٢٢‏/٦‏/٢٠٠٦

المؤتمر القومي العربي بعد 17 سنة: دعوة إلى تأسيس حزب سياسي عصري

GMT 8:30:00 2006 الخميس 22 يونيو

القدس العربي اللندنية


رياض نجيب الريّس


انعقد في الدار البيضاء في المغرب المؤتمر القومي العربي السابع عشر (بين 5 و8 أيار/مايو 2006) وقد مرت سبع عشرة سنة علي تأسيسه.
كنت مِن أوائل مَنْ انضم إلي المؤتمر القومي العربي، وكتبت عنه مرحباً بنخبة من الأشخاص المتهمين بأنهم يتحدثون بلغة منقرضة، هي اللغة العربية القومية ذات المفردات التي بطل استعمالها وسقط قاموسها وتلاشت معانيها في عصر الردة الطائفية والانكفاء القطري والشرذمة السياسية وهيمنة النظام الاحادي. وأطلقت عليهم في حينه لقب جيل الديناصورات الذي رفض أن ينقرض في زمن الهزائم وسنوات الخيبة. وشاعت هذه التسمية وعمّ استعمالها.
وكان للمؤتمر منذ اجتماعه الأول في تونس في آذار /مارس 1990 وحتي نهاية التسعينيات طلّة بهية، تجلّت في محاولة تكرار بدايات عصر النهضة عند مطلع القرن العشرين. ومثلت هذه التجربة مناسبة تتلاقي فيها مجموعة من رجال ونساء السياسة والفكر والعلم والثقافة من مختلف الأجيال والتجارب الحزبية والسياسية والنضالية ومن كل قطر عربي، للتداول في شؤون الأمة وشجونها.
وكانت أهمية هذه المجموعة من الأشخاص تكمن في خلفياتهم المختلفة المتنوعة وتجاربهم المتعددة. وكان يجمعهم هَمٌّ مشترك، هو قلقهم علي مصير الأمة. وكانت أدبيات المؤتمر تركز منذ بداياته علي أنه ليس حزباً، إنما هو تجمّع من المثقفين والناشطين العرب من مختلف الأقطار العربية، المقتنعين بأهداف الأمة العربية (دون تحديد لهذه الأهداف) والعاملين علي صعيد فردي أو شعبي غير حزبي وباستقلال عن أنظمة الحكم .
جاءت فكرة المؤتمر وانطلاقته قبل الغزو العراقي للكويت وحرب الخليج الثانية (عاصفة الصحراء) وتداعياتها المريرة، وقبل مؤتمر مدريد ونتائجه الكارثية واتفاق أوسلو من بعده، وقبل حصار العراق وقصفه وتدميره وتجويعه. وقبل سياسة الاحتواء المزدوج وقيام النظام العالمي الجديد. وقبل الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني التحالفي للعراق وسقوط نظام البعث الصدّامي. كان ذلك كله قبل تفتيت التضامن العربي وتعطيله. وكانت مظاهر النظام العربي الواحد ما زالت قائمة. كانت دنيا العرب غير دنيا.
بانهيار كل ذلك، وجد المؤتمر القومي دوره، وسط فراغ في العمل السياسي، فجاء توقيت التنادي إلي تفعيل قضايا وأهداف الأمة الحيوية، مناسباً. وهي قضايا مختلف حتي الساعة علي تحديدها. ووسع المؤتمر بيكار تعريف القومي العربي ، ليتعدي المعني التقليدي له، وليشمل كل من هبّ ودبّ ممن يدعي وصلاً بالتيارات اليسارية والماركسية والوحدوية والإسلامية (بمختلف تفرعاتها) والليبرالية (بمختلف مفاهيمها) والقطرية (بمختلف تمثيلها) ما دامت تندرج تحت عنوان عريض هو التيارات القومية الوطنية . وإذا بالمؤتمر منبر يجمع كل متناقضات هذه التيارات وأشخاصها، وجلّهم من الحزبيين السابقين والسياسيين المتقاعدين. ومن بينهم وزراء وسفراء وموظفون سابقون مع شريحة من المثقفين والجامعيين والإعلاميين وبعض الناشطين في مجتمعاتهم المحلية. وإذا بمفهوم العمل علي صعيد فردي أو شعبي غير حزبي، يتلاشي مع مرور السنوات بانضمام المزيد من الشخصيات ذات الماضي السياسي أو المخابراتي أو الحزبي إليه. حتي وصل مجموع الأعضاء اليوم إلي بضع مئات من الأشخاص من أصحاب السوابق المشار إليها، بعد أن كان لا يتجاوز الخمسين شخصاً في بداياته.


وظل مفهوم المؤتمر في أن يكون مرجعية قومية شعبية للأمة العربية ، يصر علي أنه ليس حزباً ولا يهدف أن يكون حزباً قومياً يسعي إلي السلطة. واستمر الضياع بين الهواية والاحتراف، أي بين عدم فهم الفارق بين العمل السياسي التوجيهي، وبين العمل السياسي الحزبي في عالم عربي اعتاد علي صيغ العمل الحزبي علي المستويات القطرية والقومية، ولم يتعوّد العمل ضمن صيغ النشاطات الشعبية في مجتمعات عربية لا تملك الكثير من الأطر المدنية. فمجموعة أشخاص يجتمعون مرة في السنة ينظّرون في أحوال الأمة، لا يمكن أن يشكلوا مرجعية سياسية شعبية.
لكن إذا أردنا للمؤتمر القومي العربي حياة أجدي وأعمق، وأكثر فائدة من الحياة التي عاشها طوال العقدين الماضيين، لتكون له حيثية في هذا القرن، فذلك يحتاج إلي أسئلة صعبة آن أوان طرحها. ولعل سبع عشرة سنة هي وقت كافٍ لتنضج الأفكار التي راودت روّاد المؤتمر الأوائل ومؤسسيه، وزمن طويل لتجارب الخطأ والصواب. ولعل الأسئلة، التي أسميتها صعبة، تبدأ من البديهيات. وأولي هذه البديهيات: مَنْ نحن؟


هل نحن مؤتمر تأسس وفي ذهنه مثلاً نماذج مجتمعات ومؤتمرات وأحزاب العالم الثالث التي ناضلت في سبيل استقلال بلادها وصمدت من أجل ذلك سنوات طويلة؟
هل المؤتمر الوطني الأفريقي وهو حزب نلسون منديلا في جنوب أفريقيا، الذي قاد حركة التحرر في البلاد ضد نظام الفصل العنصري ووصل نضالياً إلي السلطة، مثل يحتذي؟
هل المؤتمر الهندي وهو حزب غاندي ونهرو وأنديرا وعموم الهند، الذي قاد حركة الاستقلال ضد الاستعمار البريطاني، ووصل إلي الحكم ديموقراطياً مؤسساً أكبر ديموقراطية برلمانية في العالم، مثل آخر نطمح إليه؟
هل نحن مؤتمر علي شكل ندوة فكرية علي غرار مراكز الأبحاث في العالم؟
هل نحن نواة تجمّع فكري ـ ثقافي ـ سياسي، له صفة الدفاع عن المصالح العريضة المشتركة لأعضاء ذلك التجمع، أكثر مما له صفة التنظير في أحوال الأمة؟
هل نحن أداة ضغط أو لوبي لدعم قضايا الأمة باتجاه قومي وحدوي ديموقراطي؟
إذاً مَنْ نحن؟
أنا لا أري مانعاً إذا لم نكن حزباً سياسياً، في أن نكون جمعية خطابية، أو ندوة فكرية، أو لوبي سياسياً، أو تجمع مصالح، أو مؤتمر مثقفين، شرط أن نقرر، وبأكبر قدر من الوضوح، مَنْ نحن أو ماذا نريد أو نسعي لأن نكون. لأن عدم وضوح الرؤيا وتمييع القرار، قد جعلا من فكرة هذا المؤتمر مجرد كتلة لزجة من المثقفين المسيَّسين، تُلصَق بكل قضية عربية لا صاحب لها. ولا مانع إطلاقاً في رأيي، أياً كان الإطار العملي الذي سنتوصل إليه، أن نقف، كمؤتمر، دائماً إلي جانب القضايا العربية الخاسرة، وما أكثرها.
وكان هناك عبر السنوات حرص زائد علي عذرية المؤتمر يتمثل في أن لا توحي نشاطاته بأية طريقة كانت، بأننا حزب سياسي قومي من أي نوع، مع الإعلان باستمرار بأن ليس من أهداف المؤتمر السعي إلي السلطة، وأن مهمتنا ليست تغيير الأوضاع العربية المتردية جذرياً. وفي الوقت نفسه ندعو إلي عدم تقديم تنازلات للأنظمة الحاكمة مع عدم إغضابها. بينما لا مانع لدينا من التقرب إلي تلك الأنظمة إذا استقبلتنا أو استضافتنا، مع المحافظة علي عذرية المؤتمر واستقلاليته. إنني أجد هذا الحرص مبالغاً به، فليس في شيء من الواقع أن نلقي بالمؤتمر في قلب غابة من ذئاب الأنظمة، ثم نطالبه بالحفاظ علي عذريته .
بعد كل هذا، لماذا لا يصبح المؤتمر حزباً سياسياً آخر، حتي يصبح بدوره مرجعية قومية شعبية ؟


الجواب السهل: إن كتابة تقرير سنوي إخباري عن حال الأمة، مع بضع أوراق صحافية نعيد ونكرر فيها ما قرأه ويعرفه معظمنا، أسهل من تأليف حزب وأقل خطراً علي أعضائه. ولما كنا ـ كما ندعي ـ لا ننشد السلطة، فإن بضعة بيانات نسجل فيها مواقفنا من أحداث ذلك العام، تتراكم مع مرور الزمن ونعود إليها كلما سُئلنا عن موقفنا من قضية ما، لن تجعلنا مرجعية ولن تفيدنا شيئاً كما لن تقدم أو تؤخر في أحوال الدنيا العربية المعاصرة.
الجواب الصعب: يكمن في ثلاث كلمات هي، مرجعية قومية وشعبية. ولنصبح مرجعية قومية وشعبية، علي المؤتمر ـ أي شكل اتخذ ـ أن يكون في مستوي تنظيمي وإداري وإعلامي، يستطيع عبره إيصال مواقفه وآرائه ودعواته وسياسته إلي الناس والجماهير، وهذا يتطلب آليه حزبية بنمط ما. لذلك علي المؤتمر أن يتجاوز حاجز الخوف من كلمة حزب، وأن يخوض غمار فكرة الانتقال إلي تكوين حزب له مبادئ ومواقف وسياسات ثابتة، بدل التدليل علي عذريته بادعاء العفة.
المشكلة في المؤتمر هي مشكلة تنظيمية. كيف نؤثر في الناس ونصل إليهم؟ هناك ألف طريقة إعلامية مبتكرة علينا استنباطها في عصر البريد الإلكتروني والكومبيوتر والإنترنت. لذلك يحتاج المؤتمر إلي أمين عام متحرك متفرغ تماماً قريب من مركز الحركة السياسية والثقافية والفكرية في الوطن العربي ـ وتحديداً المشرق العربي. ويحتاج أكثر إلي أمين عام مساعد يملك خبرات واتصالات إعلامية، وإلي سكرتاريا دائمة. وهذا يمكن أن يؤمنه قيام تنظيم حزبي سياسي عصري يسعي إلي الناس بقدر ما يسعون إليه.
ما يحتاج إليه المؤتمر هو الانتقال من الهواية السياسية إلي الاحتراف. والاحتراف يحتاج إلي مال، ويجب أن لا نعدم وسيلة لإيجاد المال. كما أعرف أيضاً أن السياسة هي حركة دائمة يمكن أن تدر مالاً.
قد أكون أحد القلائل، من بين أعضاء المؤتمر الذين عاصروه منذ بداياته وشاركوا في معظم مؤتمراته، والذي لا يملك علي الإطلاق تجربة حزبية من أي نوع كان. وربما لأنني بريء من التجارب الحزبية ولا أحمل آثار أي كدمات منها، ما زال لديَّ بعض الأفكار الرومانسية ضمن قناعاتي السياسية، معتبراً أن تأليف الأحزاب هو إحدي بديهيات العمل السياسي الديموقراطي، وأحد أهم مؤسسات المجتمع المدني لأي بلد ديموقراطي ـ كما نطمح أن نكون. إن في تشكيل الحزب دعوة للتخلص من الهوية الهلامية الحالية التي للمؤتمر، بهدف الوصول إلي الهوية الحقيقية التي سيفصح عنها أعضاء المؤتمر عندما سيواجَهون بسؤال مَنْ أنتم؟ وسيكون الجواب: نحن حزب عربي قومي (من ضمن أحزاب قومية أخري تعمل في الساحة العربية) ندعو ونناضل لمباديء حزب المؤتمر التي سيدعو إليها في أدبياته التأسيسية.
إن الظرف العربي اليوم تحديداً، يحتاج إلي حزب سياسي عربي قومي عصري جديد يجدد للفكر القومي العربي شبابه ويؤكد ديموقراطيته ويشدد علي علمانيته ويثبت تعدديته. وسيكون أول حزب قومي عربي ديموقراطي يؤسَّسَ في مطلع القرن الجديد، وأول حزب قومي شمولي يقوم منذ نشوء الحركات والأحزاب القومية في مطلع القرن الماضي، أكان عصبة العمل القومي أو حزب الاستقلال العربي أم البعث العربي الاشتراكي أو السوري القومي الاجتماعي، وغيرها من أحزاب النهضة العربية والحركات القومية.
أي حزب، قد نسأل، سيكون عليه المؤتمر القومي العربي؟ أنا لا أملك المواصفات. وعندما نصل إلي هذا المفترق، لا بد أن يكون هناك لجان تنظيمية تؤسس ليكون الحزب المنتظر، حزباً سياسياً ديموقراطياً علمانياً (بمعني التأكيد علي فصل الدين عن الدولة) تعددياً غير عقائدي ، علي غرار وقواعد الأحزاب السياسية الأوروبية، لا علي غرار الأحزاب التي عرفناها طوال خمسين سنة وأكثر في عالمنا العربي، حزباً لا يستعمل الحراب للوصول إلي السلطة، وليس في أقبيته سجناء رأي، ولا في مبادئه رفض للرأي الآخر، يقر بتبادل الحكم والسلطة طوعاً، وبصندوق الاقتراع حكماً، وليس في نتائج انتخاباته تزوير أو فوز بنِسَب فلكية.


من المؤسف أن المؤتمر القومي العربي، هو اليوم شبه حزب منحلّ لا يتحمل المسؤولية الجماعية للعمل السياسي، ولا يتحمل المحاسبة والـمُساءلة. وهو شئنا أم أبينا، تجمّع فوقي بلا قواعد شبابية أو شعبية في كل قطر عربي، يضم الغثّ والسمين من أصحاب السوابق القومية وبعض العاطلين عن العمل السياسي. ويبدو المؤتمر القومي العربي اليوم وكأنه تجمع لروابط قدامي المحاربين في حروب خسروها كلها.
في سياق الدعوة إلي إعادة النظر في مجمل تركيبة المؤتمر القومي العربي كما هو الآن، لا بد من آلية معينة، للانتقال من مرحلة الدعوة النظرية إلي مرحلة التطبيق العملي. وهذا يتطلب بادئ الأمر من الأمين العام الجديد ومن الأمانة العامة المنتخبة حديثاً في مؤتمر الدار البيضاء الأخير، أن يدعوا أعضاء المؤتمر إلي اجتماع استثنائي طارئ في بيروت (لسهولة الوصول إليها) ليتم في هذا الاجتماع طرح هيكلية المؤتمر وهيئته، ومنها فكرة تحويل المؤتمر إلي حزب، ويسمح بنقاش ديموقراطي واسع صريح لكل الأعضاء الحاضرين فرداً فرداً، الإدلاء بآرائهم في الأفكار الواردة في هذه الدعوة، وأن يتم ذلك بشفافية من دون الدخول بمحاولات توفيقية. ويعتبر المؤتمر الطارئ كامل النصاب بمن حضر من الأعضاء.
وليس من الضروري أن تكون فكرة تحويل المؤتمر إلي حزب هي البند الوحيد في جدول أعمال هذا المؤتمر الطارئ. بل يجب أن تتضمن الدعوة جدول أعمال مفصلاً تعدّه الأمانة العامة، له محور واحد هو إعادة تنظيم المؤتمر علي قواعد وأسس جديدة تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات في العالم العربي اليوم، وما سيطرحه الأعضاء من قضايا. فإما أن تكون هناك رغبة بتحويله إلي حزب، وعندئذ يقوم المؤتمر بحل نفسه قبل البدء في مهمة التنظيم الحزبي، أو ترفض الأكثرية فكرة تحويل المؤتمر إلي حزب. وعندئذ قد ينسحب من المؤتمر من ينسحب، ويبقي مَنْ يبقي.


وعلي الأكثرية غير القابلة بتأسيس حزب سياسي قومي عصري جديد، أن تعيد النظر علي الأقل بالنظام الداخلي للمؤتمر برمته، بدءاً بالطريقة العشوائية التي تدار بها الجلسات ومروراً بالطريقة العشائرية التي يدار بها المؤتمر. هذا إذا أرادت الحفاظ علي المؤتمر القومي العربي كفكرة قابلة للحياة والاستمرار. فالتغييرات إما تبقي شكلية وتجميلية، أو تكون حقيقية واقعية، يمكن أن تجعل من المؤتمر فعلاً مرجعية شعبية سياسية في المستقبل. وأهم هذه التغييرات، إعادة النظر بطريقة الانتساب إلي المؤتمر وبعضوية كل أفراده وفق شروط ومواصفات معينة أغفلها النظام الداخلي للمؤتمر حتي الآن.
من المؤسف أن تاريخ الأحزاب القومية بجميع فروعها في الوطن العربي ـ البعث، الحزب السوري القومي، حركة القوميين العرب وسواهم ـ تاريخ لا يتسم بالديموقراطية. ولم يمارس أي حزب من هذه الأحزاب الديموقراطية لا في داخل هيئاته وقياداته، ولا عند وصوله إلي الحكم. فالفجوة المخيفة بين الشباب والديناصورات لا يردمها إلا الإيمـــــان المطلق بالممارسة الديموقراطية والعمل بها ومن أجلها، لاستكشاف القوي الجديدة ذات المصلحة في الإصلاح والتغيير. ومن هنا يبدأ التفكير بالحزب وبالدعوة إليه في كل بلد عربي.
وفي معرض الحديث عن ضرورة تحويل المؤتمر إلي حزب سياسي، لا بد من التأكيد علي موضوع الديموقراطية وسط السمعة السيئة للأحزاب القومية في هذا المجال. فغياب الديموقراطية قد أنهك قوي هذه الأمة، وهزّ مفاهيم كثيرة، وهدم تنظيمات وأحزاباً شتي، وقوّض أحلاماً وطنية لا حصر لها، وأفرغ مؤسساتها من محتواها، وعطّل الحياة المدنية، وكان سبباً في استكانة الجماهير العربية وقهرها بعد تدجينها. وما يهمنا في الحديث عن الديموقراطية الآن، هو أن يتولي المؤتمر ـ الحزب الدعوة إلي تعلم الديموقراطية ويقبل بشروطها ويلم بمبادئها ويتكيّف مع متغيراتها. إذ ليس عندنا تجربة معاصرة تعرف العمل الديموقراطي السياسي من ضمن تعددية سياسية أو حزبية، من النوع الذي يُمارس في العالم المتحضر. فأي عمل يصبو إلي التغيير لا يمكن أن يكلل بالنجاح إلا إذا تمَّ بوسائل ديموقراطية، متخذاً طريق التثقيف الديموقراطي سبيلاً.
ولا بد من التطرق إلي علاقة المؤتمر القومي العربي بالمؤتمر القومي ـ الإسلامي المؤلف من مجموعة من الإسلاميين الذين لا يريدون الالتقاء تحت شعارات القومية العربية لأسباب عدة، أهمها الشعور بالتفوق الفكري والتنظيمي. بينما نجد أن القوميين هم الذين يتوسلون الإسلاميين إلي اللقاء والحوار. ومع تقديري للجهود التي بذلت في هذا المضمار، فإنني أعتبرها جهوداً ضائعة.


لم أجد أو أقرأ في وثائق المؤتمر القومي ـ الإسلامي أي نقد ذاتي، كحركة سياسية في المجتمع. فطروحات التيار الإسلامي في مواجهة التيار القومي، ما زالت طروحات فوقية، توحي وكأنها معصومة من الخطأ وأنها وحدها تملك الحقيقة المطلقة. فأغلب مبادرات الحوار جاءت من الطرف القومي، مما أوحي للإسلاميين بالتعالي دائماً. وقد ولّد هذا شعوراً لدي التيار الإسلامي بأنه مُحصَّن بدفاعات مقدسة، من الصعب علي الأطراف القومية أن تتناولها بالنقد والتحليل، بعيداً عن المداهنة السياسية والمناورة الحذرة، خشية الوقوع في قبضة اتهامات محاكم التفتيش الإسلامية.
فالصراع بين الفريقين الراغبين في التغيير في الساحة الوطنية الواحدة، هو صراع علي السياسة وليس صراعاً مع الدين. فالأمة لا تفتقر إلي الدين، بقدر ما تفتقر إلي وعي حقيقي لواقعها الاجتماعي ـ السياسي الذي يؤكد علي ضرورة الفصل بين الدين والسياسة، مهما بدا ذلك صعباً في ظل أوضاع الأنظمة العربية الراهنة. فالإسلام لدي معظم القوميين العلمانيين هو دين ومجتمع، بينما هو عند الإسلاميين دين ودولة. وبالتالي العمل علي دفع مجتمعاتنا نحو دول مدنية تقوم علي أساس فصل الدين عن الدولة، وحقوق المواطنة المتساوية.
كذلك لم يقدم المؤتمر القومي ـ الإسلامي أي تنازل في موضوع الديموقراطية وقضايا المساواة بين الرجل والمرأة أمام القانون. فتنظيم الاختلاف في القضايا الأساسية بين القوميين والإسلاميين، ليس من مهام المؤتمر القومي العربي. لذا يجب الفصل كلياً بين عضوية المؤتمرين، لأن في صلب مهمة المؤتمر القومي العربي الوقوف في وجه الطروحات الإسلامية، وليس المساومة عليها للتقرب من الإسلاميين.
ولعل المؤتمر القومي العربي، إذا تبني فكرة التحول إلي حزب سياسي، سيضطر إلي الفصل بينه وبين المؤتمر القومي ـ الإسلامي والمجموعة الإسلامية المنتمية إليه، حيث سيكون لهم دينهم وله دين.
وإلي أن يصبح المؤتمر القومي العربي ساحة للتلاقي الوحدوي والحوار الديموقراطي والتفاعل الوطني، علي ديناصورات العروبة أن يحموا لغتهم الجميلة من العبث ومفرداتهم من الإهمال وقاموسهم من الضياع، عليهم أن يجدّدوا في ذات المؤتمر وهويته، بـإقرار مشروع تحويله إلي حزب سياسي، حتي لا يتساءل الجيل العربي الصاعد عمّا إذا كان قد آن الأوان لهؤلاء الديناصورات أن ينقرضوا، ويطالبهم أن يعودوا إلي بيوتهم غير مطرودين!


صحافي وناقد من سورية 

ليست هناك تعليقات: