١٦‏/٤‏/٢٠٠٧

حكمت الحاج - ذلكَ -الْجَازْمَانْ- المُذْهل المُتَحَكّم في الصمتْ

ذلكَ -الْجَازْمَانْ- المُذْهل المُتَحَكّم في الصمتْ
حكمت الحاج
hikmetelhadj@hotmail.com
الحوار المتمدن - العدد: 1813 - 2007 / 2 / 1


على مسرح "الأكروبوليوم" المقام في فناء كنيسة عريقة جدا تنتصب على تلة شامخة في مواجهة البحر الأبيض المتوسط، بضاحية قرطاج شماليّ العاصمة التونسية، أحيا الفنان التونسي أنور براهم، وبدعم من المعهد الفرنسي للتعاون، مساء الجمعة الماضية،‏ حفلا موسيقيا جاء تحت عنوان "خطوات القط الأسود"، بمشاركة فرانسوا كوتيريه على آلة البيانو، و جان لويس ماتينييه على آلة الأكورديون، وتضمن 11 قطعة موسيقية تمثل كامل محتويات ألبومه الصادر حديثا وهي: خطوات القط الأسود ـ من صميم قلبك ـ ليلى في بلاد الكاروسيل [مدينة الألعاب] ـ نزهة في ناغبور ـ زقاق الانطلاق ـ نقطة زرقاء ـ في مكان آخر ـ أنت من يدري ـ جناحا البراق ـ الشجرة النّاظرة ـ جنّ اللّيل.

عُرفَ الفنان وعازف العود أنور براهم بأنه أوّل من اعتلى المسارح بمفرده أمام الجمهور في تونس، وذلك في مستهل سنوات الثمانينات من القرن الماضي، في وسط تطغى عليه بل وتكتسحه الأغنيّة الخفيفة الإيقاعية، وكان زاده في ذلك عوده، عازفا مؤلفاته غير المغنّاة، مبرهنا بذلك على الطابع التجديدي والإبداعي لموسيقاه. ولم يكن هذا يعني عدم إلمامه ببقيّة الأنماط الموسيقيّة، فهذا الفنان القدير له معرفة معمّقة بمجمل الرّصيد الثري للموسيقى الكلاسيكيّة العربيّة. وفي الحقيقة فان شهرته في الأوساط الجماهيرية في تونس إنما قامت على ألحان غنائية ذات طابع تونسي بحت، بأصوات مطربين تونسيين لعل أشهرهم الفنان لطفي بوشناق، ضمن مشروع فني عرف حينها باسم "النوارة العاشقة" حيث ما زال الجمهور إلى حد الآن يطلب في كل حفل يقيمه بوشناق أغنية "ريتك ما نعرف وين" من ألحان أنور براهم وكلمات الشاعر علي اللواتي. وهو أيضا مؤلّف للعديد من الأعمال الموسيقيّة التي وضعت وكتبت خصّيصا للسينما التونسيّة ولأفلام مثل "عصفور السطح" لفريد بوغدير، و"صفائح من ذهب" للنوري بوزيد، و"صمت القصور" لمفيدة التلاتلي، وغيرها.

ولد أنور براهم في 20 أكتوبر عام 1957 في حي "الحلفاوين" صميم قلب تونس العاصمة القديمة. توالت إبداعات هذا الفنان وتتالت حفلاته الناجحة التي سرعان ما بدأت تحقق له شيئا فشيئا نجاحا واهتماما عالميا متزايدا على غرار: "لقاء 85" والذي نال عنه الجائزة الوطنيّة الكبرى للموسيقى، إضافة إلى "النّوارة العاشقة" و"رباب".. وفي عام 1990 كان لقاؤه بمانفريد أيشر، المنتج ومؤسس شركة التسجيلات الموسيقيّة المرموقة EMC-Records والذي اقترح عليه تسجيل ألبومه الموسيقي الأوّل "برزخ" وكان هذا العمل بداية تعاون مثمر ولقاء خصب للغاية بينهما وفي غضون عشريّة ومن خلال عدد من الاسطوانات المبتكرة والرّاقية والمفعمة بالحياة والدّيمومة تمكّن أنور براهم من فرض لون موسيقاه وطابعه الفنّي الخاص على الساحة الموسيقيّة العالميّة، كأحد المؤلفين القلائل والموسيقيين المبدعين القادرين على إتيان موسيقى، هي في الوقت ذاته متجذرة وراسخة في ثقافة عريقة تتميّز بشدّة تماسكها وتعقيدها النغمي، ومتفاعلة مع روح العصر وبعدها الكوني وامتلائها بالنفس الرّوحاني والوجداني. كما كان أنور براهم في ذلك الوقت من الموسيقيين والملحنين العرب الأوائل والقلائل الذين بادروا بالجمع في أعمالهم وحفلاتهم بين موسيقيين قادمين من آفاق ثقافيّة مختلفة وسجلاّت موسيقيّة متنوّعة مثل الجاز والموسيقى الهنديّة والموسيقى الإيرانيّة والتركيّة وغيرها، إذ نراه وهو يحيط نفسه في مختلف أعماله بموسيقيين من أنماط موسيقيّة مختلفة وثقافات متنوّعة مثل برباروس أيزكوزي ويان غاربراك وديف هولاند وجون سورمان وريتشارد غاليانو إلى جانب عازف النقريات التونسي الأسعد حسني.

أصدر أنور براهم سبعة ألبومات موسيقيّة لاقت كلها الإعجاب والتنويه والتقدير من الجمهور والنقاد والمختصّين، منها: "حكاية حب لا يصدّق".. "مدار"، "خُمِْسة"، "ثمار" [الذي تمّ اختياره كأفضل اسطوانة للعام زمن صدوره من قبل المجلّة التي تصدرها هيئة الإذاعة البريطانيّة "بي.بي.سي]. كما جاء ألبومه قبل الأخير "مقهى استراكان (استراكان كافييه) في صدارة المبيعات بألمانيا في صنف الجاز سنة 2000 وها هو يعاود الكرّة مع ألبوم "خطوات القط الأسود" ويحصد الجائزة نفسها سنة 2002.

تناهى إلينا ونحن نمضي من قطعة موسيقية إلى أخرى، مع أنور براهم ورفيقيه، في حفل القط الأسود، إننا أمام عمل يقوده عازف عود شهير قام مجده على آلته الشرقية البسيطة تلك، ولكنه في الوقت نفسه يثير استغرابنا أمام سماحه للبيانو ومن ثم للأكورديون بان يأخذا كل تلك المساحة الزمنية من العرض، وأيضا، وعلى وجه الخصوص، مسافة نفسية وإيقاعية، تفرضها علينا حقيقة انه هو نفسه المؤلف والموزع والعازف، فلم لا يكون سيد العرض بأكمله..

ربما نجد الجواب في الذي قاله أنور براهم عن عمله الأخير هذا. إذ يؤكد بصريح العبارة على أن من ملمس البيانو انبثقت هذه الموسيقى، ومن تأثير تلك العاطفة الجياشة التي وسمت هذا اللّقاء الجديد مع الآلة، وذلك الجهد الذي أعقب تسجيل ألبوم "ثمار". "فقد تركت على جنب آلة العود لشهور وهو أمر لم يسبق أن حدث لي قطّ.." يقول أنور براهم.

لقد صار الأمر وكأن الموسيقى كانت تنبثق من هذه الهدأة وذلك التوقف المؤقت. وكأنّها أمست التعبير ذاته عن هذا الفراغ الذي حدث.. كانت تسترجع وتستعيد ما فاتها زمن الاستراحة. "لم أنطلق في البدء وفكرة التأليف والكتابة للبيانو تخامرني وتنتابني.. لقد استعضت فقط عن العود بالبيانو.. وفي الواقع لقد جعلت من البيانو آلةُ للتأليف والكتابة الموسيقيّة.. مع الإشارة إلى أنه كان لي دوما بيانو في محترفي الخاص.." هكذا يكمل براهم حديثه عن أسرار العمل الموسيقي الجديد.

ويفيدنا أنور براهم حول هذه المسألة قائلا انه لم يكن هناك مجال للعود إلاّ فيما بعد.. فقد بدأ يأخذ دوره رويدا رويدا في خفر وحياء أولاّ، ثمّ استرجع مكانته ضمن التلاحين والقطع.. ولكن وعلى عكس ذلك فإنّ فكرة إدماج آلة الأكورديون في هذا العمل استغرقت وقتا طويلا حتى تفرض نفسها.. والآن يمكنني القول، ودائما مع أنور براهم، بأن توظيف آلة الأكورديون كان مسألة بديهيّة فهي بمثابة الشّدو الدّاخلي والباطني لهذه الموسيقى..

فرنسوا العازف على آلة البيانو، وجان لويس على آلة الأكورديون، انتزعا مرارا تصفيق الجمهور المخمور ليلتها بالصمت كما بالشدو. ففي أداء هذين العازفين البارعين هناك انتباه شديد وإحساس مرهف للغاية وفطنة بالغة في احترام أدقّ تفاصيل النّغم وتدّرجات الإيقاع الموسيقي، ولذلك التوازن السلس بين التوتّرات وتسارع نسق الإيقاع الدّاخلي وسرعته، هذه السرعة التي يقول عنها أنور براهم بكلمات شعرية بحتة، إنها ألهمته "من تمايل أفنان شجرة كنت أتطلع إليها كلّ حين وأنظر إليها من خلال نافذتي، يهدهدها نسيم رخو، وروح عليل".

يخلق أنور براهم في عمله هذا، كما في عمليه السابقين، "ثمار" و"برزخ" جواً موسيقياً جديداً، مُستخدماً كل الوسائل المتاحة أمام الموسيقار من تلحين وتوزيع وعزف. وإن كان أنور براهم يوظف في عمله الموسيقي مميزات غريبة عن الفكر الموسيقي العربي، شأنه شأن الكثير من الموسيقيين العرب المعاصرين، فهو ينجح في الحفاظ على هوية خاصة وخطاب شخصي متميز يتمثل أيما تمثيل في الإرتجالات الموزونة، أي التي يُؤدى بهيكلية إيقاعية مشتقة عن ميزان معين، وكذلك في استخدامه في عزفه وبكل مهارة، تكنيك "الريشة المقلوبة" كما هو متبع اليوم عند كل عازفي العود المحترفين، ويستخلص من العود صوتاً مميزاً، هادئاً ومنطوياً، ويكون وقع الريشة على الأوتار وقعاً خفيفاً جداً، حيث أثار المدرسة البغدادية [منذ الشيخ محي الدين حيدر] في تقنيات العزف على العود هي التي تفرق الآن بين عازف عود جدير بالاستماع وبين مجرد عازف عود.

يضع أنور براهم ألحانه في سلالم موسيقية تبعد بمفهومها عن "المقام" في الموسيقى العربية، أي أنه يبتعد عن التعامل بالمنطق الموسيقي العربي الكلاسيكي. ويقول الأستاذ الناقد الكبير حبيب شحاذة إن اللحن الذي يصوغه أنور لا يخضع لهذه المعايير المتبعة في الموسيقى العربية، سواءً كان ذلك في الألحان الثابتة أو في الإرتجالات على آلة العود. ويمضي ناقدنا قائلا انه إذا نظرنا إلى ألحان أنور براهم حسب المعايير الفنية الغربية البعيدة عن المقامات فستواجهنا مشكلة أخرى، إذ يتعامل أنور في ألحانه مع السلم الأساسي فقط ولا ينتقل من سلم إلى آخر، ويكاد لا يخطو بلحنه الموضوع بعيدا ًعن نغمات السلم الأساسي، فبذلك يعتبره سلماً أحادي البعد، لعل ذلك بسبب الجو الموسيقي الخاص الذي يريده من مقطوعته الموسيقية، والذي يقوده إلى صياغة ألحانه من سلم المينور وليس من مقام النهاوند المقابل له في الموسيقى العربية، أو من سلم الماجور وليس في مقام العجم المقابل له في الموسيقى العربية.

في مناسبة سابقة، ذكر أنور براهم وهو الفنان المثقف الواسع الإطلاع شيئا عن المقارنة بين الموسيقى الشعبية الشرقية والموسيقى الأوروبية نجد صداها في مجمل أعماله التأليفية. فقد قال في سياق تبريره لعدم استخدامه لما يسمى بربع الصوت أو [الربع تون] انه من الواضح أن الموسيقى الشعبية في المغرب العربي تأثرت تأثراً كبيراً بالمستعمر الأوروبي، وكذلك فأن الموسيقى الشعبية لم يتسع فيها استخدام أرباع الصوت"، وهكذا تخلو ألحان أنور تماماً من أرباع الدرجات، فكل المقطوعات الموسيقية وضعت في سلالم مبنية من أنصاف الدرجات ومضاعفاتها، ذلك يقرب ويبين تأثير الموسيقى الغربية على الملحن (لأن الموسيقى الغربية الأوروبية أيضاً لا تحتوي على أرباع الدرجات التي تخص وتميز الموسيقى الشرقية عبر الأجيال)، مما حدا بالنقاد إلى وصف هذا المشروع بأنه يقترب كثيرا من إبداعات عباقرة الموسيقى وفيه الكثير من براعة كلود دوبوسيه وموريس رافال وايريك ساتي..

ومنذ صدور اسطوانة "خطوات القط الأسود" في سنة 2002 عن دار "إي أم سي" للتسجيلات" لاقت العروض العديدة لحفلات "خطوات الهر الأسود" نجاحا كبيرا لدى الجمهور واستحسانا باهرا لدى النّقاد والمختصين في الموسيقى.. ففي فرنسا مثلا حظيت الأسطوانة بدعاية كبرى على أعمدة الصّفحة الأولى لصحيفة "اللوموند" اليوميّة الواسعة الانتشار.. كما خصّت بحملة إشهاريّة هامة على مختلف القنوات التلفزيّونية الكبرى.. وظل الألبوم في صدارة المبيعات لعدّة أسابيع متتالية.. ولاقى بالولايات المتحدة اهتماما إعلاميّا واسع النّطاق.. حيث احتفت به "نيويورك تايمز" وخصّصت له صفحة كاملـة.. وظل يحتلّ المرتبة الثانية في قائمـة مبيعـات اسطوانات على موقع الإنترنت الشهيـر (أمازون. كوم) (www.amazon.com) في صنف الجاز بعد اسطوانة الفنّانة نورا جونز.

إذن، ليس كثيرا في حق الفنان التونسي أنور براهم أن يصفه أحد كبار نقاد الموسيقى في العالم بأنه ذلك الـ "جازمان" المذهل، الذي لا يتردد عن إمتاعنا كل لحظة بموسيقى، تجعل العالم بشرقه وغربه، لُحمة واحدة.

حكمت الحاج - ذلكَ -الْجَازْمَانْ- المُذْهل المُتَحَكّم في الصمتْ.

ليست هناك تعليقات: