب على المتلقي ومنه المترجم ، ومهمة الثاني قد تكون أصعب بكثير لأهمية عنصر المعايشة والفهم الضروريين للحالتين معاً المترجم منها والمترجم إليها ليكون النص قريباً من الأصل إن لم يكن هو ، وهو ما يعتبر شاقاً ومجهداً للغاية فيعيدنا إلى ما قاله الشاعر السويدي أكلوف حول ترجمة الشعر . ليثير التساؤل : هل تبقى الصورة هي نفسها في إيقاعها وتأثيرها على المتلقي الجديد كما هي على المتلقي في أصل النص ؟
ومما يدعم رأي الشاعر السويدي الترجمات المختلفة لنص واحد إلى لغة واحدة لها نفس الخصائص والمؤثرات والبيئة ، فمثلاً لو أخذنا ترجمات رباعيات الخيام إلى العربية لعدد من المترجمين العرب لوجدنا اختلافاً جلياً بينها من حيث اللغة والايقاع والوزن والتأثير الحسي رغم المحافظة على المعاني والصور التي عبر عنها الشاعر الأصل عمر الخيام . فترجمة الشاعر أحمد الصافي النجفي تعدُّ أقرب الترجمات الى النص وذلك لمجاهدة المترجم في المحافظة عليه روحاً وصوراً وتعبيراً وتأثيراً مطلوباً وحتى محاولة المقاربة اللغوية في اختيار الألفاظ الموحية للمعنى والصورة في كل من اللغتين مستنداً في كل ذلك على شاعريته وتمكنه ومعرفته الشاملة والعميقة بهما ، فقد عاش في ايران فترة من الزمن ودرس الفارسية وعمل في التدريس في جامعة طهران ، فكان بذلك على اتصال مباشر باللغة الفارسية وبالبيئة التي خلقت النص مما أهله لتكون ترجمته معتمدة ، ومع ذلك فلا تقترب من روح اللغة التي كتب بها الخيام ولا من أصل النص بعوامله الذاتية والموضوعية لتكون بالدقة المرتجاة ، وهذا ليس عيباً أو انتقاصاً إنما واقع موضوعي لا غبار عليه . أما ترجمتا الشاعر المصري أحمد رامي والشاعر العراقي صفاء الحيدري فلم تكونا محاولتين في الاقتراب الدقيق الحرفي من النص الجذر وإنما نقل روحه ومعانيه ومضامينه وصوره بلغتهما العربية وتأثير تلك الخصائص في نفسيهما عند التلقي ومن خلال أسلوبيهما الخاصين اللذين يتميزان بهما. في حين كانت ترجمة البستاني ترجمة نثرية دفعت البعض إلى القول بأنها من بدايات الشعر الحر ، ويمكننا أن نضيف بأنها ربما من بدايات قصيدة النثر الحالية .
وفي جانب الترجمة الجاهدة في المحافظة قدر الامكان على روح النص من خلال المعرفة الدقيقة العميقة والاحاطة الفائقة باللغتين المترجم منها والمترجم إليها دراسة ومعايشة هي ترجمات الأديب الكبير جبرا ابراهيم جبرا الراقية المعمقة لأدب وليم شكسبير لدرجة أنها أمست مرجعية موثوقة في باب دراسة شكسبير باللغة العربية .
و مع ذلك يبقى التساؤل المطروح حول ترجمة الشعر و امكانية المحافظة على النص الأصلي بروحه وإيحاءاته أم هي في كل الأحوال إعادة صياغة للنص باللغة الثانية ؟

لم يكن الشاعر السويدي أكلوف فقط من أشار إلى التغير الذي يطرأ على النص الشعري إذا ترجم إلى لغة أخرى والذي دفعه الى اطلاق مصلح جديد على ترجماته فقد سبقه بقرون أديبنا الكبير الجاحظ حيث قال :"والشعر لا يستطاع أن يترجم ، ولا يجوز عليه النقل ، ومتى حوِّل تقطع نظمه وبطل وزنه ، وذهب حسنه ، وسقط موضع التعجب ، لا كالكلام المنثور ، والكلام المنثور المبتدأ على ذلك أحسن وأوقع من المنثور الذي تحول من موزون الشعر .... وقد نقلت كتب الهند وترجمت حكم اليونان وحولت آداب الفرس ، فبعضها ازداد حسناً ، و بعضها ما انتقص شيئاً ، ولو حوِّلت حكمة العرب لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن .." .
إن الجاحظ يركز على جانب الوزن في الاخلال الترجمي بالنص الشعري ، والوزن مرادف الايقاع في التعبير المشاع ، بمعنى أن اختفاء الايقاع في الترجمة يقود الى تمزق النص وغياب الوزن وبالضرورة المتعلقة بهما فقدان الجمالية وعدم إثارة الاعجاب والمعايشة في نفس المتلقي . وقد استثنى الجاحظ النثر من اخلال الترجمة فهل والحالة هذه تدخل ترجمة قصيدة النثر في سياق ترجمة النص النثري ؟ أم أن ما يسمى بالايقاع الداخلي فيها سيختلُّ بالترجمة أيضاً وعليه فترجمتها هي أيضاً إعادة صياغة ؟


*- (Gunnar Ekel?f) -(omdiktning)

ليست هناك تعليقات: