٦‏/٢‏/٢٠٠٦

مــات عصــام محـــفـــوظ

ِالملحق الثقافي.

مــات عصــام محـــفـــوظ نــاطـــقــاً لكـن الـســـامعـــيـن قـــلـة قـــلـيــلـة

لا استطيع الإدعاء اني اعرف عصام محفوظ المبدع، لكني على الأرجح اعرف عصام محفوظ الحالة. في الأصل لم يتسنّ لنا الوقت الكافي لقراءة أعمال محفوظ. كان الراحل حتى لحظات وعيه ونشاطه الأخيرة مستمراً في السجال. سجال يمكن القول انه خلاّق على النحو الذي يرفع افق السجال ومستواه. وكان على المتابع ان يلاحق افكار الرجل وآراءه في كل ثقافي راهن حتى اللحظة الأخيرة. عصام محفوظ يغيب اليوم غيابه النهائي، ومنذ اليوم يجدر بنا، إذا كنا لا نزال نملك من الهمة والرغبة ما يكفي، ان نعيد قراءته على نحو لم يكن يتاح لنا في حضوره.

لا ادعي اني اعرف عصام محفوظ اكثر من غيري، وان الرأي الذي اسوقه في هذا المقام رأي نافذ ويملك من الوجاهة ما يجعله يقع في مصاف تكريم الرجل عبر اعطائه ما له في ذمتنا. نحن الذين ندّعي ان الثقافة كل لا يتجزأ، وانها استمرار وتاريخ، في بلد ليس اسهل من الانقطاعات فيه، وليس اسهل من ان يعلن احدنا قطيعته مع التاريخ والشروع في تأسيس قصور على الرمال. لكن الكاتب والمثقف يدين لعصام محفوظ بدين ينبغي له ان يرده الى الرجل حياً وميتاً.

عصام محفوظ المسرحي الذي كتب وترجم وشارك في كتابة عدد لا يحصى من الأعمال المسرحية والسينمائية وإخراجها، كان في قلب حركة المسرح اللبناني. في القلب، حين يكون هذا القلب مركز النبض. ومعنى ان يكون الرجل في مركز النبض، لا يمحو اثر انحلال العمل المسرحي في لبنان، ومعاينة ازمته الحادة. كثيرون كتبوا وسيكتبون في فضل الرجل على المسرح اللبناني والعربي عموماً. لكنهم في هذه اللحظة المتشظية من لحظات تشتت البنية اللبنانية الجامعة، سيفتشون عن المسرح ولن يجدوا الكثير من بقاياه. كما لو ان الرجل الذي كتب بعض اهم اعمالنا المسرحية في زمن الستينات والسبعينات، لم يخلّف وراءه نسباً ولا نسلاً، لأنه بقي عازباً. عصام محفوظ في المسرح عازب حقيقي، بمعنى ان العازب هو الذي يستمر مفتشاً وباحثاً عن نصفه الثاني، وانه لم يكن ليبقى عازباً لو تسنّى له ان يجده. هكذا نودّع المسرحي العازب، ونحن في غمرة احتفالنا بذكريات الستينات المتأهلة، واولادها العازبين.

في تلك الفترة البهية من تاريخ لبنان الثقافي، الفترة التي تحولت نصباً نُجمع على اهيمته ومعناه، كان المسرح من اهم قواعد هذا النصب الذي ورثناه. قاعدة صلبة، جعلت الثقافة اللبنانية تنحكم لاتصال بالعالم هو غير الاتصال السلعي الخدماتي الذي كان متوافراً ومنتشراً.

اغتيال الناطقين

المسرح، على ما يلاحظ الزميل سمير عطالله، ولد طليعياً في لبنان، بمعنى ان لا تراث ولا تاريخ مسرحي يستند إليه المسرحيون في لبنان، رغم اهمية محاولات روجيه عساف ورفيق علي احمد في هذا السياق. وحين يكون المسرح معاصراً وطازجاً وطليعياً في الوقت نفسه، نعلم ما يعنيه ان ترتد الثقافة اللبنانية والعربية إلى جحورها الاصلية والأصولية، وما الذي يمكن ان يعنيه ذلك بالنسبة الى مسرحي كعصام محفوظ.

لهذا يمكن القول ان عصام محفوظ قضى غيلة. اي ان الزمن ارتدّ إلى تخلف كان عليه، قبل ان ينشأ المسرح اللبناني طليعياً ومعاصراً وراهناً وطازجاً. لم يكن هذا الارتداد قادراً على النطق، ولا يزال على حاله ابكم منذ نشأته، لذلك قضى باغتيال الناطقين زرافات ووحداناً، وكان عصام محفوظ واحداً من الاهداف التي ينبغي تصويب الصمت عليها. لكنه، وحيث انه استمر مناوشاً وناطقاً، حتى يومه الأخير، آثر الارتداد ان يدير للمناوشة اذنه الصماء. مات عصام محفوظ ناطقاً، لكن السامعين كانوا قلة قليلة.

لم يكن المسرح اداة وحيدة من ادوات النطق في مسيرة محفوظ. ففي مسيرته كاتباً لم يكن يستند إلى عكاز المسرح فقط. كان واحداً من الذين ندين لهم في تعميق النقاشات التي تجري في العالم، وفي تقريبها من افهامنا. كان في هذا المجال ايضاً، واحداً من الناطقين. لم يكن مترجماً حتى حين يترجم، بل مساجلاً ومنافحاً عن معاصرة لم تكن البنية اللبنانية، ثقافياً وسياسياً، مستعدة لتبنيها. والحال، فإن البنية السياسية اللبنانية ما لبثت ان حشرت الثقافات المعاصرة في خانة الترف الذي يجدر بكل مجتمع ان يعزله في "سفينة الحمقى"، على ما كتب ميشال فوكو، لتطوف في العالم بحثاً عن مأوى. لم يعد المسرح اللبناني الراهن والمعاصر اليوم قادراً على ضخ الدم في عروقه القليلة المتبقية من خلال علاقة حيوية مع جمهور متحمس ومقاتل. تحوّل مسرحاً جوالاً في سفينة يتيه بها من مدينة إلى أخرى بحثاً عن مأوى مناسب. صار المسرح مترفاً كمثل الجنون، مترف ولا يجدر بالمجتمعات ان تضمه إلى صلب عودها، وتخصيب نسلها. فمضى المسرحيون يجوبون الآفاق بحثاً عن جزيرة يعيشون فيها جنونهم على نحو بديع.

دفاعاً عن شموخ انف الثقافة

لهذا ربما، لم يتوان عصام محفوظ عن الإقدام في مجالات اخرى. لكنه استمر مسرحياً، وكان من ربابنة "سفينة الحمقى" الذين يحسنون النجاة بسفينتهم من العواصف القاتلة. لكنه ايضاً كان ما ان تطأ قدمه البر، اي بر، حتى يباشر تصويب قلمه على الصمت والصمم في وقت واحد. استمر عصام محفوظ سنوات طويلة كاتباً في التعريف بالسجالات التي تجري في اوروبا والاميركيتين، وفي نقلها. واستمر مناضلاً في سبيل ابقاء الرمق الذي يجعل هذا البلد موصولا بالعالم، حياً وذا جذوة. كتب كثيراً وساجل كثيراً، لكن السجال الخافت الذي اتسمت به مقالاته في "النهار" وغيرها، لم يتخلّ عن اعتقاده بعلو كعبه ونبل مقاصده، مقارنة بما استقرت عليه الثقافة اللبنانية السائدة. وحيث انه لم ينجر، إلا لماماً، الى مشاحنات محلية الطابع، لا تخرج من اطار طاولات المقاهي إلى اي مكان، فإنه بقي يعتقد ان الثقافة العالية الكعب في مكان آخر، على غرار ما كان ميلان كونديرا يرى الحياة في مكان آخر. لم يكف يوماً عن الاعتقاد ان الثقافة انما هي، اولاً، وسيلة تواصل، وان المدن، على ما يؤكد شبنغلر، لا تكون مدناً ما لم تكن ممراً ومعبراً للثقافات المتقاطعة. هكذا استمر عصام محفوظ مقدّماً للثقافات الحية والسجالات الكبرى، من دون ان يدفعه هذا التوجه إلى الترف والجنون. لم يُجنّ، بمعنى انه لم يعش في عالم مفارق، بل كان دائماً يستطيع جلب بعض هذا العالم إلى طاولة المقهى، وصفحة الجريدة، وطرق المدينة.

وعلى غرار ما تكون الثقافة وسيلة للتواصل، فإنه لم ينبهر بالثقافة الغربية على نحو يجعل الحياة برمتها تجري في مكانها الآخر، لأنه، ايضاً، كان يعرف استعمال الميزان الذي يقيس بدقة متناهية الفارق بين ان تكون متحزباً تحزباً اعمى بما يجعلك ترفض ما حولك وتزدريه، وان تكون مقيماً في المكان نفسه منذ دهر، لكنك تعرف ان المكان لا يكون مكاناً إن لم يستطع ان يستقبل في حناياه وزاوياه العالم كله. وكان يعرف ان بيروت تكون اسماً على مسمّى، في وصفها مدينة، حين تستطيع ان تهتم لما يجري في العالم، حتى وهي تعاني من جروح لا تحصى، وتجعل تنفسها شاقاً كما لو انه عمل حياة برمتها. ألم يكن ميشال شيحا - ونحن في عز تطلّب الاستقلال، وحين كانت ديموقراطيتنا اللبنانية تحبو بين المعضلات، ولم تكن قد غادرت سن الفطام بعد - ألم يكن يكتب عن فرنسا، وقد ضبطها تخالف معنى الديموقراطية وتخونها، فيعترض وينصح ويساجل؟

عصام محفوظ كان يعرف، ان هذه النافذة التي يصر على ابقاء عينيه على إطارها، انما هي بعض مصادر الهواء الذي يتيح لمدينة ما ان تتنفس، وإن يكن التنفس شاقاً والهواء جافاً إلى الدرجة التي نعرفها اليوم. مرةً أخرى، عصام محفوظ كان قادراً على التفريق الدقيق بين الهواء ودخان المازوت المحترق. ومرةً أخرى كان في وسعه ان يبقي انف الثقافة شامخاً ومتشاوفاً، كما لو انه يبحث عن الهواء في أعلى ما يمكنه، ذلك ان الهواء الذي كنا نتنفسه كان فاسداً كفساد القبور.

ماذا بعد؟

نعرف جيداً ان الأسماء لم تعد تعني مسمياتها، وقد ننشئ يساراً معاصراً بضربة نرد واحدة، او نستبدل الانحياز الى مفكر بانحياز الى منشئ ومركِّب جمل، او نعلّم طلاب العلم في جامعاتنا دروساً في الاقتصاد الحديث كتبها رجال لم يتسنّ لهم معاينة الآلة البخارية، ويظنون ان الاقتصاد يتلخص في سبل تأمين الخبز الجاف والماء الصرف لعامة الناس. كما لو اننا ننسى ان الاقتصاد مربوط إلى المعرفة ربطاً وثيقاً، وانه من اسهل الامور واكثرها مبعثاً للتخلف والموت السريري، ان تقيم تبادلاً مستقراً على قاعدة جهل الناس. فتلك المعرفة التي نافح عصام محفوظ من اجل ايقاد شعلتها على الدوام، تتطلب منا التردد والتأني والتفكير ملياً قبل ان نطلق احكاماً، لا نفقه منها شيئاً.

في هذا المعنى نستطيع قراءة النافذة التي فتحها عصام محفوظ على الغرب. نافذة ليست معبراً لرياح الغرب الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، لكنها نافذة لجعل الهواء منعشاً، ولجعل المدينة التي ندافع عنها قادرة على الصمود في وجه هذه الرياح. والثابت ان الصمود لا يعني اقفال النافذة على رياح العالم، والعيش في كهوف لا تطأها اقدام الرياح، وقد تبحث عنها مزمجرة دهوراً كاملة ولا تحسن ان تجد فتحتها الضيقة. كانت نافذة حية يراد من فتحها ان نتعلم كيف نبقى بعد عبور الرياح. فصفة الرياح، حتى الكولونيالية منها، انها سريعة وتمضي بسرعة، لكن صفة النافذة انها تبقى بعد عبورها لتستقبل الرياح الآتية من بحر جديد.

عصام محفوظ اليساري الذي نطق وساجل من احد منابر الليبيرالية اللبنانية، كان كما لو انه يعي هذه العلاقة المستحكمة والتي لا فكاك منها بين الطرفين. لا يسار من دون ليبيرالية ناشطة، ولا ليبيرالية من دون يسار ناهض. اصل المناقشة بين الطرفين والنزاع بينهما، انهما يولدان من بطن واحد، وان مصيريهما متعالقان ومتشابكان، إلى حد ان مرض الليبيرالية يصيب اليسار بأفدح الاضرار، والعكس دائماً صحيح. إذ كيف يكون يسار متنور وعاقد العزم على تطوير البلد وتمتين مساره الديموقراطي، من دون ان يكون متصلاً اتصالاً وثيقاً بشؤون الليبيرالية وشجونها، وهي المولودة في خضم الديموقراطية والتطور، ولا تستطيع العيش إلا في كنفهما الوثير؟

اليوم، يغيب عصام محفوظ، وفي غيابه ثمة الكثير مما يمكن ان يقال، رثاء وحزناً، شعراً ونثراً. لكني احسب انه يجدر بهذا الغياب ان يفتح نافذة لسؤال من قبيل: كيف نكون معاصرين ومواطنين في بلد، لا يزال حتى الآن افتراضياً، في آن واحد؟

بلال خبيز

ليست هناك تعليقات: