٦‏/٨‏/٢٠٠٦

«الآخرون» وتحول النص النسائي رواية التجاوز وجنون الإبداع

بيروت - مكتب «الرياض»:
    قليلة هي النصوص التي تشعر قارئها انها أرض بكر، قلعة تقام وسط صحارى التكرار والتشابه. انتقال في حياة القول الروائي وتأسيس لإبداع يستوفي زمنه ويتجاوزه متقدما الى حقول الخطر دون وجل وتردد. رواية «الآخرون» لصبا الحرز الصادرة عن دار الساقي هذه الأيام، تدرج في هذا الباب، وسيكون لهذا النص الذي كتب بمداد الحياة المسورة بالتابوات، شأن في الرواية العربية وليس فقط في الرواية السعودية، فخطابها يفتح كتاب الإبداع على ما لاحد له من الإشكالات الخطيرة، ولكنها لاتتورط بالتصنع ولا بالمقولات المسبقة ولا بحكايات الفامنست التي عفى عليها الدهر.

هي ببساطة غنية بمادة الكلام، بمروياتها التي تلامس الحياة لتحولها الى كتلة نابضة، وايا كانت الاخطاء والخطايا التي يرتكبها الأبطال، فالسارد غير معني باشتراطات القارئ، فله شروطه التي يمليها على الناس. لفرط صدق هذا النص يبدو وكأن كاتبته كتبته لنفسها لا للآخرين، وذاك تميّز الرواية، فهي تحاول ان تؤسس لفردانية القول والسعي الحثيث لانفصال الفرد عن الجماعة وتكوين عالمه الخاص، دنياه الغنية التي تبقيه قادرا على معاينة الحياة دون كذباتها الكبيرة والصغيرة، دون أدوار يرغم عليها كي يقبله الاخرون، من هنا كان عنوان الرواية مختزلا كل قولها.

التمرد في هذا النص ينبثق من ضعف الكائن البشري وحاجته الى الحب، حاجته الروحية الى ملامسة العالم على نحو مسحور وشفاف. من خيارات الحد الأدنى في حياته، من صحارى اليباب يقيم عوالمه الرحبة، ويصوغ اناشيده ومراثيه وملله ولعبه وأكاذيبه.

البطلة في هذه الرواية تعيش الغيتوات مجتمعة مثل الدمية الروسية، فهي من القطيف ومريضة بالصرع والرغبة، ولكن أيا من تلك التراجيديات لاتجعل منها ضحية، قدر ما تشحذ وعيها ورهافتها كي تخوض في المياه الضحلة للحياة لتحولها بحرا كبيرا.

خطاب الرواية يدور حول البنيات الثلاث التي يتشكل منها منطق الانفصال والاندماج بين الأنا الفردية والجماعية:الطائفة، الجنس، العوق او المرض. ينبثق عن تلك الاشكالات سؤال أساسي: من أنا وما هو الفضاء الذي اتحرك فيه كي أحقق كينونتي؟، وهو سؤال لايبحث في السعادة والشقاء، فقد يكون لطعم الحزن الحريف نكهة خاصة، نكهة الشعور بالخطيئة ومجابهتها بأسلحة الضعف لا القوة. صوت البطلة يطل على العوالم المحيطة كي يدرك موقعه منها، فهو يتفحص وجوده داخل تلك الكتل الناتئة للحياة، ليكتشف مفاهيم العطوب والسويات فيها: «ما المخيف أصلا في أن نختلف؟ ألأننا نشكل عاصفة من علامات استفهام في فضاء خامل، لم يسبق ان اعرف ماهية التساؤل او كينونة الاختلاف. ألأننا نطلق كثافة من الحضور ليس معترفا بها على خريطة الارض او بين افخاذ القبيلة؟ ألأننا نخترق قانونا غير معلن، يقتضي التعتيم على مغايرتنا عن النسق الأعم والوحيد الذي يعرفه الآخر، وعن كل ما هو حقيقي وصائب؟.»

يبدو سؤال الانتماء الى الطائفة وكأنه يبحر في المشكل السياسي، فهناك مجموعة تحار أين تضع نفسها في إطار الوطن الكبير، والرواية تناقش الاندماج والانفصال في السيرة، وهو سؤال خطير يبقى مفتوحا على إحتمالات الممكن والمستحيل، ولكن العالم الذي يموج حول المجتمعات المغلقة يطوح بأسوارها ويمضي بها الى حركته المتسارعة ويمد جسورا للتفاهم والحياة المشتركة، وهذا ما تسعى الى إدراكه البطلة من دون ان يصبح خطابها مقولة مؤدلجة، فهو ينفذ الى التجربة الشخصية، كي يدرك كينونة الفرد وطبيعة تمرداته ونوع تحركه داخل الغيتوات.

لعل الربط بين غربة الجسد وغربة الانتماء، من بين مواضيع الرواية الأهم، فالبطلة مغتربة عن سياق مجتمعها، والتوتر بين حياتها السرية والأخرى العلنية تشكل مادة أساسية ليقظة وعيها، فهي تعاين التجربة على ما لها من قدرة على الخوض في مغامرة دحض المسلمات والغوص في اشكالية الخطيئة والبراءة. هي في توترات حواراتها مع النفس، لاتضع حدودا للتوقعات، فهي خارج كل التجارب وداخلها. الفضول الذي يشد القاريء الى الرواية، هو ذاته فضول اكتشاف البطلة لذاتها وهي تنبش في ذاكرتها عن التفاصيل، وسواء كانت تلك الذاكرة حقيقية او متخيلة فهي في كل تدرجات علاقتها مع العالم، تتحرى مواقع اقدامها والدروب المفضية الى هروبها، لذا كان الموت والمرض ملازمين لمزاج التشاؤم الذي يسكنها.

غنى المشاعر يجعل من صوت البطلة أهم استراتيجية للسرد، فهي تكشف طبقات اللاوعي قشرة قشرة وتعري رغباتها وجموحها كي تغري القارئ بالتوصل معها الى إدراك الروابط المتناسلة بين حركتي الذهن والحواس، والترابط بين الحركتين يشكل إيقاع الرواية وحساسيتها، فالذهن في تتبعه الدقيق لحركة الحواس، يقدم ثقافة أبيقورية تحتوي موضوع الحب وتربطه بمفهوم الاغتراب.

كل محور في الرواية يحيل دلالاته ومعانيه الثرة والمنوعة على المحور الاخر. فالبطلة في منلوجها الطويل تحكي عن الحب وعلاقة الجسد بالطهارة والنجاسة، ولكن تجربة الجسد تحدد دلالات الانتماء الى الجماعة، فطقوس الطائفة التي تمارسها بإخلاص، هي على نحو ما، تنقض علاقاتها السرية مع الحياة، ولعل احساسها بحصار طائفتها يعزز تمسكها باختلاف جسدها، مثلما يكون مرض الصرع نقطة ضعفها، وأحد أسباب عزوفها عن الزيجات المدبرة والمصير المنتظر لها كفتاة مندمجة.

النقص والاكتمال محنة الكائن البشري، تتكشف في رواية «الآخرون» على هيئة تقاطع بين رغبات الجسد وطاعته، وحكاية التمرد تبقى احتمال بين احتمالات كثيرة في محيط شيزوفرينيا الحقائق والأكاذيب.

ليست هناك تعليقات: