٦‏/٧‏/٢٠٠٦

Alquds Newspaper القدس العربي

رداً علي محمد حسنين هيكل: موريتانيا لعنة الجغرافيا أم لعنة الجهل والتجاهل؟
2006/07/06

محمد عبد الرحمن محمد فال
قبل سنوات استقبلت ضمن لفيف من الإعلاميين العرب في احد المطارات العربية من طرف مسؤول حكومي سام صافحني قائلا: مرحبا بك في (...) كيف حال مقديشو؟ فهمت الأمر علي انه زلة علاقات عامة وقلت له محاولا تنبيهه، أنا قادم من موريتانيا، رد علي المسؤول الإعلامي الكبير نعم أعرف لكن كيف درجة الحرارة في عاصمتكم مقديشو؟ قلت له مرتفعة جدا جدا!!!.
وقبل شهور جلست مع رئيس تحرير واحدة من كبريات الصحف العربية لم يسمع قبلي بكلمة شنقيط ، وقال لي مازحا توقعت أنها وجبة غذائية عندكم !! قلت له قد تكون وجبة روحية وفكرية ولكن..
وقبل أسابيع التقيت مع حارس هندي في إحدي العمارات سألني فجأة بلغته المتكسرة هل موريتانيا عربية إسلامية؟ قلت له نعم، ولما لاحظ استغرابي لسؤاله قال لي أردت فقط أن أتأكد أنها هي نفسها بلاد شنقيط التي درسنا عنها في الجامعة الإسلامية بالهند.
هذه المواقف سيعيشها يوميا كل من يودع مطار نواكشوط الدولي باتجاه الشرق حتي يعود إليه، ولكن ما هو السبب؟ هل فعلا يعود للعنة الجغرافيا أم لعوامل أخري؟
استذكرت هذه المواقف ـ وغيرها كثير ـ عندما جدد الهرم الإعلامي الكبير أستاذ الأجيال محمد حسنين هيكل اساءته لموريتانيا، ويبدو انه حريص علي أن يتحفنا بمثل هذه الإساءات من حين لآخر، فقد كتب قبل سنتين أن موريتانيا دخلت الجامعة العربية عن طريق الخطأ وما أدراك ما الجامعة العربية؟ والأكيد أن موريتانيا تعتز وتتشرف جدا بوجودها في الجامعة العربية لأنها امتدادها الإقليمي وبعدها الحضاري، لكن أعتقد جازما أن اهتمامها بالقضايا العربية يجعلها مستعدة لخروج الجامعة علي الأقل مؤقتا إن كانت هي العائق أمام تحول الجامعة إلي مدينة أفلاطون الفاضلة .
يوم أتحفنا استأذنا الجليل هيكل بهذه الإسئلة لم تطاوعني نفسي في الكتابة له، وان كان الألم اعتصرني علي طريقة الفنانة الكبيرة فايزة احمد (أنا لست ابكي منك بل ابكي عليك...)
أما اليوم فأستاذنا الجليل هيكل يمعن في الاساءة والسخرية ردا علي سؤال الزميل محمد اكريشان في قناة الجزيرة عن رأيه في النموذج الموريتاني معتبرا لعنة الجغرافيا ـ التي تعاني منها موريتانيا في رأيه ـ عائقا أمام تقديم موريتانيا لأي نموذج صالح، وكأنه يتحدث عن الهنود الحمر أو شعوب الاسكيمو .
وفضلا عن الأسلوب الساخر الذي تحدث به تبلغ الاساءة ذروتها عندما يستعمل في حق موريتانيا كلمة اللعنة وهو يدرك جيدا الدلالة اللغوية والدينية والسياسية لهذه الكلمة.
وعندما يصل الأمر لهذا المستوي لا أجد بدا من التوجه لمقام أستاذنا الجليل بهذه السطور خاصة بعد أن استشعرت أن كبار المثقفين في موريتانيا ترفعوا عن الرد عليه، وأنا في كل الحالات لا أرد عليه لسببين اثنين أولاهما أنني لا املك الأهلية الكافية للرد علي هرم إعلامي وفكري بارز بحجمه، وثانيهما أن ما تفضل به مردود عليه بحكم الواقع والوقائع، لذلك أدعوه فقط إلي إلقاء نظرة جديدة متأنية علي الخريطة ليعرف أين تقع موريتانيا ما دام أسس لعنته لها علي أساس الجغرافيا ليتأكد أن الجغرافيا بريئة جدا من دعواه. فكم من الخبراء والاقتصاديين تحدث عن موقع موريتانيا الاستراتيجي الذي تحسد عليه برا وبحرا، ففضلا عن 700كلم علي شواطئ المحيط الأطلسي يرقد فيها اكبر مخزون للأسماك وأجوده في العالم إلي جانب اكبر وأروع محمية طبيعية للطيور في العالم ـ فضلا عن ذلك ـ تختزن الصحراء موارد هائلة من الحديد والذهب والنفط مع حديث عن اكتشافات هامة للغاز الطبيعي، لكل ذلك تضاف المساحات الزراعية الشاسعة والمواقع السياحية الساحرة.
لكن ثروة موريتانيا الحقيقة لا تتمثل في هذه الموارد الهائلة، وإنما في جوهر الإنسان الموريتاني نفسه تاريخا وحضارة وواقعا وآفاقا، فهذا الإنسان هو الذي حول هذا الموقع الجغرافي إلي ملتقي للحضارات والثقافات، فعلي أديم هذا الموقع يتعانق العرب والأفارقة عناقا وجدانيا روحيا رائعا أثمر تنوعا فكريا وثقافيا روافده المتدفقة بالعطاء تشكل مشهدا ثقافيا منقطع النظير.
وهذا الموقع (اللاعن) حسب أستاذنا الكبير هيكل له تاريخه الإشعاعي الهام المتجسد في نشر الإسلام والثقافة العربية في كل أدغال إفريقيا الوثنية، وامتد ذلك الإشعاع إلي أن وصل الأزهر الشريف وبلاد الهند ودول شرق آسيا، كما كان للشناقطة حضورهم المتميز في المحافل العلمية بالمشرق العربي خاصة في الحرمين الشريفين.
ويري الباحثون والمؤرخون العرب أن العالم العربي لم يشهد فترة انحطاط لأن الفترة التي ذبل فيه الإشعاع الثقافي بالمشرق كانت الفتيات في مدينتي تشيت و ولاتة ـ التاريخيتين بموريتانيا ـ تحفظن مقامات الحرير وتنعشن بها الأعراس غناء وتلحينا علي الطبول، ويكفي هذا المؤشر لقياس مستوي الإشعاع الثقافي لهذه الجغرافيا في ذلك التاريخ. إذا بأي منطق يتحدث استاذنا الجليل عن لعنة الجغرافيا الموريتانية ؟ بمنطق الإشعاع الثقافي المنظور لموريتانيا أم بمنطق عصر المدينة الكونية الواحدة واختصار الريمونت كنترول للمسافات في ظل الهيجان الرقمي الأشبه ما يكون بالتسونامي .
لكن اخطر ما استشفه من اساءة أستاذنا الجليل الجديدة المتجددة علي موريتانيا هي رفضه بما يشبه المكابرة أن تكون موريتانيا أو غيرها من الدول ـ الهامشية في رأيه ـ قادرة علي تقديم نموذج لأي عمل جيد يصلح للتعميم، وعلي العكس من ذلك يري المفكر العربي محمد صالح الهرماسي أن الأحداث الكبري لا تأتي إلا من الأطراف . والحقيقة أن أستاذنا الكبير هيكل ليس بدعا من المفكرين والإعلاميين العرب في اساءته إلي موريتانيا جهلا أو تجاهلا؟ لا ادري، المهم أنهم غير معذورين لدرايتهم أن الفضيلة توجد بين الرذيلتين، فوسائل الإعلام العربية لا تهتم بموريتانيا إلا إذا كان هناك انقلاب عسكري أو تعلق الأمر بتلك العلاقات المشينة والمرفوضة شعبيا مع الكيان الصهيوني الغاصب والتي ابتلينا بها، وان كانت ليست الأولي ولا الأخيرة من نوعها سرا وعلنا.
وفي بعض الأحيان تساورني شكوك ـ طبعا باطلة ـ أن هناك إرادة وتعمد لتغييب وظلم موريتانيا (ولو من باب نظرية أو عقدة المؤامرة التي ننسب لها نحن العرب آخر صيحاتنا الاخفاقية)فقبل شهرين تحدثت في ندوة مع بعض الزملاء حول هذه النقطة محاولا تنبيههم لما تشهده موريتانيا حاليا من تحول نوعي وجذري غير مسبوق في عالمنا العربي، ويا ليتني لم أتحدث لما لاحظته لدي بعض هؤلاء من لعنات تجاه موريتانيا ولن أنسي تلك الإشارة السلبية التي التقطها من القائم علي واحد من اكبر مراكز الدراسات في عالمنا العربي، وما جعلني اشعر بالأسي أكثر هو ما همس به احد الأصدقاء في أذني سائلا طلع عندكم نفط ؟ قلت له مستغربا نعم قال لي (بس لا تشيل هم.. تاريخكم معروف لكن نحن نتقن المزايدات... الكل سيهتم بكم الآن، فالإعلام العربي يهتم أكثر بمن يدفع أكثر) لم ابد لزميلي الودود ارتياحي لهذه الصورة السيئة التي رسم للإعلام العربي الذي انظر له من زوايا أخري أكثر إشراقا وتقديرا لما ألمسه يوميا لدي الكثير من الشخصيات الإعلامية المرموقة التي تعرفت عليها وكل واحد من هؤلاء يشكل مدرسة إعلامية رائعة، لكن حاولت أن اشرح له وللحاضرين أن مواقفهم السلبية تجاه موريتانيا تسيء إلينا علي عدة مستويات ففضلا عن كونها تعكس انطباعا معينا فهي أيضا تنمي التيار(الفرنكفوني) المستغرب الذي يكفر بكل ما هو عروبي في موريتانيا، والأخطر من كل ذلك أنها تخدم وبشكل كبير ورهيب أجندة ممثل الكيان الصهيوني في نواكشوط الذي يستقبلها كهدايا مميزة لما لها من إسهام بالغ في تسهيل مهامه المتمثلة أساسا في الاختراق الشعبي، ويبقي هو المستفيد الأول منها.
صحيح أننا في موريتانيا نتحمل حظ الأسد من غيابنا عن المشهد الإعلامي العربي لعوامل كثيرة لا داعي لحصرها لكن يمكن اختزالها في الوضع السياسي الذي كانت تعيشه البلاد في العقود الأخيرة، الأشبه ما يكون بالاختطاف الذي أدت تبعاته إلي شبه قطيعة مع العالم العربي، والأقسي والأبشع من ذلك كونه مهد تلك الظروف السيئة لتفريخ طفيليات التطبيع المشؤوم مع الكيان الصهيوني المغتصب.
أما اليوم فان موريتانيا تعيش لحظة مصالحة مع ذاتها تجسدت في إجماع وطني بدأت ثماره السياسية والاقتصادية تؤتي أكلها، واعتقد جازما أن صدمة الأشقاء ستكون قوية يوم تنقل لهم شاشات الفضائيات آذار (مارس) القادم صورة الرئيس الانتقالي الحالي خارجا من القصر الرئاسي مسلما مفاتيحه للرئيس المدني المنتخب، ذلك الرئيس الذي كل ما نعرفه عنه حتي الآن انه لن يكون من أعضاء المجلس العسكري الحاكم حاليا ولا من أعضاء الحكومة الانتقالية، كما نعلم انه لن يجلس إلي الأبد في انتظار سيدنا عبد الغفار (ملك الموت) لإنهاء مهمته، بل نعلم جيدا انه سيجلس خمس سنوات قابلة للتجديد الانتخابي مرة واحدة.
لحظتها سيتحدث مفكرونا رغما عنهم انطلاقا من معطيات الواقع والتاريخ و الجغرافيا عن النموذج الموريتاني وعن تصدير موريتانيا للديمقراطية إلي جانب النفط والثروات الأخري.
وعندها سيتضح هل كان أشقاؤنا يجهلوننا أم يتجاهلوننا وهل ما نعاني منه لعنة جغرافيا أم لعنة جهل وتجاهل؟
في انتظار ذلك وهو ليس ببعيد انقل لأستاذنا الجليل هيكل دعوة الوزير الأول الموريتاني له بالاطلاع علي تاريخ موريتانيا بعد أن أبدي احترامه وتقديره، ويمكنني أن أتجاوز علي معالي الوزير وافهم من ذلك دعوته لزيارة موريتانيا، وليثق أن الموريتانيين بشتي أطيافهم سيستقبلونه بالورود والتبجيل والإكبار، لأنه هيكل أستاذ الأجيال الذي نعتز ونفخر به، ولأننا أول من يؤمن أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية وان كان هناك فرق كبير بين الرأي والحقيقة.
وفي الأخير أتقدم لمقام أستاذنا الكبير بخالص الاعتذار إن كنت تجاوزت أو انفعلت فقد كان علي أن اكظم في نفسي غيظ ثلاثة ملايين منسوب لتلك الجغرافيا ، واكتفي بامتثال الوصفة السحرية لكاهنة الحي التي شكوت لها ظلم ذوي القربي فناولتني ورقة مطوية وأمرتني بحرقها والبخور بها وذبح ديك احمر، وقراءة ألف من يا نفط زم و لكن الورقة كتب فيها بيت المتنبي (ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين علي التمام)
فعز علي أن احرق شعر المتنبي في بلاد المليون شاعر.
تقديري وتحياتي لأستاذنا الجليل هيكل ولكل الإعلاميين والمفكرين العرب بدون أن أنسي الحارس الهندي.

Alquds Newspaper القدس العربي.

ليست هناك تعليقات: