٢٠‏/٦‏/٢٠٠٦

الـشـبـاب الـتـونـسـي والـتــدين :ظـاهرة تـحتاج إلـى دراسات عميقة لفهمها... وتـجاهلـها يؤدي الـى نتائج سلـبية
 
ما هي حدود الغريزة والممارسة العقلانية في موجة التديّن لدى الشباب الآن وهنا؟ كيف نفسّر عودة شبان وشابات متعلمين ومتعلمات ومن رواد مدارج الجامعة الى المقدّس فكرا وممارسة الآن وهل أن الظاهرة طبيعية؟ هذه الاسئلة وأخرى تعدّ فرضيات انطلقنا منها وطرحناها على عدد من اهل الاختصاص في المشهد الاجتماعي والنفساني فاتضح أنّ لكلّ مقاربته ورأيه اذ يوجد من اعتبر العودة غير طبيعية مثل الدكتور مهدي المبروك او من اعتبرها عادية لاسباب نفسانية حسب الاستاذ فتحي التوزري. ومنهم من تحاشى الاجابة وفضّل الصمت وهنا نتساءل عن دواعي هذا الصمت في حين ان الدراسات الاوروبية عن المسألة متعددة وعهدت بها الحكومات الى مكاتب دراسات مختصة. هل يمكن ان نرجع اسباب الظاهرة الى عوامل خارجية فقط ام ان المتغيرات الداخلية وواقع البلاد الاقتصادي والاجتماعي يحيل على تشكيلات احتجاجية اجتماعية لدى فئة ما؟ وهل ان تفجر المشهد السمعي البصري تكاثر الحصص والقنوات الدينية يجرّ الى ذلك؟...



نلاحظ في الشارع التونسي كما في الاوساط العائلية عودة مكثفة للدين خاصة لدى الشباب (اناثا وذكورا) وهذا التكثيف في الشحنات الدينية لا نملك له احصائيات دقيقة سوى ما نلاحظه بالعين المجردة رغم ان بعض الاطراف ترى ان الامر عادي جدّا. نظرة بلا خوف

ومع ذلك فالخوف موجود اذا ما نظرنا الى ردود فعل بعض المؤسسات والهياكل ذات العلاقة خاصة اذا ما تهربت هذه المؤسسة أو تلك من الاجابة والذهاب الى الامام في التقليل من انعكاسات هذه الظاهرة. وقد ننظر الى هذه الظاهرة بمنظار طبيعي عادي دون ميكروسكوبات وقد تساهم في تعديل السلوك حسبّ رأي البعض ـ قد تمر بشارع فيه جامع فيشد انتباهك هذا الازدحام من جيل الشباب على الطرقات والانهج المجانبة لهذا الفضاء التعبّدي خاصة ايام الجمعة. وقد تتقاطع في الطريق ذاته وعلى مرمى حجر من المجلة بشبان خرجوا لتوهم من صلاة الجمعة بجامع القدس فرادى او في شكل مجموعات صغيرة وقد تسأل بعضهم عن الممارسات التعبّدية لهذا الشباب او ذاك فيبادرك بالاجابة: «ان الامر طبيعي فاذا لم أكن في المسجد او في قاعة الدراسة أين سأكون؟» فضاءات اخرى مفتوحة

وقد تسأل مواطنا هل له فضاءات اخرى يرتادها اضافة الى المسجد فيقول إنّه في المسجد يلقى كافة المتعة الروحية اما هذا الشاب الآخر فيقاطع زميله ليؤكد انه يروم احيانا الذهاب الى قاعة الالعاب المجاورة أو مقهى الحي لكن ذلك لا يتعارض مع ان يؤم الجامع بشكل يومي بعد آداء الواجبات المدرسية. اما ثالثهم الذي كان يرد باجابات مقتضبة فقد تحدّث عن رغبات اخرى طبيعية يقوم بها فهو يلتقي مع صديقاته في المقهى ويتجاذب معهن اطراف الحديث في امور عامة غير دينية تخص الانسان وفعله في الحياة وهو لا يفرّط في مقابلات الترجي الرياضي التونسي الهامة. عبادة في الملاعب

وقد يقودك فضولك الى متابعة هؤلاء الشبان في مقابلاتهم الرياضية التي تجمع فريقهم بفريق آخر ومنها مقابلة الترجي مع جندوبة الرياضية التي انهزمت فيها جندوبة بهدف نظيف فما ان أعلن حكم المباراة عن انتهاء الشوط الاول حتى هرع بعض من الشباب اضافة الى الكهول الى الصلاة. هذا الطقس التعبّدي كان خارج فضاء الملعب. وعلى مرمى حجر من صراخ الاحباء وهتافاتهم النابية احيانا ... «لكن الفرق بيني وبينهم، كما يقول هذا الشاب الذي فرغ لتوه من الصلاة، انني اشجع دون شتم المنافس ولا اصبّ جام غضبي على لاعبي فريقي عند الهزيمة». مشجع من طينة اخرى

ويضيف الشاب نفسه «ان صلاتي تنهاني فعلا عن المنكر كما على الفحشاء». و،هو الذي يواصل دراسته الجامعية باحد معاهد المحاسبة والتصرف بالشرقية ولا توجد ازمات مرّبها في سلم حياته الدراسية لكن رغبة الوالد في أن يراه معه في المسجد، وهو الامام الذي يصلي بالناس، قادته الى النهوض باكرا حسب حالاته الصحية ليصلّي مع والده.. «صباحا مساء وبعد المساء ويوم الاحد».. «اذ ان الصلاة عند المؤمنين كتاب موقوت». لكن هذا الشاب الآخر الذي التقيناه في هذا المقهى المختلط يرى ان الطقس التعبدي يخرجه من دائرة الفراغ والقلق والارق. فقد مر بظروف صعبة بعد وفاة والدته وفقدان صديق غادر العاصمة ليتابع دراسته في الخارج بعد ان فشل هو لا في الالتحاق بكلية باريس بل في تجاوز عتبة الباكالوريا. خروج من ازمة

...لذلك فان العبادة كانت مخرجا من دائرة الازمات وهو الآن قد ركّز كل جهوده على اللحاق بركب الناجحين بعد ما توفر له كما يقول من مناخ «تعبدي دفعه الى الهدوء ووفر له سكينة دائمة». وكان الحوار معه يدور بكل هدوء حتى قاطعتنا الفقرة الاخبارية في شكل موجز على قناة الجزيرة التي يدمن هذا الشباب مشاهدتها ومتابعة مراسليها وهو الذي يعدد الاصوات الاعلامية التونسية في هذه القناة بكل فخر واعتزاز. يحول الشاب نفسه وبنفسه الحوار بعد ان شاهد مظاهرات باكستانية حول الرسوم المسيئة للرسول الكريم فيوجه السؤال: ما هي الحدود بين تجاوز المقدّس وحرية الصحافة؟ ليؤكد ان لهذه الحرية حدودا وأن محمدا صلى الله عليه وسلّم فوق كل نقد وكل شبهة. الاعلام والمقدّس

ويضيف: «ان هذا موقف كل الناس والمسلمين خاصة منهم وحتى الملحدين لهم موقف». وفي موقع عام آخر كان الحوار حول القيم عامة ليلاحظ احد المحاورين ان التمسك بالقيم شأن شخصي وقد يكون هذا المتمسك بها لا يؤدي واجباته الدينية وسلوكه الاجتماعي سليم لكن صديقه يرى ان التعبّد يأتي ليضفي مسحة اخرى على السلوك السليم وفيه كما يرى راحة نفسية كبرى تتجاوز المشاكل الاجتماعية والنفسية كلها. صراع في الخارج

اما الطرف الثالث فقد حوّل وجهة الصراع الى الخارج قائلا: «انظر الى واقع الحال، حال العرب بين التشرذم والتطرف والتمزق وأرى ان الحل في الوحدة وفي التدّين وهذا لا ينطلق من اي منطلق سياسي» لكنه يتحدث عن الدين في شكله التعبّدي والعهدة عليه. ويتحدث هذا الشاب نفسه عن مشاكل عائلية قادت صديقه الى طريق التعبد. فوالده يعنّف امه على مرأى ومسمع من افراد العائلة والجيران. وقد فشل في تغيير موقفه بالكف عن اي سلوك مشين... وعندما لم يفلح ترك الامر واضحى غريبا في عائلته. أي دور للمنظمات والاحزاب؟

ولسائل ان يسأل عن دور المنظمات وهياكل المجتمع المدني في التأطير والرعاية ولعب دور الوساطة مع هؤلاء الشبان ممن تتقاذفهم «رياح الشمال والجنوب». هذه الرياح التي تهب على امواج الاثير وعلى الهواتف الجوالة والفضائيات التي تقيم الجدل من الارض الى السماء في حوارات ميتافيزيقية مبهرة هذا السؤال توجهنا به الى ناطق رسمي باسم احد الاحزاب الموكول لها بحكم سنوات فعلها التأطير والتعديل. ويقول السيد هشام الحاجّي: «تفرض المسؤولية الاخلاقية الانطلاق من الاشارة الى وجود تقصير واضح من الاحزاب السياسية في تأطير الشباب وتثقيفهم سياسيا والتعبير عن شواغلهم وتطلعاتهم،. ويمكن الوقوف على ملامح هذا التقصير او ضعف الاهتمام بين الشباب والاحزاب السياسية في عدة مؤشرات لعل من اهمها ضعف حضور الشباب في المشهد السياسي وتقلص النشاط الشبابي. وهذا العامل يفسر ـ ولوجزئيا ـ ما يمارسه الخطاب المتأسلم من جاذبية على الشباب ، لكنه لايذهب بعيدا في تفسير وضعية تحتاج الى امعان النظر والى مقاربة متعددة الجوانب. ولاشك أن عوامل وجدانية وانفعالية يمكن ان تفسر فعل هذه الجاذبية، فالخطاب الاسلاموي، بسيط وفضفاض ويكاد يكون فارغا من المحتوى السياسي لكنه يتحصن خلف شعارات مغرقة في العمومية. وهذا الاغراق يعطي نوعا من الشعور بالاطمئنان وباشباع وهمي فعليا لكنه فاعل في مستوى البنية النفسية نتيجة شعور الشباب بحدة ازمة النمو النفسي وبصعوبة تشكيل الشخصية الفردية، هناك ايضا تنامي ما يمكن تسميته بالاحباط الحضاري الذي يتغذى من علاقات الهيمنة التي تمارسها القوى المهيمنة عالميا على الشعوب العربية والمسلمة، ومن عدم ادراك عميق للعوامل الفاعلة في هذه العلاقة، ولا ننسى في جانب استعراض اسباب الانجذاب للخطاب الاسلاموي الدور الفاعل لوسائل الاعلام والاتصال العابرة للحدود والتي يسيطر على اهمها في الوطن العربي الراسمال النفطي الى جانب ضعف استبطان وتمثل المبادئ العقلانية في البرامج التعليمية ونعتقد في هذا الصدد انه من المفيد ان يقع التفكير في هذه المسألة على هامش الاحتفال بالمائوية السادسة لابن خلدون خاصة ان تدريس العلوم الانسانية في التعليم الثانوي يمكن ان يثري نظرة الشباب ويحصن وعيهم. تسامح ومرونة

اما الباحث الاجتماعي خليل الزميطي فلا يعتقد في شعارات فضفاضة ترفع هنا وهناك بل يرى ان الظاهرة لدى الشباب موجودة ولا يمكن ان نغضّ عنها الطرف بل ان نقرأ اسبابها ومسبّباتها بعين العقل. وهو يعزيها الى عوامل خارجية بالاساس تعود الى تأثير الفضائيات العربية وهيمنة خطابها المتكلّس من جهة والذي يلبي حاجة ما لدى الشباب الى جانب ضرورة ربط الظاهرة «بإفلاس القيم» في العالم .وهذا الافلاس قد تغذيه وتمولّه مرجعيات اخرى تدعو الى السكينة والطمأنينة لدى الشباب وهو يلاحظ انه ثمة «تسامح» ومرونة في المعالجة وهو لا يدعو الى التشنج والتصعيد في هذه المعالجة مع اخراجها من شحنتها السياسية لتحويلها الى مخارجها الاجتماعية. العمل عبادة

ويرى الاستاذ خليل الزميطي من خلال متابعته المجرّدة لهذا الشباب الملتزم دينيا «وتعبديا» تحديدا ان أداءه الدراسي والمهني متميز وقد يعزى ذلك الى نظرة تعبدية لأن مالديه يؤكد ان العمل عبادة. الا ان تطويرآليات تأطير هؤلاء الشبان من داخل المسجد او الجامع وعبر برامج عقلانية تأخذ بعين الاعتبار حاجيات هؤلاء الشبان الروحية والنفسية من اجل الاخذ بأيديهم وهذا امر ضروري.

جهد الوزارة

ولذلك فان دور الائمة والوعّاظ هام اذا ما احسنوا الاخذ بأيدي هؤلاء الشباب الى الوسطية والاعتدال وهذا ما يطلب من سلطة الاشراف وتطلبه بدورها. كما لوزارة الشؤون الدينية مجهود مضاعف وبرامج طموحة للرعاية والالمام والاجابة عن اسئلة وتساؤلات هؤلاء الشبان.

خطاب ديني آخر

هذه اسئلة حول ممارسات دينية ومواقف الاسلام المتعددة منها ويرى الملاحظون ان المدّونة الفقهية المالكية في تونس قادرة على الالمام بمجمل هذه الاسئلة في هدوء الفقيه واعتدال المتقبل والمطلوب ايضا تحديث البرامج الدينية الاذاعية والتلفزية عندنا من اجل ممارسة تعبدية معتدلة.


 
ناجح مبارك 

redaction@realites.com.tn

ليست هناك تعليقات: