١٥‏/٣‏/٢٠٠٦

عبد الوهاب البياتي: سيرة ذاتية لسارق النار

عبد الوهاب البياتي: سيرة ذاتية لسارق النار


t1901 خالد المعالي

عندما توفي الشاعر عبدالوهاب البياتي في الثالث من اب عام  1999ودفن، بناء على وصيته، في مقبرة الشيخ محيي الدين بن عربي ( توفي عام 1240م) بدمشق، ذلك الشاعر والمتصوف العربي المعروف، يكون البياتي قد استشرف هذا المسار منذ بدايته تقريباً، وكانت خطاه تعبيراً صريحاً عن رؤاه الشعرية والإنسانية، وكان ذلك متماهيا مع شعراء عصره أمثال التركي ناظم حكمت الذي خصه قبيل وفاته المفاجئة عام (1963) بكلمة تقريضية لأحد دواوينه المترجمة الى الروسية، أو شعراء أخرين مثل: لوي أراغون، غارسيا لوركا، بابلون نيرودا، رفائيل البرتي أو فلاديمير ماياكوفسكي أو حتى كاتباً كأرنست همنغواي، أو البير كامو... فالبياتي كان مثال الشاعر الكوزموبولتي، وهم لم يفته في غمار كل هذا التوزع أن يأخذ بطرف من لواعج الصوفيين المسلمين.. فالذي كان يعني الشاعر هو إقامة العدل على الأرض.
إلا أنه شاعر كانت تغريه منذ البداية لعبة تغريب المكان، لعبة أن تكون واقعياً، فيما أنت توهم بالواقع، الأمر الذي دفع شاعراً كأنسي الحاج، إلى أن يكتب مبكراً عن شعر البياتي وذلك خلال عرضه لأحد دواوين الشاعر البياتي وعن حق: " انتقلت في الاسبوع الماضي إلى بلدان و(مدن) عديدة منها العراق، وفلسطين،  ومارسيليا في فرنسا، وشيكاغو، وطهران، والصين، وسوريا، ومراكش وتونس والجزائر.. وكان بودي لو أبقى مدة طويلة في " وارشو" بعدما ذهبت اليها على جناحين من الشوق عبر شعر البياتي.. ذلك أن شعر البياتي في " حريته" وشبه كونيته وشموله، ينقلك- ولو بالرائحة- الى افريقيا الشمالية أو إلى الصين فيجعلك- ولو بمقدار زهيد- حاضراً معه في تلك البلاد.." أنسي الحاج ( شعر، عدد ,19572).
فحينما بدأت حركة مايسمى بالشعر العربي الجديد، والتي كان رائداها بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، ذكرت أسماء إضافية أخرى الى جانبيهما، لكن اسم عبدالوهاب البياتي الذي  أخذ يتردد الى جانبيهما، بقي ثابتاً، بل أخذ يبرز ويتسع وينتشر. حتى اعتبر ثالث اسم في مجموعة التحديث الشعرية التي برزت في العراق. ففي مجموعته الشعرية الثانية( صدرت مجموعته الأولى : ملائكة وشياطين عام 1950، ولا علاقة لها بالتجديد المذكور) " أباريق مهشمة" التي صدرت طبعتها الأولى ببغداد عام 1954، ثمة قصيدة هي " سوق القرية" التي تبدو للقارئ العجول وكأنها تقليد محض لقصيدة بدر شاكر السياب " في السوق القديم"
التي كتبت في 1948/11/3، وربما هي كذلك من الجانب الخارجي، فربما أوحت تلك القصيدة المذكورة للبياتي بقصيدته تلك ، لكن البياتي استطاع من خلال استلاهمه لقصيدة السياب، كما يؤكد سركون بولص أن " يكتشف اسلوب المونتاج بوعي، فالبياتي استطاع بهذه القصيدة ان يكتشف تقنية التراكم وتوزيع اللقطات.. لكأن الشاعر بنّاء يشيد بيتا، لبنة لبنة، وحجرا فوق حجر". من قصيدة السياب المذكورة أعلاه ولدت تقنية البياتي التي ميزته وأعطته لونا جديداً وخاصاً.... ولكنه رغم محاولاته اللاحقة التوسع في  هذا المضمار، إلا أنه لم يخط أبعد من هذا كثيرا...
لقد عرف عن هذا الشاعر زهده ونقمته، وهما قد مثلا لديه أعز ما يملك،  فقد كان مكتفياً بما يقيم أوده، وكان متواضعاً بشكل ثر، تجده حتما حينما تريده، ولست أنسى لقائي به للمرة الثانية ( ذلك أن المرة كانت عام  1976وكان عمري عشرين عاماً، في مكان عمله بوزارة الثقافة العراقية ببغداد، حينما قدمت اليه من قريتي البعيدة، طالباً نصيحته في محاولاتي الشعرية الأولى) حيث وجدته هكذا صدفة أمامي في مقهى المودكا( مقهى شعبي يؤمه الأدباء في وسط بيروت) جالساً في شارح الحمرا... وحينما منحت له جائزة العويس  لانجازه الشعري ( وهي جائزة ذات مردود مالي معقول) تكفل البياتي بنشرة عدة مجاميع شعرية لشعراء عراقيين مقطوعين ( ذلك أن دور النشر العربية اليوم وربما البارحة أيضاً، لا تنشر دواوين شعرية الا على حساب مؤلفيها، إلا فيما ندر). ثم لم يكتف بهذا، اذا قام بسابقة وهي تمويل جائزة شعرية باسمه من أجل اسناد الشعراء الجدد.
كان رهان البياتي على أهمية التجربة أساسياً، تاركاً للتجريب أهمية دنياً وهامشاً ضئيلاً، فهو يرى مثلاِ، وهو محق تماماً في هذا، بأن تجربة شاعر مثل أدونيس " ليست لها جذور فلسفية أو وجودية، وهي تنطلق من الكلمة الى الكلمة، وتقفز من اللفظ الى اللفظ، ولا تحدق فيما وراء الكلمات والألفاظ.. وليس في جهده أية معاناة حقيقية" ذلك  أن الحداثة والتجديد حسب رأيه " ينبعان من المعاناة الروحية والمادية معاً".. والمتأمل لعمل أدونيس فهو  يراه " يجلس متأملاً وقارئاً، ويعيد  انتاج ما قرأ، وأحياناً بالأسلوب نفسه... لهذا ترى أن تأِثيره سطحياً ولفظياً أكثر مما هو تأثير عميق وحقيقي.." وبهذا التعبير الذي ورد في حوار نشر بعد وفاته، يكون البياتي قد استطاع وصف شعر أدونيس بدقة!!
ولد عبد الوهاب البياتي( عائلته ذات أصول تركية على الأغلب) عام  1926بقرية صغيرة قرب بغداد، سكنت عائلته فيما بعد بغداد في محلة " باب الشيخ" قرب مرقد " الكيلاني" ( متصوف معروف وله أتباع في آسيا) وهناك أكمل دراساته الأولية، ليلتحق لعام في الكلية العسكرية، التي سيتركها الى دار المعلمين العالية التي حصل منها على ليسانس في اللغة العربية وآدابها عام   1950.مارس التدريس في المدارس العراقية، حيث كان من تلاميذه في مدينة الرمادي الشاعر العراقي سركون بولص، شارك في تحرير مجلة " الثقافة الجديدة" التي أصدرها الحزب الشيوعي العراقي، ففصل على أثرها ( 1953) من وظيفته وطورد مما اضطره الى مغادرة العراق فيما بعد، الى سوريا ثم بيروت والقاهرة، حيث أقام هناك وعمل محرراً ثقافياً في جريدة " الجمهورية" القاهرية.
ساهم انضمامه للحزب الشيوعي العراقي (رغم ادمانه التغيب عن الاجتماعات الحزبية، كما يعترف الشاعر العراقي المعروف سعدي يوسف، الكرمل، عدد ,199961) في ابراز شهرته وتكريسه كشاعر اليسار العربي التقليدي بامتياز، حيث نشرت كتبه في طبعات عديدة وتداولتها الأيادي كمنشور سري، كما ترجم العديد من دواوينه الى لغات مختلفة، وعلى الأخص في " البلدان الاشتراكية" ولم تحظ بالاهتمام في البلدان الأخرى الا بعد سنوات فيما بعد. إلا أنه لم يمنح مثلاً جائزة " لينين"، بل نالها " شعراء" عرب لا أهمية تذكر لهم بتاتاً، بل لا يتذكرهم اليوم أحد ما. شارك في الكثير من اللقاءات التي كانت تعقد آنذاك، مثل مؤتمر الكتاب والفنانين العالمي الذي عقد بدعوة من مجلس السلم العالمي الذي عقد عام  1958في النمسا، وعلى إثرها دعي الى زيارة الاتحاد السوفيتي وهناك تعرف شخصياً الى الشاعر التركي ناظم حكمت.
عاد الى بغداد بعد قيام ثورة  14تموز  1958حيث عين  مديراً للتأليف والترجمة والنشر في وزارة المعارف العراقية، ثم عين ملحقاً ثقافياً في سفارة العراق بموسكو عام 1959.لكنه ترك هذا العمل عام  1961وعمل استاذاً في الجامعة وفيما بعد براديو موسكو حتى عام  1964.سافر الى مصر عام 1964، بعد أن أسقطت عنه جنسيته وسحب منه جواز سفره عام  1963، وأقام هناك حتى عام  1972وفي أثناء ذلك أعيدت له جنسيته عام 1967، فعاد عام  1971الى بغداد وعمل مستشاراِ  في وزارة الثقافة العراقية حتى عام  1979ومنذ عام  1980مستشاراً ثقافياً في سفارة العراق بمدريد حتى تقاعده عام 1990،
حيث عاد الى بغداد وخرج منها بعيد انتهاء حرب الخليج عام  1991حيث أقام في عمان/ الأردن حتى عام....؟؟ أسقطت عنه جنسيته ثانية، ومنذ عام أقام في دمشق حتى وفاته. وقد نشرت الصحافة العراقية الرسمية ببغداد عنه خبرا مقتضباً جداً عن وفاته ومليء بالسموم، فهو أشار الى أن المتوفي حظي بعناية خاصة من لدن صدام حسين، وذلك بتعيينه مديراً للمركز الثقافي العراقي في  مدريد، وكم تبدو هذه الإشارة لئيمة، ذلك أن الشاعر كان عام  1959مستشاراً ثقافياً وأسقطت عنه جنسيته لمرتين ومن لدن النظام ( وحزبه الحاكم) ودفن حال حال المئات من العراقيين المنفيين خارج بلاده.
لقد حاول البياتي أن يكون سارقاً للنار من أجل البشر، ومهما كانت هذه الطريق وعرة ومليئة بالمطبات التي قد تكون قد قادته خلال مضائق شائكة، إلا أنه ربما كان يصف نفسه.. " أنا منفي داخل نفسي وخارجها، مبصر وأعمى، ميت وحي في حوار أبدي، صامت مع موتي في رحلة الليل بالنهار.. ان اليقظة التي أعيشها، والوعي الحاد بالعالم والأشياء جعلاني أشبه بالشاهد والمتهم والقاضي.".

ليست هناك تعليقات: