٦‏/٢‏/٢٠٠٦

جمانة حداد تكتب عن الكتابة

هـــــــــــــــــــــــل؟

هل يمكن المرء أن "يتعلّم" الكتابة فيصير كاتباً؟ هل هناك دروس وخطوات وارشادات تساعده في الانتقال الى أراضي الإنتاج الأدبي وتشرّع امامه عوالمها وأسرارها؟ كثيرةٌ في الغرب المحترفات التي تصب في هذا المجال، ويتقاطر إليها "حالمو" الكتابة، مثلما كثيرةٌ الصفوف التي تدرّس الكتابة الخلاّقة في الجامعات، بينما هي في بلداننا العربية شبه مفقودة تماماً، إلاّ اذا استثنينا بعض المحترفات النادرة، على غرار محترف الكتابة المسرحية الذي أقامه "مسرح المدينة" في اواخر العام الفائت مثلا، وبعض الدروس في مادة الـcreative writing التي يقدّمها عدد محدود من الجامعات في بعض اختصاصات العلوم الانسانية، وهي دروس عامة وغير احترافية، ولا تشبه في أيّ حال نظيرتها الغربية، حيث يتولى إعطاءها كتّاب محنّكون ومعروفون، وتتوجه في شكل واضح ومباشر الى الراغبين جدياً في خوض غمار الكتابة والنشر.
نكرر السؤال: هل يمكن المرء أن "يتعلّم" الكتابة فيصير كاتباً؟ سؤال يصعب علينا نحن اللبنانيين والعرب في شكل خاص، أن نجيب عنه، اذ تربّى معظمنا على فكرة الالهام والوحي والموهبة ذات الطبيعة الغامضة، اكاد اقول الإلهية، التي تُمنح لبعض "المختارين" من الناس لكي يحملوا "الرسالة" من عمل الى عمل، أكان شعراً أم رواية ام سواهما من الأنواع الأدبية.
بداية، سأسمح لنفسي قبل خوض النقاش بأن أستثني الشعر حكماً من المسألة، لسبب بسيط وجوهري و"شخصي"، هو اقتناعي بأن أيّ نظام تعليمي تربوي أكاديمي ينشَّأ عليه الطلاب، لا يستطيع أن يجعل من أحدهم شاعراً. وحده الشاعر يكون شاعراً أو لا يكون. وحده يمتلك هذه الحساسية أو لا يمتلكها، ولا شيء يمكن أن يغذّي حساسيته تلك سوى عنصرين: "فطرته" الشعرية وقابليتها للتطوير والتنمية من جهة، وقراءاته من جهة ثانية.
"ثمة عنصر واحد ضروري للشعر: الوحدة. الوحدة الداخلية العظيمة"، يقول ريلكه في "رسائل الى شاعر شاب"، وهي رسائل ضمّنها مجموعة من النصائح والتوجيهات، لكنها لم تضع في أهدافها أن تجعل أحدهم يتحول من صفة "لا شاعر" الى صفة "شاعر"، بل ان ريلكه اسداها في شكل محدد الى شاب هو شاعر أصلا، إلا أنه شاعر ناشىء، يحتاج الى معلّم يمسك بيده ويدله الى الطريق. وهذا مقبول ومشروع، لا بل ضروري أحيانا. اما دروس الشعر وصفوفه ومعادلاته الحسابية، فمسألة اخرى مرفوضة في رأيي.
لكن بمعزل عن الشعر وعالمه الخاص جدا، ألا يمكننا أن نتقبل فكرة أن هناك، فعلاً، تقنيات وآليات هادفة وأساسية ينبغي للروائي مثلا أن يتعلمها لكي يصير روائيا ناجحا؟ قد يعترض البعض بحجة ان متابعة الدروس و"الاجتهاد" في التعلم ليست أدوات لتكوين كاتب. هذا صحيح، لكنها من دون شك ادوات للصقل. فللمعرفة دورها في التأهيل، مثلما للمناخ وظروف الإحاطة بالموهبة: قد يكون ذلك الدور ثانوياً، ويأتي في مرحلة لاحقة، لكنه دور مهم في أيّ حال. كل شيء - تقريبا – "قابل" للتعلم، فلمَ لا تدخل الكتابة في هذا الاطار؟ بول أوستر درس الكتابة، أنطونيو تابوكي درس الكتابة، ريتا دوف درست الكتابة، ريمون كارفر درس الكتابة، فيليب روث درس الكتابة وهو الآن يعلّمها: أكرر، هذا لا يعني ان هؤلاء، وكثراً غيرهم من كبار اسماء الأدب العالمي، قد أصبحوا كتّابا لأنهم درسوا الكتابة، إنما يعني أن الدروس، باعترافهم، ساعدتهم في تجاوز عدد من العقبات والمعوقات التي تصادف كل كاتب مبتدىء. وهنا يأتي اقتراحي: لِمَ لا يقوم روائيونا الكبار بإنشاء محترفات يعلّمون فيها بالتناوب بعض تقنيات الكتابة للراغبين المستحقين؟ ثمة طبعا خطر في ان تصير دروس كهذه، صيغا نموذجية جامدة ومقوننة لانتاج نصوص تتشابه فتمّحي فيها خصوصيات الاسلوب، ولكن اذا كان طالب الكتابة موهوبا، لا مفر من ان يبرز اسلوبه الفردي ويتبلور، ولن يضيره بعض التوجيه من "أساتذتنا". آنذاك، فإن محترفاً كهذا في حال تشكّله، لن يصنع من اللاكتّاب كتّاباً، لكنه سيعين من يحمل جذوة الكتابة ولعنتها وشغفها، وهو متعثر فيها ومتلعثم، في رفع بعض الحواجز التي تعوق طريقه.
ليس المطلوب "فبركة" الكتّاب، ولا المطلوب إعطاء الناس تركيبة او وصفة سحرية، بل على الأصح تقديم ما قلّ ودلّ من النصح والإرشاد والمرافقة والتمهيد.
لا لـتصنيع الكتّاب وتوليدهم بالأنبوب،
نعم للإفساح امام المعجزة كي تحدث.
جمانة حداد
joumana.haddad@annahar.com.lb

An-Nahar/EDUCAT - ادب فكر وفن.

ليست هناك تعليقات: